Category

2002

2002, جريدة النهار, مقالات

المسيح العيد / السبت في 28 كانون الاول 2002

يتلاشى العيد بمسرة الاهل بأولادهم والاولاد بهداياهم. ونستضاء بزينة الكهرباء خوفا من ان تهدد وجودنا استنارة القلوب. ولذلك استعرنا العيد في شعبيته لاسكات تنهدات القيامة. غير اني اذا بلغت غلو تحسري اقع في الحزن الممنوع. وفي كل ذكرى للمولد كان يبدئني حزني لأن يسوع الناصري اليوم هو اياه اطفال العراق والافارقة الذين ينشأ المرض تلو المرض ليأكلهم والجياع والاميون العراة من الفكر والذين لم يستطيعوا ان يحققوا موداتهم وكل الموجعة اجسادهم او ملت نفوسهم هذا العيش المضني الذي انتزع عنه الفرح.

تهوى اناس الرموز لأنها تحب التوق. والمسيح يبقى شوقا الى الابد لأن الزمان يجري كما يجري اي مليئا بالظلم ومليئا بالجروح الى ان يحل سر المنتهى اي سر انتهاء الالم. ولعل هذا هو الصليب ان ذراعي السيد ممدودتان الى اقاصي الارض ليجمع الى جنبه المطعون بحربة كل جرحى الارض. وسر السر ان الناصري ولو انتصر في كيانه الشخصي انما لا يكتمل نصره الا فينا وبنا. المسيح في بشرته، فيما كان يمشي على ضفاف طبرية ولئن كان الفداء كامنا فيه الا انه ينتظر سلام النفوس الممزقة فنصير واياه معا المسيح الكوني.

مع هذا لا بد لي ان اشد نفسي الى بيت لحم وتكاد تصبح فينا مدينة عقلية بعدما اقتحمها جالدوها. كيف اشد نفسي الى الناصرة؟ كنت احسب نفسي مستقلا عن التراب الذي وطئته قدما يسوع اذ لم نبق “عارفين المسيح حسب الجسد” بعدما حدقت عيوننا بالعرش. وقبل الاحتلال كنت ارجئ زيارة الجليل لأن اجتماعاتنا كانت تعقد في القدس حتى لم اطق عيني محرومتين رؤية بحيرة طبرية فذهبت الى ابعد نقطة في شمال الاردن حيث يستطاع ان ترى طبرية من بعيد فأطمأننت الى ان عيني امتلأتا من رؤية التراب والماء اللذين عاينهما يسوع.

كيف اعود اليه اليوم. الى معنى حكايته؟ ما هو وراء شاعرية الوصف؟ ماذا يعني لي المذود والملائكة والرعاة والمجوس؟ ماذا قبل القصة؟ ما الكنه؟ كل منا حرّ ان يذوق المسيح كما يشاء ضمن الصميمية التي لا حياد عنها. يسوغ البوح في هذا المقام. لقد جذبني فيه قول بولس العظيم: “انه وهو غني قد افتقر من اجلكم، لتغتنوا انتم بفقره” (2كورنثوس 8: 9). لقد تجرد من كل شيء في هذا العراء الدائم الذي كان عليه طوال ثلاثين سنة ونيف ليقول للمحرومين خبزا وعافية وذكاء انهم احبته وانهم هم مملكة الله لأنهم يأتون اغنياء بحبه. هم كما هم في تهميشهم قد يعرفون ان الناصري هُمّش مثلهم واتباعه فيهم مؤمنون انه رافعهم الى صدره وانهم قادرون على ان يتكئوا عليه.

ما يذهلني في كلام التعييد عندنا ان لنا لغة ليست من هذه الدنيا اذ نقول مثلا ان البتول باتت عرشا وبات المذود محلا شريفا. دائما كانت صورة الله مرتبطة بالعلو ولا تزال كذلك في اللاهوت المسيحي الدقيق. غير اننا بعدما تسربل الكلمة هذا الجسد بقي هذا العلو فقط جانبا في ذات الله واتخذ الله وجها بشريا اي صار رفيقا لنا، جالسا هنا في كل ثنايا بشرتنا وضعفها وتعبها واننا غدونا نحن رفقاء الله. هذا وجه آخر لله غيّر وجه إله كان قائد الجيش لاسرائيل. لقد مات الاله المحارب موتا نهائيا وارتضى الله أن يحاربه الانسان وان يؤمن به او يكفر به لأنه صار الإله المشلوح بعدما ولد يسوع في مذود بهائم.

المرة الاولى في تاريخ الفكر الديني بطل الله ان يكون صورة عن الاقوياء. فانهارت الوثنية التي كانت الآلهة فيها صورة مكبرة عن الجمال والخمر والجنس وما اليها اي شهوات الناس. جاء التوحيد العبراني وقال تعبدون الهاً ليس فيه اثر لشهوة ولا يعكس شيئاً عنكم. غير ان الازمنة عبرت واستخدم اسرائيل هذا الاله وجعله قائد جيوشه.

للمرة الاولى والأخيرة في تاريخ الفكر الديني تمرد يسوع على قائد الجيش وقال انا لا اقول شيئاً. من قرأ الحب في قلبه يقوده حبه ومن عرف نفسه فقيراً يصبح بذا غنياً. ومن ذاق نفسه، صادقاً، آخر الناس يصير بذا ملكاً. وهذا كله طوع ايديكم اذا رأيتم الكبر في من وضعته امه في مذود بهائم. ولن تتم لك الرؤية اذا كنت لا تزال ترى عظمة في القوة وبهاء في المال واغراء في الحسن ورفعة في الثقافة. قد يبقى لك اله اخذته من هنا ومن هناك ولكن لن يبقى لك الهاً “ابو ربنا يسوع المسيح”.

لفتني في تلاواتنا الاخيرة حديث المعلم مع احد الناس الذي سأله: “اي صالح اعمل لانال حياة ابدية”. فقال له السيد: “ان تبغ دخول الحياة فاحفظ الوصايا” حتى بلغ يسوع قوله: “ان شئت ان تكون كاملاً، فاذهب، وبع ما تملك، وهبه لمساكين، يكن لك كنز في السماوات، ثم تعال واتبعني”.

لما كنت اتعلم هذا النص في المدرسة كانوا يقولون لنا: ان طلب الكمال هو في الرهبانية وهي ملازمة للفقر حتى ادركت ان يسوع يكلمنا جميعاً ويدعونا الى الكمال بالتجرد عن كل ملك وان النهاية لا تتم الا اذا انت تبعته اي اخضعت فكرك لفكره وتالياً سلوكك لسلوكه وهذا يتطلب منك حباً حتى الصليب لان هذا هو الاتباع.

ان تكون عيسوياً – كائناً ما كانت طريقتك الدينية – هو ان تزهد بكل شيء، بجسدك، بعينيك، بالتماع عقلك فتحب وتعطي بلا حساب ولا خشية فاقة او تراجع حسابك في المصرف. تعطي لانك في لحظة التهاب داخلي ضممت الآخر الى صدرك الذي يصبح، في الآن، صدر يسوع. وهذا من شأنه ان يقودك ويقود الآخر اليه.

يبقى السؤال: ماذا حدث في السماء عند ظهور المسيح. اللاهوت المدرسي يقول لم يحدث شيء لان الله هو هو. تساؤلي: اذا كان هذا حدثاً هبط من السماء على الارض فشيء يجب ان يحدث فوق. هنا يأتينا مرنم عظيم ويقول للمسيح: “ان مملكتك الابدية تجددت ازليتها”. كيف يتجدد الازل وهو عدم البداءة المطلق الذي لا علاقة له بالزمان؟ ان يكون الله بلا بدء فهذا تقرير لاهوتي واضح، بارد لا يروي غليلاً. ولكن ان تتحرك كل هذه الازلية بميلاد المخلص كأننا نقرع اليوم ابواب الازل لتتحول برودته حرارة وصمته موسيقى، لتجلجل السماوات والارض وينتشي الله في فرح مذهل فهذا هو الامر الذي لا يسوغ النطق به اذ قد زال المدى بين السماء والارض بمجيء هذا الطفل بل صار هو الملك والعرش معاً (من جهة الفوق النازلة) واجتمعت فيه كل الامداء وضمتها ذراعاه الممدودتان على الخشبة لتصير الارض في قلبه كما كان هو قلب السماء.

اذا اتجه اهل الارض الى يسوع هذا والى اصدقائه طهارة والتزاماً نكون قد اخذنا نتمتم العيد.

Continue reading