ذكرت في العهد الجديد كلمة وطن بضع مرات للدلالة على مدينة يسوع أي الناصرة ولكنها لم ترد بمعنى البلد (فلسطين). ذكر الوطن السماوي مرة ولكنه سمي هنا أيضًا مدينة. في هذا السياق سألني شاب هل لنا انتماء الى الوطن. أجبته لنا به التزام. فما دمت على ترابه فأنت خادم للناس الذين يعيشون فيه، تحبهم، ولا تخونهم مع العدو الذي يريد لهم الشر. هل من هوية؟ لم أعثر على اللفظة في لسان العرب ولربما كانت محدثة. هل هي من هو أي ذاك الذي تنتسب اليه أو هي قريبة من ماهية؟
الهوية الوطنية قائمة ما دام الوطن لكن الاوطان في تغير وتشكل تاريخي. ولم تكن البلدان الحالية قائمة منذ الأزل. غير أن أقرب مدلول للوطن في الكتاب المقدس هو أمة. والأمة هي الشعب وللشعب تاريخ طال أم قصر. مفهوم واقعي خصائصه انه يعبد الإله الحق أو لا يعبده.
في التاريخ المسيحي هي المملكة أو الامبراطورية وهي أقرب الى مفهوم الدولة منها الى أرض ذات حدود. فالمملكة هي أولاً الملك ثم النظام الذي يضعه. غير ان تعلق الناس بأرض يختلف بين الشعوب فالروسي من عاش على الأرض الروسية وكذلك الفرنسي. أما العربي فمن تكلم العربية. والسويسري تعيش على أرضه أربعة شعوب وأربع لغات.
ما اللبناني؟ هو من عاش على أرض لبنان منذ نشوئه السياسي. قبل ذلك كان عثمانيًا أي انسانًا يتبع امبراطورية ذات شعوب ولغات متعددة. فالدولة والوطن قد يكونان واحدًا وقد لا يكونان. وقد تكون الأمة التي نعترف بوحدتها موزعة على عدة بلدان.
غير ان الفكر المسيحي في هذه الأمور فكر وجودي أي انه مرتكز على واقع الأرض وواقع الدولة معًا ويقول انك منهما وانت تقترب من الهوية على قدر استقلال بلدك لأن الانقسام العاطفي الذي يحدثه احتلال أو نفوذ كبير من شأنه أن يعرض الهوية للتصدع ما لم تكن محصنًا بإخلاص كبير وقدر كبير من المقاومة.
والمسألة تتعقد إذا تعددت الأديان لأن كل دين مرتبط بذاكرة ومن هذا القبيل هو منشئ ثقافة وكل ثقافة قراءة للتاريخ. فالهاجس هو كيف تذهب من قراءات للتاريخ مختلفة لتؤلف وطنًا واحدًا. هناك محطات تاريخية توحد القراءات أي هناك آلام فشهادات فحب ولو اختلف التحسس للماضي بين الشرائح أو تباينت التعلقات الحاضرة. فلا بد من أمرين اولهما ان ترفض العدو ان كان من عدو وثانيهما ان يتعاهد الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ولغاتهم على الإخلاص لوطنهم وحده ولو تباينت صداقاتهم لأمة أخرى.
وهنا يجب ان نبدأ من البدء. أريد ان عبارة «انتماء عربي» التي أقرها الدستور لون أو نغمة في الوطنية اللبنانية ولا تعني دمجا بأي كيان آخر ولو عنت التفاهم والتعاون في كل الحقول. بمعنى من المعاني الوطن مغلقة حدوده وجامد كائنة ما كانت المشاعر تجاه هذا العربي أو ذاك. وحفيظ الكيان الدولة الواحدة المغلقة نوافذها دون ما يزعزعها. كل خلط بين الوطنية والقومية يلغي الانتساب الأساسي الى أرض ذات حدود.
لماذا أتكلم على هذا؟ جوابي اني واثق من ان شيئًا من الضياع فتك بنا لغموض هذه المفاهيم والتخبط بينها. وبعد هذا أخذنا ندرك ان الآفة الكبرى ألا تعترف بالآخر والحقيقة ان هذه ما كانت الطامة الكبرى الا لاختلاط المفاهيم وعدم الاجماع على ثوابت الوطن التي ليست هي ثوابت السياسة. هناك الآن امارات (علامات) على ان الشعب اللبناني مأخوذ بحب لبنان وليس له ولاء لآخر والولاء يختلف عن التحالفات والصداقات. وعندي ان كل ما يقال عن اللاطائفية سياسية كانت أم شاملة لا بدء له الا عند اطمئناننا الى اننا «كلنا للوطن».
أجل ضمن هذا الولاء الواحد أنانيات طائفية ليست كلها مصلحية اذ تحتوي على قدر من التنظير التاريخي الموروث. ولكن هذا جزء من امتدادنا التاريخي وعند ناس متمرسين على الفكر يتطلب جهودًا عقلية ليست سهلة. لا يكفي حب الوطن جامعًا بيننا. ينبغي ان نعرف ما هي المكونات التي نريدها له. هل نريد حقًا ديموقراطية روحها الحرية؟ هل نحن تربينا على الحرية أم تروقنا التبعية بما فيها من مصادرة شخصيتنا. هل نحن قادرون على التحليل السياسي أم نتروض عليه بدءًا من الصفر؟ إذا قررنا اننا نأبى «طبائع الاستبداد» ينبغي ان ندخل مدرسة الحرية وإذا رفضنا الزعامات – وهي حتمًا شخصية – ما بديلها؟ ليس مستحيلاً ان تنشأ عندنا أحزاب جديدة أو مجموعات ضاغطة نتمتم فيها وجودًا لنا موضوعيًا، جماعيًا في دنيا السياسة.
المشكلة اننا لم نمر، حقيقة، بالفكر الديموقراطي لأننا تاريخيا لم نعرف عصر الأنوار الذي انتج هذا الفكر. بلا مسافة تتخذها عن تاريخ طائفتك السياسي وبلا مسافة تقيمها بين الدين والدنيا يكون تبنينا للديموقراطية وهما. هل نصل اليها انطلاقًا من آلامنا وتأسيسًا على رفضنا النماذج العربية للحكم بحيث ننشئ حكمًا من أوجاعنا ومن ارادتنا الصلبة ان نعيش معًا؟ لقد فرض علينا الدستور الأخير العيش المشترك أي عدم التقسيم الطائفي لكنه لم يشر الى أسس العيش المشترك بلغة سياسية عصرية. وقت الطائف كان ضيقًا لكن التأسيس الفكري جهد طويل ويقوم به أهل الفكر ولا سيما في هذه المؤسسة الإصلاحية التي دعوناها مجلس الشيوخ.
هنا استوقفني دائمًا سؤال رهيب وهو لماذا تقدمت اليابان ولم يتقدم العالم العربي. هل لأن البوذية والشنتوية السائدتين في اليابان لا تبحثان في علاقة العلم والتكنولوجيا من جهة والدين من جهة؟ هل لأن الشرق الاقصى وعلى رأسه الصين قليل التدين وتاليًا قليل التساؤل عن علاقات مراتب الوجود في ما بينها؟ لماذا أعجب عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبدو وطه حسين بالحضارة الاوروبية وعقلوا الأمور كأن المسيحية لم يكن لها دور في انشاء الحضارة الغربية؟ لماذا استطاع المسلمون القدامى وعلى رأسهم ابن رشد ان يكتشفوا فكرة العلم المستقل عن الدين ويعجز عن هذا المسلمون المعاصرون وأتى بعضهم بفكرة الإعجاز العلمي في القرآن. ثم لماذا لم يلتحق المسيحيون في الشرق بالفكر الغربي التنويري وظلوا متخلفين حضاريًا، مع ان الكاثوليك منهم تأثروا بالغرب ولو بصورة سطحية؟ لماذا ما تبنت الكنيسة الارثوذكسية في كل أقطارها عصر التنوير قبل الحكم الشيوعي وتأسيسًا على الماركسية التي هي غربية وفي جانب منها يهودية؟ هذه تساؤلات لا بد من مواجهتها إذا لم نرد لأنفسنا نهضة سطحية في لبنان بعدما أخفق رواد النهضة الاولى في قولبة الفكر العربي؟
غير أن التجديد الحقيقي في لبنان يأتي جزئيًا من اطراح السياسة كمنقذة لحياتنا الوطنية، بالإضافة الى أن هذا تسييس قبلي، زبائني. المسيحية اللبنانية عشائرية. كذلك بعض الاسلام السياسي. غير ان الإسلام بعامة ولا سيما السني مشهده مشهد تراص لا قبائل. والتراص يحتمل خطر الانغلاق. غير اني لست بيائس لأن تأكيد المسلمين في أواخر الحرب ان لبنان وطن نهائي يفسر في نظري ان المسلمين اكتشفوا المواطنية وهذا ليس فقط في لبنان. كل شيء يدل على ان بعض الاسلام عندنا ليبرالي وانه بطريقة من الطرق يتعلمن ولو بقيت هناك كتلة كبيرة تأبى هذه اللفظة. أنا أقترح ان نقبل العبارة التي صارت مألوفة على لسان بعض علماء المسلمين وهي عبارة الحكم المدني وهي المؤهلة ان توضح مع تقادم الزمن علاقة الديني بالمدني أو علاقة المدينة بالشريعة. وما يبشر بالخير ان الدولة عندنا ولو أقامت نظامًا طائفيًا في بعض الحقول ليست دولة دينية. الى أين نذهب بهذا؟ هل من ترجمة ممكنة في النسيج السياسي لقولة المسيح: «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»؟
يقيني الكبير ازاء هذه التساؤلات قول أحمد شوقي: «انما الأمم الأخلاق». هذا عند أهل الغرب ناتج قليلا من الإنجيل وناتج بنوع خاص من عصر الأنوار الا إذا قلنا ان عصر الأنوار ان هو الا ترجمة علمانية للمسيحية وهذا ما يقوله كثير من علمائهم الذين ليسوا قريبين من الكنيسة. وأريد بهذا ليس أخلاق أهل السياسة ولكن أخلاق المواطنين. ان انصياع أهلنا للساسة هو من طبائع أهلنا وليس فقط خصوصية عند أهل الحكم. ان عملية النهضة الوطنية ليست تلقي المواطن لما يقوله زعيمه فقط ولكن تلقي الزعيم لما يقوله محازبوه. ان في الأمر تفاعلاً خلاقًا.
لا شك في ان الألم مبدع وان السياسة يجب ان تتغير في منحى الطهارة وهي تعني في ما تعني ان نراقب النواب والحكام معًا وان نكون في حياتنا كلها وليس فقط في فترة الانتخابات مصرين على مسالك نقية. هذا التحول الى وجه الله – يبقى وجه ربك – شرط أساسي للحياة الوطنية وتاليًا للنمطية السياسية.
هل أنا بقائل ان حكامنا يجب ان يكونوا من القديسين أو بلغة أفلاطون من الحكماء؟ هذا طبعًا يحل معظم مشاكلنا النازلة علينا منهم؟ هل السياسة بالضرورة ملطخة؟ سؤال طرحته على الماسكين بالشأن القومي عندنا وفي الخارج. هزئوا مني جميعًا لاقتناعهم ان الأمر صعب. لكن الطاهرين يقتحمون الصعاب. والطهارة لا تتنافى والعلم والخبرة والحنكة. ليس السياسي من ركّب بالضرورة الاسود على الأبيض. فالعفة لا تعني ان تكون غير عارف بالسيئات ولكن ألا ترتكبها. وهذا قد يفرض عليك ان تكون وحدك في العمق ولو أتاك بالخسارة. السياسي مدعو الى ان يفهم ان في مجاله الحلال والحرام وان هذا يبقى حرامًا على رغم كل فتوى وعليه ان يفهم أيضًا ان خلاص النفس من لطخة المعاصي أهم من كل المناصب لأن «هيأة هذا العالم تزول» كما يقول الرسول يوحنا الحبيب.
لا، السياسة ليست لهوًا ولا زينة ولا افتخارًا. فيها تقلب ولكن من أجل الضمير. فيها الفرصة السانحة وهذا من باب احترام الزمان. لكنها شهادة اللسان لأنها قناعة القلب. المهم ان تسوس أمورك لا أن يسيسك آخر قضاء لحاجاته حتى يتكون ما يسميه أوغسطينس مدينة الله.
متى يصبح لبنان مدينة الله؟
Continue reading