Monthly Archives
في إنجيل اليوم (لوقا 5: 1-11) بعد أن دخل يسوع إلى سفينة بطرس وهو المسمّى سمعان قال له السيد: «تَقدَّمْ إلى العمق وأَلقُوا شباككم للصيد». وبعد أعجوبة الصيد العجيب قال السيد لتلميذه: «انك من الآن تكون صائدًا للناس». وبعد ان عاد التلاميذ الذين كانوا يصطادون «تركوا كل شيء وتبعوه».
«تَقدَّمْ إلى العمق» ليس فقط في بحيرة طبرية ولكن، اذا صرت صائدًا للناس ورسولا، تتقدم إلى عمق قلوبهم، لأنك إن لم ترسل كلمتك إلى عمق القلب، ولكن بقيت على سطحه، لن تضع الله في هذا القلب. هذا الذي تخاطبه، اذا قلت له أشياء ليس فيها عمق، لن يَخْلُص بكلماتك. قد يسمع ولا يريد ان يتغير اذا انت خاطبت عقله دون فؤاده. اذا نزل المسيح إلى داخله يُغيّره وتكون انت قد اصطدته. ولا تستطيع ان تكلّم أحدًا الا اذا سجدت على ركبتيك للرب مثل بطرس، وتقبل الرب بالتوبة سيّدًا على كل فكرك وتمحو فيك الرغبات التي لا يحبها يسوع. ولن تجثو الا اذا اعتراك انذهال اي اذا خُطف عقلك إلى المخلّص ولم يبقَ فيك الا ما يحبّه هو.
عند رؤيتك يسوع وحده لا يشاركه فيك شيء تكون مهيّأ ليجعلك صائدًا للناس. فاذا حلّ فيك بالروح القدس تترك كلّ شيء وتتبعه. تنسلخ عن كل شهوة ضارة معوقة لرؤيته في كل بهائه. هذه هي الحياة الرسولية في كنيستنا أن تكون ملتصقاً بالسيد. فإذا ذهبتَ إلى الناس فلكي تُبلّغهم ما رأيتَ بعينيك وما سمعَتْه أُذناك وما لمستَه بيديك من معاشرة الفادي. تذهب إلى الناس بقوّة يسوع. تذهب ولا تكون قد تركته.
أن يكون صيادًا للناس اذا كنتَ كاهنًا تعني أن ما وراء الخدمة الإلهية التي تؤديها ليس القصد منها ما يراه الناس فيها وما يسمعونه، ولكن القصد أن يرتمي كل من الإخوة على صدر المعلّم ليسمعوا خفقات قلبه. وإذا قمت بزيارة فليس لتسلّم على المؤمنين وتسألهم عن أحوالهم وأحوال بنيهم، ولكن الغاية أن توصل كلمة الرب واضحة فتتحدث عن المسيح مباشرة بكلمات إنجيله.
ولكن ليس الكاهن وحده صائدًا للناس. كل من اقتبل المعمودية ومُسح بالميرون تعيَّن شاهدًا. ولا أتكلّم هنا على الشهادة باستقامة الحياة ونقاوتها وهي الأساسية، ولكني أتكلم على الشهادة بالكلمة. أن تبلّغ الناس كلمات الحياة بعد أن تكون قد عرفْتَها لكي يَحيوا ويتحركوا ويوجدوا ثم يجتمعوا يوم الأحد لأكل عشاء الرب. أنت تستخدم الإنجيل لكي يتوبوا ويلتصقوا بالمسيح. وليس أفعل من كلام يسوع كما صدر عنه. الغاية أن يتلفظ مَن تُبشّره باسم يسوع. أن يستلذّ الاسم بشفتيه لأنه لا يستطيع أن يلفظ اسم يسوع الا اذا ترك ما عداه فيلتحق به.
ليس فقط اسم الله أو حتى اسم المسيح فالمسيح ليس اسمًا ولكنه نعت. الاسم هو يسوع. الفظها كما هي. واذا سمعتها من أحد، اذ ذاك تتأكد انها وصلت.
أنت مدعو أن تأتي بأصدقائك وغيرهم إلى المعلّم وإلى ما قال حتى يحبّوه ويحبّوا ما قال. بعد هذا يكون من الطبيعي أن يجتمعوا حيث اسمه مذكور وحيث جسده ودمه.
هذه مسؤولية انتدبَتْكَ لها المعمودية. وبلا تبليغ الناس الرسالة، تكون معموديتك آلت إلى مجرّد اغتسال بالماء.
Continue readingيقال له في اليونانية المجد الفارغ لكون صاحبه يظن ان عنده شيئا وليس فيه شيء. عند المصابين بهذه الشهوة مركز وجودهم هو الانا. اما المتحرر فلا يحسب ان هذه الدنيا تغنيه لكن الهه يغنيه. الواقع في هذا الهوى الكبير. يستعلي مما يملك. اما الحر من عبودية الملك وعبودية الافتخار فيرى نفسه فقيرا. الذي ملكته الارض يحسب انه مالك الارض وسيدها ويسعى الى سلطان على البشر. ورغبته في ان يراه الناس ويعجبوا به ويقدروه ويمدحوه. ويعجب من عدم انبهارهم به.
الحسناء تظن انها تملك حسنها والثري ان له حقا في الثراء وقد يذهب المثقف الى ان ثقافته عظمة له. الانيق والانيقة قد يحسبان ان الاناقة توجب على الناس الافتتان بهما ويذهلان انهم لم يفتتنوا. لا يعرفون ان هندامهم وعطورهم وما يتبرجون به ليست هي اياهم ولكنها اشياؤهم. وقد لاحظ القديس مكسيموس المعترف ان هناك جدلية بين المال والفخار. الذي يمجد نفسه يسعى الى المال والمال ينشئ فينا المجد الباطل. وهذا كله يجلب الترف والبذخ. فأنت باذخ بسبب من زهوك. وقد تسعى الى وظيفة او مكانة لتبقي الزهو. غير ان المال ليس فساده فيه ولكنه وسيلة الى السلطة وعشقها. المال ذروة فساده انه يبعث فيك حب التسلط. ولكونك وحدك موجودا يهمك ان ترى الناس عبيدا لك. “انا ربكم فاعبدوني”. ولهذا تقضي حياتك في التفتيش عن عبادة لك.
وقد لا يكون المال وحده سبيل اغراء الاخرين بك. فكثيرا ما يفخر القوم بما يعرفون. بشهاداتهم العليا، بجمال خطابهم او ما يكتبون. اذ المال لا يكفي صاحبه. بعد كثافة من الثروة تنشئ صحيفة ليقال انك مثقف او تجمع مكتبة لا تقرأها لأنك في داخلك تحس ان كثرة من الناس لا تسكرهم ثروتك ولكن ما من انسان لا يهتز للثقافة. تتظاهر بها او يظنونك عليها اذا عقدت حولك مجلسا من العلماء او الشعراء او حضرت حفلة موسيقى كلاسيكية لا تفهم منها شيئا ولا تذوقها.
ومن الناس من ليس عندهم مال او تغلبوا على شهوته. وعندهم فضائل حقيقية. تجربة الشيطان اياهم ان يفخروا بفضائلهم لكونهم نسوا انها من الله وان ليس لهم فيها شيء. هذا النوع من الفخار يقع فيه من صار لهم في الفضيلة معراج واقتنوا الكثير منها واوغلوا بالنزاهة في محيط قليل النزاهة او تشددوا بالعفة حيث يكثر هاتكوها. ان ترى نفسك فاضلا مع حفنة قليلة من الفاضلين من شأنه ان يوحي اليك انك من الاعزة المقربين الى الله وينسيك انك صرت الى البهاء فقط برحمة من ربك. وفي هذا قال السيد: “كيف لكم ان تؤمنوا وانتم تتلقون المجد بعضكم من بعض واما المجد الذي يأتي من الله وحده فلا تطلبون” (يوحنا 5:44).
هناك اذاً مجد حقيقي يأتي من الله، هذا هو الهابط على المتواضعين. ولكونك احتجبت دون نزول هذا المجد عليك تذهب الى مصادر المجد البشرية. وقد قال الرب لهؤلاء: “انكم لا تستطيعون ان تؤمنوا”، ذلك ان ايمانك تعطاه من الله وليس لك فيه شيء. فالله اذا مجدك يمجد نفسه فيك. هؤلاء لا يقدرون ان يؤمنوا لأن الايمان، لغة، ان تجعل الله مأمنك، وهذا يعني ان ترى النور فيه. واذا ارتفعت عيناك الى وجهه يمحي وجهك في عينيه.
من الصعوبة بمكان ان نتنزه عن المجد الباطل. انه يلاحقنا من كل صوب. فالانيق مثلا اذا لبس ثوبا جديدا يعتز به. واذا اهمله وارتدى ثوبا غير باهظ الثمن يفتخر بأنه تواضع. ومن يقول كلاما جميلا يفتخر ومن صمت عنه يفتخر. عند آبائنا النساك ان هذا المرض يشبه البصلة. فكلما نزعت عنها قشرة تظهر قشرة اخرى. لكن نباهة النفس تكشف لك حقيقة قول الرسول: “من افتخر فليفتخر بالرب” (2كورنثوس 10:17) لذلك كان من سعى الى ان يظهر يمدح مادحيه لكونهم يغذون فيه الحياة التي اصطنعها لنفسه.
المأساة هي هذه ان من انتفخ هكذا واستكبر لا يعرف تفه الاشياء التي يسبح فيها ولكنه يحسب المتواضعين اغبياء. يعطي قيمة لما ليس بقيمة ووجودا لما ليس بوجود. لا يرى هشاشة ما بين يديه ولا يرى المتعلم المنتفخ انه قد يجن ولا ترى الجميلة ان اي مرض او حادثة تنهي جمالها. المشكلة عند هؤلاء ان ما يراه الصالحون وهْمًا يراه هؤلاء حقيقة وما يراه الخيرون حقيقة يمسي في نظر اولئك وهْما. هذا هو الهذيان عينه. واذا كان الجنون تحديدا ان نخرج من عالم الواقع لبناء واقع فعاشق المجد يحيا في عالم الاستيهام. انه استيهام، المصاب فيه لا يرى من حوله ان متملقيه كاذبون مستفيدون وانهم يهزأون به في سرهم او مجالسهم. انهم يعرفون ان المصاب بهذا الداء يتقسى قلبه ويحتقر من يستعملهم. ولكونهم يريدون العيش به او منه يسكنون المدح. وكثيرا ما يعرف هذا ان مادحيه كاذبون ولكنه لا يريد ان يواجه حقيقته وقد يمدهم برواتب او هدايا ليتحلقوا حوله. لقد غدا في حاجة الى فراغه اذ لا يستطيع ان يشاهد الاسمى.
هذا المجد الباطل المحدق بنا جميعا لا شفاء منه الا بفكر الرب الذي يريدنا ان نذكر الموت لنشاهد باطل حاضرنا. وللرب اساليب لأنه “حط المقتدرين عن الكراسي”. قد لا يتوب انسان كهذا الا اذا ضربه الرب بجسده. المشكلة ان البشر لا يأخذون عبرة من موت الآخرين. هناك من لا يعتقد حقا انه يموت اذ يتصرف بهذه الدنيا وكأنها جالسة عنده الى الابد. لا يشفى من هذا المرض الا اذا ادرك ان العالم الذي اصطنعه لنفسه انما هو الوهم عينه. قد يفهم اذا رأى سعادة الفقراء وسعادة المرضى الصابرين. المشكلة ان المصابين بهذا الداء يعاشرون فقط من يتجانسون واياه لأن بين هؤلاء جميعا تسابقا على المجد وتسابقا على النفوذ والاثراء.
المهم ان نهرب من كل ما من شأنه ان يرفعنا في رؤية العظماء. لقد اوصانا باسيليوس الكبير ان نسكت الذي يمدحنا. الابرار لا يطلبون مقاما يعظمون فيه. واذا بلغوه فليعرفوا انه خدمة فقط. هناك ترويض للنفس كبير ان لم نتكلم على انجازاتنا وان نهرب من النجومية، الا نتحدث عن قدرتنا واللغات التي نجيد والفساتين المشتراة في باريس، الا نسأل اصحابنا عما اذا كانوا قد قرأوا ما كتبناه، الا نفاضل بيننا وبين الآخرين، الا نذكر احسانا قمنا به وان نسعى الى صنع الخير في الخفاء.
واذا وصلنا الى مقام يضطر الناس فيه الى ان يحتكوا بنا وينبهروا فلنفكر ان المقام مطرح للخدمة فقط ما يجعلنا نقول مع الرسول عن عمل اوكل اليه: “اذا كنت افعله ملزما، فذلك بحكم وكالة عهدت اليّ” (1كورنثوس 9: 17).
في هذا المنصب قد يذلنا الناس. حسن ان نقبل الذل صامتين. الذي أذلك او شتمك او اهانك رسول الله اليك. اعتبره طبيبا لك يؤدبك الله به. ليس مثل نكران الجميل وانتقاص حقوقنا او ازدراء مكانتنا يعلمنا التواضع. كم من مرة شاهدت من اوبخه امام الجماعة يثأر لما يسميه كرامته. انه لا يعرف ان البشر لا يعطونه كرامة. الكبير في الحياة الروحية يخفي عن عينيه حسن خصاله ولا يذكرها للآخرين. واذا وعى خطاياه فيذبل امامه المال والجاه والتشريف الذي يحاط به.
انها لقاعدة لا تخطئ انك ان رأيت لنفسك مجدا في دنياك لا يراك ربك ذا مجد. المهم ان يراك الله فهو وحده مرجعك. ذلك انك ان ابصرت مجده فيك وفي الآخرين تكره التمجيد الذي يأتي من الناس وتدخل في دائرة التواضع الذي اذا ادركته يهبك الحرية كاملة.
Continue readingحدّد لي أن يأتي كلامي “قراءة” في محاضرة الإمام في كنيسة الكبوشية في بيروت وألقيت في الثامن عشر من شباط السنة الـ 1975 والمحاضرة -الموعظة إنما هي زاوية من زوايا مقاربتنا لعلاقة السيد موسى الصدر بالمسيحيين وعلاقة الجميع بالإنسان وهي لا تستغرق كامل البحث في موقف الإمام من المسيحية والمسيحيين. أظن ان من نحيي ذكراه فكريا عرف المسيحية والمسيحيين في لبنان. قبل ذلك يزين لي ان معرفته بهم استمدها بخاصة من الكتب وما أتى في القرآن والتراث الإسلامي عمَّن يسمَّون النصارى. في بلدنا فَهِم ما تقوله المسيحية عن نفسها. هذا التحول المعرفي كان ثمرة لرؤية الواقع. السيد موسى الصدر كان هاجسه الإنسان واستنهاضه وتحريره من الاستكبار والظلم وأعطي ان يحتك بالعيسويين الذين تجاوزوا المسيحية الطوائفية. وبفضل هذا التلاقي الكياني بين القلوب لم يبق الإمام أسير الكتب واستبق الخيرات في اليقين واستشراف إنسانية تتجدد بالحق.
ويبدو لي ان مجرد القاء هذه المحاضرة في بيعة من البيع ذو مدلول كبير فهذا جديد عند الطرفين. عند الآباء المسؤولين عن الكبوشية هذا اجتراء على كل مألوف وتخطي حدود القانون الكنسي أضف إلى هذا ان الفترة الزمنية كانت فترة الصيام الكبير وان الرهبان الكبوشيين لم يريدوا محاضرة عادية ولكنهم كانوا يسعون إلى عظة يتطهرون بها على طريقتهم في تنظيم محاضرات الصوم الكبير. المفارقة هي ان يقبل الكاثوليكي موعظة دينية في المعبد لا في قاعة الرعية المجاورة تأتيه من مسلم ليجاهد بها نفسه. اما المفارقة من قبل المحاضر فقبوله ان يتكلم في كنيسة فيها رموز عقيدة اخرى من منحوتات وصور اهمها هذا الصليب الذي بدا الإمام ملتصقا به -واذكر الصورة الشمسية تماما كما نشرت في الصحف- وهذا الالتصاق لم يقصده احد ولكن الكاميرا لم تسجل البعد في المدى بين الواعظ والمصلوب.
لماذا أحب المسيحيون هذا الإمام؟ في حسباني انهم رأوه رجلا محبا لا أثر عنده لأية عدائية، اجل كثير التهذيب حتى دماثة نادرة وخطا به الراجح انساني يهدف الى وحدة المواطنين بل الناس جميعا. احسوا انه يذوقهم بعضا من اهل الله. الكاثوليك آنذاك كانوا ورثة لمجمع الفاتيكان الثاني الذي بلغ الحد الأقصى من فكره في تقدير الإسلام نفسه وورثة للفكر الاجتماعي عند باباوات القرن التاسع عشر والقرن العشرين. قد يذهب المسيحي الارثوذكسي أبعد في مسعاه الى الفقراء وعنده ان ليس عند البشر ملك فالأرض ملك الله اي ملك الفقراء. والانسان منتدب الله في ادارة الملك ومؤتمن عليه. كان المسيحيون حساسين للفكر الاجتماعي عند الإمام وتاليا كانوا مباركين لحركة المحرومين. هم كانوا عالمين ان السيد موسى يرعى الشيعة اولا ولكن ما كان الشيعة وحدهم همه اذ كان يطلب الانسان اولا وفي صور ساعد الفقراء المسيحيين. في تأمل بعض منا كانت رعاية المحرومين منطلقا لتحرير كل المحرومين.
استهل الإمام محاضرته بدعاء والأدعية الإسلامية تحرك قلوب المسيحيين كثيرا بسبب من الروحانية التي تشع فيها وبسبب من الشعور الإلهي الصافي الذي لا يتقيد يتقليد مذهبي واحد. النص في استهلاله قيل فيه عن الله انه “يرفع المستضعفين ويضع المستكبرين”. هذا القول شبيه جدا بما ورد في انجيل لوقا: “شتت (الله) المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتواضعين”. نحن نعلم ان ثمة أحاديث قدسية قريبة جدا من العهد الجديد.
من اللافت قوله لله: “ووحدت قلوبنا بمحبتك ورحمتك”. من الواضح ان المراد بها محبة الله للبشر. هذه المفردة وردت مرة واحدة وذلك في صورة طه ولو جاء جذر “احب” كثيرا بمعنى حب الإنسان لله. المفردة القرآنية هي بامتياز “رحمة” ويبدو ان الإمام يجعل للكلمتين مدلولاً واحدًا.
وبعد الحمدلة التي وردت اربع مرات يقول: “ها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوت تنسب اليك، وفي أوقات الصيام من أجلك”. هنا اعتراف بأن الكنيسة بيت من بيوت الله اي مكان يهيمن الله عليه وتقوم فيه الصلاة. وهنا اعتراف بأن الصيام الذي يقوم به المسيحيون انما هو من اجل الله بمعنى ان الإنسان يقوم به وان الله يتقبله.
بعد ذكر الله يعبر الإمام الى اننا “نسير جنبا الى جنب في خدمة خلقك” وكأنه يقول: ان هناك طائفة من الموحدين لهذا الإله تعمل معا لخير الخلق جميعا الى ان يقول: “الى بابك اتجهنا، وفي محرابك صلينا”. هنا لا يتكلم عن باب منظور او محراب مبني. انه يتكلم عن مسجد كوني قائم على العمل المشترك. نجتمع في هذا المسجد الشامل الذي لا يقوم عمارة هندسية وذلك في ما يعتبره وحدة الأديان ويريد بها طبعا ديانات التوحيد. وحدة هذه الأديان عنده قائمة على دعامتين: الدعوة الى الله وخدمة الإنسان وهما وجهان لحقيقة واحدة.
الاختلاف بين الأديان لا يراه قائما على اختلاف في المضمون او في العقيدة. يقول: اختلفت الأديان عندما اتجهت الى خدمة نفسها وعندئذ ازدادت محنة الإنسان وآلامه وكأنه يوحي بأن الحالة الدينية في كل دين تسمو او تهبط. تسمو الى حقيقة واحدة لاهوتية وناسوتية معا أي اذا عرفت ربها والإنسان معًا.
الحالة البدهية يحصرها في غاية واحدة: “حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين”. الفساد في النفس او في القلب ولا حديث عن تباين في العقائد وتبرز وحدة الأديان من حيث ان المبدأ واحد وهو الله والهدف واحد وهو الإنسان والمصير واحد وهو الكون. هناك لحمة اساسية عنده لا تنفرط بين عبادتنا لله وخدمة الانسان. الكارثة عنده حصلت لما نبذنا الله فأصبحنا فرقا قِدَدا اي كنا جماعات متفرقين. ونتيجة نبذ الله ان وزعنا الكون الواحد وخدمنا المصالح الخاصة وعبدنا آلهة من دون الله. وسحقنا الإنسان. عند الإمام تلازم بين عبادة الله وخدمة الإنسان وتلازم نقيض بين الشرك وقهر الإنسان.
يزين لي ان الإمام يقرر ان التوحيد اسبق من الشرك ومن تعدد الآلهة وفي هذا يختلف عن المؤرخين ودارسي الأعراق البشرية. وفي الواقع عرفت الحضارات القديمة شعورا انسانيا مرهفا. غير ان رؤية الواقع بينت في العصر الحديث ان غياب وجه الله يغيب الانسان ايضا. ترى ذلك في الفن المعاصر. اجل هناك ظاهرة تضحية وبذل كبير عند ناس لا إيمان لهم كما تجد عند بعض المؤمنين قسوة وقمعا واضطهادا. ولكن ما يمكن تأكيده ان الله تاريخيا كان مؤسسا للإنسان. بكلام آخر وبصورة عامة تزامل الله والرفق والحنان والخدمة.
لعل اقوى عبارة اتت في هذه الموعظة: “نلتقي لخدمة الانسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء ونلتقي في الله”. افهم هذا هكذا: ذروة العطاء هي بلسمة الجراح للمعذبين في الأرض فاذا كانت الشهادة الاولى ان “لا إله الا الله” فإنها تبطل الآلهة الكاذبة وتبطل معهم الطغاة والمستغلين ضعف الضعاف فاذا بذلت نفسك للمهمشين يكون الله معطيك هذا ويكون ربك معطى بك للضعاف. ولا يبقى شيء آخر يُعمل.
بعد هذا أقر الإمام شرعية الوجود المسيحي باستناده الى الآية الـ 84 من سورة المائدة: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة”. يقولها للمسيحيين مباشرة في قعر دارهم: اجد نفسي في وسط الطريق الى جانبكم. اجد نفسي واعظا ومتعظا، قائلا ومستمعا”. ارى في هذا منتهى التواضع ومنتهى العلم ايضا. لأنك ان لم تقف بآن معلما ومتعلما فأنت في صفوف المستكبرين ولست في صفوف العلماء. ان تحاور المسيحيين مسلما يفترض انك ترتضي ان تتعلم منهم. ان يرى موسى الصدر نفسه في الكنيسة لا تعني فقط انه ضمن بنائها الحجري ولكنها تعني في قراءتي انه تمنى في ان يكون روحيا داخل الرؤية المسيحية لله والإنسان والكون. هذا أبعد من التعاطي الذهني الذي لا يخلو من سجال. هذه رؤية القلب للقلب.
من أين يأتي ما في القلب؟ يجيب الإمام وكأنه كان يتوقع السؤال: اقتربنا من الينابيع. وهنا يذكر غضبة السيد في الهيكل على المتاجرين بالمقدسات ويذكر الحديث الشريف: “ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره جائع” ويرى صدى لهذين الصوتين عند بابا رومية: “ان المسيح والفقير شخص واحد” ويتخذ هذه المواقف صرخة ضد الأنظمة الغاشمة ثم يستشهد بما يبدو حديثا قدسيا: “انا -اي الله- عند المنكسرة قلوبهم. انا كنت عند المريض عندما عدته، وعند الفقير عندما ساعدته الخ… هذه طبعا صياغة اخرى لما جاء لعظة الجبل في الإنجيل: “كنت جائعًا فأطعمتوني”.
ترى الإمام يتهادى بين الإيمان والانسان. يجيء من واحد الى آخر ليبين ان للإيمان بعدا سماويا من حيث انه “يعطي الإنسان اللانهائية في الإحساس واللانهائية في الطموح”. هذا الايمان يقيم في الإنسان وحدته ويشفيه ويقيم بينه وبين الموجودات لحمة ويقيمه في الجلال والجمال.
في هذه التأكيدات يرى السيد موسى الصدر الإيمان في عظمته ومطلقه. ولكن هل صحيح ان الكثير من المؤمنين متشحون بهذا الجلال ومتسربلون هذا الجمال. هذه الرؤية تزكي الإيمان ولا تزكي كل المؤمنين نحن نشهد لإيماننا ونخشى عليه الزوال او الضعف. لم يكن هينا على هذا المؤمن العظيم ان يرى مأساة المؤمن العادي، غير المُحيا بالايمان، غير المركِّز وجوده كله على الله.
غير ان ملاحظتي الأساسية ان الجاحد ليس دائم التعلق بالضرورة وليس بلا تنسيق بينه وبين الوجود وليس بلا فلسفة للوجود. وهناك ملحدون على قدر كبير من الأخلاق وبنوا مؤسسات انسانية تقوم على تضحيات عظيمة. في التحليل نرى ان لهم ايمانا ما غير الإيمان الديني يجعلون منه دينا لأنفسهم وهم يحسون بحاجتهم الى الله. في لبنان نتحرك في بيئة دينية ولكن من عاش في الغرب وقرأ آدابه يمر بأدبيات إلحادية واسعة وذات بنيان فلسفي جدي لا بد من مقابلة حججه.
وبعد ان يعرض الطاقات البشرية المولدة للحضارة يركز على موضوع الحرية. هنا تحسه مجروحا من غياب الحرية ويصور لك ان الإنسان بغيابها هذا يتقزم ثم تتقزم الجماعة. وتبلغ حماسته اوجها عندما يرى الاستبداد في سياسة الأفراد والشعوب، في ضغط اقتصادي او ثقافي او فكري، في سياسة الإهمال لإبعاد الفرص عن الناس، بعض الناس، وعن المناطق، بعض المناطق، في التجهيل.
لقد اختل نظام التوازن بين الاتجاهات المختلفة التي تصنع الحضارة. يقول: “السياسة والإدارة والسوق والعمران، لأنها لم تكن مبنية على القاعدة الايمانية، بدأت تنمو بصورة غير منسقة فتحولت الى الاستعمار والى الحروب وما الى ذلك.
ثم يضرب حب الذات وعبادة الذات والأنانية العائلية والقبلية، “الطائفة التي حولت بأنانيتها السماء الى الأرض”، الوطنية العنصرية. “هذه الأنانيات الموسعة كانت احاسيس بناءة لما كانت باقية ضمن حدودها الصحيحة ولكنها تضخمت وغدت دمارة. هذا الكلام عينه نجده عند الآباء النسكيين في الكنيسة الشرقية وكأن هناك تلاقيا بين اهل الزهد من الديانتين كأن الحياة الروحية مياه جوفيه تجري في القلوب المتطهرة لله.
لن اترك هذا المفصل دون ان اطرح سؤالا تاريخيا عن العنف الديني اعني العنف المنبثق من بيئات مؤمنة برّأت ابادة الشعوب الأخرى او قمعها باسم الله. الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر دعت اليه شعوب مؤمنة وافتُتح باسم الرسالة التمدينية وظهر من يجمع بين التبشير والاستعمار. واذا اردنا بحث موضوع العنف بصورة موضوعية فلِحظ بأسى كبير ان الدماء التي سكبتها الشعوب المؤمنة بالله اثقل بكثير من تلك التي سكبت خارج إطار التوحيد. القلب البشري مزاج من الإيمان والكفر، من المحبة والكراهية، من البذل والأنانية. التاريخ البشري ليس تاريخ اديان ولكنه تاريخ شعوب لها مطامعها وشعوب تتمرد عليها. التاريخ ذبح كله باسم الرب والقيم والرسالات او باسم العرق واللون والتفوق الحضاري او باسم ديكتاتورية الشغيلة او الحرية او تحرير الأرض. النفوس البشرية تقود ازمنة الناس وهذه النفوس فيها كل المشاعر ومنها الديني. حينا هو يطوع النفس واحيانا كثيرة هي التي تطوعه او تسكنه.
بعد رسم السيد موسى هذه اللوحة الحضارية يصل الى لبنان، الى انسان لبنان، الى كل انسانه ويريد كل طاقات هذا الإنسان وكل أبعاده. ويربط كل هذا بممارستنا احساسنا الديني الناتج من المبادئ التي عرض.
ينتقل من هذه الرؤية الشاملة الى ذكر الحرمان ومسؤوليته على الجميع. كان لا بد له ان يواجه مسألة العنف. في هذا يقول: “العنف، كما سمعنا، في سبيل الانسان، وبقدر الحاجة، وشريطة عدم الخروج على انسانية الانسان، مسموح بنص الكلمات”. هل أراد بقوله “مسموح بنص الكلمات” الكلماتِ الإلهية او شيئا آخر؟ وجب جلاء ذلك بالرجوع الى نصوص اخرى منه. السؤال الذي يطرح نفسه من هذه الفقرة الصغيرة هو من يقدّر الحاجة الى العنف او من يتحقق “عدم الخروج على انسانية الإنسان”.
هناك بالتأكيد النصوص القرانية المتعلقة بالجهاد الذي يقوم به المسلمون من حيث انهم مسلمون. ولكن هل من أساس لاهوتي للحرب القومية او الوطنية على عدو الوطن وهل هذه الحرب يقوم بها المواطنون على اختلاف دياناتهم؟ واذ ذاك لا يكون تحرك المسلمين ضمن مقولة الجهاد القرآنية. هذه تساؤلات تطرح نفسها من بعد ان قبل المسلمون باوطان متعددة الأديان.
في المقطع الأخير من المحاضرة-الموعظة ينتقل الخطيب من انسان لبنان الى مناطقه ليقرر انها أمانة في اعناقنا واعناق المسؤولين. “الجنوب والأماكن الأخرى أمانات يجب ان تحفظ بأمر من الله وأمر من الوطن”.
أمام هذه التحديات يستنتج الى انه علينا ان نحفظ وطننا لا لله ولإنسانه فحسب بل للإنسانية جمعاء ولنكون صورة متحدية امام صورة البلد العدد وكأنه يريد ان الصراع بيننا وبين اسرائيل ليس على مساحات اراضٍ، ليس صراعا سياسيا وحسب ولكنه صراع حضاري.
ربما كان من حق الإمام الصدر في مطالع السنة 1975 ان يرى للبنان وجها اجمل من هذا الذي عايناه في الحرب وفي السنوات العشر التي تلتها. واذا عدنا عشر سنوات في الذاكرة قبل تاريخ محاضرته لما أمكننا ان نفهم ان تصويره للإنسان اللبناني ونشدانه الإنسان كله كان قريبا من الواقع. ما كان البلد يخشى الثقافة وتحسس الحوار وكان الإمام من اولئك الذين اخترعوا الحوار المسيحي-الإسلامي.
ربما مكّنه هذا الحوار واتصالات اخرى كثيرة ان يتوجه الى المسيحيين الجالسين امامه في كنيسة الكبوشية في بيروت وان يسميهم مؤمنين ومؤمنات. هذا يتجاوز حدود المجاملة ليبلغ قناعة ليست كثيرة الانتشار وعبر عنها بقوله: “فلنحافظ على انسان لبنان لكي نحفظ هذا البلد أمانة التاريخ وأمانة الله”.
لا يرى الإمام أفقا سياسيا او حدودا سياسية خارج لبنان وكأنه يقول قبل غيره ان لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه ويولي البلد اهمية كبيرة اذ يجعله وديعة من التاريخ ووديعة من الرب في ايدينا. هذا يحسب فضلا كبير لرجل لم يولد في لبنان واكتملت نشأته الفكرية خارجه. هذا الشعور لا يأتي الا من انفتاح رسالي عظيم ومن اندماج داخلي بهذا الوطن. يمكن ان يأتي بعض هذا من الفقراء. وقد يكون الرافد الآخر انه عرف محبوبيته لدى ناس من دينه وناس على دين آخر. المسيحييون الذين أخذوه إلى قلوبهم سمعوا منه لهجة لم تكن مألوفة في سماعهم وحركت قلوبهم دماثته النادرة وود لديه عظيم. كان يصغي كثيرا ويقول انه يتعلم من اصدقائه. اظن انه فهم ان لسان حال المسيحيين الذين اقتربوا منه كثيرا هو هذا: نحن نتمنى ان نتعامل مع إسلام هذا الرجل. لذلك يبدو لي ان موسى الصدر كان أعظم بكثير من خطابه وان الخطاب لم يكن ممكنا لو لم يصدر عن هذا القلب الكبير.
Continue readingيتابعنا الصليب قبل ذكراه وبعد ذكراه لتقول الكنيسة انها متعلقة بهذا الذي رُفع عليه. وحتى ننتقل من نشوة العيد إلى جدية الالتزام بالمعنى، نقرأ اليوم القول المبارك: «من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مرقس 8: 34). ولئلا نحمّل يسوع وحده ثقل صليبه ونبقى متفرجين أو متوجعين أو فقط منشدين، قال السيد: ان عليك صليبا رماه الوجود عليك، صليبا قد يكون عائلتك أو رب العمل أو الحكومة أو الضائقة الاقتصادية أو اوجاع جسدك أو اوجاع نفسك أو الإغراء الذي يداهمك في كل حين.
هذه عليك ان تواجهها. وان فررت منها فأنت صريع الأوهام. المسيحية هي قبل كل شيء ان تواجه، ولكن لست وحدك في المواجهة لأن يسوع، معلقا، هو امام عينيك ويسوع، صامدا، امام عينيك ولكن يسوع، قائما، هو في تعزياتك.
ولئلا تظن ان هذه الآلام طارئة او خارجة عنك فلا تدخل اليك نبَّهك السيد انك تستقبلها في صميمك. فالضائقة الاقتصادية توجعك وكذلك الحياة السياسية او هذا القريب الذي يخونك او هذا الذي لا خفّة في دمه يزعجك. كل هذه هي فيك وقد تكون ضاغطة جدا. هي تصير بعضا من نفسك، ولذا دعاك المعلّم ان تكفر بنفسك وأن تعتبر ان ما ترضاه ضد شريعة المسيح انما هو تعبير عن أنانيتك. وآلامك آلامك انت ولا يقدر احد ان يحملها عنك. انت تحمل صليبك انت.
ولئلا تنوء تحت ثقله، يلفتك يسوع أن حمْل الصليب بحد نفسه ليس بشيء ولكن أن تتبعه هو. السؤال: حتى متى تحمل آلامك وإلى أين تسير بها؟ يجيبك: انت اتبعني. تتبعه إلى حيث سار، وسار إلى الجلجلة، ولكن من بعد الجلجلة انتفض من الموت وصعد إلى الآب. «حيث أكون انا هناك يكون خادمي».
ولكن قد تتضجّر انت من الصليب. كل واحد منا يتعب. عند هذا يقول لك المعلّم: «ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟». تقول انت في نفسك: اريد انا ان احب كل ما في هذا العالم لأتلذذ وأشبع ويصير لي في هذا العالم مجد وسلطان. السيد يجيبك بلسان حبيبه يوحنا: العالم يمضي وشهوته، انتبه ألا تتخم، ألا تعيش مع الأشباح. لا شيء من هذه يُشبع رغبة نفسك في الأشياء العظيمة. في الحنان، في الغفران، في العطاء الكبير. تلك هي الأشياء الكبرى التي اذا صبوت اليها وتركزت عليها يبقى لك الحلال من الطعام والشراب والحلال من المال. هناك اشياء تحتاج اليها. خذها اذا هيمنت عليك المحبة وغذّاك الإيمان. ولكن انتبه ألا يتسلط عليك بشيء. اعبر بما يجوز عبوره واقطف ما جاز قطافه، ولكن ضع نصب عينيك غاية الطريق. والغاية هي المسيح. هذا زهد بالعالم؟ أكيد. استعمل الأشياء ولكن لا تغرق في واحدة منها. سُدْ كل ما كان بين يديك وامام عينيك وما دخل إلى قلبك.
فاذا سادك المسيح، انت حر من أشيائك. هكذا يكون قد رُفع صليبك انت وانطلقت إلى القيامة.
Continue readingمن ناحية العبادات نتهيأ لعيد رفع الصليب بالأناشيد المعروفة بالكاطافاسيات في صلاة السَحَر، وذلك قبل حلول العيد بأسابيع، وبقراءة انجيلية السبت قبل العيد، وقراءة اخرى الأحد قبل العيد، هذا الذي نحن فيه.
التلاوة مأخوذة من كلام الرب في الإنجيل الرابع(يوحنا 3: 13-17) ونستهلها بقوله: «لم يصعد أحد إلى السماء الا الذي نزل من السماء…» اي انه صعد بالصليب. هنا يوحنا الرسول يختزل القيامة والصعود بحدث الصلب الذي هو عنده مكان التجلّي والمجد. قوة المسيح ظهرت بموته أي بانتصاره على الموت وعلى الخطيئة وهذا لينعكس فينا ونذوقه كما ذاقه هو. نحن نعيش موت السيد وقيامته في سر المعمودية أولاً وفي سر الشكر (القرابين) ثانيًا.
غاية الصلب «لكي لا يهلك كل من يؤمن به». الخلاص لا يقوم بتصديق كل شيء ولا يكتمل بالإيمان بالله فهذا موجود عند غيرنا. الخلاص هو الإيمان بأن الله أحبَّ العالم حتى بذل ابنه الوحيد. لقد أحبنا الله بالمسيح أي بتجسده وصلبه. هكذا تفجرت المحبة الإلهية. محبة الله ظهرت وشاهدناها ونعلنها وننفّذها حسب قوله: «مَن لا يأخذ صليبه ويتبعني فلا يستحقني» (إنجيل السبت قبل العيد). ما قَبِلَه السيد في نفسه وجسده اي إماتة الخطيئة لا ينفعنا بشيء ما لم نختبره في حياتنا اليومية. فَنُميتُ خطيئنا الشخصية ونحيا بالتوبة.
فالمسيح الذي هو الحياة الأبدية «أنا هو الطريق والحق والحياة» يبث حياته في نفوسنا وأجسادنا فيصير كل منا مسيح الله بالنعمة، مُسمّرين عليه، مُندمجين به.
الرسالة النابعة من هذا ان الله «لم يرسل ابنه الوحيد إلى العالم ليدين العالم بل ليخلّص العالم».
المسيح لم يأتِ ليضرب ويعاقب. هذا كان معروفًا قديمًا. جاء ليقول ان الله لا يخيف لأنه أب، وان نظام العلاقة بيننا وبينه هو انه يحبنا كأولاد أحباء ونثق به أبًا عطوفا. يريدنا أن نخلص اي ان نحيا حياة حقيقية قائمة على كلمته وحنانه.
هذه الشراكة بيننا وبينه ثمرة العهد الجديد بدمه. ولعلمنا بأنه أَحبَّنا اولاً بتنا قادرين أن نستجيب لحبه بحب. الصليب كان أداة تمزيق يسوع حتى يرفع عنا كل تمزيق، ليصير فينا حلاوة. الحلاوة تبدأ بأن نَقبل المسيح مخلّصًا وحيدًا، وعند قبولنا بهذا تصير كل نفس عروسا للسيد وتعايشه بدفء عطائه الإلهي.
ابتهاجنا ليس بالنيران والأسهم النارية. نحن أبناء الفرح الأعمق الذي أُوتيناه من أنّ «ليس إله مثل إلهنا». الإله الذي نحن نعرفه إله المحبة التي لا حدّ لها. استجابتنا له أن نؤمن به، ان نتكل عليه، ان نلجأ اليه باستمرار لمعرفتنا انه الحبيب الحبيب.
Continue readingإنجيل اليوم (مت 18: 23-35) دعوة إلى الرحمة ومعناها اللغوي ان يتّسع صدرك للآخر وان تُدخله في كل حزنه وكل نقائصه وكل شقائه إلى صدرك، وقبل ذلك ان يتكئ عليه كما اتكأ يوحنا الحبيب على صدر المعلم عند العشاء السري. كل مشاركة فيها اتكاء منظورا كان أم غير منظور. ذلك انك ان أقصيت أخاك قد تميته بمعنى انك تعزله وقد يبرد قلبه تجاهك وتجاه الله والأصدقاء ويصبح قلبه بلا مضمون أو يكون مضمونه الوحيد البغض أو المرارة.
إنجيل اليوم يقول ان تترك من قلبك لأخيك زلاته. وأنت تميل عادة إلى استصغار أخطائك وإلى تعظيم أخطاء غيرك حتى تدعي دائما انك على حق وتظن نفسك كبيرا. يهمك ان تصبح زعيما في القرية أو في الحي ولو كنت زعيما صغيرا بقيادة زعماء كبار. تخيف إنسانا اضعف منك لتقنع نفسك انك قوي. تسعى إلى نفاذ كلمتك لترفض كلماته، لتقهره.
وقد لا تكون مقتنعا بأنك شيء ولكنك تستقوي على الضعفاء لكي تبرهن لأهل القرية انك ضخم. وفي واقع الأمر انك متضخم أي ناسب لنفسك حجما لست أنت عليه. تريد ان ترتفع في نظر الغير لتبدد الشك بنفسك أمام عينيك. وليس عندك شجاعة تجعلك تقول ان سواي جيد أيضا وان فيه خصالا حميدة وانه نافع وتقول لنفسك اتمنى ان اقتدي به، ان تنزل عليّ فضائله، ان يكون كلانا حسنا فضائله، ان يكون كلانا حسنا فأنا لا احتكر الحسن. ان تكون أنت وكل أهل الرعية جيدين، جيدين معا أليس هذا أفضل من ان ينحصر الجود فيك؟ ان تكون الحياة لكم جميعا والبركات لكم جميعا ومعا، أليس هذا أفضل من ان تدّعي انك صاحب الفهم وصاحب الرأي الرشيد؟
لماذا لا تقبل المناقشة؟ فربما كان رأي الآخر أصوب وربما قادك إلى الحياة. أنا يحزنني ان القرى مليئة بالانقسامات العائلية والشخصية والحزبية، ويحزنني ان لهذه الانقسامات صدى في الرعية ولاسيما إذا كانت الضيعة كلها أرثوذكسية، فالضيعة، إذ ذاك، هي كل الرعية. والانقسامات كلها متأتية من اننا لا نريد المسيح ان يسود نفوسنا، لا نريد ان ننفذ كلمات الخلاص والحق التي في إنجيله.
هذا الإنجيل نسمعه منغما وكأنه قصة قديمة لا تعنينا. فإذا ذكر المحبة نحس بأن في هذا تعليما جميلا، ولكنا لا نعرف ان هذا الكلام دعوة إلى السامعين وليس قراءة لكتابة قديمة. نتغنى بجمال المسيحية فقط ولكن المحبة أو الرحمة تفترض ان نذلل النفس أمام الآخرين، ان نُعليهم علينا، ان نعتبرهم حقيقةً أفضل منا.
عزوني قليلا بترك كل واحد للآخر زلاته فلا يحاسبه عليها. إذا استمرت الحالة كما هي عليه الآن أدرك أني بنيتُ كنائس فقط وما بنيت قلوبا. الله يسكن قلوب الناس فلا تحزنوهم بالكبرياء.
Continue reading