Monthly Archives

May 2012

2012, مقالات, نشرة رعيتي

الكاهن الراعي/ الأحد 27 أيار 2012 / العدد 22

وظيفة الكاهن أن يقود الناس الى الله. غايته من إقامة القداس والأسرار أن يجعل المؤمنين يذوقون الرب ويتقرّبوا منه. لا تستطيع الجماعة أن تقول: مات الكاهن ونحتاج الى قداس، فلنفتّش عمّن يقدر أن يُقيم الخدمة الإلهية ويكون جميل الصوت ولا يعرف شيئا عن الدين. هذه حقبة من التاريخ انتهينا منها.

عندما نقول ان هذا الرجل يجب أن يكون موهوبا للرعاية نعني بهذا أنه قادر أن يوصل كلمة الله. هذه الكلمة تفعل أحيانًا بذاتها اذا سمع الإنسان الإنجيل، ولكنها في الواقع البشري تتطلب أن يحملها إنسان تكون قد وصلت الى فهمه ويُدخلها الى فهم الآخرين بالوعظ او بالاتصالات البشرية، بالمحادثات والزيارات والإرشاد. المسيحية قائمة على أن الله صار إنسانًا ليُكلّم البشر. جعل نفسه على صعيدهم. اما الذي يكتفي بإقامة القداس فيجعله مسموعًا ولكن معناه يصل أو لا يصل.

كلمة الله مائدة اي طعام موضوع أَعَدّه الله لأحبّائه. ولكن لا بدّ من خادم ينقل إليك هذا الطعام. في الفنادق هو محترف. في بيتك هذا عمل ربّة المنزل. اما الاتكال على فاعلية الكلمة بلا ناقل لها فهذه مغامرة كبرى تُعفيك من الدرس ومن أن تتحول الكلمة الى شخصك وقلبك وذهنك وتنتقل الى شخص آخر وقلبه وذهنه. الكنيسة تقوم على الوساطة التي لا تكون الا اذا وُجد كهنة عالمون بالمسؤولية التي على عاتقهم.

الطريقة المألوفة في أيامنا لإيجاد وسيط هي مدرسة لاهوتية او معهد لاهوتيّ او تدريس لإعداد كهنة. ولكن أن نأتي بإنسان من مهنته ليصير كاهنًا دون إعداد علميّ فهذا لا يصير شيئًا. يبقى أن هناك من اتصل بحركة روحية لشبابنا قضى فيها سنوات واحتكّ بمرشدين وقرأ كتبًا كثيرة، فهذا يفحصه الأُسقف ويُقدّر استعداده لإعطاء الفهم.

نتكلم كثيرًا عن افتقاد العائلات او الأفراد. اذا ظنّ أحد الكهنة نفسه راعيًا لأنه عند وصوله الى عائلة يسأل عن صحتها ووضع الأولاد في المدرسة، كان هذا اتصالا اجتماعيا وليس رعاية لأن هذه مبنية على كلام الله. اذا كان هذا الكاهن لم ينطق بالكلمة الإلهية فلا يذكر مثلا آيات من الكتاب المقدس او من سيرة قديس او كان غير قادر على أن يُجيب على سؤال يُطرَح عليه، تكون هذه الزيارة ضياعًا للوقت. الراعي من ساق الرعية الى المراعي الخُضر لتأكل وتشرب، فإذا لم تُعطَ غذاء تضعف وتموت.

عندما قال يسوع عن الراعي الصالح وعن نفسه: «الخراف تتبعه لأنها تعرف صوته» (يوحنا 10: 4)، نأخذ من هذا القول أن هذا الراعي عنده صوت وأما الأخرس فليس عنده صوت. وعندما يقول: «أَعرف خاصتي وخاصتي تعرفني» (يوحنا 10: 14)، نفهم من هذا أن الكاهن يعرف بالأقل كل العائلات إن لم يستطع أن يعرف كل فرد والفرد يعرف الراعي. عشرات من الناس قالوا لنا: أنا مقيم في هذه القرية منذ سنوات ولم يدخل بيتي كاهن. طبعًا كان عليهم أن يذهبوا الى الكاهن ويقولوا: صرنا نحن عندك. ولكن إن لم يفعلوا، فهو المسؤول أن يفتّش عنهم ليجعلهم للمسيح أكثر مما كانوا، ويأتي بهم الى مراعي الخلاص، ويدلّهم على باب الكنيسة، ويرشدهم الى اقتناء كتاب الله وكتب أُرثوذكسية اخرى. كل منا يحتاج الى إرشاد والى افتقاد اي الى محبة.

إلى اي حد يجب ان يفتقد؟ الجواب في يوحنا: «أنا أضع نفسي عن الخراف» (يوحنا 10: 15). المعنى أنّي أموت عنها. مات كهنة في لبنان لما انتشر فيه الطاعون لأنهم لم يريدوا أن يتركوا الرعية. الوباء لا يحصل كل يوم، ولا يتعب الكاهن اذا قام كل يوم بزيارة بضعة بيوت. ولكن الذي يتململ من رؤية نفسه متعبًا فيداري نفسه بما يفوق المطلوب، فهذا ما كان عليه ان يقبل الكهنوت.

ربما لم يسمع أحد الإخوة بهذا وظنّ أن القضية كلها طقوس. عند قراءة هذه الأسطر، هذا الرجل يجب أن يفهم ويُدرك أنه مخصّص لله ولخدمته عن طريق الكلمة. بعد ان كان قليل العلم، فليبدأ بالدراسة للمرّة الأولى. عندي كهنة صاروا ممتازين بعد أن فهموا هذا وأدركوا أن الكهنوت لا ينفصل عن التعب. هذا هو حمْلُ صليبٍ ثقيل، ولكن محبتنا ليسوع تتخطّى كل صعوبة.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

البشرية والألوهية معًا / السبت 26 أيار 2012

الخميس الماضي يسمى عندنا خميس الصعود لقول الكتاب في لوقا ان المسيح بعد القيامة فيما كان يبارك تلاميذه انفرد عنهم وأُصعد (همزة مضمومة) إلى السماء. واما في أعمال الرسل ومؤلفها لوقا نفسه جاء «ارتفع إلى السماء». هذا حدث أربعين يومًا بعد القيامة كما ورد في مطلع أعمال الرسل.

ماذا يعني انه ارتفع إلى السماء؟ ما السماء؟ ليست السماء مكانا وقد رأينا في ظهورات السيد في الأناجيل ان يسوع بعد القيامة ما كان محصورا في مكان ولكنه يدخل المكان أو يُشاهد (ياء مضمومة) في مكان. في سياق الحديث عن الصعود جاء القول انه ارتفع على سحابة والكلمة يجب ان تؤخذ رمزيا فالسحابة في العهد القديم ترافق الحضرة الالهية وتظهرها. الفكرة اذا ان جسد المسيح رفع إلى الآب أو جلس على عرش الآب (أعمال 2: 30). المعنى طبعا ان الجالس هو يسوع القائم من بين الأموات بجسده. وهذا ما أكده دستور الإيمان في القرن الرابع »وجلس عن يمين الآب».

عندما يجلسك كبير القوم عن يمينه فهو ليدل انه يعترف لك بكرامته نفسها واذا أجلسك في مكان آخر لا يقول شيئا عن كرامتك أو عن تساويك. كل العهد الجديد يتكلم عن مساواة الابن للآب وعن انه لم يترك احضان الاب لما نزل إلى هذه الأرض.

لا معنى للصعود اذا حسبنا ان ألوهة المسيح اعتبرت مساوية لألوهة الآب لأنها هي إياها. هناك اذًا شيء آخر عن ألوهة المسيح. هو يشريته المكملة بالآلام أُعلنت (همزة مضمومة) واحدة مع ألوهة الآب. المسيح ليس دون أبيه وقد كفرنا السنة الـ325 في المجمع المسكوني الأول اريوس لأنه قال ان المسيح دون ابيه ومخلوق. القول بمخلوقية المسيح يلغي كل سر الخلاص ويبطل فاعلية الصلب. بلا الوهية المعلم كل الفداء لفظ لا معنى له.

المسيحية، معتقدا، هي ان ابن الله الوحيد المشارك الله ازليته هو الذي تجسد وبقي إلها طوال حياته على الأرض وكانت ألوهيته مصاحبته على الصليب وان لم يقع الموت عليها ورافقته في القبر وبعد القبر بمعنى ان جسده لا يحصرها. فعند تجسد ابن الله لم يحد جسده ألوهته وظلت مالئة السماوات والأرض. وعند دفنه كانت مالئة السماوات والارض.

واذا دخل المسيح كيان البشر عند تناولهم جسده ودمه الكريمين لا يحده الانسان المتناول ويبقى مالئا السماء والارض. كذلك السماء لا تحده لانها ليست مدى.

#   #

#

وهي تعرف به ولا يعرف بها. واذا قلنا ان القديسين في السماء لا نوحي بأنهم في مكان فإنهم مع الله أو في الله. ومعيتهم هذه اي صفة كونهم متحدين بالرب هي سماؤهم وهي تسمية تدل على التحاقهم بالرب أو دخولهم فيه. وهذا معنى العبارة «في المسيح» التي يكررها بولس مرات عديدة.

فالله من حيث هو اياه لا يصعد ولا ينزل ولكن الانسان يصعد اليه بالنعمة ويغادره بالخطيئة. والصعود سماؤه والسقوط جحيمه الا اذا انقذه ربه بالرحمة. ليس من فوق ولا من تحت اذ الله فيك وانت فيه وهذا فيه حديث يطول. وانت لا تكون حقا ما لم تكن فيه بعد ان كنت وراءه. تبقى في مخلوقيتك في اية حال ولكن لها ان تكون منورة أو ان تكون مظلمة. واذا كانت نفسك مظلمة فكأنها عدم. جوهريا من حيث مخلوقيتها هي قائمة وتبقى على محبوبيتها في تنورها وعتمتها إلى ان تبدد العتمات بالتوبة فيحل فيها الروح القدس نورا وكأنها خلقت منذ بداءة التكوين حسب قوله المبارك: «ليكن نور فكان نور».

هنا لا بد ان اعرج على القرآن بلا استفاضة اذ بعد قوله «وما قتلوه يقينا يقول بل رفعه الله اليه» (النساء 158). توا بعد هذا يتكلم على موته وقد أكده في سورة مريم بقوله: «والسلام عليّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا» (الآية 33). هل حصل رفع الله للمسيح قبل الموت كما يبدو من سورة النساء؟ في هذه الحال لماذا يجب ان يموت اذ أكد الله هذا الموت؟ ليس من مجال في هذه العجالة لاستعرض التفاسير المختلفة لموته. فقط ما اردته كشفه ان القران يذكر رفع الله للمسيح اليه.

#   #

#

الألوهة والبشرية معية في المخلص بلا انقسام ولا انفصال ولا اختلاط لأن الألوهة لما نزلت إلى مريم حلت بشرا. هذه ليست صيرورة لأن الألوهة لا تصير. انها سكنى. لا تحتمل تهمة الحلولية كما أراد أحد اصدقائي الكبار ان يلصقها بي. قلت له ان الألوهة لا تصير بشرا. تلازم البشرة، تداخلها، تتحد بها والطبيعتان طبيعتان لا تخسر احداهما خصائصها وان تلاقت والخصائص الأخرى. المسيح في الكون وخارج الكون، في المدى الذي كان فيه واللامدى الذي صار اليه بصعوده. هو إله متأنس في جسدانية متألهة.

وهذا كله ينعكس فينا وفق ما تقدر بشريتنا. لهذا قال القديس أثناسيوس الكبير: «تأنس الله ليتأله الانسان». هذا عليه ايضاح كثير في اللاهوت الأرثوذكسي اذ ليس المعني ان تكتسب جوهر الله الخالق ولكن المعنى ان تسهم في قوى من الله الأزلية ونحن نقول بأزلية النعمة.

يكون عندك أو فيك شيء غير مخلوق والا لما استطعت ان ترتفع. لا رفعة لك من ذاتك البشرية ولكن لك رفعة من الوهية سكنتك بصورة غير مدركة.

كل غير هذا القول يعني ان ليس من تلاحم بينك وبين الله وان ربك لم يردم الهوة بين السماء والأرض. كل هذا القول يعني ان الله فوق وانك تحت وانه يحكمك بالكلمة، تلك التي لا يمكن ان تدخلك ما لم تصر حبا اليك. والكلمة لا تصير حبا لمجرد ان الله قالها. وجب ان ينزل الكلمة الذي كان من البدء إلى لحمنا وعظامنا.

ان ارتفاع الرب يسوع إلى السموات سبب تحويلنا اليه فإنه «سيغير جسد تواضعنا ليكون على صورة مجده» (فيليبي 3: 21). لكونه جعلنا بانبعاثه قياميين نستطيع ان نصبح تواقين إلى المجد الذي سنسكنه في اليوم الأخير.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

معيشة الكاهن/ الأحد 20 أيار 2012 / العدد 21

الكاهن يريده ربه منزّها عن عشق المال بنوع خاص، لأنه اذا وقع في هذا العشق يتعثّر به المؤمنون ومنهم من يبتعد عن الكنيسة بسببه. ربما كانت هذه السقطة نتيجة قلّة موارده او ضعف راتبه. ولكن الصمود الروحيّ أمام التجربة يريده الله. حتى لو حُلّت قضية الراتب لا يتحوّل الشغوف بالمال الى نزيه آليًا. هذا التحوّل ثمر النعمة فقط.

لا يجوز ان يتأفف الكاهن من وضع له ضيّق. الكثيرون من الناس هم في هذا الوضع، وقد لا تأتي الحلول سريعة، ولكن لا بد أن نتدارس أحوال الكاهن بصورة جدية بدءا من إيجاد راتب مرضيّ، وهذا لا يتوفر اذا كانت الرعية الصغيرة وحدها مسؤولة عن إعاشة هذا الرجل وعائلته. لا بد من وضع مركزيّ بحيث يتساوى خادم رعية كبرى وخادم رعية صغرى او يتقاربان. ربما يتراءى حلّ من جمع الرواتب كلها في المطرانية ليتم توزيع أقرب الى العدالة. فالرعايا الكبيرة اذا تمسّكت باستقلالها الكامل لا تحل المشكلة.

اذا لم نركّز كل الأموال في المطرانية يمكننا على الأقل أن ندفع لصندوق مشترك نسبة من مواردنا لنغذّي كهنة الرعايا الفقيرة. ما من شك عندي أن بعضا من رعايا ولو قليلا تخزن مبلغا من المال يبقى سنين لا ينفع أحدا، تجني منها الرعية فوائد وقت يعيش خدّام المذبح الآخرين في ضائقة كبيرة.

متى نفهم أننا إخوة وأنه عيب على الوافرة أموالُه أن يترك بعضا من الإخوة في عوز كبير. لا نقدر أن نهرب الى الأبد من تنظيم مشاركة أخوية حرة او إلزامية حتى لا يحسّ أحد بعزلة.

أنا لم ألجأ الى نظام إلزاميّ اتكالا منّي على أن المشاركة تأتي عفوية لأقوم بتوزيع أقرب ما يكون الى العدل، ولكن لم يفت الأوان إذ قد يأتي الإلهام فنصبح الواحد أقرب الى الآخر.

بانتظار تنظيم كامل، تبقى قضية البطرشيل اي العطاء الحر من المؤمن لكاهنه في المناسبات كالإكليل او العمادة او المأتم. اعتاد أهلنا هذه الطريقة. لا مانع أن نبقى عليها حتى يأتي يوم الإصلاح الكامل. غير أن نظام البطرشيل لا يقوم إلا بالكرَم الكثير، والسوء فيه أن المؤمن يتعمّد مرة واحدة ويتزوّج مرة واحدة ويموت مرة واحدة. هذا يعني أنه يدفع ثلاث مرات للقائم بالخدمة. وأَزيد على هذا أن شعبنا قليل الممارسة، موسميّ، بمعنى أنه يحضر الصلوات في الأعياد الكبرى، وحتى في الأعياد لا يحضر الكل. فإذا كانت الصواني لا تجمع الا القليل، من أين يجمع راتب الكاهن؟ عندنا اذًا مشكلة لا تزال عالقة.

غير أن الحل الجزئي هو أن نُكرم كاهننا بالمناسبات إكراما يليق به وبنا حتى لا نموت ببخلنا ويحزن الكاهن المعوز وأولاده أولادنا. لماذا كُتب على كثيرين من خدّام الهيكل أن يحسّ ابناؤهم وبناتهم بالبؤس او بفقر يشبه البؤس؟

فكّروا فيما بينكم بهذه الأوضاع. قولوا لي ما يخطر ببالكم حتى نتنادى للحلول.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

العائلة / السبت 19 أيار 2012

فتشت عبثًا في العهد الجديد عن لفظةعائلة او عيلة الا اذا سعيت الى المعنى مداورة في كلام متى على المنحدرين من ابراهيم وفي كلام لوقا على المنحدرين من آدم. ذكر العائلةككيان غائب لأن المسيح جاء ليخلّص الإنسان لا كتلة مجتمعية فيها السوء والصلاح واختلاف الطبائع. الفرد هو الذي يهتدي الى الرب او ينشز فيصبح اذا اهتدى من عائلة الآب ويبقى ابواه واخوته من شراذم الدنيا. تتبعثر الجماعة ويبقى المهتدي الى ربه والضالّون الى شياطينهم.

غير ان العهد الجديد لا ينسى مسؤولية الوالد والوالدة والأبناء والبنات. اما القول في بعض الأوساط ان العائلة خليّة في الكنيسة فلم أجد له أثرًا في ما دفع مرة واحدة الى القديسين. ليس من دعوة الى ان تصلّي العائلة معا في وقت واحد وان تستخدم كلّها النصوص اياها فهذا من باب التربية وقد ينجح الأمر هنا ولا ينجح هناك.

العيلة واقع عملاني وليست واقعا كينونيا. على مستوى العمل والرعاية والافتقاد لا غنى عن هذا الواقع وقد أجمع علماء النفس المعاصرون انه وان كثرت المساكنة وتشريعها بالزواج في عدة بلدان من الغرب تبقى العائلة حاجة انسانية لا غنى عنها. قرأت بسرعة هذا الأدب غير انه يزيّن لي ان التوازن النفساني والنضج العاطفي معرضان للاختلال الكبير ان كان احدنا لا يعرف اباه وامه او عاش صريع خلافاتهما او رأى احدهما يرتكب الكبائر والظلم والعسف والغضب الشديد بحيث امكن القول ان انفكاك العائلة ينتج عنه انفكاك الشخصية.

في الطائفة الارثوذكسية قاضيت كل العائلات التي تقدّمت استئنافا بدعاوى طلاق خلال اثنتي عشرة سنة كما قاضيت جزءًا من هذه الطائفة بداءة. لن أحدّثكم عن فحصي للعائلات التي رغبت في الانفصال. هذا يخرج من اهتمامي في هذا المقال يهمني الأذى النفساني اللاحق بالاولاد. هنا امكن التقرير ان الاضطراب النفسي وخلل الطبائع والاكتئاب سيئات تلحق بالبنين والبنات لا سيّما اذا كانوا صغيري السن لا أطفالا رضعا ولا متقدمين في الرشد. ولكن القاعدة العامة ان الأذى يحلّ بالأولاد كذلك الخيبة من الأهل ولاسيّما  اذا بانت خطاياهم للولد. كل خطيئة تولّد صدمة وكل صدمة تصدعا في النفس بمقادير مختلفة حسب الوضع العائلي المنهار.

في الواقع كان الانهيار واقعا قبل الخلاف واستدعاء الطلاق وكان الحزن قد دخل الى هذه النفس او تلك النفوس التي تؤلّف العائلة.

لست أعرف نفسيّة الأولاد في الكنائس المسيحية الأخرى التي ليست عندها قانونيا طلاق ولكن عندها الإبطال. تصوّري انه مهما كانت التسمية فالعائلة الكاثوليكية تعرف الانفصال ونتائجه.

لا أعرف شيئا عن سيكولوجية الأولاد المسلمين الذين ينفصل ذووهم بالطلاق. هل تشريع الطلاق في الإسلام يجعل الولد أكثر قبولا لهذه المؤسسة؟ نحن في حاجة الى دراسة سوسيولوجية مستفيضة هنا ولكن ظنّي ان الولد المسلم اية كانت الشريعة التي يألفها يحب بقاء ذوويه معا وان يظلّ ملتصقًا بهما.

#   #

#

ما يجعلني أوافق على ان مؤسسة الزواج باقية هو ان الزواج وحده يرعى صحة الأولاد وعافيتهما السيكولوجية بدءا من انه ليس من بديل عن الأم. يهمّ كل انسان ان يعرف ممن جاء الى هذا العالم. لذا يبقى الغربي سنوات اذا فقدهما او فقد معرفتهما يفتش عنهما في كل اقاصي الأرض. هكذا الانسان مفطور على انه يريد صلة على الأقل بأمّه. هو يعرف انه نما فيها طوال تسعة أشهر وانها حاضنته مهما طال عمره لأن حبل السرة وان قطع حسيا لا يقطع نفسانيا وكأن الانسان ابدا جنين وعندما يوارى الثرى يعود ابنا للأرض التي منها أُخذ. الأم والأرض والمدينة واحد ومنها جميعا جاء الانسان.

علاقتنا بالأب هي علاقتنا بالتاريخ العائلي المعروف عند اهل المال وغير معروف عند الفقراء ولكن الشعور بالماضي يلهمنا الشعور بالاستمرار. هناك رعاية للأب تتمثل في قوته وسيادته. وهذه القوة نعرفها متصلة بالأحشائية. كيف تتواصل سيادة الوالد على ولده والتصاقية الأم به في هذه الموهبة التي تدعى العائلة لمن استعملها سالمة هذا هو من نعم الله علينا. هذا يكشف حب الله لنا في هذا الثالوث الذي هو الأب والأم والوليد.

هنا تثار علاقة الأخ بأخيه او أخته. كيف تتجلّى العائلة عند ذاك؟ هل من مكانة لهذا التعدّد؟ اذا كان حب الأهل للأولاد عموديا فالحب الأخوي أفقي بمعنى تشابه الإحساس عند الإخوة والأخوات بقوة الأب او سيادته من جهة وبالأصول الرحمية تجاه الأم. طبعا هذا كله غارق في العقل الباطن. شعور هذا الولد تجاه امه وأبيه ليس واحدا او ليس بالعمق نفسه بين الاخوة والأخوات. لهذا أرى ان الصداقة بين البنين والبنات هي الطاغية على شعور أحدهم للآخر. من هذا المنظار كانت العائلة مكان التلاقي الشعوري بين الإخوة.

واذا كانت الأخوة هي صداقة أكثر من انتمائها الى اللحم والدم يكون ايثار الولد الواحد على بعض من الكثرة إضعافا لنمو الصداقة عند الإنسان في العيلة. البيئة العائلية دفء مفيد جدًآ للنمو الأسري. قد يعطل الخفر والخجل او عوامل أخرى تنمية المودات خارج العائلة وكثيرا ما يظهر العداء بين الإخوة ولكن الناموس الطبيعي ان ينشأ الحب ويكبر في اخوّة سليمة.

أنا أجيء من عائلة فيها ثمانية أولاد وما كان أبي على ذلك اليسر الذي يقال اليوم انه واجب لإكثار الولادات. ولم أسمع اصلا ان والدي يتأفف من اقتصاد علئلي معتدل. ذقنا صعوبات قليلة في الحرب العالمية الثانية. أءخلنا جامعات وما كان احد يقول في وسطنا الجامعي كيف يسجل هذا  ابن متري خضر في جامعة ويعيش في العاصمة ونحن لسنا ابناء العاصمة.

كنّا ندرس على ضوء القنديل اذ لم تكن الكهرباء تضيئنا آنذاك ونمشي على أقدامنا وكانت العائلة تصادق عائلات مسلمة. كنا نعيش معا في الحي وتعلّمنا نحن ان نحب المسلمين وما سمعت واحدا من الناس يقول لفقره لا أريد ان استخلف.

النصيحة الوحيدة التي كنت استمعها من الكهنة ان أطع أباك وأمك وعليها كانوا يزيدون احبب قريبك كنفسك. المسيحية العملية كانت هذه عند مرشدينا الروحيين والمسيحية النظرية تأتي من القداس واذا انت أتممت هذا كانوا يعتبرون انك بلغت الرشد الروحي الذي يكلل فيك كل مسعى.

العائلة كانت في عمقها الروحي تقوم على انشاد امي وبهاء ايقوناتها والخفر يضطرني الا أتكلّم على نقاوة والدي. الطهارة الكاملة في الكلام كانت مما لا يناقش لزومها. واستقامة الرأي التي كنا عليها مذهبيا كانت تقتضي استقامة السلوك اذا اردت ان تحس انك من هذه العائلة.

لست أعلم اذا تقيدنا بكل ذلك ولكن هذه كانت سياسة العائلة اذا أريد للعائلة البقاء. هي لا تبقى في الإيلاد ولكنها كانت تنمو بالولادة الجديدة التي من فوق.

العائلة تتلاشى في عائلة الآب او لا تكون.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

السامرية / الأحد 13 أيار 2012 / العدد 20

هذا الفصل الإنجيلي يحتوي على حوار من أجمل حوارات السيد. الحادثة السابقة للمقطع الذي نقرأه ان السيد لما كان لا يزال في اليهودية، وهي المقاطعة المحيطة بأورشليم، أحس بكيد الفريسيين وتآمرهم عليه، فقرر ان يذهب الى الجليل، وهي بلاده، وكان لا بد له ان يمر بالمنطقة الوسط وهي السامرة. فوصل الى مدينة سوخار وكانت قريبة جدا من نابلس، التي كانت في ذلك الزمن ولا تزال الى يومنا. في هذه الضيعة كانت عين يعقوب او بئر يعقوب، وهذه البئر قائمة حتى اليوم وعندها كنيسة ارثوذكسية.

نحو الساعة السادسة اي عند الظهر جاءت امرأة سامرية. في بلادنا في طفولتي كانوا يتبعون هذا التوقيت ويسمونه الساعة العربية. المرأة حاملة جرة خزفية والبئر عمقها 32 مترًا وكان بإمكانها ان ترفع الماء، ولم يكن ليسوع دلو ليرفع الماء. طلب منها الرب ان تسقيه فرفضت لكونه يهوديا والسامريون فرقة انشقت عن اليهود لاختلاف في العقيدة ولاختلاف عنصري اذ كانوا قد اختلطوا بشعوب أجنبية. لما رفضت ان تعطيه ماء ليشرب قال لها: «لو عرفت عطية الله ومن الذي قال لك اعطيني لأشرب لطلبت أنت منه فأعطاك ماء حيا». قالت له: من أين لك الماء الحي؟ قال لها عند ذاك: «كل من يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا وأما من يشرب من الماء الذي انا أعطيه فلن يعطش الى الأبد». أي ماء قصد؟ لم تفهم شيئا من كل هذا.

أراد السيد ان يوقظها روحيا وطلب منها ان تدعو رجلها (في الترجمة الاميركية زوجها). ترجمتنا نحن أفضل اذ لم يكن لها زوج وساكنت في الماضي خمسة رجال وهي الآن تساكن رجلا. رأت ان يسوع يعرف وضعها فقالت: «يا سيّد أرى انك نبي» وطرحت عليه سؤالا لاهوتيا: «آباؤنا سجدوا في هذا الجبل (المُسَمّى جريزيم) وأنتم تقولون ان السجود هو في هيكل اورشليم». عند ذاك قال لها ما معناه انه ليس هنا ولا في اورشليم يكون السجود لله. الله لا يهمّه مكان. «الله انما يُسجَد له بالروح والحق» اي في القلب، في عمق الكيان البشري. في الحق تعني الله نفسه اي السجود المباشر الذي لا يحتاج الى تلة صهيون حيث كان الهيكل ولا الى جبلكم حيث كان في القديم هيكل السامريين. وكان قد دُمر قبل مجيء المسيح الى العالم.

هذا الحوار أهم ما ورد في إنجيل اليوم. والمرأة تركت جرتها، وهي لأجل استقاء الماء جاءت، وأخذت تبشّر قومها بالمسيح وهيأتهم لبشارة الرسل التي يذكرها سفر أعمال الرسل. وسمّتها الكنيسة القديسة فوتيني، وفي التسمية العربية في أوساطنا هي فوتين اي المستنيرة.

أعطنا يا رب ان نهتدي من كل قلبنا كما اهتدت المرأة السامرية.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

المرأة / السبت 12 أيار 2012

ماذا تقول كلمة الله عن المرأة قبل ان تقول الخبرة البشرية شيئًا. غير ان صعوبة الحديث عن الخبرة انها ليست واحدة عند جميع الناس وثانيا تكمن الصعوبة في كون الرجل اذا تكلّم على المرأة تعوزه الموضوعية لكونه متأثرا بنجاح علاقته بها او إخفاقها.

بدء الكلام عن المرأة ما جاء في سفر التكوين: «فخلق الله الانسان على صورته». بعد هذا يقول: «ذكرًا وأنثى خلقهم». وكأنه يقول ان البشرية مجموعة بلا تفريق بين الجنسين هي على صورة الله.

في رواية ثانية للخلق بعد ان استل الله من آدم حواء قال: «هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي…» ويكشف الكتاب لنا ان الرجل يترك أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكونان كلاهما جسدًا واحدًا وفي الخلفية العبرية الجسد الواحد يعني الكيان الواحد.

في هذه المرحلة من الوحي لا يرى الله اليهما الا من حيث انهما معا اي متحدان، متعاطفان. عبارة آدم عن حواء «عظم من عظامي ولحم من لحمي» تشير الى اولية الرجل بوضوح. لغة وجودية، عملانية ولعل الحياة لا تطلب اكثر من هذا.

غير ان سفر التكوين بعد ان اهتم كثيرا بمن انحدر من ابراهيم عن طريق الزواج قال عن ابنه اسحق انه احب رفقة زوجته. هذا أفهوم جديد. نحن مع حضارة مشرقية تعرف الحب منذ القرن الثاني قبل الميلاد وهو تاريخ تدوين سفر التكوين على ما اصطلح عليه علماء عصرنا.

ويذهب سفر التكوين الى ابعد من هذا اذ يقول عن احد الناس ان «نفسه تعلقت بدينة ابنة يعقوب واحب الفتاة ولاطف الفتاة» (34: 3). نحن هنا مع أفهوم العشق وهو Eros في اليونانية.

قمة الشعور العشقي تجده منذ مطلع نشيد الأنشاد. «ها انت جميلة يا حبيبتي ها انت جميلة» (1: 25)، «اني مريضة حبا»، «احلفكن يا بنات اورشليم بالظباء وبأيائل الحقول الا تيقظن ولا تنبهن الحبيب حتى يشاء».

والى هذا حب الله لشعبه بتسميته عروسا مستعار من لغة الحب البشري وهذا عند انبياء العهد القديم.

في كل ما ذكرنا عندنا بين الرجل والمرأة خطاب حب. موضوع الزواج شيء آخر.

#   #

#

اذا انتقلنا الآن الى العهد الجديد لا نجد اثرا لمقولة الحب بين الرجل والمرأة. هناك حديث عن الزواج فقط او عن عرس ولكن لا ذكر لعلاقة عاطفية مرتبطة بالجنس او تقود الى الزواج. ما يتعلق بالرقة غير مذكور. هناك فقط دعوة الى المحبة بمعناها الروحي كما في قوله: «أحبوا بعضكم بعضا كما أنا أحببتكم». طبعا لا حديث هنا اطلاقا عن تلاقي الجنسين. هناك فقط حديث عن التضحية بالنفس حتى الموت. المحبة عند الرجل للمرأة في تعليم بولس هي حصرا تضحية حتى الموت بلا اشارة الى اي انفعال  مرتبط بالجسد.

ينفرد العهد الجديد في اعتبار المرأة وحدها في قضية مريم. فتاة تحبل بلا مشاركة رجل وتصير قطبا اساسيا في الحياة المسيحية بلا تماس مع مقولة الحب. علاقتها بالمخلص ترتكز على مقولة العطاء وحده.

شفى يسوع نساء كثيرات لا ذكر لرجال لهنّ. نساء خاطئات يطيّبن قدميه وواحدة تبلّ قدميه بالدموع وتمسحهما  بشعر رأسها. ونساء كثيرات كنّ يخدمنه من اموالهنّ منهن مريم التي تدعى المجدلية وهي الاولى التي بشرت بالقيامة. رجال اسرائيل كانوا يكرهون المرأة ويعبرون عن هذا في صلواتهم. وحده في تاريخ هذا الشعب رفع من شأن المرأة. هو القائل عن الزانية: »من كان منكم بلا خطيئة فليرمها اولا بحجر« وبعد ان تركوه قال للخاطئة: «يا امرأة اين هم اولئك المشتكون عليك. اما  دانك احد. فقالت لا احد يا سيد فقال لها يسوع ولا انا ادينك. اذهبي ولا تخطئي بعد».

بعد هذا كانت واقفة عند صليبه امه والتلميذ الذي كان يسوع يحبّه. فقال لهذا عن مريم: هذه امك«. هل يعني ان لنا في العمق الذي لا يدرك اما واحدة واننا ان صرنا الى النعمة لنا والد واحد وهو الآب. في هذه الوالدية السامية ليس من أب ولا أم. فاذا نظر الله الينا لا يرى الا أبوّته وكأننا بتنا مثل ملكي صادق «بلا أب، بلا أم، بلا نسب، لا بداءة ايام لنا ولا نهاية حياة» (عبرانيين 3: 7).

#   #

#

في الرسالة الى أهل غلاطية «ليس ذكر وأنثى» (28: 3) واو العطف الواردة بعد ليس بين لفظة ذكر ولفظة أنثى هي لتنفي جمعهما ولإقرار استقلال الأنوثة عن المذكورة. في ما يختص بما نعالجه المرأة قائمة بنفسها وهي على صورة الله بنفسها. في الأصل هما كائنان منفصلان وليس أحدهما مخلوقا للآخر كأنه ناقص بلا زواج. المرأة لإمكانها ابتغاء الكمال الروحي لا تكتمل قداستها بالرجل ولا هو تكتمل قداسته بها وأعلى درجات القداسة هي لامرأة وعنيت بها مريم.

مستوي الطبيعة شيء آخر. هناك اختلاف في النفسانية حسب قول العلماء وهم يؤكدون سيكولوجيا ذكورية وسيكولوجيا أنثوية غير انهم يوكدون ايضا ان قوة العقل واحدة وان ليس من علم لا تستطيع المرأة ان تحصله. ظروف الحياة والتربية والمجتمعات تجعل بينهما اختلافا غير ان قوة الإدراك تؤهلهما للمعرفة الواحدة.

ربما اختلف الانفعال او حدّة الانفعال ولكن استيعاب القوة العاقلة واحدة فتستوي بها المرأة والرجل. في الأمور الجوهرية كل منهما وحده كامل الكيان وقد تجاوزنا علميا النقاش حول المساواة بين الرجل والمرأة.

لا أحب كلمة تكامل لأنها تتضمّن دونية ما ولكني اؤثر كلمة انسجام  بين الجنسين بسبب التباين النفساني. ولكن من المؤسف ان الأوربيين في دنيا العمل الراقي يفرقون في المعاش بين الرجل والمرأة ولو كانا على مستوى علمي واحد.

برهنت المرأة على علوّ مستواها وانتصرت. مع ذلك في بلدان عديدة في الحياة الزوجية تبقى مقموعة ومذَلّة والذلّ ان الرجل يمارس شدّة بسبب من أمواله.  هذه هي حقارته الى ان يرى زوجته كما يرى امه او اخته في البهاء الإلهي الذي خُلقت عليه.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

مجالس الرعية/ الأحد 6 أيار 2012 / العدد 19

في مطالع السبعينات من القرن العشرين، لما سنّ المجمع المقدس قانون مجالس الرعية، ظن أنه من الحسن أن تشرف لجنة من بضعة أشخاص على أمور الرعية من كل النواحي الروحية والثقافية والمالية. وفي كل تجمّع بشريّ، هناك إمكان عمل وهناك إمكان إهمال وهناك طبائع الناس بعضها جيّد وبعضها سيّء. ولستُ الآن بمعرض نجاح هذا القانون أو إخفاقه، فيختلف النجاح أو التخلّف حسب الأماكن وحسب مستوى التقوى عند الأعضاء.

ومن الصعوبات الكبرى أن المطران لا يستطيع أن يعرف جميع الناس إذا عيّن، ولا يتّفق المؤمنون على أن يدلّوه على أفضل العناصر، وفي بعض القرى في هذه الأبرشية من لا يقبل رئاسة الكاهن على المجلس أي يريدون الاستئثار بإدارة الأمور وجعل الأب الروحيّ محصورًا في أداء الصلوات ولا رأي له مثلا في راتبه أو إعانة الفقراء وهم في رعايته بنوع خاصّ. ليست غاية هذه السطور انتقاد وجود هذه المجالس، فالمجمع شرّعها وليس من حديث عن إلغائها، ولكن كيف نتصرّف اذا أخطأت الإدارة؟ كيف لا يبقى المجلس فقط آلة إدارية ولكن يكون حسن الإدارة؟السؤال الحقيقيّ هو هذا: كيف يعيش أعضاء المجلس بعضهم مع بعض؟ جوابُنا أن لا عيش الا في المحبة والتسامُح والغفران بحيث لا يتمسّك كل منهم برأيه عنادا ولكن يقبل الرأي السليم. الأرثوذكسيّ ليس فقط المنتمي بالمعمودية إلى كنيسة المسيح ولكنه المستقيم الرأي. فإن حسبت في مناقشة أن زميلك رأيه أقوم من رأيك تتخلّى عن رأيك وتتبعه لأن هذا الإنسان يكون قد استلهم المسيح أكثر منك أو دلّته خبرته على الموقف الصالح. ولا فرق بين أن تكون أنت قائدًا للفكر أو يكون سواك قائدًا للفكر. المهم أن تكون الحقيقة ملهمة للجميع وأن نكون جميعًا أبناء للحقيقة.

ماذا يحصل أحيانًا عندنا؟ تحصل خلافات قائمة على العائليّة أو على سياسة الضيعة. ونحن في هذه الأبرشية قرى. اذا كُنّا محبّين نكون محبّين لجميع العائلات لكونها تنتمي إلى المسيح والمسيح يحبّها بالمقدار نفسه. الكنيسة ليست مؤلفة من عائلات. هي مؤلفة من أفراد. فإذا كنت تحب الحق تكون ضد أخيك اذا كان ضد الحق.

أن تَظهر، أن تُسيطر، أن تُحبّ السلطة هذا من الشرير. الإنسان المتواضع يتوارى، يقمع كبرياءه ولا يدّعي أن عائلته شيء عظيم أو هي أعظم من الآخرين. الله يدين جميع الناس. لا يدين عائلات. يدين أفرادًا. فقد يكون أبوك قديسًا وأنت سيء. لا قربى عندنا إلا بين الخيّرين، الصالحين. الإنسان السيّء غريب عنك. اخدمْهُ خدمةً طيّبة مع كونه سيئًا لأنه خروف يسوع.

لا تقسم مجلس الرعية إلى زُمَر، إلى مجموعات متنافرة. اجمع. لتكن طريقتك التوحيد بين الإخوة. كونوا في المجلس جسمًا واحدًا اذا أردتم خدمة الجماعة أو أردتم ان تصبحوا جماعة موحّدة في دم المسيح.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

لبنان المرجو / السبت 5 أيار 2012

في لبنان الصغير كان الأرثوذكسيون ممثلين في مجلس الادارة بعدل وعاشوا في نظام المتصرفية. لم يرتضوا لبنان الكبير اذ كانوا مع فيصل حامل صيغة العروبة آنذاك. مع ذهاب فيصل تلبننوا سياسيا في حفاظهم العاطفي على رحابة مشرقية. بمعنى انهم لم يعيشوا عقدة اقليتهم العددية وما قبلوها لسواهم ولكن هذا التجمع الاقلوي الذي كرسه دستور 1926 فذلكه ميشال شيحا الكلداني الحامل ذكريات العراق.

في بلدنا شرخ بين الشعور العميق والواقع السياسي. فقد اقتبس المسلمون العروبة من مؤسسيها الفكريين اي موارنة باريس ثم انسلخ الموارنة عنها سياسيا  مع انهم اكتب العرب في لغتهم. ومع ان الموارنة اخوة الارثوذكسيين في المسيح لم يعطوا لهذا ترجمة سياسية وصاروا اسياد البلد. وبعد ان تلبنن المسلمون كليا ولكن تدريجيا كانت لهم قراءة للبنان نافعة لهم وخسر الموارنة لبنان سياسيا وبقوا له عاطفيا. في كل هذه اللعبة ما افاد الارثوذكسيون بعروبتهم شيئا من المسلمين وما افادوا من الموارنة دنيويا اذ حفظ الموارنة في لاهوتهم الكاثوليكي ودا للارثوذكس ولا سيما السنوات الاخيرة غير ان هذا لم يؤتِ بترجمة سياسية.

التشرذم الطائفي لا تستطيع انت بجرة قلم ان تحل محله الوطنية اللبنانية وهي شعور لا يولد نظاما. لا بد ان تضرب النظام الطائفي وهو قائم بسيادة طوائف نافذة على طوائف مستضعفة. الى ان ينشأ عندك نظام مدني كيف تقيم عدلا خارجا عن العدد او خارجا عن تسلط اعتباطي او عشوائي لناس على ناس؟

تمتمة الجواب ان تحول السؤال الى هذا: انت عندك شعوب مؤمنة بأديان مختلفة وفي كل دين مذهب او اكثر وأصحاب المذهب لهم ثقافة خاصة بهم.  لنأخذ الطهو مثلا. هناك طهو سني لورق العنب رائع وهناك كبة شيعية او جنوبية تختلف عما يطبخ في المناطق الشمالية والوسطى. وهناك لهجات بعضها مختلف كثيرا عن غيره وهناك مواقف حاسمة في الزواج وديمومته ودرجات قدسيته وكل الموضوع الجنسي. الى جانب ذلك ذاكرات جماعية متنوعة المضمون بحيث لا تستطيع ان ترى نموذجا إناسيا واحدا وبحيث يعسر جدا ان تتكلم عن طبائع لبنانية كثيرة التقارب الا في الخطايا الموحدة لما يسميه الدستور الامة اللبنانية وهو يريد التجمع السوسيولوجي لهذا الحلف الطوائفي الذي سماه الجنرال غورو في اول ايلول 1920 لبنان الكبير بقرار منه. هذا املاء فرنسي يجمع فوقيا مجموعة شعوب لتؤلف معا الشعب اللبناني وهي لم تستطع تأليفه.

ولم تدفع هذه الشعوب ثمنا لوحدة اريدت لها وكل شيء في الوقت الحاضر يدل على ان بعض القيمين على البلد لا يريدون اي خير له او يبذلون ادنى تضحية لتنصهر هذه الشعوب بعضها ببعض ولأية غاية تنصهر روحيا وثقافيا؟ ماذا نفعل بالنكهة الشيعية ذات الفرادة الساطعة؟ هل من محاولة جدية لاقتراب الكاثوليك والارثوذكس؟ هذه امور ليست بتفاصيل لدنو شعب من شعب آخر. توحيد المذاهب الاسلامية الذي ينادي به جامع الأزهر من عقود لم يبق له أثر.

الانقباض هو الطابع الوحيد الذي يميز كل طائفة وأعجوبة الانفتاح الديني والمجتمعي لم تطل حتى اليوم.

هل نقرر في سبيل حلم الوحدة اللبنانية اننا بتنا شعبا واحدا ونرضى في الواقع بتطويع شعب لشعب؟

متى تتم الوحدة اللبنانية وعلى اي أساس؟ هل ندعو كل شعب الى فقدان دسمه او ملامحه او نقوم بعمل توحيدي رمزي في هذه المناسبة او تلك لنوهم انفسنا اننا ذاهبون الى الانصهار؟ هل تعرفون خارج لبنان بلدا يعزف النشيد الوطني في كل مناسبة؟

كل هذه الامة كما يحلو للدستور ان يسميها تذهب خلال 12 ساعة لتضع ورقة في صندوق اقتراع مكتوبة عليها اسماء مرشحين لتقنع نفسها بأنها صارت واحدة بهم وتعود في اليوم الثاني الى انقسامها شعوبا مختلفة لا تعاون بينها الا في التجارة والقطاع الاقتصادي والتنافس المالي ونعت ذاتها باللبنانية لأن هناك علما واحدا وتركيبة دولة غير قادرة او غير مريدة على بناء طريق لا حفرة فيها او إقامة كهرباء لا تضيء او جر مياه لا تروي او ذبح لحم فاسد وإذاعة رعب في النفوس وتوهم انها تحكم وهي لا تحكم بانتظار دولة تكون غبيا اذا توقعتها بمعطيات اليوم.

ان تكون في لبنان غير طائفي أمنية لا أساس لها سياسيا. ان تكون محبا شيء آخر لا علاقة له بالسياسة. يمكن المحبة ان تشفي الطوائف من حدتها، من كبريائها، من أناها المقيت. ولكن هذا لا يصلح النظام الطوائفي. وهو لا ينهدم منطقيا. يجب ان يتفجر كليا. ولن يتفجر ما لم تأتِ بنظام آخر كليا. حتى الآن لسنا نعرف النظام المدني الذي يتجاهل الطوائف كليا. وليس لبنان مؤهلا لاكتشاف نظام لنفسه لا يعرفه علماء الدستور.

هل نصل، هل يمكننا ان نصل الى وضع كهذا؟ هذا يعني اننا قادرون ان نفصل بين شعورنا الديني وقيام طوائف لنا لا معنى سياسيا لها. هل اللبناني حر من السياسة الى هذا الحد؟ وهل هو متدين الى هذا الحد حتى يعتقد ان الإيمان اخروي كليا وليس له مردود سياسي؟ انا ليس عندي وصفة تحرير من الطائفية ولست اعرف مرحلية لوصولنا الى نظام علماني.

انت لست مضطرا ان تؤمن بإمكانات هذه الشعوب لتصير شعبا واحدا. انت مضطر ان تحب جميع هذه الشعوب لكي تتحرر من الانقباض او الانغلاق وتبني بالإخلاص دولة تعرف نفسها خادمة لكل هذه الجماعات وهذا يتطلب فهما كبيرا لخصائص هذه الشرائح وكيف تقربها بعضها من بعض.

من المعيب ان تسود طائفة طائفة اخرى بأية صورة من صور السيادة. من المعيب الا تجعل كرامتك ككرامة الآخر وان تعليه فوق رأسك لتدخلوا بالمساواة الى ندوة برلمانية تسعون فيها الى بناء لبنان عظيم وتفتخرون بالبهاء الروحي الذي تجعله فيه اخلاقكم السامية.

Continue reading