Monthly Archives

June 2005

2005, مقالات, نشرة رعيتي

احد جميع القديسين /الأحد 26 حزيران 2005 / العدد 26

وُضع الأحد الذي نحن فيه توا بعد العنصرة لتقول الكنيسة ان الروح القدس الذي نزل على التلاميذ هو الذي ينشئ القديسين. لماذا “جميع القديسين”؟ لكوننا اردنا ان نكرم ليس فقط القديسين الموزعة اساؤهم على كل ايام السنة وهم المطوبون الرسميون، ولكن لنكرم ايضا الذين لم تعرف الكنيسة اسماءهم وجعلهم الرب في ملكوته. الرسل والشهداء والأبرار والمعلمون، هؤلاء “صيروا الأرض سماء وساروا في الطريق الضيقة” اذ اشتركوا جميعا في آلام المسيح ويقفون امامه متضرعين لأجلنا.

          هؤلاء اعتراهم ضعف روحي ولكنهم كافحوه بصورة جدية. لم تكن القداسة عندهم حلما حلموا به او مجرد أمنية تمنوها. ولكنهم قبلوا نعمة الله وأقرنوها بجهاد غير منقطع يوما فيوما لأنهم اعتبروا ان القداسة مبتغانا الوحيد أكلنا ام لم نأكل، احتللنا مناصب ام لم نحتل، عرفَنا الناس ام جهلونا وتجاهلونا. لا شيء كان يهم القديسين إلا ألا يفصلهم شيء في الدنيا عن المسيح لعلمهم انه هو الحياة وان كل شيء ما عداه لهو ودنيانا ليست للهو. اجل فيها عمل وعائلة وعلاقات اجتماعية.          ولكن هذه كلها ان لم يسكنها المسيح ليست بشيء. فالمهم ان تميز بين الجوهر والعرَض. والأعراض تتغير. فقد تأكل اليوم ولا تأكل غدا لأن هذا عابر، وقد يمجدك الناس اليوم ويشتمونك غدا والأمران تافهان. ولكن في تمجيدك او الإعراض عنك ليكن السيد ساكن قلبك، فإن فرغ هذا منه فلست على شيء. ولذلك قال الرسول: “انا لست أحيا بل المسيح يحيا فيّ”.

          ما يريده المخلّص منك الا تطلب مجدا من الناس او التفاتة من احد او رضاء. فقد يضطهدونك او على الأقل يظلمونك. لسان حالك، اذ ذاك، “طوبى لكم اذا عيروكم واضطهدوكم وقالوا عنكم كل كلمة سوء”.

          الأخطر في الأيام التي تعيشها الا تردد هذا القول السطحي: “ليش انا مسيح” تبرر به كل خطاياك وتركن اليها وتدعها تعشش فيك لأنك تظن انها تحييك. مسيحك قال: “انا هو الطريق والحق والحياة”. وقال في موضع آخر: “من يأكل جسدي ويشرب دمي له الحياة الأبدية”. غير هذا حياة للجسد او تقدم لك في العلوم او بروز اجتماعي. والجسد يعيش كما خطط له. ولكنه لا يوصلك الى السعادة. كذلك العلوم وكذلك الجاه. هذه كلها لا تعطيك الوجودالكامل وهو في المسيح ومن المسيح.

          لقد وضع لنا إنجيل اليوم طريق وصولنا الى المعلم بقوله: “كل من يعترف بي قدام الناس أَعترف انا به قدام ابي الذي في السموات”. لا شك ان الشهداء اعترفوا به اعترافا كاملا. ولكن اذا سلكت انت حسب حق الإنجيل وتكلمت عن يسوع تكون معترفا به اي كاشفه للبشر وتكون طريقهم الى الرب. فالرب يسوع يقدم نفسه للبشر بواسطة احبائه وسمو اخلاقهم وطهارة كلامهم.

          ولكون السيد رأى انه يمكننا ان نفضّل ناسا عليه قال: “مَن احب ابا او اما او ابنا او ابنة اكثر مني فلا يستحقني”. لا يعني هنا انه علينا ان نهمل ذوينا، ولكن ان سمحنا لزوجاتنا واولادنا ان يتصرفوا ضد الإنجيل نكون مبغضين ليسوع. نحن نبذل انفسنا عنهم فيما نبذلها له. على طريق يسوع نلتقي بذوينا واصدقائنا. وان لم يكن على طريقه، نكون نحن واياهم عصابة لا إخوة.

          ثم لئلا نظن ان الطريق الى يسوع سهلة قال: “من لا يحمل صليبه ويتبعني فلا يستحقني”. انت تتبعه الى حيث ذهب اي الى الجلجلة وهي مكان موته. تتبعه قبل ان تموت هنا الى حيث تميت شهواتك وخطاياك لأن هذه ان لازمتك لا يعترف هو بك. وان رآك في اليوم الأخير على صورته ورأى وجهك شبيها بوجهه يُدخلك الى فرحه.

          القداسة كما رأيت طريق مدعو الى سلوكها جميع المعمدين على اسم الآب والابن والروح القدس. هي طريق ممكنة ووسائلها يمدنا بها الروح القدس. اجل القداسة صعبة ولكنها في متناول كل من ارادها.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

لعبة القداسة / السبت 25 حزيران 2005

هل سيتفرق العشاق بعد جلوسهم تحت قبة البرلمان؟ الأكيد ان الفرقة لن يكون أساسها طائفياً فقد جعل الأقوياء الذين من دينهم والذين ليسوا على دينهم خارج حلبة الرقص مع مقدار من المرارة لن يشفى منها من لازم قومه المقربين ويبقى مستمتعاً بالجاه عندهم لكن جاهه الأعلى انتظامه في الدولة اذ لا كبر عند اللبنانيين الا فيها أو بها.

قد يكون لمن اختارهم الناخبون أو لبعض منهم خطاب جديد ولكن ليس هذا دليلاً قاطعاً على قناعة جديدة. فلم يقم الدليل على ان الحرب انتهت ولكن ان نقول هذا شيء مريح لأن التوبة وحدها تنهي القتال ولم أرَ أحداً قال انه انخرط بالتوبة. هناك فقط تصريحات على انهم نسوا الماضي. ولكن هل اقتنعوا انهم لن يؤذوا وان الأذى الذي لحق بهم بات مغفوراً؟ عندما رجم اليهود القديس استفانوس (اسطفان بالعامية) قال: “يا رب لا تقم عليهم هذه الخطيئة”. ما قال لم يخطئوا ولكن لا تحاسبهم على ما ارتكبوه. أما الذين لطخوا أيديهم بالدم فيتكلمون على فقدان الذاكرة عند سواهم وليس عندهم ليبقى هذا التلاصق الكاذب بين اللبنانيين.

غير ان المضحك المبكي هو ان العواصف التي هبت انما كانت مكونة من كل جنس وطائفة وقدمت هذا المشهد ان المسيحيين والمسلمين واحد في هذا المعسكر وذاك لكنه واحد اذا انتصروا حتى يأتلف قوم جدد حسب معايير ستظهر بالممارسة. فقبل ولوج أبواب المجلس وبعد ولوجه سيكون لبنان “بيتاً ممرمراً” كما يقول حزقيال وتتبدل العصي التي تضرب هنا وهناك في هذا الخليط العجيب الذي هو الحكم اللبناني.

غير ان العارفين سيتفحصون العوامل التي وراء الاصطفاف بعضها جديد وبعضها عتيق. أنا ليس عندي وصفة لتغيير المشهد اللبناني لأن هذا يأتي من أعماق يحفرها الله فينا ليضع فيها كلمته. والكثيرون لا يقبلون هذا اذ يعني القبول تبديلاً في التكوين الخلقي للانسان اللبناني وانه على سبيل المثال يريد ان ينتزع عن نفسه عشق المال واللوذ بالأثرياء الفاعلين. لست أريد اليوم ان أتضجر من نفسي وأن أكرر اننا لسنا مقتنعين بأن الطاعة لله تحرر من الشهوة. في هذه الدنيا المقيت انت عبد لمن أعطاك فالفرنسيون يقولون: “من اعطى فقد امر”.

مشهد الانتخابات كان مشهدا للخطيئة بامتياز لكن الكثيرين ارتضوا ان يكونوا من القطيع. وهناك من لا يؤذيه هذا المنظر. لا يجرح احدا ان يسود الاخرين في بهيميتهم، هذه التي صاروا اليها بارتضائهم الرشوة.

لست في معرض الادعاء على احد ففي لبنان قلّما تدعي والاصول ان يخفي القضاء ادلة المدعي في هذا المجال. غير ان الرجاء ان يلهم الله الذين قالوا بتعديل القانون الذي اتى هو بهم اي ان يعرضوا انفسهم للخسارة بعد اربع من السنين الآتية وقد اجمع اهل السياسة على ان القانون جائر. غير ان المؤمن يخلص بالرجاء. ولكن لماذا اصروا على ارتكاب الخطيئة وقد قدروا ان يفارقوها؟ ربما لم يسمح ضيق الوقت الا بتبني قانون الالفين. ولكن املي ان يؤتى بقانون يرضي الجميع بما في ذلك شعور كل مجموعة دينية ان لها قولا في من يمثلها ابقينا هذا النظام ام الغينا الطائفية.

تعزى احد الكبار بأننا بلغنا نوعا من التوازن بعدما اصبح لكل طائفة زعيم. اولا اين الخير في هذا ان كان القصد الاخير الا تلازم طائفة زعيما واحدا؟ الزعامة الواحدة في كل طائفة لا تفرحني. ان هذا غير صحيح في الشيعة ولهم زعيمان ويصبو بعضهم الى تعدد اعظم. واذا اعترف الموارنة ان لهم زعيما اليوم كبيرا وفاعلا ففي القريب الذي يبدو عاجلا سيكون لهم زعيم ليس دون ذاك فعلا وكبرا وليس ما يشير الى انهما سيكونان على ايلاف عظيم ودائم.

اضف الى هذا ان عند الموارنة قادة رأي كثيرين ولعل من رضا الله عليهم انهم في شؤون الدنيا يختلفون ويتوحدون في شأن الملكوت. ورضاء الله على الارثوذكس اعظم لانهم لا يريدون ان يقيموا فوق رؤوسهم من يشرف على تعاطي دنياهم ولا يقيمون من يشرف وحيدا على شؤون آخرتهم. غير ان ما اتضح من الانتخابات ان شعبنا ليس حلف طوائف ذلك لان المال هو العنصر الفاعل في الاصطفاف او ان الاجنبي هو الجامع للناس وان اللبنانيين ليسوا على تلك العقائديات السياسية التي تباعد بينهم او تقرب. المجالسة على الكراسي بنعمة التراص او التلاصق بنت الشهوة وشهوة السلطة ام الشهوات او اعظمها وقد علمتني رؤية الخاطئين ان لا شيء يتحكم بهم ويفتك كما تتحكم بهم وجاهة الدنيا.

هذه اذا زالت من التعاطي السياسي تجعل الخطاب الوطني ممكنا وتأتي به معبرا عن المقاصد. وقبل هذا تتقاذفنا كل الرياح. ذلك اننا لا نزال في وسط المسألة الشرقية في ترجمتها الحاضرة. ومعنى ذلك عندي ان الانتخابات التي جرت عندنا لم تكن مستقلة عن تقاذف بلدنا في ملعب السياسة الدولية. لا تسألوني عن اللاعبين المحليين. ولكن من الواضح ان الارادة الدولية الفاعلة هي ان يقوم لبنان نموذجا للديموقراطية في الشرق اكانت شبيهة بديموقراطيات الغرب ام كانت قائمة بذاتها اي على شاكلة الشعب اللبناني بما يمتاز به القيمون عليه من حسابات وفساد ووصولية وما لا يبدو كذلك جزء من المسرحية.

هناك مسائل اساسية تنتظر الحل: سلاح المقاومة، المخيمات وما اليهما. لذلك وجب أن يؤتى بمن كان مؤهلا لمواجهة هذه المسائل بقوة. وبعد حلها يترك للبنان صورة الحكم والعيش السياسي التي تستجيب لها اخلاقه. اي ليس مطلوبا في الدول ان يبلغ لبنان من الرقي الروحي والنفسي ما يعده ان يكون عظيما. الصورة المصنوعة له تكفي ليدعى العرب الى التشبه بها وتقنع الادارة الاميركية شعبها بأن حرب العراق لم تخض سدى اذ قد تنتج منها طائفيات دينية وعرقية. عراق يتلبنن ما اجمله بلدا على خريطة الشرق المنهدم! كل هذا الوضع الرجراج من بلاد الرافدين الى عريش مصر يثبت فعل الغرب عندنا الى زمان لا يعرف مداه الا الله.

اين المسيحيون في كل هذا المشهد؟ اذا اصروا على ان يظلوا على هذه اللبنانية الهشة التي اخترعوها لانفسهم سيذهبون في رياح الصحراء ويتصحرون روحيا. ان لم يفهموا ان مملكة سيدهم ليست من هذا العالم لا يستطيعون ان يتحدوا. سيسعى من يرى مملكته من هذا العالم ان يجعلهم له اذيالا. في المعركة الطائفية هم خاسرون وكذلك في معركة المال. لم يفهم مسيحيو لبنان ان هناك لحمة بين انجيلهم والشأن الدنيوي. لم يفهموا ان سياستهم تأتي من طهارتهم وانه ليس محكوما عليهم ان يظلوا مستشارين عند عثماني ما او فقط مفكرين او شعراء وجيدين في الحرف الحرة منها والاخرى.

هل يعرفون يوما انهم مدعوون الى ان يعظموا بالمحبة في كنيسة تبدو متفرقة طوائف لكنها في الفعل التاريخي في هذا الشرق ينبغي ان تكون واحدة. لن يصيروا شيئا عظيما اذا فرضوا مندوبيهم لمواجهة او جبه. هذا لا يزيدهم عمقا ونقاوة. اذا لم يجلسوا فوق في السماويات لن يحتلوا اعالي التاريخ والابداع الثقافي.

متى يكون هذا او كيف يكون؟ الارثوذكس يعيّدون غداً لجميع القديسين. هل قرر مسيحيو بلدي ان يصبحوا قديسين هنا على الارض، في السياسة حتى تلعب على قواعد جديدة؟

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

العنصرة / الأحد 19 حزيران / العدد 25

حادثة حلول الروح القدس على التلاميذ رواه سفر الأعمال، ومنه أُخذت رسالة اليوم. تجلى حلول الروح بصوت من السماء “كصوت ريح شديدة تعصف” وألسنة نارية استقرت على كل منهم “فامتلاوا كلهم من الروح القدس واخذوا يتكلمون بلغات اخرى”.

          اما الفصل الإنجيلي فيؤتينا خطابا من السيد قاله سابقا “في اليوم الأخير العظيم من العيد” وهو المدعو عيد المظال الذي يقع بين ايلول وتشرين الاول ويدوم ثمانية ايام. في اليوم الأخير منه قال السيد: “إنْ عطش احد فليأت اليّ ويشرب… ومن آمن بي ستجرى من جوفه انهار ماء حي”. هذا هو تقريبا الكلام الذي قاله السيد للمرأة السامرية دالاً على الروح المزمع ان يقبله التلاميذ (في يوم العنصرة)، ثم يفسر ان الروح لم يكن قد أعطي بعد “لأن يسوع لم يكن بعد قد مُجد” (تمجيد يسوع هو بموته). الروح اذًا سينزل بعد القيامة.

          بعد هذا اي في خطبة الوداع (الإنجيل الاول من اناجيل الآلام) سوف يتكلم الرب عليه بأكثر وضوح اذ يقول: “انا اطلب من الآب فيعطيكم معزيًا آخر… ليمكث معكم الى الأبد”، ثم يشرح ان الروح القدس هذا “سيرسله الآب ويعلمكم كل شيء”. ثم يؤكد ان هذا الروح ينبثق من الآب ويشهد للابن.

          نستنتج من هذا ان الروح الإلهي يرافق المؤمنين الى نهاية الدهور وينقل المسيح الى قلوبهم. لن يأتي بمضمون تعليمي جديد لأن التعليم قد انتهى بموت السيد ولن يزيد عليه احد شيئا ولن يكون كتاب آخر. واما ما كتبه الآباء القديسون وما قالته المجامع المقدسة وما يكتبه المفكرون الطاهرون في الكنيسة فهو فكر المسيح الذي يلهمهم اياه الروح القدس.

          والروح كان الى جانب الذين وضعوا لنا العبادات. كانوا يأخذون اقلامهم وينفخ فيهم الروح نفحاته وتتملئ صلواتنا من هذه النفحات. واذا قيل شيء خطأ فالروح القدس ينقحه بواسطة الممتلئين منه. قد يظهر الاعوجاج بهذا التصرف او ذاك من مسؤول كبير او صغير، ولكن يبعث الله بمن يتصدى له فيتقوم الاعوجاج حتى لا تتلوث الكنيسة.

          من اجل ذلك نقول في صلاة سَحَر العيد: “ان الروح القدس نور وحياة وينبوع، حي، عقلي، روح حكمة، روح فهم، صالح، مستقيم، عقلي (اي يهبنا ما في عقل الله)، رئاسي (لأن الإلهام هو الذي يرئس الكنيسة)، مطهر للهفوات، إله ومؤلِّه (اي يجعلنا في قلب الله بالقداسة)…”.

          لذلك نستهل كل خدمة إلهية في كنيستنا باستدعاء الروح القدس: “ايها الملك، السماوي، المعزي…” حتى تنزل النعمة الى قلوبنا، حتى اذا طهرت نتمكن من الصلاة فيرفعنا الروح الى الآب والابن.

          الروح ليس فقط مع كل فرد مؤمن. انه مع الكنيسة جمعاء. وهو يُتمّ فيها الأسرار كلها. به تحصل المعمودية ومناولة الجسد والدم (“أَرسِلْ روحك القدوس علينا… واصنَعْ اما هذا الخبز فجسد مسيحك…”). والزواج في الكنيسة يحصل بالروح القدس، وكذا بقية الخِدَم الإلهية. فاذا أتمها الروح يتصور المسيح فينا.

          ان الله كشف كل ما عنده لنا بالمسيح   وإنجيله. ولكن هذا الكشف لا تستطيع ان تفهمه وتتبناه الا بالروح. وظيفة الروح ان يُدخل اليك شخصيا المعاني التي انسكبت كلمات، وهذه الكلمات يجب ان تتحول اليك وتمضغها وتغذيك، فاذا أوتيت الروح القدس وسكن فيك حقا تطرد الخطيئة التي تحول بينك وبين الفهم او تحول بينك وبين العمل الصالح. كل تأثيرات الروح القدس عليك هي لك عنصرة دائمة.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الأناقة في الخسارة / السبت 18 حزيران 2005

ان تربح هو ان تربح على نفسك أي ان تربح نفسك. وما كان دون هذا هو خسارة في الدنيا. ولكن «ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه». ماذا يعني في السياسة ان تغلب خصمك اذا أكلتك النميمة أو يأكلك الافتراء أو البغض أو الكبرياء. ما قيمة مقعد في البرلمان انزلقت انت عنه وجلس عليه آخر ودافع مثلك أو أكثر عن القيم التي قلت انك مترهب لها وكانت هذه نية لا يمتحن صدقها إلاّ واقع جلوسك لو جلست.

غداً تنغلق صناديق الشمال وتهدأ أعصاب الناخبين والذين زلت أقدامهم دون بلوغ الكراسي. وسيتربى أهلنا على الهدوء وقد نالوا قسطاً منه كبيراً في امتحان الانتخابات كما اطمأنوا، جملة، الى نزاهتها والى حريتهم وبهذا قطعوا في الديموقراطية شوطاً كبيراً.

أجل لست بالانتخاب خبيراً ولم أجمد كل أوقاتي لتتبعها ولكني فهمت ان الطوائف كلها تشاركت على اختلاف موازينها وان الشرخ ما كان طائفياً وان المسيحيين ما ذاقوا هذا الغبن الرهيب الذي كانوا يخشون وانهم انتخبوا المسلمين كما المسلمون انتخبوهم وكأن الحدود الفاصلة بين الناس عبرت الطوائف وان لم يصح هذا على كل بقعة من بقاع البلاد بالحجم نفسه. وستبين مجالسة النواب اذا تجالسوا انهم أعظم اختلاطاً مما كان يخشى وسيلعبون وفق نزعاتهم أو منافع لهم او التزام لا يفرق بينهم دين بالضرورة أو مذهب ويتلاحمون أو يتنافرون كما تشاء لهم الاخلاق ما عدا تجانس الكتل وقد لا يتجانس كل أعضائها ان لم يصبهم تهديد أو يعتريهم خوف. وسوف يسلمون بعضهم على بعض ويتنادون الى موائد على تباينهم ويسترضون بعضهم بعضاً ويبدو تقاسم غير الذي بدا في المعارك الكلامية عفت فيها ألسنتهم أم لم تعف.
واذا جاء الكلام على شيء من التجريح فحسن الزمالة يقضي بالغفران وبالتلاقي حيث أمكن فنحن ليس عندنا يمين حاد أو يسار حاد وليس الانتماء المذهبي يقضي بهذا الموقف أو ذاك بعدما ألفنا في الماضي بعضاً من تهريج وأظن اننا مترقبون لبعض منه في الأيام الآتيات. وشيء من اللعب يخفض حدة الخطابية التي هي متاع دنيا العرب على رجاء ان يقتنع مندوبو الأمة ان الخطاب أضعف من العمل ومن الاصطفاف وراء
الحق.

وسيتخذ مجلس النواب شكل وجهه وقد لا يدوم الشكل لأن في المجلس من تتبدل قناعاته وفيه من لا قناعة له. واذا اكتسب هؤلاء القوم شيئاً من رصانة فنحن نتبع الرصانة التي يكونون قد بلغوها ونفرح بهم لأننا نفرح لأنفسنا بسبب مما قد يحصله البلد من صلاح العمل وجده. والمسألة والألم معاً أنك تتعامل والموجود وان موفدينا هم من وليناهم نحن ننتظر مجلسا آخر يأتي صورة عن حسن في أنفسنا نكون قد عملنا عليه وعن حسن سياسة نكون قد أتقناها بممارستها اليومية وتدبر شؤون حياتنا يوماً فيوماً.

فبسبب من نسبية الشيء السياسي من جهة ومن كوننا لا نتباهى ولا نثق بأننا المنقذون أو وحدنا المنقذون فليتصرف من خسر الشوط بأناقة كما يتصرف الرابح بأناقة لان اللياقة في الخسارة أفضل من قلة اللياقة في الربح. واللياقة الكبرى في التواضع الذي يمكن ان يتحلى به كل المتسابقين.

واذا تجالستم يا سعادة النواب (وأنعتكم بما اصطلحتم عليه من تسمية) فرجائي ألا يكب الواحد الآخر قبل مجالسة طويلة اذ «عند الامتحان يكرم المرء أو يهان». ومع انكم تعرفون سلفاً موقف هذه الفئة أو تلك بسبب من التزامها عقيدتها السياسية تعرفون أيضاً ان الالتزام ليس نصيب الجميع. ونحن ليس عندنا معيار للتصنيف واذا صنف الاجنبي نوابه بين يمين ويسار لا يصح عندنا هذا. عندنا مسائلنا الداخلية وقد لا تفصلنا قبل مناقشات تطول. ففي الخطوط العريضة – وأقله كلامياً – كل الناس ضد الفساد ولو صعب جداً استئصاله أو تتبعه أو محاكمة مرتكبيه. ونحن جميعاً على انتماء عربي مهما وضحت المقولة او غمضت وليس أحد يحلم بوصاية يقال انها ذهبت او أخرى انها وافدة لتفكيكنا. ومهما يكن من أمر فالسعي الى الاميركان ليس حكراً على مجموعة دون أخرى كما ان الالتصاق بقوة خارجية ما كان حكراً على أحد. لا أحد يريد العودة الى متصرفية ما أو الى تنظيم ليس هو العيش المشترك كما عبر عنه الدستور. ان حجمنا الصغير لا يسمح إطلاقاً بما هو ليس اختلاطاً بيننا كاملاً. لست أرى أننا مختلفون في درجات العشق للأميركان أو الفرنسيين. واذا كان لا يسوغ ان نحكم في نيات أحد ونناقش بعضنا بعضاً بعدما قلنا جميعا ان كل المشاكل بما فيها سلاح المقاومة يفصل بيننا داخليا.

جل ما أوحي به ان محاكمة أحدنا الآخر لا يسوغ ان تقوم على قبليات، واننا نواجه معا كل الامور مهما بلغت من التعقيد. واذا كنا بعامة مثقفين على عدم الاحكام المسبقة فلم يبق من تحديد للمتطرف وللمعتدل ولاسيما ان التقلب بين التطرف والاعتدال وارد عند من لم ينضو تحت لواء حزب عقائدي.

أجل ستكمل انتخابات غد خطوط السياسة اللبنانية كما تتجلى في المجلس. ويزين لي انه سيكون مجلسا حيا لا يخلو من احتدام وهذه علامة حيوية تعكس حيوية بدت عند الناخبين وتعكس رشدا قد بدا ايضا. واتصور ايضا انه ستظهر موازين قوى اخرى مختلفة جزئيا عما كنا نعرف في السابق. ان التحامنا الوطني فوق اختلاف الطوائف اقوى مما كان وسوف يختلف مندوبونا على اشياء جديدة. ولكنا طبعا نتأثر بوضع المنطقة والوضع الدولي في سعينا الى بناء مجتمع راشد. وسنتفق على السعي الى عيش كريم نظيف.

لذلك لست ارى اننا مقبلون على تمترس طائفي يعود بنا الى ما هيأ للحروب التي خيضت عندنا. ليس احد يتمنى هذا ولا احد له الصبر على هذا او على امكانه. ولقد فهمنا جميعا احابيل اسرائيل التي لن ينجر احد اليها. والاحساس المسيطر على المجتمع الدولي احساس سلم في لبنان. لن يكون الموت في ما بعد ولو بقيت ظلمة نفوس كثيرة. غير انها ليست ظلمة للموت.

فلتهدأ الاعصاب الآن لنتقبل بعضنا بعضا حتى تعف ألسنتنا والسلوك ونبني هذا الوطن مهما كلفنا الامر من الوقت. ليس الوقت وحده يأتي بالخبرة. انما يحتاج الى تنقية اسمها في السياسة كما في غير السياسة توبة.

يوم غد هو عند الارثوذكسيين يوم العنصرة اي نزول روح الله على الناس. اود ان اشتهي تنزل النعمة السماوية على كل اللبنانيين ليقيموا معا بيتهم الواحد خدمة لبنيهم وبناتهم على رجاء مساهمتهم في ظهور انسانية حلوة راقية.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الآباء/ الأحد 12 حزيران 2005 / العدد 24

إنهم آباء المجمع المسكوني الأول ويقال له المجمع النيقاوي لكونه انعقد في مدينة نيقية في آسيا الصغرى بدعوة من الملك القديس قسطنطين وذلك بسبب ظهور بدعة آريوس الذي علّم ان الابن مخلوق بقوله: “كان زمان لم يكن الكلمة فيه”. خضت الكنيسة خضة كبيرة لأن ايمانها قائم على مساواة الابن للآب اي على ازلية المسيح.

          ووضع الآباء دستور الايمان الذي نتلوه أساسا في المعمودية ثم في القداس الإلهي: “اومن بإله واحد آب…”. بعض اجزاء هذا النص كانت معروفة في المعموديات، غير ان الجديد فيه انه نَحَتَ عبارة “المساوي للآب في الجوهر”. هذا النص حدد العقيدة. فإن تلوته فأنت مسيحي. عند الأزمات الكبرى توضح الكنيسة ايمانها بعبارات نسميها عقائد مستندة كلها الى الإنجيل فيأتي الدستور وكأنه مصكوك ليصوننا من الخطأ ونقف عنده ولا نخترقه. انه حدّ وانت ضمن الحدود. هكذا تحصن الكنيسة إيمانها.

          الكنائس المسيحية كلها يوحد بينها هذا الدستور. انطلاقا منه جاءت المجامع الأخرى لتوضحه. فالمجمع الثالث مثلا عندما حدد ان مريم هي “والدة الإله” قصد ان الذي في احشائها هو نفسه الإله-الابن وفي ذلك رد ضمني على من خالف ذلك. كذلك المجمع الرابع بقوله ان المسيح ذو طبيعتين إلهية وانسانية كان يخشى قول القائلين ان المسيح لم يكن بشرا حقيقيا بل شبح بشر واراد ان يؤكد ان ليس من اختلاط بين إلهيته وبشريته. غير ان هذه العقائد اللاحقة للمجمع المسكوني الاول بقيت محفوظة وانتقلت الى الصلوات والتعليم دون ان نمس دستور الإيمان.

          اليوم بدعة آريوس (المسيح مخلوق) يجددها شهود يهوه. يقعون اذًا تحت تكفير المجمع لآريوس. من هنا انهم خطر مباشر علينا. ومن هنا ان ليس من كنيسة واحدة تعترف بهم، وان السلامة تقضي بألاّ نستقبلهم في منازلنا ليتكلموا.

          آباء المجمع نقول لهم “آباء قديسين” فقد خرجوا من السجون وجاء هذا بعين واحدة او يد واحدة او ساقٍ واحدة. جاؤوا بعد ان ادوا الشهادة. من هنا أنه ليس من معنى اذا أَديتَ شهادة لاهوتية ولم يأت سلوكك مطابقا لإيمانك. نحن نقيم ذكرى الآباء ونرجو ان نتشبه بقداستهم، اذ ليس المهم ان نفتخر بهم ولكن ان نماثلهم في كل شيء.

          هذا يضع مسؤولية على الكهنة بنوع خاص، فالكاهن لا يصير ابا روحيا عند رسامته. يجعله الله أبا اي مولدا الآخرين بالروح القدس. فليس له سلطان من نفسه ولكن من الروح القدس. وعندما يلاحظ الأسقف ان الكاهن بلغ هذه المرحلة من الحياة الروحية يخوله ممارسة التوبة.

          انت، كاهنا، تقول كلام المسيح وتطلب طاعة له لا طاعة لكل ما يجول في فكرك. انت لا تتحرك تجاه احد المؤمنين الا بوحي الروح. تتحرر من التسلط اي فرض الرأي الشخصي. واذا اظهر لك احد المؤمنين انك على خطأ تقبل ذلك بتواضع لأن المهم ان ينتصر الله. انت تجلس على كرسي الرسل بمعنى انك تسلك كما سلكوا. فاذا اقمت نفسك في حضرة الله وطاعة كلمته لا          يكون عندك ردة فعل او انفعال. اذا جئت من فوق تحضن جميع الناس كما حضنك المسيح.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

العهر / السبت في 11 حزيران 2005

المعاجم القديمة لا تفيدنا هنا لأنها تعرف العهر بالفجور اطلاقًا. ولكن في اصطلاحنا الحديث قد لا يكون له أي معنى جنسي. غير اننا نسمي المرأة الفاجرة عاهرًا إذا باعت جسدها ومن هنا ان كل قبض مال لإضعاف الإرادة أو الموقف أو املائه يصح تسميته عهرًا عند المعطي والمعطى اليه. المال ليس بالضرورة العنصر الحاسم ولو غلب. كل ما ليس علاقة شخصية ووجدانية وما ليس التزاما من القلب عهر.

على هذه الصورة العلاقة الزوجية إذا كان المال عنصرًا ضاغطًا فيها تفسد ولا تبقى طاهرة. سلطة الأبوين على أولادهما إذا انتزعت موقفًا من الأهل بسبب من المال لا تظل سليمة. ما من طهر حيث لا قناعة. وإذا دعم المال قناعة أو شبه قناعة يكون عنصر غير شخصي قد عرض القناعة لما ليس من جوهرها. لا شيء يبرر انتقال المال من شخص الى آخر الا العمل أو الإحسان. ما عدا ذلك شراء موقف أو شراء عاطفة. «كل ما ليس من الإيمان فهو خطيئة» (رومية 14: 22) / والإيمان بتوسيع معناه هو حركة القلب الآتية من الله، من الحقيقة، من الضمير.

الكنيسة عرفت ذلك قديما وقررت ان تخرج من عضويتها أي من التمس منصباْ فيها بناء على اغرائه أسقفًا أو اية سلطة طمعًا بمسؤولية في الكنيسة وهذا ما عرف شرقًا وغربًا بالسيمونية إذا أول من حاول هذا في العصر الرسولي سيمون الساحر وشجبه بطرس.

ان نظام الرشوة كان قانونيًا في الامبراطورية العثمانية فتشرى من سلطتها ولاية بيروت مثلاً وذلك بخلاف ما اصطلحت عليه الأمم الغربية. ولكن ما من شك في ان الرشوة معروفة في كل مكان. الفرق بينهم وبيننا انهم يقاضون الراشي والمرتشي اذ يعتبرون ذلك اعتداء على الوطن أو على الدولة التي هي عندهم دعامة للوطن.

في الرشوة التي ترتكب في الانتخابات عند المرشح أو ممول اللائحة خطيئة أعظم من الرشوة انه يحتقر انسانية القابل للارتشاء فيغريه ولا يقيم معه علاقة انسانية مبنية على الاقتناع. يحتقره اذ يطوعه لشهوة تكون هي سبب قراره. ويزيد هذا حقارة اعتقاد المرشح أو الممول ان ليس عنده من قوة الاقتناع بقضيته ما يجعله يستعمل المال لاستلاب موقف عند المواطن. هنا يصبح المرشح والناخب كلاهما سلعة اذ يفقد الطابع الإنساني المحض الذي يجب ان يملي وحده علينا التحرك الوطني.

غير ان الحزن الأكبر يأتي من قول المرتشي: هذا المرشح وذاك سواسية. كلاهما سيئ أو قريب من السيئ ولكوني لا أرى فضل واحد على آخر استفيد ببعض دريهمات لإطعام أولادي. قد يكشف هذا قلة دراية بالوضع السياسي أو قلة اطلاع على اخلاق المرشحين. وكان على المرشح ان يتخذ وقته لإعلان برنامج ويتصل بالناس ويدنيهم من الفهم ويقربهم من الخيار الصالح ويرفع من شأنهم وتاليًا من شأنه ويقدر بذا أهمية النيابة وشرفها وقوته على الخدمة.

لا ينفع ان نقوم بأدبياتنا السياسية ضد سلطة المال فحسب. السلطة هي في حقيقتها على من استعملها ومن تقبلها. يجب ان يتنقى كل منا ليكسر هذه السلطة بالرفض. نحن اذَّا امام اغراءين: اولهما اغراء المال وثانيهما اغراء الجهل الكامل لقدسية البلد. هؤلاء الذين يشتكون من إهمال أهل السياسة لهم لماذا لا يفهمون السياسيين الذين يعزون أنفسهم عن إهمالهم بقولهم: ان هؤلاء الجهلة سوف نشتريهم في الوقت المناسب وسوف نعوض لأنفسنا ما خسرناه بطريقة أو بأخرى. والكلام المعسول الذي يقولونه لا يوظف في حلبة المتصارعين ولكنه نافع في مجالات أخرى، في الصحافة مثلاً. الكلام يوظف المال وينفع على طريقته لكن المهم ان يلقي المواطن ورقته في صندوق الاقتراع ليأتي من كتب له ان يأتي. وإذا أتى فسوف يأتي ايضًا مع تحالفات جديدة.

أجل هناك المؤهل الى ان تحبه وتقدره ولكن ما فاعلية هذه القلة، ما قدرتها على التغيير؟ هل كل جمهور المرتشين طالبو تغيير؟

يذهلك ان هذا الجمهور فيه متعلمون. في شبابي كان منهم اساتذة جامعات. يذهلك اذًا ان هؤلاء ما كانوا انقياء وما كانوا يعرفون معنى الوطن وقدسيته. هناك تأكيد سمعته دائما: «كل واحد إلو سعرو». هذا يصح في الكثيرين على ما يبدو ومعنى ذلك اننا شعب إلهنا المال ومن كان هذا إلهه انسان قلق جدًا على غده وان كل كلماته الدينية: ان شاء الله، اتكل على الله كلمات كاذبة لا يعنيها ولا يطيعها لأن طمأنينته فقط الى هذه الورقة الخضراء التي أخذنا منذ بضع سنوات نتعامل واياها.

في هذا السياق خطر الهدية ولا سيما إذا كنت مسؤولاً اذ كثيرًا ما أخفت رغبة اليك يعبر عنها في حينه ولكنها تكمن وراء الهدية. وإذا لم تكن مسؤولاً وأتتك الهدية من صديق تكون خطرة أحيانًا لأنها تضعف المقاومة. وكثيرًا ما تضمنت المساومة ومبادلة مصالح أو انتظار منفعة. مثل ذلك إذا تذمرت منك زوجتك يقضي واجبك ان تفاتحها في الأمر وان تسترضيها بالكلمة الحلوة ان كانت صادقة وتحاول ان تحسن سلوكك وتهذب طبائعك. لكنك تشتري لها فستانا أخاذًا من باريس. تبطل تذمرها الى حين وتبقى على كراهيتك وتظهر ما يرضيك وقتًا لا يطول. الفستان رشوة.

لا يصلح قبول الهدية الا إذا كنت متأكدًا من انك لا تضعف بسببها في المستقبل. لا يصلح قبول الهدية الا إذا كنت مرتاحًا الى صداقة المهدي وحسن نيته. أما الهدية التي يراد بها الشكر لمسؤول في اية ادارة فهي تفسد المهدى اليه الذي قام بواجبه وعليه ان يكتفي بمعاشه.

كنت منذ ستين سنة ونيف أدرس الحقوق الإدارية على استاذ فرنسي. قال لنا مرة: القمار مخالف للأخلاق. انتظرته بعد انتهاء الحصة وسألته: لماذا تعتبر القمار ضد الأخلاق؟ ألا يمكن ان ننظر اليه على انه عقد بين لاعب ولاعب؟ أجابني: لا يعطى المال الا مقابل عمل أو لإحسان.

هذا المال الذي تشتري به صوتًا انت سالبه الفقراء وإذا أعطوك هذا الصوت، تسلبهم ضمائرهم. أما إذا احبوك وأحسوا انك، نائبًا، ستكون في خدمتهم، فلا شيء لي عليك. الا ان ضميرك لا يزكي إذا حسبت انك تجمع لك زبائن يوم الاقتراع. أعرف ان القضية دقيقة. ولكن ما أقوله جزمًا انك، محسنًا، لا تنتظر ما يقابل احسانك في هذه الدنيا. انت تحب فتعطي لأنك وكيل على ملك الله وليس لك من رزق تملكه. هو بين يديك تستعمله لخير من كان في حاجة اليه كائنا ما كان سبب وصول هذا المال اليك. المال دائما فيه جانب ظلم. ربما سرقه مورثوك. ربما كان قذرًا في مرحلة من مراحل سيره اليك. له قدرة على استعبادك ما دام بين يديك. فان أردت ان تصير حرًا يجب ان يذهب عنك. أنت غني الروح ان بددته. انت، عند ذاك، فقير الى الله. الشيء الرئيس في كل حياتنا الروحية ألا نستكبر، ألا نشعر ان لنا أهمية بسبب ما حصلناه من متاع الدنيا أو جمالاتها.

أنت لا يجملك الا هذا المحتاج الذي ترفق به وتضمه الى صدر الله وتحس انك بت في حاجة الى دعائه. هذا أحترمه احترامًا كليًا لأنه هو دربك الى الملكوت. أعطه بتواضع كلي وكأنك مستغفر. أما كل الذين تعاملهم بغطرسة الثراء أو تطوعهم لمواقفك أو تسخرهم لمناصبك تكون قد عاهرتهم وقد يبقون هم أعفاء.

هذا هو أوان الرضاء أي أوان تلك الطهارة تلك التي «يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار». لا بد ان ترتكب بعض من خطايا أو تكون قد ارتكبت في لبنان في فترات فقرنا والاستكبار. والطاهرون قليل. قد لا يشفى بلدنا من عهر فيه مستفحل وقد لا ينزل على نفوس كثيرة الهدوء ولكن علينا ان نشهد حتى مجيء المسيح في اليوم الآخر.

قبل ذلك السياسة عربدة حتى يجيء اليها من يبشر بأنها ان لم تصر كلمة الله فهي باطلة. معضلتنا ليست سياسية ولا حلها في السياسة. معضلتنا ان الله غائب عن هذه الأمة أو صار هو عندها نسيا منسيًا. متى يصبح الحكم عندنا مكان تسبيح؟ «اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة» الحكم الفاسد والبلد المعطل عقله بالخطيئة. الحكم يأتي ثمرة لإرادة التطهر أو يكون ملهاة. من ينقذنا من اغراء المال وتسلطه والسياسة القائمة عليه؟ هل ينزل الله علينا مائدة من السماء؟ هل نصبح بشرًا سويًا في بلد سوي؟

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

اشتهاء الكهنوت/ الأحد 5 حزيران 2005 / العدد 23

«إن ابتغى احدٌ الأسقفيةَ فيشتهي عملا صالحا. فيجب ان يكون الأسقف بلا لوم، بعل امرأة واحدة، صاحيا، عاقلا، محتشمًا…» (1تيموثاوس 3: 1).

كلمة أسقف في استعمال العهد الجديد وكلمة قس رديفتان، تستعمل الواحدة في مكان الأخرى. في نهاية العصر الرسولي أخذت وظيفة المطران تظهر مستقلة عن وظيفة الكاهن. مهما يكن من هذا التفريق كنا نلحظ دائما ان ثمة من يشتهي وظيفة المطران بما يظنون ان فيها شيئا من المجد والسلطة (ربما من المال) وهذا ما كان يدفع بعضا إلى ما نسمّيه السيمونية أي الرشوة لكسب أصوات في المجمع المقدس. غير أني لست متكلما الآن عن هذه الآفة. غير أني محدثكم عن اشتهاء القسوسية.

هذا شيء جديد جدا إذ ما كنا نسمع ان أحدا يطلب هذه المسؤولية لنفسه طمعا بالربح (وهو قليل في أوساطنا) أو رغبة في الخدمة أو تحقيقا للتوبة. في التاريخ الكنسي المعروف ان طالب التوبة يصير راهبا وهذا أمر لا مجد فيه ولا مكسب ولا شهرة. ولكن الانحراف ان تشتهي الكهنوت لتقديس النفس. تقديس النفس يتم عند العلماني بالمقدار نفسه الذي يتم عند الكاهن وربما بسهولة أعظم.

الوضع الأرثوذكسي القديم عند موت الكاهن، أو إذا رغب الشعب في أكثر من كاهن، أن الرعية كانت تلاحظ مَن التمع فيها بالتقوى فتطلب من المطران ان يرسمه لها وكان يتعهده المطران بتعليمه الخدمة الإلهية في المطرانية أو احد الأديرة. ولكن هذه الطريقة كانت مرتبطة بضعف التعليم اللاهوتي وتاليا عجز الكاهن عن الوعظ. اما وقد هيأ الله ان يكون عندنا معهد لاهوت في البلمند، يلتحق به طلاب يصبحون أكثر استعدادًا لتقبل الكهنوت. ويأتون من الشباب الناشط في الكنيسة والمحب لله. ويكون من الطبيعي ان يختار المطران بينهم من هو صالح للكهنوت. أي بدل من ان تنصح الرعية الرئيس الروحي برجل تقي فيها، يكون المعهد هو الناصح. غير ان الشهادة اللاهوتية لا تكفي اذ يجب على رئيس الكهنة ان يتحقق المؤهلات الروحية والأخلاقية ونمو الشخصية وسلامتها. فالشهادة عندنا هي إشارة على الاستعداد ولا ترغم المطران على الرسامة.

ما مسألة الدعوة الإلهية التي تُذكَر في هذا الخصوص؟ كاتب الرسالة إلى العبرانيين عندما يتكلم عن رئيس الكهنة في العهد القديم يقول: «لا يأخذ احد هذه الوظيفة بنفسه بل المدعو من الله كما هرون أيضا» (5: 4). ماذا يعني هذا في كنيستنا؟

لقد كُتب الكثير في الكنيسة اللاتينية عن الشعور الداخلي عند طالب الكهنوت ولاسيما انه مرتبط عندها بالبتولية. فيأتي الاب الروحي للشاب القائل ان له دعوة ويفحصه كما يفحص أهليته للبتولية وكأنه يقول -بطريقتنا- انه كفؤ للعيش عازبا. هذا الموضوع غير وارد عندنا لأن كاهن الرعية عندنا متزوج أصلا.

ما نحن نقوله ان دعوة الله لرجل حتى ينضم إلى هذا السلك يسمعها الإنسان من فم المطران. هو يقول له ان الله يدعوه ويكون المطران قد استمع إلى شهود من الرعية وقام بحديث أو عدة أحاديث مع الشاب ويحس بأن هذه الدعوة قائمة. طبعا يمكن ان تحدث أخطاء، ولكن على المطران ان يتيقن ان هؤلاء الشهود محبون للمسيح ولا يشهدون عن عائلية أو تحزب. المطران يقترب من الحقيقة اقترابا، والممارسة تُظهر فيما بعد إذا كان الكاهن حقا مدعو من الله وتُظهر الوقائع انه غير أهل لهذه الوظيفة. ولكن على قدر ما يكون المطران حكيما، واعيا، لا ينفعل بآراء الناس، يأتي الاختيار صحيحا.

اذا أُتيح للطالب ان يقوم بدراسة لاهوتية ويمارس العبادات في المعهد ويعيش في مراقبة المسؤولين، يكون اختيار الأسقف اقرب ما يكون إلى الصواب.

في الأرثوذكسية: «أنا أحب ان أصير كاهنا» لا معنى لها. أنت الكنيسة تختارك وتطيع. أنت تبدو، ويرى المؤمنون وعلى رأسهم المطران ان النور الإلهي نزل عليك.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

مدينة الله / السبت في 4 حزيران 2005

ذكرت في العهد الجديد كلمة وطن بضع مرات للدلالة على مدينة يسوع أي الناصرة ولكنها لم ترد بمعنى البلد (فلسطين). ذكر الوطن السماوي مرة ولكنه سمي هنا أيضًا مدينة. في هذا السياق سألني شاب هل لنا انتماء الى الوطن. أجبته لنا به التزام. فما دمت على ترابه فأنت خادم للناس الذين يعيشون فيه، تحبهم، ولا تخونهم مع العدو الذي يريد لهم الشر. هل من هوية؟ لم أعثر على اللفظة في لسان العرب ولربما كانت محدثة. هل هي من هو أي ذاك الذي تنتسب اليه أو هي قريبة من ماهية؟

الهوية الوطنية قائمة ما دام الوطن لكن الاوطان في تغير وتشكل تاريخي. ولم تكن البلدان الحالية قائمة منذ الأزل. غير أن أقرب مدلول للوطن في الكتاب المقدس هو أمة. والأمة هي الشعب وللشعب تاريخ طال أم قصر. مفهوم واقعي خصائصه انه يعبد الإله الحق أو لا يعبده.

في التاريخ المسيحي هي المملكة أو الامبراطورية وهي أقرب الى مفهوم الدولة منها الى أرض ذات حدود. فالمملكة هي أولاً الملك ثم النظام الذي يضعه. غير ان تعلق الناس بأرض يختلف بين الشعوب فالروسي من عاش على الأرض الروسية وكذلك الفرنسي. أما العربي فمن تكلم العربية. والسويسري تعيش على أرضه أربعة شعوب وأربع لغات.

ما اللبناني؟ هو من عاش على أرض لبنان منذ نشوئه السياسي. قبل ذلك كان عثمانيًا أي انسانًا يتبع امبراطورية ذات شعوب ولغات متعددة. فالدولة والوطن قد يكونان واحدًا وقد لا يكونان. وقد تكون الأمة التي نعترف بوحدتها موزعة على عدة بلدان.

غير ان الفكر المسيحي في هذه الأمور فكر وجودي أي انه مرتكز على واقع الأرض وواقع الدولة معًا ويقول انك منهما وانت تقترب من الهوية على قدر استقلال بلدك لأن الانقسام العاطفي الذي يحدثه احتلال أو نفوذ كبير من شأنه أن يعرض الهوية للتصدع ما لم تكن محصنًا بإخلاص كبير وقدر كبير من المقاومة.

والمسألة تتعقد إذا تعددت الأديان لأن كل دين مرتبط بذاكرة ومن هذا القبيل هو منشئ ثقافة وكل ثقافة قراءة للتاريخ. فالهاجس هو كيف تذهب من قراءات للتاريخ مختلفة لتؤلف وطنًا واحدًا. هناك محطات تاريخية توحد القراءات أي هناك آلام فشهادات فحب ولو اختلف التحسس للماضي بين الشرائح أو تباينت التعلقات الحاضرة. فلا بد من أمرين اولهما ان ترفض العدو ان كان من عدو وثانيهما ان يتعاهد الناس على اختلاف أديانهم ومذاهبهم ولغاتهم على الإخلاص لوطنهم وحده ولو تباينت صداقاتهم لأمة أخرى.

وهنا يجب ان نبدأ من البدء. أريد ان عبارة «انتماء عربي» التي أقرها الدستور لون أو نغمة في الوطنية اللبنانية ولا تعني دمجا بأي كيان آخر ولو عنت التفاهم والتعاون في كل الحقول. بمعنى من المعاني الوطن مغلقة حدوده وجامد كائنة ما كانت المشاعر تجاه هذا العربي أو ذاك. وحفيظ الكيان الدولة الواحدة المغلقة نوافذها دون ما يزعزعها. كل خلط بين الوطنية والقومية يلغي الانتساب الأساسي الى أرض ذات حدود.

لماذا أتكلم على هذا؟ جوابي اني واثق من ان شيئًا من الضياع فتك بنا لغموض هذه المفاهيم والتخبط بينها. وبعد هذا أخذنا ندرك ان الآفة الكبرى ألا تعترف بالآخر والحقيقة ان هذه ما كانت الطامة الكبرى الا لاختلاط المفاهيم وعدم الاجماع على ثوابت الوطن التي ليست هي ثوابت السياسة. هناك الآن امارات (علامات) على ان الشعب اللبناني مأخوذ بحب لبنان وليس له ولاء لآخر والولاء يختلف عن التحالفات والصداقات. وعندي ان كل ما يقال عن اللاطائفية سياسية كانت أم شاملة لا بدء له الا عند اطمئناننا الى اننا «كلنا للوطن».

أجل ضمن هذا الولاء الواحد أنانيات طائفية ليست كلها مصلحية اذ تحتوي على قدر من التنظير التاريخي الموروث. ولكن هذا جزء من امتدادنا التاريخي وعند ناس متمرسين على الفكر يتطلب جهودًا عقلية ليست سهلة. لا يكفي حب الوطن جامعًا بيننا. ينبغي ان نعرف ما هي المكونات التي نريدها له. هل نريد حقًا ديموقراطية روحها الحرية؟ هل نحن تربينا على الحرية أم تروقنا التبعية بما فيها من مصادرة شخصيتنا. هل نحن قادرون على التحليل السياسي أم نتروض عليه بدءًا من الصفر؟ إذا قررنا اننا نأبى «طبائع الاستبداد» ينبغي ان ندخل مدرسة الحرية وإذا رفضنا الزعامات – وهي حتمًا شخصية – ما بديلها؟ ليس مستحيلاً ان تنشأ عندنا أحزاب جديدة أو مجموعات ضاغطة نتمتم فيها وجودًا لنا موضوعيًا، جماعيًا في دنيا السياسة.

المشكلة اننا لم نمر، حقيقة، بالفكر الديموقراطي لأننا تاريخيا لم نعرف عصر الأنوار الذي انتج هذا الفكر. بلا مسافة تتخذها عن تاريخ طائفتك السياسي وبلا مسافة تقيمها بين الدين والدنيا يكون تبنينا للديموقراطية وهما. هل نصل اليها انطلاقًا من آلامنا وتأسيسًا على رفضنا النماذج العربية للحكم بحيث ننشئ حكمًا من أوجاعنا ومن ارادتنا الصلبة ان نعيش معًا؟ لقد فرض علينا الدستور الأخير العيش المشترك أي عدم التقسيم الطائفي لكنه لم يشر الى أسس العيش المشترك بلغة سياسية عصرية. وقت الطائف كان ضيقًا لكن التأسيس الفكري جهد طويل ويقوم به أهل الفكر ولا سيما في هذه المؤسسة الإصلاحية التي دعوناها مجلس الشيوخ.

هنا استوقفني دائمًا سؤال رهيب وهو لماذا تقدمت اليابان ولم يتقدم العالم العربي. هل لأن البوذية والشنتوية السائدتين في اليابان لا تبحثان في علاقة العلم والتكنولوجيا من جهة والدين من جهة؟ هل لأن الشرق الاقصى وعلى رأسه الصين قليل التدين وتاليًا قليل التساؤل عن علاقات مراتب الوجود في ما بينها؟ لماذا أعجب عبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبدو وطه حسين بالحضارة الاوروبية وعقلوا الأمور كأن المسيحية لم يكن لها دور في انشاء الحضارة الغربية؟ لماذا استطاع المسلمون القدامى وعلى رأسهم ابن رشد ان يكتشفوا فكرة العلم المستقل عن الدين ويعجز عن هذا المسلمون المعاصرون وأتى بعضهم بفكرة الإعجاز العلمي في القرآن. ثم لماذا لم يلتحق المسيحيون في الشرق بالفكر الغربي التنويري وظلوا متخلفين حضاريًا، مع ان الكاثوليك منهم تأثروا بالغرب ولو بصورة سطحية؟ لماذا ما تبنت الكنيسة الارثوذكسية في كل أقطارها عصر التنوير قبل الحكم الشيوعي وتأسيسًا على الماركسية التي هي غربية وفي جانب منها يهودية؟ هذه تساؤلات لا بد من مواجهتها إذا لم نرد لأنفسنا نهضة سطحية في لبنان بعدما أخفق رواد النهضة الاولى في قولبة الفكر العربي؟

غير أن التجديد الحقيقي في لبنان يأتي جزئيًا من اطراح السياسة كمنقذة لحياتنا الوطنية، بالإضافة الى أن هذا تسييس قبلي، زبائني. المسيحية اللبنانية عشائرية. كذلك بعض الاسلام السياسي. غير ان الإسلام بعامة ولا سيما السني مشهده مشهد تراص لا قبائل. والتراص يحتمل خطر الانغلاق. غير اني لست بيائس لأن تأكيد المسلمين في أواخر الحرب ان لبنان وطن نهائي يفسر في نظري ان المسلمين اكتشفوا المواطنية وهذا ليس فقط في لبنان. كل شيء يدل على ان بعض الاسلام عندنا ليبرالي وانه بطريقة من الطرق يتعلمن ولو بقيت هناك كتلة كبيرة تأبى هذه اللفظة. أنا أقترح ان نقبل العبارة التي صارت مألوفة على لسان بعض علماء المسلمين وهي عبارة الحكم المدني وهي المؤهلة ان توضح مع تقادم الزمن علاقة الديني بالمدني أو علاقة المدينة بالشريعة. وما يبشر بالخير ان الدولة عندنا ولو أقامت نظامًا طائفيًا في بعض الحقول ليست دولة دينية. الى أين نذهب بهذا؟ هل من ترجمة ممكنة في النسيج السياسي لقولة المسيح: «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله»؟

يقيني الكبير ازاء هذه التساؤلات قول أحمد شوقي: «انما الأمم الأخلاق». هذا عند أهل الغرب ناتج قليلا من الإنجيل وناتج بنوع خاص من عصر الأنوار الا إذا قلنا ان عصر الأنوار ان هو الا ترجمة علمانية للمسيحية وهذا ما يقوله كثير من علمائهم الذين ليسوا قريبين من الكنيسة. وأريد بهذا ليس أخلاق أهل السياسة ولكن أخلاق المواطنين. ان انصياع أهلنا للساسة هو من طبائع أهلنا وليس فقط خصوصية عند أهل الحكم. ان عملية النهضة الوطنية ليست تلقي المواطن لما يقوله زعيمه فقط ولكن تلقي الزعيم لما يقوله محازبوه. ان في الأمر تفاعلاً خلاقًا.

لا شك في ان الألم مبدع وان السياسة يجب ان تتغير في منحى الطهارة وهي تعني في ما تعني ان نراقب النواب والحكام معًا وان نكون في حياتنا كلها وليس فقط في فترة الانتخابات مصرين على مسالك نقية. هذا التحول الى وجه الله – يبقى وجه ربك – شرط أساسي للحياة الوطنية وتاليًا للنمطية السياسية.

هل أنا بقائل ان حكامنا يجب ان يكونوا من القديسين أو بلغة أفلاطون من الحكماء؟ هذا طبعًا يحل معظم مشاكلنا النازلة علينا منهم؟ هل السياسة بالضرورة ملطخة؟ سؤال طرحته على الماسكين بالشأن القومي عندنا وفي الخارج. هزئوا مني جميعًا لاقتناعهم ان الأمر صعب. لكن الطاهرين يقتحمون الصعاب. والطهارة لا تتنافى والعلم والخبرة والحنكة. ليس السياسي من ركّب بالضرورة الاسود على الأبيض. فالعفة لا تعني ان تكون غير عارف بالسيئات ولكن ألا ترتكبها. وهذا قد يفرض عليك ان تكون وحدك في العمق ولو أتاك بالخسارة. السياسي مدعو الى ان يفهم ان في مجاله الحلال والحرام وان هذا يبقى حرامًا على رغم كل فتوى وعليه ان يفهم أيضًا ان خلاص النفس من لطخة المعاصي أهم من كل المناصب لأن «هيأة هذا العالم تزول» كما يقول الرسول يوحنا الحبيب.

لا، السياسة ليست لهوًا ولا زينة ولا افتخارًا. فيها تقلب ولكن من أجل الضمير. فيها الفرصة السانحة وهذا من باب احترام الزمان. لكنها شهادة اللسان لأنها قناعة القلب. المهم ان تسوس أمورك لا أن يسيسك آخر قضاء لحاجاته حتى يتكون ما يسميه أوغسطينس مدينة الله.

متى يصبح لبنان مدينة الله؟

Continue reading