Category

1999

1999, مقالات, نشرة رعيتي

2000/ الأحد 26 كانون الأول 1999 / العدد 52

حتى انتهاء العام نبقى مع ذكر الميلاد وبركاته, ونركز اليوم بالذات على والدة الإله الرفيقة الأولى لهذا الحدث والنموذج لكل نفس عذراء تطلق السيّد في العالم كما يقول مكسيموس المعترف. “المسيح الرب” هذا هو الذي أعلنته السماء للرعاة المتنقلين من مرعى إلى مرعى حتى وجدوا يسوع.

كل منا متنقل, متحير حتى يجد مقره في السيد. عندئذ يمشي حيث يشاء ويحمل يسوعه معه ويرجو أن يمدّ الناس بهذا المسيح الذي يحمل, بالشهادة. إذا استمر فرحنا بالعيد فأي فرح هذا؟ هل هو موسم مخصّص للهدايا, للأطفال, للمعايدات حتى نخرج من حياة رتيبة؟ ولكن نخرج إلى أين, إلى من؟ هل هو حقا فرح بأن إيماننا هو أن المسيح هو أبداً جديد يزيل عنا ما أمسى في النفس عتيقا, مهترئا؟ هل صار يسوع في الواقع ذلك الشيء الجميل الذي هو أثمن من نسائنا وأولادنا وأملاكنا وقلوبنا فنعطي كل شيء لنقتنيه؟

بعد ستة أيام من اليوم ستحل الألفية الثالثة وتستقبلها البشر بالأضواء والألعاب في عواصم العالم وعلى مدى بلدان. وقد أُنفقت ملايين من الدولارات في فرنسا أي مجموعة مليارات في أوربا لأن الناس تأمل شيئا جديدا لنفسها. ربما استردّوا هذه الأموال بما ينفقه السواح. ولكن الفقراء في رأس السنة القادمة ستبقى جائعة.

ليس أحد يعرف ما تخبئه الألفية لنفرح بها. هناك أشياء نعرف أنها ستصير. تقدم كبير في عالم المعلوماتية, انفتاح الأسواق بعضها على بعض في ما يسمى العولمة, وصول الأخبار, كل الأخبار إلى من كان عنده وسائل لالتقاط الصور (تلفزيون وسواه), تقدم للجراحة والطب, قضاء أكيد على سرطان الدم وربما كل سرطان.

هذه بعض الأشياء التي نعرف أننا واصلون إليها. ولكن لا نعرف بعد إذا كانت الأحقاد بين الإثنيات أو الأعراف أو الشعوب ستقلّ, لا نعرف شيئا عن الحروب الأهلية التي كثرت في كل أنحاء الدنيا بعد الحرب العالمية الثانية. ماذا عن حرب الحضارات؟ هل ستنفجر؟ ماذا عن العداء بين الطوائف؟ الكثير مما ينتظرنا مجهول.

غير أن المعلوم إيماننا. هذا ثابت إن شئنا أن يثبت لأن الله يريده أن يبقى. إيماننا هو الحصن لقلوبنا, لمبادئنا لا الألفية الثالثة. هذه كالوعاء يمكن أن يبقى فارغا أو أن تملأه بعطر. العالم المقبل بعد أيام وكذلك القرن القادم سيكونان عطية الله إذا الناس بذلوا جهودهم ليكون الدهر كذلك.

أنت لا تتلقى إذاً لا العام ولا القرن أو ما تيسّر لك أن تعيش من القرن. أنت تعبئ نفسك من المسيح وترحل في العام والسنوات التي ييسرها لك ربك. أنت سفير المسيح, والسفير يمثل بلده. هل أنت, في أقوالك وسلوكك, مندوب المسيح؟

لا عبرة عند المؤمن للأزمنة تنقضي لأن “ألف سنة في عينيكَ كيوم أمس الذي عَبَر”. يمكن أن يكون يوم واحد عندك مليئا بالرضاء والبركات أكثر من سنوات. الزمان لا شيء. املأه أنت نعمة ولطفا حنانا. املأه هدوءاً. “وعلى الأرض السلام في أناسِ المسرة” أي الذين رضى الله عنهم. يرضى الله عنك إذا أنت استرضيته. كيف تسترضيه؟ بالإيمان. لماذا الناس لا يؤمنون؟ لأنهم يطلبون مجدا بعضهم من بعض. إذا ابتعدت عن شهوة السلطة تقبل الآخر, تهدأ, تلقاه اليوم وغداً. أنت وإياه ستكون معا في السنين القادمة. هذه المعية هي الفرح.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

2000/ الأحد 26 كانون الأول 1999 / العدد 52

حتى انتهاء العام نبقى مع ذكر الميلاد وبركاته, ونركز اليوم بالذات على والدة الإله الرفيقة الأولى لهذا الحدث والنموذج لكل نفس عذراء تطلق السيّد في العالم كما يقول مكسيموس المعترف. “المسيح الرب” هذا هو الذي أعلنته السماء للرعاة المتنقلين من مرعى إلى مرعى حتى وجدوا يسوع.

كل منا متنقل, متحير حتى يجد مقره في السيد. عندئذ يمشي حيث يشاء ويحمل يسوعه معه ويرجو أن يمدّ الناس بهذا المسيح الذي يحمل, بالشهادة. إذا استمر فرحنا بالعيد فأي فرح هذا؟ هل هو موسم مخصّص للهدايا, للأطفال, للمعايدات حتى نخرج من حياة رتيبة؟ ولكن نخرج إلى أين, إلى من؟ هل هو حقا فرح بأن إيماننا هو أن المسيح هو أبداً جديد يزيل عنا ما أمسى في النفس عتيقا, مهترئا؟ هل صار يسوع في الواقع ذلك الشيء الجميل الذي هو أثمن من نسائنا وأولادنا وأملاكنا وقلوبنا فنعطي كل شيء لنقتنيه؟

بعد ستة أيام من اليوم ستحل الألفية الثالثة وتستقبلها البشر بالأضواء والألعاب في عواصم العالم وعلى مدى بلدان. وقد أُنفقت ملايين من الدولارات في فرنسا أي مجموعة مليارات في أوربا لأن الناس تأمل شيئا جديدا لنفسها. ربما استردّوا هذه الأموال بما ينفقه السواح. ولكن الفقراء في رأس السنة القادمة ستبقى جائعة.

ليس أحد يعرف ما تخبئه الألفية لنفرح بها. هناك أشياء نعرف أنها ستصير. تقدم كبير في عالم المعلوماتية, انفتاح الأسواق بعضها على بعض في ما يسمى العولمة, وصول الأخبار, كل الأخبار إلى من كان عنده وسائل لالتقاط الصور (تلفزيون وسواه), تقدم للجراحة والطب, قضاء أكيد على سرطان الدم وربما كل سرطان.

هذه بعض الأشياء التي نعرف أننا واصلون إليها. ولكن لا نعرف بعد إذا كانت الأحقاد بين الإثنيات أو الأعراف أو الشعوب ستقلّ, لا نعرف شيئا عن الحروب الأهلية التي كثرت في كل أنحاء الدنيا بعد الحرب العالمية الثانية. ماذا عن حرب الحضارات؟ هل ستنفجر؟ ماذا عن العداء بين الطوائف؟ الكثير مما ينتظرنا مجهول.

غير أن المعلوم إيماننا. هذا ثابت إن شئنا أن يثبت لأن الله يريده أن يبقى. إيماننا هو الحصن لقلوبنا, لمبادئنا لا الألفية الثالثة. هذه كالوعاء يمكن أن يبقى فارغا أو أن تملأه بعطر. العالم المقبل بعد أيام وكذلك القرن القادم سيكونان عطية الله إذا الناس بذلوا جهودهم ليكون الدهر كذلك.

أنت لا تتلقى إذاً لا العام ولا القرن أو ما تيسّر لك أن تعيش من القرن. أنت تعبئ نفسك من المسيح وترحل في العام والسنوات التي ييسرها لك ربك. أنت سفير المسيح, والسفير يمثل بلده. هل أنت, في أقوالك وسلوكك, مندوب المسيح؟

لا عبرة عند المؤمن للأزمنة تنقضي لأن “ألف سنة في عينيكَ كيوم أمس الذي عَبَر”. يمكن أن يكون يوم واحد عندك مليئا بالرضاء والبركات أكثر من سنوات. الزمان لا شيء. املأه أنت نعمة ولطفا حنانا. املأه هدوءاً. “وعلى الأرض السلام في أناسِ المسرة” أي الذين رضى الله عنهم. يرضى الله عنك إذا أنت استرضيته. كيف تسترضيه؟ بالإيمان. لماذا الناس لا يؤمنون؟ لأنهم يطلبون مجدا بعضهم من بعض. إذا ابتعدت عن شهوة السلطة تقبل الآخر, تهدأ, تلقاه اليوم وغداً. أنت وإياه ستكون معا في السنين القادمة. هذه المعية هي الفرح.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

أحد النسبة/ الأحد 19 كانون الأول 1999 / العدد 51

يدعى هذا الأحد هكذا إذ نقرأ فيه أسماء السلالة التي انحدر منها المسيح حسب الجسد. فهو ابن إبراهيم وابن داود وابن مريم, من هذه الأجيال التي كانت وحدها تعبد الله الواحد وتنتظر المخلّص حسب الوعد الذي قطعه الله لشعبه على لسان الأنبياء.

ومن قرأ أسماء الأجداد لا يراهم على الكمال الخلقي المرجو كما نعرف سيرتهم من العهد القديم, فإن المخلّص يجيء من هذه الطينة البشرية كما هي وآباؤه لا يولونه شرفا. إنه هو الذي شرّفهم بالخلاص. أما جدّات السيد فمنهن راعوث الوثنية ومنهن ثامار وراحاب وكلتاهما تعاطى البغاء. هذا ليقول الإنجيل أن مقاصد الله تخترق أوضاع الناس على شقائهم, وليقول أيضا أن طهارة يسوع هي من فوق.

النسب عند متى يبدأ بإبراهيم أبي المؤمنين. نحن إذاً مع المسيح في اكتمال التخطيط الإلهي القديم. النسب عند لوقا يصعد إلى آدم ليقول أن يسوع مخلّص الجنس البشري كله وليس مرتجى اليهود وحدهم, ليقول أيضا أنه ملك الإنسانية المتوّجة به.

وأخيرا يقول الكتاب في متى أن السيد مولود لعذراء ليوحي بأنه ليس مدينا بظهوره لأحد من البشر فإنه مبعوث الآب. المسيح يأتي من ابنة لداود. يؤكد ذلك بولس في رسالته إلى أهل رومية(1: 3). فما من شك على أن المعلّم اتخذ جسده من العبرانيين. وكل محاولة أخرى لجعله من الأمم لا أساس لها في النصوص وتقطع الصلة بينه وبين الكلمة الإلهية التي انسكبت على شعب واحد. المسيح “ملء الزمان” يحقق وعود قطعها الله على نفسه قديما. المسيح نهاية تهيئة. لم يخرج من عدم تاريخي. ولعل ذكر من كان قبل إبراهيم في رواية لوقا هو تأكيد على أن السيد ابن الوثنيين أيضا. أي أنه مصبّ الأمم جميعا ومصبّ خيراتها.

وأخيرا كان لا بد أن نشير إلى القولة:”ولم يعرفها حتى وَلدتْ ابنها”. طبعا لا شيء في اللغة يؤكد على أن فعل “عرف” يدل على العلاقات الجنسية. فقد تعني الآية أن يوسف لم يعرف قدرها أو قيمتها قبل مولدها. ولكن “عرف” قد يدل على العلاقات الجنسية كما ورد ذلك في استعمال سفر التكوين لهذا الفعل. عندئذ يكون المعنى أن يوسف لم يتصل بها قبل مولدها. بعد المولد لا يقول شيئا لأن متى غير معني في كتابه بوضع سيرة لمريم ويوسف. يهمل هذا الأمر ولا يؤرخ له.

في اللغة, الآية تعني الانقطاع الكامل للصلة بين يوسف والبتول ولا تعني بدء صلة بعد المولد. على سبيل المثال إذ سألتني: ماذا كنت تعمل أمس قبل الظهر؟ أجيبك مثلا: قبل الظهر كنت في بيتي. هذا لا يعني أني غادرت بيتي بعد الظهر. ولكن أنت كان اهتمامك بهذه الفترة من النهار.

 موضوع أمومة مريم لأولاد آخرين مبحث مستقل لا علاقة له بسرد حادثة الميلاد في إنجيل متى. وكل نص ينبغي أن يفسَّر على ضوء تحديد المجمع المسكوني الخامس من أنها دائمة البتولية وتكرار عباداتنا لذلك.

في عباداتنا وعند آبائنا أن الميلاد عيد النور. هو ليس تجديد الذكرى لمولد على طريقة البشر الذين يعيّدون كل سنة لمولدهم. ما عيّد له المسيحيون الأولون ليس حدث المولد من بيت لحم, ولكن معنى المولد, أي أنهم فرحوا لانبثاق النور في تاريخ الناس, وأكدوا على أنهم يعاهدون النور.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

إلى سيدة حمّاطورة/ الأحد 12 كانون الأول 1999/ العدد 50

صباح الاثنين في الثلاثين من الشهر الماضي قادني الرب في وعورة للطريق كبيرة إلى دير سيدة حمّاطورة الرابض في أعالي وادي قاديشا، وهو واحد فقط من المعالم الأرثوذكسية التي كانت حيّة في وادي القديسين باتجاه الشرق (كنيسة مار مخائيل القريبة، مغارة بيزنطية الرسوم درسها حسان سركيس, دير القديسين بطرس وبولس القائم حتى اليوم على النهر, دير مار جرجس فوق رأس كيفا). تصعد إليه من النهر الجاري تحت كوسبا، والدير يعلوها بقليل. في المدوّنات، آخر مطران على الجبل (وكان آنذاك مع بيروت) زار الدير هو السيد غفرئيل (شاتيلا) أي في القرن الماضي. منه كان يخاطب أبرشيته برسل يجيئون ويذهبون على متن الخيل.

          الدير بعضه صخر وبعضه بناء. وهو آخذ بالتوسع بعد أن أُعيدت إليه حياة النسك منذ خمس سنين. عندنا فيه الآن عشرة رهبان شبان كلهم. استغرق الصعود إليهم ساعة وبعض الساعة على هذا الطريق المليء بالحصى والتراب وبعض إسمنت. ولكن جمال الدير وجواره مذهل، وكأنك في فردوس عدن.

          استقبلني الرهبان عند مدخل الدير بالإنجيل والصلبان فأقمنا صلاة الشكر في الكنيسة وحدّثتُهم طويلا عن الحياة مع المسيح. أُخذنا بالزيارة. شاهدنا الجداريّات القائمة منذ القرن الثاني عشر ولعل بعضها أقدم وهذه كانت مخفية خلال قرون تحت الطلاء أو «الورقة» الذي سقط بنتيجة حريق قبل تأسيس الجماعة الرهبانية الحالية. وقد أخذ العلماء يدرسون هذه الرسوم. معظم الوجوه بيزنطية مع تأثير محلي في الثياب. بعض الوجوه خلاب.

          ما يلفت هو الأثر البيزنطي والأثر الفرنجي في الصلبان على الحجر. بعد ذلك تخبرنا المخطوطات عن اقتحام المماليك للدير وإبادتهم خمسين راهبا فيه. بين القرن الخامس عشر والسابع عشر عندنا أثر لوجود حياة رهبان فيه وأسقف في السابع عشر. بعد هذا لا يترك لنا التاريخ –بانتظار جلاء المخطوطات– حياة شركة قبل أن تنشأ الجماعة الحالية.

          اللافت أن الرهبان يصعدون وينزلون على الطريق وكأنهم طيور إذ لا بد لهم من سوق كوسبا وغيرها ليشتروا معظم حاجاتهم. يقضون أوقاتهم في الصلاة والعمل اليدوي والدراسة وأخذوا يرسمون الأيقونات. وللارشمندريت بندلايمون رئيس الأخوية نشاط رسالي من وقت إلى آخر. تقرأ اليونانية في المكتبة إلى جانب لغات أخرى.

          من إشعاع الدير أن فريقا صغيرا من أهل كوسبا يقصد الدير كل أحد صيف شتاء وإن جمعية خاصة في تلك البلدة –ولها امتداد في أوستراليا– تدعم الدير ماليا ولا سيما أن البناء القديم لم يكن ليتسع للرهبان الحاليين وللعمال. وبعض البناء الجديد يقوم به شبان متطوعون لا بد أن يقيموا في هذا الموضع أثناء قيامهم بمخيمات العمل. إن هناك تداخل صلاة وحب قائم بين أبرشية طرابلس وأبرشيتنا.

          إن المؤمنين الذين كانوا يحجون إلى الدير كانوا يطلبون والدة الإله. كانت تستقبلهم وحدها. اليوم تقام معهم الخدمة الإلهية كاملة ويستقبلهم إخوة مع بعض إرشاد وفي شيء من الدفء، وارجو أن يكون ذلك في العافية.

          الشهادة التي تؤدى أن ثمة قوما يحاولون أن يحيوا في إلفة العريس الإلهي. ومن هذه الإلفة تأتي محبتهم, وأرجو أن يأتي تطهرهم على ما يخامر البشر جميعا من ضعف.

          لقد بوركت هذه الأبرشية بخمسين راهبا وراهبة يسعون في حدود أجسادهم ونفوسهم بلا ادعاء ولا استعلاء, وأرجو ألا يظن أحد منهم إنه أفضل من الذين يحيون في العالم. إن الأدب النسكي يحذرنا كثيرا من هذه الخطيئة.

          لا يحقق أي دير في العالم السماء قبل أن يخطفنا الله إلى ملكوته. إنه مكان لبشر ابتغوا السماء بانكسار وجهد وفقر ومحاولة حرية داخلية. هكذا أعطاني الله أن افهم في رعاية عذراء حمّاطورة مع تغريد الرهبان – العصافير.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

الثرثار/ الأحد 5 كانون الأول 1999/ العدد 49

انقُدِ الإنسانَ في وجهه إذا كنتما معا وحدكما طلبًا لرقيّه وحسنه بتهذيب كامل لا تشفّي فيه ولا انفعال. لا تنتقده في غيابه في حضرة من لا يستفيد من هذا النقد إلا إذا كنت قادرا على التحليل الصافي الذي لا بغض فيه ولا هدم. وفي كل حال لا تكشف عوراته لأنك لا تخلو أنت من عورة. فغالبا ما تقع في المعصية التي تنسبها إليه أو تكون قد وقعت ولا تشاء أن تتوب فتلصقها بالآخر. ولعل من أسوأ ما يحصل بعد ذلك أنك تُبعد الناس عن هذا الذي ارتكبت بحقه النميمة إذ تدفعهم إلى اليأس إذا سمعوا أن هذا وذاك قد ارتكب فاحشة أو سرقة أو ما إليهما.

فإذا كان الشر عميمًا كما أنت صوّرته, فمن يرجو ومن يثبت على الخير؟ أنا لم أقل أنك يجب أن تتوهم أن كل الناس أبرار. إن الكتاب يعلّمنا أنهم جميعا اخطأوا ويعوزهم مجد الله (رومية 3: 23). ولكن لا تكشف الخطايا لئلا يعثر الساعون إلى البر والأطفال الذين يزيّن لهم أن الكثرة من الناس قديسون. الويل ليس فقط لمن تأتي عن يده العثرات, ولكن الويل لمن يحكي العثرات. الله يقول: «استرنا يا الله بستر جناحيك» (مزمور 27: 5). على مثاله ينبغي علينا أن نستر ذنوب الآخرين. أنت أيضا لا تفضح نفسك. فليس في هذا منفعة لأحد. اكشف نفسك أمام الرب بالاعتراف. وإذا باح لك أحد بمعصية، فلا تقل أنك ترتكب مثلها. هذا يؤذي.

لا تقل إلا ما ينفع الآخرين ويشدّهم إلى فوق, إلى رؤية الخير ورؤية المحبة الإلهية تشملهم. اطلع أنت إلى الجبال العالية تأخذ الآخرين معك. وفي هذا التسلق لا تحتاج إلا إلى إيمانك بهذا الجالس فوق. كلّم الناس عن الرب ليزول حزنهم وينقطع يأسهم بأنفسهم. إذ ذاك يستعيدون إيمانهم بأنهم قادرون على الصلاح.

اذكر هذا: «إن كان أحد لا يعثر في الكلام فذاك رجل قادر أن يلجم كل الجسد (يقصد بذلك الكيان البشري) أيضا… فاللسان نار, عالم الإثم. هكذا جُعل في أعضائنا اللسان الذي يدنس الجسد كله ويُضرِم دائرة الكون ويُضرَم من جهنّم». هذا في رسالة يعقوب في الإصحاح الثالث. اقرأ المقطع كله وتأمله واعلم أن الصمت في كثير من الأحيان أفضل من الكلام. الصمت يروّض النفس على ألا تكون ثرثارة. فالثرثرة عاصفة داخلية ينجرّ فيها اللسان انجرارًا.

عفة اللسان من شأنها أن تقودك إلى كل وجه من وجوه العفة. ليس في الحقيقة من زلة لسان. الزلة كانت عندك في الغضب الداخلي أو البغض أو رغبة التلذذ الكلامي بالفواحش. وفي حالة الكراهية تكون الثرثرة أسلوبا من أساليب القتل.

إنه لقتل حقيقي أن تجعل للآخرين صيتا سيئا. فقد تتسبب بطردهم من أعمالهم أو تتسبب بفسخ زواج أو بقتل. فإذا جعلت صيت الآخرين سيئا فقد يكلفهم جهد استعادتهم لصيتٍ حَسَن سنين كثيرة. من تقتله يموت مرة واحدة. من تسيء إلى سمعته تقتله كل يوم. من بعد هذا قد تصدّق ما قلته وتيأس أنت لظنك أن الشر عميم. إذا عف لسانك كليا تمشي على طريق الرجاء.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

أنت والأغبياء/ الأحد 28 تشرين الثاني 1999 / العدد 48

معظم الناس ليسوا أشرارا, إنهم أغبياء. والغبي صعب علاجه. مع ذلك لا بد من التعامل وإياه. وهذا يحتاج إلى صبر كبير لأن الرجل يبقى غبيا الآن وغدًا. ومن الصعب تثقيفه. ولكن لا بد من التواصل والتعايش أحيانا حتى يهدي ربك من يشاء. تنازل إلى مستواه لترفعه قليلا قليلا. ربما استضاء لحظة, اغتنمها لتُفتّق وعيه, لتأخذه معك إلى الفهم.

لا شك عندنا أن المحبة فيها طاقة إرشاد. ربما إذا أدرك أنه محبوب ينمو عقله قليلا. لا تطفئ ومضة ظهرت في عقله. امش خطوة أخرى علّ الومضة تصير ومضات، ولكن انتظر النكسة فالغبي يحب التقوقع لكونه يخاف.

الغبي يظنك أنت غبيا. تغاضَ عن ذلك لأن مرامك أن تربحه لله. تجد الجاهل في كل الشرائح الاجتماعية. تجده في الكهول والشيوخ, بين عظماء الدنيا, بين أصحاب المسؤوليات. وقد تأمّل سفر الجامعة في ذلك وقال: «ويل لكِ أيتها الأرض إذا كان ملِكُكِ ولدًا» (10: 16). المشكلة أن تكون حكيما ومَن يعلوك جاهلا. ادعُ الله له حتى لا يمطر عليك غباوة كثيرة.

ستمشي أياما وحدك وتقضي سنين ويُحيط بك الجهّال، ويحزنك أنك لا تستطيع شيئا وأن نصيبك الوحيد أن تنتظرهم يموتون. المشكلة إذا كنت فهيما خوفك أن يخلفك جاهل. يمحى, إذ ذاك, ذكرك من أرض الأحياء. وقد تكون تجربتك أن تقول مع الجامعة: «فكرهت كل تعبي الذي تعبت فيه تحت الشمس حيث أتركه للإنسان الذي يكون بعدي. ومن يعلم هل يكون حكيما أو جاهلا. ويستولي على كل تعبي الذي تعبت فيه وأظهرت فيه حكمتي» (2: 18-19).

الجامعة في العهد القديم فيه الكثير من المحزن. ولكنا نحن الذين نحب يسوع لا مجال لنا للحزن إلا قليلا وإلى حين. الحقيقة أن حكمتك لا تزول. لعل أحدا لا تعرفه ولم تره يكون قد أخذ عنك النور وأشاعه. إن العطر لا بد أن يشمّه أحد والنور لا بد له أن يضيء. لا تيأس من كثرة الجهّال. لا تضطرب بسببهم. أنت اعمل لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية (يوحنا 6: 27). ليس المهم أن يرى الناس هذا. إنه محفوظ لك في السماء، وهنا على الأرض يكون أحد قد أخذ الشعلة.

ليست الدنيا مرتبة ليقبض عليها الفهماء دائما. إنها لهذا الخليط المؤلف من الذين يعلمون والذين لا يعلمون، من حسني النية وسيئيها, من النقية قلوبهم والدنسي القلوب, من المتسلّطين الذين يريدون أن يتألقوا والناس حولهم ومن المتواضعين. وستبقى البشرية هكذا حتى يقبض الله كل واحد بالموت.

أجل، محزن ألا تكون الدنيا بيضاء كالثلج، متلألئة كالشمس. الظلمة أكثر انتشارا لأن «الناس أحبوا الظلمة على النور». هذا لا ينبغي أن يقودك إلى الإحباط، فأنت لا تعمل لوجه أحد ولكن لوجه ربك الذي يراك في خفاء تواضعك ويعلنك بهيّا في اليوم الأخير.

من تعزياتك أن الأغبياء أفضل من الأشرار. الأشرار لهم ذكاء الشياطين وسيلحقون بشياطينهم. تابع أنت وحدك مسيرتك في ضياء المسيح. تابع وجهه لتبلغ وجه الآب في اليوم الأخير حيث تفنى الغباوة وتقوم فيك وفي القديسين حكمة الله.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

عودًا إلى مجلس الرعية / الأحد 21 تشرين الثاني 1999/ العدد 47

رُبّ معترض على هذا العنوان يقول: يا سيدنا إنها لمبالغة إن تحدثنا كثيرًا عن مجالس الرعية. جوابي: أليست مبالغة أن تقلقني بعض القرى بهذه الحكاية؟ أنا بادئ الآن بحكاية. منذ فترة قريبة كنت أجالس المؤمنين في قرية حضارية تثقف الكثيرون منها في الجامعات. وكنت قبل أيام قد عينت مجلسها الرعائي. فبادرني شاب متنور ناقدًا النقص في التمثيل، معترضًا على أن استمزاج الآراء لم يكن واسعًا، مذكّرًا أنه كان عليّ أن أكون أكثر تدقيقًا في الأمر.

حاولت أن أوضح أن النقص قبل أن يكون في إدارتي أو المعاون الذي يهيء لي اللوائح هو في القانون. ماذا يعني «التفاهم بين الراعي والرعية»؟ من يكون لسان حال هذه إن لم يأتِ تعبير الرعية بالانتخاب أي بالاستفتاء الديمقراطي؟

لقد اقترحت هذه الطريقة واعترض عليها الكثيرون بحجة أنها تقوي الخلافات كما قوتها الانتخابات البلدية في غير بلدة، إلى صعوبة جمع الناس وصعوبة الاقتراع ولوائح الشطب إلى ما هنالك. السؤال الناتج عن القانون: من هم الذين يستفتيهم المطران؟ أهُمْ أرباب البيوت؟ لماذا الأرباب لا أولادهم الذين قد يكونون أحيانًا أكثر غيرة وأعظم التزامًَا؟ ثم هل العيلة نواة الكنيسة، وهل هذا تعليمنا أم أن كل فرد عضو في جسد المسيح دون المرور بعائلته؟ هل ننهزم أمام العائلية؟

أنا أعترف أننا بحاجة إلى كثير من الحكمة في الانتقاء وكثير من التأنّي. وعلى الرغم من أننا نحاول ذلك، لا يأتينا مرة مجلس يرضي جميع المؤمنين. ولا بد أننا نخطئ الاختيار لهذا أو ذاك أحيانًا لأننا لسنا من المحلة ولا نحيا فيها. ولعل تغيير ثلث الأعضاء كل سنتين كما كان منصوصًا في القانون قبل تعديله يوجد توازنًا أعظم ويحدّ من الخطأ. أظن أن لا شيء يحول دون تمسكنا بالقانون القديم في تدبر هذا الأمر في الأبرشية ونحن لا نعدّل النص الموضوع. كما أن لا شيء يمنع المطران من أن يحلّ مجلسًا قبل انقضاء الأربع السنوات إذا رأى أن ذلك أقرب إلى تهدئة الخواطر أو درءًا لأخطار.

ليس من قانون كامل في هذه الأرض. القوانين تتفاوت في السوء. ولكن الجميل عند القلوب الطاهرة والقادرة على النقد البنّاء أن تتعامل مع المجلس القائم على نقصه أو ضعفه إن لم يكن فيه ناس سيئون حقيقة. الكاملون ليسوا من هذا العالم. شوقنا إليهم ولكنهم أمنية. الغيورون والأنقياء سند للمجلس وطوق له في آن، قوة ضاغطة عليه. لا يستقيل مؤمن من رقابة الوكلاء وإسداء النصح لهم وكشف أخطائهم لنا وتشجيعهم في مقام التشجيع. أمور الكنيسة مسندة إلى كل المؤمنين معًا. والتبديل لا يعني تنكّرًا لفضل أحد. هو مجرد محاولة لتدريب الناس على العمل وتقويتهم في روح المسؤولية.

لذلك أتمنى أن تقبلوا التعيين الذي يحصل حتى لا تضطروني أن أصرف كثيرًا من وقتي في أمر المجالس، وأمرها مهلك. اقبلوا التعيين إن لم يكن فاجعة حتى يأتي انتقاؤنا أكثر نضجًا في السنين الأربع المقبلة، وتعاونوا على الخدمة وعلى إبداء آراء جديدة وذلك في روح الإبداع والتضحيات.

والمهم في كل ذلك أن تجددوا أذهانكم وأن تركّزوا على الأساسي وهو مساندة الكاهن وتعزيز وضعه وخدمة الفقراء ونشر الثقافة الروحية ومكافحة خصوم الإيمان إذا تسرّبوا إليكم واستثمار الأوقاف بصورة علمية وشفافية الحسابات وكتابة المحاضر وضبط السجلات وأن تفكروا بتحسين كل المرافق حتى لا تلام الخدمة كما يقول الرسول.

ولننصرف عن روحية التذمر والنقّ التي هي آفة بلدنا إلى روحية التعاون لبناء جسد المسيح ونبذ الخلافات العائلية. ولا تخلطوا الأحزاب بشؤون الكنيسة. قد يكون المحازب المخالف لك في سياسية الوطن إنسانًا خلوقًا، محبًّا لله. الكنيسة جامعة للمؤمنين بيسوع ولو اختلفوا في شؤون الدنيا. القانون الوحيد الذي يوحّدنا هو قانون المحبة.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

السامريّ الشفوق/ الأحد 14 تشرين الثاني 1999/ العدد 46

هذا المثَل الإنجيلي (لوقا 10: 25-37) قصة عَبَّر فيها السيد عن كيف ولمن تكون المحبة بين الناس. يأتي «ناموسيّ» أي معلّم وناسخ للتوراة إلى السيد ويطرح عليه سؤالا في اللاهوت –ربما ليمتحنه– «ماذا أعملُ لأرثَ الحياة الأبدية؟». يردّ الربُ السؤالَ بسؤال: «ماذا كُتبَ في الناموس الذي أنت قارئه وشارحه؟». فأجاب: «أَحببِ الربَّ إلهك… وقريبَك كنفسك». في الحقيقة أن الناموسي استشهد بوصيتين في العهد القديم ودمجهما. الأولى من سفر التثنية: «اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. فتحب الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوّتك» (6: 4 و5). الوصية الثانية: «لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحبّ قريبَك كنفسك. أنا الرب» (19: 18). هذه الوصية الثانية ما كان العبرانيون يُبرزونها إذا تكلموا في المحبة. وإذا ذكروها عَنوا «لا تحقد على أبناء شعبك» أي اليهود.

          في سيرة السيد، حسبما ورد في إنجيل متّى، أنه هو الذي دمج الوصيتين. عند لوقا يرد هذا الدمج على لسان الأستاذ الفقيه.

          بعد أن وافقه السيد على جوابه، عاد الرجل ليسأل يسوع: «من قريبي؟». وكأنه يقول: أنا أفهم ما تعني محبتنا لله، ولكن مَن تشمل محبة القريب؟ إذ ذاك، قص عليه الرب المثَل الذي قرأتموه: الجريح على الطريق… الكاهن واللاوي (المساعد للكاهن) اللذان عبرا بهذا الطريق ورأيا الجريح ولم يُشفقا عليه وكان من جنسهما. وقد مرّ بعد هذا سامريّ غريب الجنس والدين، فساعده كما هو مفصَّل في المثَل. هنا يسأل السيدُ الناموسيَّ «أيّ هؤلاء الثلاثة تَحسَبُ صار قريبا بالذي وقع بين اللصوص؟». اذكروا أن سؤال الفقيه كان: «مَن قريبي؟». يغيّر يسوع صياغة السؤال فيسأل: «مَن صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟». وكأن السيد يقول: السؤال الصحيح ليس من هو قريبي ولكن: كيف أصنع لأصير قريبا؟ العقل الطبيعي يقول: قريبي من يُظهر لي مودة. أما العقل الذي اقتبل الروح القدس فهمُّه آخر. يتساءل لمن أصنع الرحمة، فبالرحمة أجعل الآخر قريبي. أيّ إنسان مهما كان دينه وأيّة كانت طائفته وأيّة كانت قوميته أو عشيرته أو ضيعته إنْ أنا أحببتُه أَصيرُ له قريبا.

          الهاجس لا ينبغي أن يكون مَن هو القريب إليّ لكي أساعده ولكن أن أَقترب من أي بشريّ مرميّ على فقره، على حزنه، على خطيئته، هذا الذي أكتشفه في ظروف حياتي اليومية. أنت لا تفتش عمن يقترب إليك بل تذهب وتأخذ المبادرة وتقترب.

          الهاجس ليس أن تُقوّي روابط العشيرة أو ما يسمّونه في الجبل «الجُبّ» لأُقيم بيني وبينه عصبية. العصبية ليست المحبة. هي موجودة طبيعيا. «وإن أَحببتم الذين يُحبّونكم فأيَّ أَجرٍ لكم؟». وليست غاية التعاضد أو المشاركة أن تقرِّب أناساً إليك لكي يدعموك أو تحتاط بأزلام ليقوى نفوذك. أنت لا تبتغي شيئا من العطاء. أنت لا تسعى إلى أن يحبك هذا الذي تعطيه. همُّك أنت أن يحب الرب إلهه، أن يشعر بأن الرب هو الذي ألهمك وأن يعود منك إليه.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

من يقرر في شأن الأوقاف؟/ الأحد 7 تشرين الثاني 1999/ العدد 45

بعثتُ بما لا يقل عن رسالتين إلى كل رعية طلبت فيهما أن يرجع إليّ مجلس الرعية في كل ما يبغي استحداثه في مبنى الكنيسة والأوقاف لسبب قانوني هو من طبيعة معتقدنا أن المطران هو المؤتمن على الأوقاف. أن يكون الإنسان مؤتمنا يعني أن يكون منفذا لئلا تفرغ الكلمة من كل دلالة. وذكّرت بهذا مرارا على صفحات هذه النشرة, وتقيد الأكثرون, تعزيتي أننا أخذنا نتقيد بالنظام الكنسي, غير أن نفرا قليلا لا يزال يشذ.

          القاعدة البسيطة التي أرسيناها أن كل بناء أو تغيير في البناء أو إضافة على البناء يحتاج إلى إذن من المطران. ذلك أني أنا المشرف على سياسة الإنفاق وعلى الأوليات. فقد يقوم مجلس الرعية بإنفاقٍ الأَولى به مجال آخر في الرعية. وقد يؤتى بتغيير في العمارة غير مدروس فنيا، وقد تُرتكب أخطاء ضد الطراز البيزنطي، فكنائسنا مملوءة بصور غير بيزنطية، وبعضها مكدسة فيها ثريات كثيرة لا انسجام بينها بحجة أن فلانا نذر فقدّم. وقلنا غير مرة نحن لسنا ضحايا الأمزجة الخاصة. فمن ألهمه الله العطاء فليعطِ مالاً ليُنفَق ماله وفق برنامج للتجميل موضوع سابقا. فقد يندفع وكلاؤنا إلى نزع القشرة أو الورقة عن الحائط، وهذا ضد تقاليدنا لأن الحائط البيزنطي لم يكن يوما في التاريخ عاريا بل كان مكسوا بالفسيفساء أو الجداريات.

          وذهب الجهل بالبعض من قديم أن طلوا الجداريات الجميلة المرسومة منذ قرون فاندرست معالم فنية رائعة. وإذا تركنا سلطة المطران من الناحية القانونية فليُستشَر الخبراء الذين اعتمدناهم، ولتُرسم الأيقونات عند الفنانين الذين نعرف أنهم يعرفون التصوير البيزنطي.

          ماذا وراء كل هذا التصرف؟ وراءه نزعة التفرد المحلية، كأن كيانية الرعية تعني أن المعتمَدين فيها مجلسا يعرفون كل شيء، وقد يكون بينهم الخبير الاقتصادي أو الحقوقي أو الهندسي وقد لا يكون. أنا لست أشك بتقوى أحد، ولكن التقوى ليست هي المعرفة.

          والنفحة الأخرى التي نسمعها أن الوقف وقَفه أجدادنا. جوابي على ذلك أن الذين وقفوا الوقف انتزعوه من سلطة ورثتهم وجعلوه ملك الجماعة كلها. وجوابي الآخر عن هذا أن القرى فيها أحيانا حزازات عائلية، والمطرانية ليست فريسة لهذه الحزازات وتنظر إلى الأمور بموضوعية. وجوابي الثالث أنه لو كان لك ملك خاص فتأتي بمهندس ولا تفرض عليه شيئا يأباه ذوقه. والأهم من كل ذلك أن الرعية ليست كنيسة مستقلة. هي جزء من كلّ يدعى الأبرشية.

          أضف إلى هذا أن هناك مرضا متفشيا وهو استعمال المال للبناء أولا فندخل في مشاريع نعجز عن إكمالها. والأولية ليست للتعمير ولكنها لتعزيز الكاهن ولعزة الفقراء. وما كان البناء عندنا أو الزراعة إلا وسيلة لدعم الكاهن والفقراء. إن الشغف المفرط بالحجر يؤذي المسيرة الروحية. الأولية في سياستي الرعائية هي إعلاء شأن الراعي المحلي وإعلاء شأن المحتاجين ومنهم الشبان الأذكياء المحتاجون إلى دخول الجامعات ونحن نرصف الحجارة بعضها على بعض لنفتخر بها.

          أنتم تؤمنون بأن الأسقف أبوكم. قد لا يرى البعض هذا، ولكنه هكذا في التعليم الأرثوذكسي، وأرجو الله أن نكون قد مارسنا الأبوة بلا تحيز ولا نزق. فإذا كنتم تريدون في العائلة أن يستشيركم أولادكم في قراراتهم، أتُعرضون عن الأب الروحي وتستقلّون عنه لتفرضوا عليه أمرا واقعا؟ هل هذه عائلة؟

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

لعازر والغنيّ/ الأحد 31 تشرين الأول 1999 / العدد 44

لعازر اسم الفقير الوارد ذكره في المَثَل الذي يُقرأ اليوم من الإنجيل (لوقا 16: 19-31). والمثل قصة تعليمية. فمن الواضح أن لوقا اصطنع هذا الاسم الذي يعني أن إيل (أو الله) أَزْري أو عوني. أراد الإنجيلي هنا أن يُعرّف الفقير على أنه ذاك الذي لا يعينه البشر وأن الله وحده معينه. والغنيّ هنا أعطاه الكتاب اسمًا. إنه الغني بالمطلق، إنه الذي استغنى عن الناس، عن صداقة الناس ودعمهم لأن ماله دعمه وما يطمئن إليه. وسها عن باله في أنه إذا استغنى عن محبة الناس فإنما يستغني بالعمق عن الله.

          لوقا دائما حادّ في كلامه عن الفقر والغنى. هو إنجيل  الفقراء. فقد لا يجعل كلُّ فقيرٍ الربَّ عونه ويتّكل على ماله القليل ويطمئن إليه على أمل أن يصير غنيا ليطمئن إلى الأكثر. ولعل بعض الأغنياء يُحسنون بمحبة ويوزّعون الكثير مما عندهم. ولكن الإنجيل أراد أن يحذّر الأغنياء من خطر الغنى عليهم، وهنا يحذّرهم من أشد الأخطار وهو عدم الإحساس بوجود المحتاجين. كما أراد الكتاب أن يقول للمحتاج: أنت لستَ على شيء إن لم تتخذ فرصة الفقر إلى الرزق والطعام لتصير فقيرا إلى الله.

      طبعا من يقرأني من المتدنّية أحوالهم –ومعظمنا هكذا اليوم– يسألني ألا تريد أن يرتفع مستوانا الاقتصادي لكي لا نتعرض إلى الشكوى والتذمُّر والذل ولا تنشغل عقولنا بالفاقة التي مَن لم يذقها لا يعرف كيف تتآكل العباد فتدفعهم إلى اليأس؟ إزاء هذا، وضع الإنجيل واجب المشاركة والتعاضد لكي يفرح المعطي والمعطى معًا وليفرح المتآزرون في مجالات العمل. ولم يقل يسوع إن الثروة الكبيرة مؤذية بحد نفسها. قال إن صاحبها مهدد بالخطر الروحي. فالوفرة في كل شيء خطر. وفرة الحُسْن خطر، وكذلك وفرة الذكاء. ولم يطلب إيمانُنا من الحسناء أن تقبح وجهها، وما طلب من الأذكياء ألاّ يستعملوا عقولهم بالتماعٍ وعمق. ولكنه دعا الجميع إلى التواضع وإلى التنبّه إلى الأخطار.

          فنباهة الغني ألاّ يسترسل في الترف والبذخ وألاّ يرى نفسه فوق سائر الناس أو أن ماله يوليه امتيازًا أو كبرا، ثم النباهة يجب أن تقوده إلى إحسان لا يتبجّح به وأن يفهم إنه ينوجد روحيا بسبب ما أعطى وأن غناه الحقيقي هو غناه عند الرب.

          كذلك قيمة الذكاء ليست في الافتخار بل أن يخدم الإنسان بما يعرف، وإذا التمع أن يعرف إن الذكاء من الرب وأنه ليس ملكا له ولكنه قوة للخدمة.

          وإن ما دعا إليه الإنجيل في هذا المثل أن يختلط الغنيّ بالفقير اختلاط الند بالند وأن يلتقيه أخًا له، وإذا أحس أن الفقير أعمق منه وأنبل أن يرى أن العمق والنبل هما أجمل من المال. الغني إذا عاشر المحتاج معاشرة الصَّديق يكبر به. إذا فهم الغنيّ أن الله «حَطَّ المقتدرين عن الكراسي ورَفَعَ المتواضعين»، فتواضع ليلتمس رحمة، تدفعه هذه أن يكون رحيما بدوره.

          أما أسلوب النفع الذي ينفع به الناس (عطاء مباشر، توظيف…) فيُترك له على أن يسعى أولاً ألاّ يتظاهر بالاستقبالات الضخمة المكلفة والأعراس الفاحشة وأزياء لا تُعدّ ولا توصف لزوجته والسيارات الفخمة لبنيه. الاحتشام هو الفضيلة التي نرتبط بها جميعا لئلا نُثير الكراهية والصدمات النفسية في نفوس الفقراء أو المتوسطي الحال. إن القصور إذا فحشت تؤذي قلوب المتواضعين. ما يجب أن يطلبه الغنيّ المؤمن إنْ أراد الخلاص ألاّ يبتعد مَظهر عيشه عن مظهر العائلات المتوسطة الحال أي ألاّ يغالي في المتعة في أي مجال كي يتسنّى له أن يُشرك بالعمل أكبر عدد ممكن من الناس ليبقى المال منتجا ويدور لخدمة الجماعة. كل غلوّ في ملذات الحياة يؤذي صاحبه والناس. كل حركة في المحبة تُخلّص الميسور –كبيرا كان أم صغيرا– من الكبرياء وتجعله فقيرا إلى الله.

Continue reading