لا مرد للموت منذ بدء الخليقة. تتجاوز كل حادث بالرجاء ما عدا هذا وان كنت تترجى «قيامة الموتى والحياة الأبدية». اذا وضعت رأسك على الوسادة لا تعلم ان كنت تفيق غدا او لا تفيق. اذ ذاك تدعو أن كنت من المؤنين. السؤال الذي يطرح نفسه هو ان «الله يميت ويحيي» كما جاء في الكتاب بمعنى ان الله سبب الفراق او سبب البقاء. لا نجد ان الآية هذه تتكرّر في العهد الجديد غير ان أفصح قولة فيه أن «أجرة الخطيئة هي موت» (رومية 6: 21). هنا يتكلّم الرسول على الموت بمعنى مزدوج: الموت الجسدي والموت الروحي. دليل ذلك انه بما تبقى من الآية وهو قوله: «وأمّا هبة الله فهي حياة أبدية».
في آيات عدة من القرآن جاء ان الرب يحيي ويميت. هل يعني هذا ان الله هو السبب المباشر لموت كل فرد ام ان سببية الله قول عام يتعلّق بالبشريّة جمعاء من حيث ان الموت ناموس. ولكن ما معنى ااية الـ 42 في سورة الزمر: «الله يتوفّى الأنفس حين موتها». في تفسير الإمام الرازي ان الله يتوفاها عند الموت اي يمسكها ولا يردّها الى البدن اي ان هذا المفسّر الكبير لا يقيم فرقا بين التوفّي والموت. هنا اتخذ المفسّر الواو بمعنى عطف الشيء على مرادفه ولكن جاءت الواو بمعنى التخيير كقولهم «نأت فاخترلها الصبر والبكاء» اي أحدهما. من هذه الزاوية لا شيء يمنع لغويا ان يكون التوفي عمل الله والموت حدثا بيولوجيا في الإنسان. ولكني أفهم ان الرازي لم يستطع ان يخرج من السببية الإلهيّة.
من الواضح ان الخطاب الإلهي لا يتعرض للمقابلة بين البيولوجي والإلهي. واذا تمسّكنا بالناموس الطبيعي لا يمنع ذلك قول المسيحيين: خُلق الإنسان للخلود وان الموت قصاص. كذلك ليس من شيء يلغي الحقيقة التي أعلنها الله على لسان بولس. «ان أجرة الخطيئة موت». لذلك يقول المسيحيون الأرثوذكسيون ان الناموس الطبيعي جاء من بعد الخطيئة وهذا نظام يرعاه الله. وتاليا لا شيء يمنع من الزاوية الإهية ان يموت الجسد بسبب من هذا الخلل الذي دخل هذا المختبر الخيميائي الذي هو الجسم.
اجل الله يمد بعمر هذا وذاك بسبب من مقاصد له ويحسّن وظائفه البيولوجيّة كما يشاء وانا موقن كل اليقين ان هذا التحسن فرصة لتوبة المسنين. وبهذا المعنى يرعى الله الجزئيات لأن الدعوة هي الى الحياة الأبدية. وأما ان نقول مع العامة ان عمر هذا الإنسان او ذاك مسجّل في الأبدية عند الله ويبعث بالأمراض حتى يحين الحين فهذا ما لا أراه. مؤكّدا في الكتاب الذي أدين به.
وضع بشري والتفاتة إلهيّة لكي يموت الإنسان على البركات وفي الرضاء والتأهّب للفراق هذا ما يبدو لي توفيقا معقولا بين ما هو في السماء وما هو على الأرض.
# # #
لا يصح عند عامة المسيحيين ان تقول ان الله صالحنا مع الموت اذ يقول بولس: «آخر عدو يبطل هو الموت» (1كورنثوس 15: 26). لقد صالحنا المسيح مع الله بموته هو لا بموتنا. وتتم المصالحة الأخيرة عند انبعاثنا من بين الأموات. ذلك ان موت المسيح حياة لنا. وهذه هي المفارقة انه كان لا بد من موت آدم الثاني لتفعل حياته فينا.
اما لماذا نهرب من الفناء الجسدي بالطعام والرياضة والدواء؟ ذلك لأن الحياة على هذه الأرض مسؤوليّة ورعاية لمن هم حولنا اذ «كل إنسان راعٍ» كما قال الإمام علي بن أبي طالب. والخدمة التي نقوم بها لنا وللآخرين هي تحقيق لهذه المسؤولية. ليس محرما ان تطلب الموت ولكن الحرام اليأس من صعوبات الوجود. فقد يريدك الله مريضا او عاجزًا ومكسورًا. فهذا ليس شأنك وعليك ان تعالج نفسك كأنك تعيش ابدا اذا توفرت لك وسائل العيش. اما ان تستسلم للفقر والمرض والكسل ان كان باستطاعتك تجاوزها فتلك هي مشيئة الله.
لقد وهبنا الله الحياة ودعانا الى ان نحفظها ونحافظ عليها وذلك بكل جدية فينا وإخلاص له وللأحبة الذين نوليهم انتباها خاصا.
نحن مدعوون الى مكافحة الموت ما استطعنا الى ذلك سبيلا حتى نشهد ان الله حي وبغيته ان نحيا حتى تحين ظروف انتقالنا اليه فنسلّم النفس بالرضاء لعلمنا انه مهيمن على الدنيا ويريد إنقاذنا من العذاب. والرضاء يستجيب له الخالق بالرحمة لأن الرحمة هي باب الملكوت الأوحد وهناك نلتقي من حررهم ربهم من وطأة هذه الدنيا وملأ قلوبهم من حنانه. وهذا هو الفرح الكامل.
# # #
واذا كان أمرنا مع الله كذلك لا محال للتفجّع لإن هذا إقرار مبطن بأننا نؤثر للميت بقاء في الأرض والحق اننا نأسف على الحب البشريّ والتعزية البشريّة اي نؤثر وجهًا مكشوفًا على وجه حجبته الرحمة عن أنظارنا.
تبقى الأحزان الطبيعيّة التي لا يرفضها الرب وقد دمع يسوع على صديقه لعازر. المهم الا نقطع علاقاتنا مع أحد ونكمل الخدمة ونقوم بالصدقات والتلاوات المقدسة حتى تنزل علينا السلامة. والسلامة هي رباطنا مع الذي أُخذ عنا الى مساكن القديسين ونحن كلّنا رجاء من أجل خلاصه وتحرّره النهائي من وطأة هذاالعالم. الوحدة بيننا وبين الذين توفاهم ربهم هي السلام.
الى هذا نرث فضائل الذين انتقلوا عنّا بمعنى اننا قد نراها اليوم وكانت محجوبة. بهذا المعنى نتقدّس بالأموات. هناك ذكرى الحسنات التي نقيمها في العبادات. ففي الذكرى العبادية يتم التواصل الى أن يجمعنا ربّنا في اليوم الأخير.
لا نعيش هذه الذكرى بالانفعال ولكن بالدعاء والتمثّل بأخلاق الذين واراهم ربّهم عن اأنظار. لا تعيش مع الراقدين بالرب الا بالسلامة الواحدة التي يغدقها عليهم وعلينا. بهذا المعنى لم ينفصلوا.
الى هذا الجانب الثقافي الذي يجعلك وريث الأدباء والمفكّرين والعلماء الذين يمدك تراثهم بما وصلوا اليه بالتنقيب والشعر والأدب ومختلف أنواع الفنون. من هذا المنظار لك ان تقول ان المتنبي وشكسبير ودوستويفسكي وبتهوفن وأمثالهم ما ماتوا. لهم تعبيرهم في الملكوت وامتداد تعبيرهم في الأرض.
مرة فيما كنت سائرا مع صديق كبير عارف بالموسيقى. سألني ماذا يبقى من السمفونية التاسعة؟ قلت يذهب الرنين ويبقى الجوهر.
هذه مظاهر مختلفة لتقبل الرب في الحياة الدنيا على رجاء لقائه في السموات. هنا يهون الموت ويقوى لصوقك بالرب العزيز. واذا كانت نفسك عروسًا لله فهي والروح يقولان لله تعال. اذ ذاك تزول فيك مملكة الموت.
Continue reading