Category

2006

2006, جريدة النهار, مقالات

السنة الـ 2007 / السبت 30/12/2006

الزمان خط واحد لا انقطاع بين ذراته. هو مدى الله بحكمه ومدى الانسان بين خطيئته وآماله. ولما قال صاحب المزامير: “وخطيئتي امامي في كل حين” لم يرد ان نستغرق في حسرتنا ولكن ان نجعل التوبة شوقنا الاساسي. فبعد اليومين الاخيرين من هذه السنة واليوم الاول من السنة المقبلة لحمة كاملة ولا ينفع السهر الذي لا يؤتينا املا”.

نرتمي اذاً في احضان الله الذي يعطي للسنة المقبلة مضمونها او ليست هي بشيء والى هذا لا يريد لها سوى بر الابرار اولا ثم سر المبدعين كي لا تكون سوداء في عينيه. مع ذلك يحلم الله ببياضها كي تعود اليه كما خلقها على ان تختار النصوع كالثلج الذي على قمم لبنان. ولا يحالف الله الا الابرار كي يجعل هذا الزمان مليئا. ورجاؤنا ان ينقذ الانسانية في يوم رضاه. يأمل ان نتعلم العدل وان يكون كل منا في ايام المحن “ام الصبي”.

الدنيا من اقصاها الى اقصاها رجّة كبرى. وعند الرجات تخاف اذ تخشى ان تأتي زلزالا، اذ لا يمنع الانسان الا يرى ما حوله وانه يجيء الى حد كبير مما حوله. يجيء اولا من جسده ومن كبوات هذا الجسد التي تجعلنا على طريق الموت. ويجيء من زوجته ومن اولاده والانسباء والاصدقاء والاعداء الذين يطبعون احساسه. نفسه اذاً هي تجيء ايضا مع ما يدنيها الى الارض وما يرفعها الى السماء او ما هو بينهما فاذا سقطنا فالى الوجع وان ارتفعنا فالى التعزيات.

ما قلته يعني اننا لسنا وحدنا في الالم او في الفرح ولكن نحن دائما مع الآخرين يكسروننا ونكسرهم او يصلّون من اجلنا ونصلي من اجلهم، واذذاك يكونون ونكون. ومع ان الانسان في دعوته الالهية اعظم من الكون كله الا انه في هشاشة نفسه وجسده مرمي في هذا الكون يذوق في آن مره وحلوه ولا يعرف دائما انه اذا توخى البهاء لنفسه فلهذا مصدر واحد هو هذا الاله الذي اختار القلب البشري مسكنا له. غير ان الانسان يؤثر ان يؤجر قلبه لوجودات اخرى يحسب انها تعطيه السعادة ويقلب صفحات التقويم الجديد مفتشا عن تسليات يظن ان الفردوس ينزل بها عليه.

كل الناس مساكين ولو قلبوا صفحات التقويم. وهم في حاجة الى اللطف بهم وهم يستشفون من غفراننا لهم غفران الله. ولا يعني اللطف ان تكون ليّناً حتى الميوعة لأن اهم ما في العلاقات البشرية ان تصلح الآخر اذ قال ارسطو: “انا صديق افلاطون ولكني صديق الحقيقة”. غير ان الحقيقة لا تعطى دائما توبيخا اذ الافضل ان تعطى انسيابا. فكما تلطف انت بجرح يعتريك تلطف بالآخر ولو كان جرحك وهكذا يعرف ان يوما من ايام السنة الجديدة كان موضع رأفة به وانت لفت اليه انسانا اقام في مقام الحب.

•••

لا يستطيع من لم يكن محترف السياسة او الصحافة او التاريخ العصري ان يمشي في كل زواريب الدنيا وليس هذا شرطا ليقوم سلوكه ولكنا بتنا نعرف ان الاقسام الهامة من الدنيا عندنا ونعرف ان هذه الدنى التي تلعب على ارضنا لم تصر بعد مناطق للاله. وغالبا ما نترقب ان يستفحل الشر الذي يهب علينا وان يكوينا اذ نعرف ان هذا العالم ليس بين اجزائه إخاء كبير وان انطواء الدول هو القاعدة العامة وليس مطلوبا منك ذكاء كبير لتعرف ان الحب المجاني قائم في الزواج او ما يهيئه وانه قائم بين الاصدقاء. ولكن ليس من دولة عندها مشروع عشق. ولعل حذق الدول ان تجعلك تعتقد ان بلدك معشوقها وهي تتكل على سذاجتك وتتوسع على ارضك استرضاء لعظمتها او تفاخرها او غناها. وهذا ما يسمى عند الفرنجة Hegemonie وهي مشتقة من اليونانية وتعني السؤدد والسلطان والتسلط من دولة او طبقة على اخرى. وهي فعل المهيمن الذي ورد اسما من اسماء الله الحسنى في سورة الحشر. فكل الدول او القوى التي تحاول الهيمنة انما تنسب الى نفسها صفة من صفات الله تعالى وتبارك.

وعند الكبير ليس الصغير كالكبير ويريد الاستيلاء عليه لان الصغار ليس لهم وجود في تاريخ الناس والعظام لا يصدقونهم لو ادعوا ذلك. فالاقتناع بك فضيلة نادرة ان لم تكن من الاقوام العظيمة ولذلك انت مردود ابدا الى الحزن ما لم تظهر دولة فاعلة عندها شيء من الاحساس. كيف تخرج من هذا المأزق؟ ماذا تعطي الذين تستجدي عطفهم ولاسيما ان كنت فقيرا؟ هذه اسئلة ليس عندي اجوبة عنها ولا سيما اذا آمنت بفرادتك وان هذه الفرادة قادرة على العطاء.

صرت استمع منذ ايام الى احدى المحطات يقول فيها واحد من الناس: “لا تقل شيئا، نحن نقول عنك. لا تفهم شيئا. نحن نفهم عنك”. ولكن على المرء ان يسعى وان يرجو ان يأتي يوم يفهم فيه الكبير دنيويا ان الاصغر منه يمكنه ان يفهم وان له الحق في ان يقول. حتى يفهم العظماء ان الدنيا مشاركة وان التاريخ كله يصنعه المبدعون وان اعظمه ما يأتي به المتواضعون الذين كثيرا ما كانوا فقراء. غير ان هذا يتطلب رجاء كبيرا وايمانا بان الله قادر على ان يزيل الازمنة الرديئة حتى تعيش الشعوب معا في اسهام كل منها في حضارة العالم.

قبل الابداع يجب ان يعيش الفقير. ويبدو ان هذا مستحيل في استفحال الازمنة السياسية على رجاء ان تبقى سليمة. الاستقرار شرط العيش لانه شرط الانتاج. انا لا اطلب تربيع الدائرة. هذا مستحيل في الحياة السياسية. ولكن خذوا مسافة من الغرباء الذين تحبونهم لان اهل البيت ابقى لكم وانا لا اناقشكم في من تحبون ولكني ادعوكم الى ان تنظروا الى اللبناني على انه الاخ الثابت وانعتوا غيره ما شئتم بنعوت القربى بعد ان تعاهدتم على ان لبنان وطنكم بكل ما فيه من خلافات او مباينات.

•••

اعرف ان الاعمال بالنيات ولكني اعرف ان احدا لا نحاكمه على نية لم تثبت في الواقع. معنى ذلك في الواقع ان احدا ليس عبدا لاسرائيل الآن وانكم تاليا متساوون بعداوتها. كونوا ما شئتم في المودات ولكن لا تكونوا زبائن ولا تحالفوا احدا الى الابد لان احدا لا يحالفكم الى الابد. نحن اللبنانيين ليس احد يختنق ان لم نحالفه فظلوا اذاً على الهدوء الذي تعطيه المسافة الواحدة من كل من هم خارج الحدود.

لن ادلي برأي ادعي به اني احل مشكلة. هذا فوق طاقتي وفوق معرفتي. عندي شيء واضح مع ذلك ان الذين قتلوا رفيق الحريري وباسل فليحان حتى بيار الجميل يجب ان ينكشفوا. السؤال – ايا كانت النصوص الاخيرة لقانون المحكمة – هو هل نريد ان تعاقب العدالة المجرمين باقرب ما يسمح به القانون الاجرائي لهذه المحكمة. واذا لم يجمع اهل الحكم واهل المعارضة بالقوة نفسها والوضوح نفسه على ذلك فالمعنى الوحيد لذلك ان كل هذه الدماء البريئة التي سُكبت ليست غالية علينا واننا نساوي بين القتلة والاطهار وان الاقتصاص لا يشكل عنصرا من عناصر الدولة وتاليا اننا لا نريد دولة. اما قرأتم جميعا: “يا ايها الذين آمنوا عليكم القصاص في القتلى”. (سورة البقرة 178). ولئلا يشك احد في واجب القصاص اتبع الوحي هذه الآية توّاً بعدها بقوله: “ولكم في القصاص حياة”.

ايا كان التفاوت في الالحاح على ضرورة المحكمة ذات الطابع الدولي فهي واجبة الوجود ليس فقط على صعيد القضاء ولكن على استمرار لبنان خارج شريعة الغاب. انا لست اتهم احدا انه يريد ذلك ولكن لا يتصرفن احد وكأنه يريد ذلك لان هذا يعني ان الموت والحياة سيان عنده.

هذا عندي اننا بعد ان اقمنا العيد لمن سمّته كتبي رئيس السلام اطلب الى الآب ان يقيم سلامه في قلوبنا مع الطمأنينة الى الآخرين. الفتنة في القلوب اشد مضاء من السلاح. سلموا نفوسكم الى الله المهيمن وحده عليها حتى لا يكون السؤدد للانسان. “النفس أمارة بالسوء” لانها أمارة بالسيطرة. وكل احتكار سيطرة من الشيطان. واذا علمتم ذلك تنفتح لكم آفاق البهاء في السنة المقبلة علينا. وارجو ان يتم الله نوره عليكم في هذا الضيق حتى تتّسع صدوركم بعضكم لبعض وتستضيء كل ايامكم في السنة المطلة علينا باذنه تعالى.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

السيّد آتٍ / السبت 23/12/2006

أهمل التأمّل قليلاً في أحوال البلد لأرى الى يسوع الناصري المولود في فلسطين الجريحة والذي نقيم ذكرى ظهوره بيننا بعد يومين وبين يديّ كتاب طريف الخالدي عن “الانجيل برواية المسلمين” وكنت قد قرأته في ترجمته العربيّة لاعرف ما قاله الزهّاد والمتصوّفون المسلمون عن عيسى، هذا الذي أحبوه وأتى كلامهم عن عشقهم له كأن قلوبهم كانت تدمي وجاء كلامهم أحر من جمر حبّهم. ورأيت أنهم لا يختلفون عني في العيسويّة ورأوا المخلّص في بشريّته. أظن ان الشيخ عبدالله العلايلي قال مرة عن عيسى إنه المخلّص كائنا ما كان مدلول اللغة. ما هو الحب سوى الخلاص. ان يتطهّر قلبك حتى البلوريّة فيرى الله مَن فيه ويضمّهم الى قلبه هو فيصبحون أمّته.


أمة الله التي يؤلفها الأتقياء الموحدون تعيش في هذا السلام الذي أنشدته الملائكة عند مولد السيّد اذ قالت: “المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام”. معنى ذلك أنك تجيء الى السلام الحقيقي اذا مجدت الله. وان تمجده تتضمّن انك لا تمجّد نفسك ولا المحازبين بحيث تعترف انه ملك السموات والأرض هو الله. واذذاك يحل سلام الله فيك وفي الناس الذين وضع الله مسرته فيهم. هذه الذكرى التي نقيمها بعد يومين نلتمس فيها السلام لكل منا وللبلد على ان نكون في ذلك صادقين ولا يطغى أحدنا فيها على الآخر لأن هذا من مجد الدنيا وهو زائل بزوالها. ومع ان محبيّ الله لا يؤمنون في العمق الا بهذا السلام الذي يحله ربهم في قلوبهم الا ان الفكر السياسي المجسّد بشرعة الانسان يريد ألا يكون بين البشر احتراب يأتي لهذه الفئة أو تلك بمنافع دنيويّة. لذلك كانت حياة كل امرىْ وحياة الجماعات أمرًا جميلاً وعلى الانسان ان يبذل كل مسعاه تحقيقًا لقول التنزيل القرآني: “من قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا”. وفي فهمنا نحن أتباع المسيح انه مات لكي يحيا كل انسان على رجاء الديمومة لمحبّته للبشر جميعًا. فلو كان محبو السلام من غير عشيرتك فهم أقرب اليك من أهل عشيرتك اذا كانوا يهوون إراقة الدم. لذلك نصلّي مع صاحب المزامير: “نجني من الدماء يا الله”. نجنّي أيضًا من التشنّجات التي من شأنها ان تعرض سواك للخطر. وأقول أكثر من ذلك. لا تترصدهم ولا تبعدهم عن داخلك خشية ان يتحوّل هذا الى غضب.


طبعًا المسيح الذي هو في كلام إشعياء رئيس السلام كان عارفًا بأن الشر قائم في الدنيا حتى يرث الله الأرض وما عليها. ولكن اذا عرفنا – بطريقة أو بأخرى – ان السلام قيمة أبديّة ومطهر للنفس نحاول ان نزيل من النفوس ما يجعلها قاتلة. والكلمة المفصليّة في هذا ان نتغذى من المحبّة ليس فقط للعشيرة ولكن لكل العشائر. ذلك ان المحبّة رفق وانها الوحدة بالرفق حتى ينشأ في قلوبنا اننا معًا أمة الله في لبنان والعالم.


• • •


الى هذا ولد يسوع فقيرًا وعاش زاهدًا. لم يسعَ الى أيّة حاجة من حاجات الجسد ولكنه سهر على الحاجة الوحيدة ان يغذي البشر من الله وجعل الفقراء أهله. والكلمة البليغة في هذا انه شارك البشر في كل أحوالهم ما خلا الخطيئة واستطاع لطهارته ان يغفر للعشارين والزواني اذ كانوا روحيًا فقراء وجعلهم لا يستغنون عن الله.
وما كان يسوع يتقرب من أهل السلطة ولو اعترف بوجودهم ولو تحداهم بكلمات ذهبيّة أسقطت غطرستهم جيلاً بعد جيل ولكونه ما كان يحتاج اليهم ولا الى سلطانهم مكّننا نحن المؤمنين به من ان نراهم لا شيء حتى فهم الانسان به انه يصير شيئًا بالتواضع حتى درجة الانسحاق وكان فقره ضروريا لإتمام رسالته اذ مكّنه فقره من ان يقول لكل انسان كلمات يحيا بها فيدخل ملكوت الله النفوس فيوهَبون سلاما من فوق. وأدرك بعضنا انهم يبرزون أمام وجه الله اذا صاروا مساكين بالروح أي عارفين انهم ينالون الغنى الحقيقي الذي يأتيهم اذا عاشوا من كل كلمة تخرج من فم الله. فاذا كان الله فيك كل شيء كما يقول بولس فأنت حر من المخلوق فتلازمه بالعطاء المجاني الذي يزكيك ويرفعه الى السموات فيصير على هذه الأرض مقرًا للكلمة.

واذا علمنا ذلك لنا ان نترجم سلام الله فينا سلامًا في دنيا السياسة. واذا لم نعلم فالعلاقات بيننا تسوية أي استرضاء للآخر بما هو دغدغة لشهواته فنكذب بعضنا بعضًا ونتراكم ولكن لا نتلاحم. وهذا من شأنه ان يقيم مجتمعًا ظاهره هادىء وحقيقته استعداد لإلغاء الآخر. هذه هي الأنا المقيت الجاحدة لأهميّة الآخر التي تعيش بتوترات التعصب أي التي تعيش حقيقة في البغضاء مكتفية بعزلتها والبغضاء والصائرة في داخلها والتعامل الى التهلكة. وأما من تبنى الناس جميعًا فيحييهم ويحيا بما أعطي.


الإنسان هو المشارك أي الباذل نفسه في سبيل الآخرين والذين يؤلف معهم شعب الله وهذه هي الهويّة الحق. انت لا هوية لك اذا اعتصمت بنفسك وتكتسب هوية الحب اذا قررت ان تكون مبذولاً وتاليًا راعيًا مشاعر الآخرين وعاملاً على تنميتهم بما أمدهم الله به من مواهب. انت تقوم بالآخرين أي انهم قيامك وقيامتك من بين الأموات. وما قدر الناصري ان يقوم من الموت الا بعد ان اقتبله راضيًا ومحبا. فاذا أمتّ أنت نفسك المشتهية تنهض وتُنهض الآخرين معك اذ يحسّون انك بهم وانهم بك.


• • •


وهذا في عالمنا يعني ترفّعك عن كل ما فيك من شهوة ليصير النور مشتهاك الوحيد فيغدو كل امرىء فوق رأسك لأنك بذا فقط قد اعترفت بالله انه رأسك الوحيد وانه يمدّك بالفرح.


وهذا يعني محدوديّة السياسة ومحدوديّة الفرديّة وصغر التحزّب الذي تظن انك تنوجد به ولا تنوجد. لم يكن المسيح رجل سياسة فلو كان ذلك لما مات. كان الرومان وأحبار اليهود يظنّون انه كان سياسيًا بامتياز لعلمهم بأن كلمته كان وضوحها أنه يغلب عروشهم. لذلك قال عظيم الأحبار آنذاك: “لا بد ان يموت رجل عن الأمّة” اذ كان مدركًا انه اذا توطد نفوذ يسوع الناصري فلا مكانة لشعب مختار ولا لأمّة منغلقة.


كان لا بد له ان يموت لتحيا البشريّة حرّة من البغض ومن امتيازات اصطنعتها لنفسها. كان لا بد له ان يموت لكي يصير العطاء وحده شعار الإنسانيّة. لكن أعداءه ما كانوا مؤمنين انه جاء ليحب. الذين لا يعرفون الحب يفسرون كل شيء سياسيًا. أنا لست أقول إن السياسة ليست شيئًا جميلاً ويمكن عند الكبار ان تكون طاهرة ولكن لها أسلوبها ولها حدودها وتقوم على حسابات الأرض. السؤال الذي يطرحه على نفسه رجل السياسة هو هل أبقى وتبقى جماعتي في السلطة أي قادرة على الأمر والنهي وعلى الغلبة؟


أجل لا بد من تدبير هذا العالم حسب مقاييسه. ولكن الذي تبتل للمحبّة لا يسعى الى سلطان ولا يستعمل وسائل الحكم بما فيها من شدّة ولا يأمر ولكنه يدعو. “فذكر انّما انت مذكر، لست عليهم بمسيطر” أو “مملكتي ليست من هذا العالم”. هذا ما عنى به السيد ان ليس في هذه الدنيا ممالك. ولكنه عزل نفسه عن منطق الممالك وأساليبها وعزل نفسه عن الانحياز الى فريق ولو كان أصلح من فريق آخر. كان يعرف سلطان الحب وكفاه ان يقيم على هذا السلطان وان يغير البشريُة به.


وقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض” نفهمه انه يقترح على أحبائه كنوز السماء وعرف ان الفقراء الى هذا الكنز قادرون ان يغيروا العالم. انت تستطيع ان تكون عظيمًا في الأرض واذا اعتبرت هذا مجدًا حقيقيًا تلغي في نفسك ما يمكن الكبير في قومه ان يذوق أي التواضع.


جاذبيّة يسوع الناصري انه كان دائمًا على فقره الى الآب. وهو القائل: “اعمل في كل حين ما يرضيه” ولم تغره ذرة من هذه الدنيا وعلم تلاميذه ان يتركوا كل شيء ويتبعوه لأنه ما كان يأخذهم الا الى الله واذا مشوا معه على ضفاف بحيرة طبريّة كانوا عالمين انهم في الحقيقة سائرون الى كل كلمة تخرج من فمه ليعيشوا بها. وهكذا ساد الأعظمون ممن تقدمنا على معارج القداسة والشهادة ودبرت الدنيا نفسها.


وستدبّر الدنيا نفسها ولكنها لن تحيا إلاّ بوجهه واذا فعلت هذا لا تختلط فيها الأشياء اذ “اية شركة للنور مع الظلمة” ما يقوله الانجيل انك بالله تستغني عن كل شيء ويبقى دائمًا أذكياء هذا العالم والمتذاكون ليحكموا في الأرض وأنا لا أنكر هذا. لكن قلة تقبل ان تموت حبًا. هذه لا يهمّها المجد ولا الجمال ولا تطلبهما.


انت تصير انسانًا سويًا اذا كنت قادرًا على ان تدخل بعد يومين الى هذا الطفل المضجع في مذود البهائم فترى الى مريم التي كانت تعتبر نفسها فقط أمة للرب قابلة كلامه في كل حين وترى الى بساطة الناصري والى كل الفضائل الكامنة فيه لتأخذها اليك وتقيم العيد في قلبك الى ان يستدعيك ربك الى مراحمه يوم يشتاق اليك عند آخر مطافك على الأرض.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

لبنان الممكن / السبت 16/12/2006

أنا مستغرق في قراءة كتاب “لبنان” لصلاح ستيتيه الموضوع بفرنسية عظيمة البلاغة وذات اناقة ساحرة. لست اعلم اذا كان الكتاب بسبب من هذا الجمال، قابلا للتعريب ولكني دهشت من حب الرجل للبلد الذي وصفه قبل تمزقه الحاضر وعلى رغم مآسينا – وعسير عليّ التكلم عليها لكني اود ان ألحظ الاصرار على وحدة هذا البلد الغارقة قدماه في البحر والناطح السماء بقممه المرمي الثلج عليها الى الابد. وهنا لستيتيه كلمات شعر يغطيها ظاهر النثر.


لم يبق احد مهتما لنشوء هذا البلد حقوقيا عند انتهاء الحرب العالمية الاولى. فبعد سجالات طويلة لمسنا ان من تعلّق بالبلد عشقا ومن تراءى له عقلا ثم ارتضى العقل ان ينسكب في القلب باتوا واحدا في الاخلاص له ولو لم يتفقوا على صداقاته. هذا امر مفهوم لان بلدنا يتكئ على آسيا بما فيها من تباينات ويغنج عند البحر ويسلك البحار منذ اقدم العصور ولكنه يعود الى نفسه من هجرة فيبني انسان بيتا في قريته ولو لوقت استجمام قصير كأنه يأخذك دائما من صحارى الشرق ان كان اليها حنينك او من اغراء اوروبا اذا جئت من ثقافتها ولقّحت بها العروبة. ومن اقتصر على تشريق بلدنا او تغريبه بات فقيرا.


لم يبق واحد منا اسير التاريخ ولو ذاقه. اخفاء لحقيقة مشاعرنا أسندنا أنفسنا الى هذا المد او ذاك من زماننا الغابر لكوننا كنا ضحايا ذاكرات جماعية مختلفة واما الآن فقد جمعناها بلا تذويب في حاضر لبناني نريده فاعلا تهيئة لمستقبل يدعم وجودنا معا في اسهام الروحانيات الدينية المختلفة التي نسميها خفرا ثقافات تردادا للغة علمانية هي من تراث آخر.


لست اقول ان التلاقي بيننا على رغم مشاهد التلفاز غدا كثير العمق او عظيم التدقيق على صعيد المعرفة العالية ولكن يبدو ان الحياة تضطرك الى ان تضع لنفسك معرفة جديدة تذهل الاكاديميين وهي الآتية من القلب اولا والاولى انها آتية من ضرورة الحياة المشتركة التي يفلسفها بعد حصولها اذكياء القوم. هذا يتطلب اكثر من ثقة. هذا يفترض ان تعترف ان الآخر ينبوع تشرب منه وانه اساسي في تكوينك لئلا تبقى ملاقاتنا مجاورة لا انصهارا على مستوى الوجود. لذلك اخشى تعدد الجماعات المذهبية وأطمح الى توق توحيد ضمن التعدد ولست اعرف لهذا التوحيد الفكري صيغة جاهزة لكني اشتهي ان نصنعه معا وهذا ليس فقط على صعيد الابداع الفكري ولكن في ما سماه الدستور العيش المشترك بمعنى التناضح الخلاق بين الاديان والمذاهب. ان ثمة مسكونية لبنانية لنا الحق في ان نحلم بها لان التفسخ شر مطلق ولاننا قادرون على ان نصبح شهودا لالتحام المسيحيين والمسلمين في بلدنا.


وهنا واستقلالا مني عن العاصفة القائمة ادعو اللبنانيين الى رؤية مسافة بين الوطن والسياسة. السياسة في النهاية لعب او شيء كاللعب لكن الوطن لا تلاعب فيه. هذا ليس استعلاء مني على السياسة لكنها من باب العابر والافتراض والتذاكي احيانا ومن باب الشهوات كثيرا وتحليل اوضاع العالم المتقلبة ابدا والنافعة احيانا والضارة كثيرا. وهي كالامواج التي تحت اقدامنا لكنها ليست كالجبال التي يزين لنا اننا نصعد بها الى السماء، لا بد لك من وطن شامخ ولو داعب بقدميه البحر. الجبل يشد البحر اليه لا العكس.


ذلك انك من البحر تذهب ثم تؤوب الى البر الذي وراءه. هكذا كنا وهكذا سنكون. ويلاحظ صلاح ستيتيه حذقنا في ذلك منذ اقدم العصور. وكنا نبيع ما ننتجه من ارجوان او ما نستورده من الهند عبر اليمن وعبر مكة ونشتري ما يسره لنا الاغريق ولكن ما اكتفينا بالاتجار اذا استطعنا معه ان نصدّر الابجدية من جبيل وسماها اليونان بيبلوس التي نحتوا منها بيبليا اي الكتاب.


وغالبا ما نشأت الابجدية في اوغاريت شمالي اللاذقية التي كانت آنذاك مدينة كجبيل وصور وصيدا. هذه المدن القديمة التي صارت منها واحدة في سوريا الحديثة وباتت اخرى في لبنان كانت تقوم معا على العقل، وما قام على العقل لا يفترق على ما كان مثله عليه. والحدود يضعها الانسان كما يناسبه في تطور حياته التاريخية والعوامل التاريخية التي ينشئها.


في زمن الاستقلال الذي ارتضيناه نهائيا – اي على قدر ما نستطيع ان نستشرف المستقبل نحن اللبنانيين – بتنا هنا واحببنا هذا المبيت وانتجنا حضاريا في البيت اللبناني الواحد وهذه هي ارادة الاستقلال عندنا ليس لاننا نحب الاعتزال ولكن لاننا نحب بيتا لنا يوافقنا وارتضيناه وطنا صغيرا يساعدنا على ان يمدنا الله بكبر من عنده وان نثمر بنعمته ونعضد الآخرين بها. فنحن لسنا بكماً وما غيرنا بأبكم.


وما سميناه استقلالا ما عنينا به الا صمودا لا انحناء يمحو قوامنا. وهنا تحضرني مواقف من ائمة المسلمين ومفكريهم ان لبنان بلا مسيحيين لا معنى له. واضيف في مقاربتي ان مسيحيي لبنان أخذوا الكثير من نكهتهم الخاصة من اللغة العربية التي هي لغة القرآن وابدعوا فيها.


اليوم كنت اقرأ ابن بطوطة كما اقتبسه ستيتيه وفهمت ان هذا الجغرافي العربي الكبير اعجب برهبان لبنان. وما من شك عندي في ان رابعة العدوية اخذت حرفيا عن القديس اسحق السرياني وكلاهما من العراق. وهذه حياة نعيش في عمقها او على ما هو دون العمق بعضا مع بعض. دائما تساءلت منذ الطائف لماذا ارتضوا ان يؤلف مجلس النواب مناصفة بين اهل الديانتين. ورأيت في ذلك تسامحا من المسلمين من اجل وحدة وطنية يؤيد هذا التنظيم قوتها. وان المسلمين يريدون بوعي كامل ان يعايشوا المسيحيين بكرامتهم.


لبنان ملتقى اللبنانيين بكل ما يجري في العالم. ولهم مصالح مع هذا او ذاك وفي اختلافها اذواق. ويمكن ان يحول هذا الملتقى بوتقة حضارية وليس ما يضطرنا الى ان نصير زبائن احد وان نتخلى عن هويتنا بحيث لا يستمد فريق هويته من احد ولكن نتفاعل نحن بعضنا مع بعض ونحافظ على هذه الهوية المتنوعة الالوان والواحدة بآن كلوحة فنية. قد نكون ساحة لمصلحتنا على الا نكون ساحة للآخرين اذ نفقد بذا فرادتنا.


ويبدو اننا بتنا نفهم ان العدد عندنا لا ينبغي ان يكون حاسما في العلاقات او في الحكم وألا يختلط اي تفوق باعتبار ديني او مذهبي. شيء من الاستقلال المجتمعي عن المعتقد الديني بحيث نتقارب وطنيا ويبقى المؤمن مؤمنا. وعند ذاك ينشأ فعلا مجتمع مدني. وهذا لا يمنع التقارب مع اهل ديننا في بلدان اخرى على الا يمس هذا وحدتنا. لقد ظهر شيء كهذا قبل الحرب العالمية الاولى عند الارثوذكس الذين كانوا يحبون الشعب الروسي لكن هذه القربى الروحية لم تؤثر على ولائهم العثماني ولا على عروبتهم عندما ظهر الوعي العربي في حدود السلطنة. انت يأمرك ولاؤك اللبناني وحده على صعيد النضال الوطني ولا تؤلف وحدة سياسية شعورية مع بلد آخر. تقف على مسافة ليس من معتقدك الديني ولكن من الذين يدينون به في الخارج ولا تستضعف نفسك وضرورة لصوقك بأهل الوطن.


غير ان الوطن يُبنى في الفكر وفي العمل اي بالكدح ولا يقوم على ايديولوجيات كان من شأنها ان تباعد بيننا وان تجعلنا قبائل على ظاهر تمدننا. الايديولوجية سقطت في الاتحاد السوفياتي وفي اوروبا الغربية سقوطا عظيما وبقيت بعض الشيء في البلدان الضعيفة التواقة الى استقلاليتها. نحن لا يمكنننا ان نتوحد الا بالوطنية اللبنانية القائمة على تهذيب لشعبنا كبير وعلى اكتساب فضائل المجتمعات المتمدنة من حيث احترام كل مواطن للمواطن الآخر بصرف النظر عن انتمائه المذهبي فنتعاون وكل المواطنين بالقوة نفسها والثقة نفسها فنبني الوطن بمعطيات الارض، اي بالدرجة الاولى من الاقتصاد فيكون لنا وطن غني وافر الانتاج لا بؤس فيه ويضمن فيه كل واحد منا الآخر فلا تبقى منة من شريحة على شريحة ولا تبقى طائفة فقيرة فيما يتمتع سواها بالبحبوحة. ويزدهر الاقتصاد في كل المناطق على السواء وترعى الدولة كل المحافظات على السواء ونستنبط وسائل انتاج جديدة. لقد اثبت العلماء وعلى رأسهم غسان قانصوه ان لنا في بطن الارض وتحت سطح البحر كنوزا. وقد زرعنا ثمارا جديدة ونجحنا. كل هذا يعني الدخول في عالم البحث.


البلدان يمكن ان تنبعث ولكن شرط هذا الطهارة في القطاع العام وفي القطاع الخاص بحيث تصبح الدولة كأنها هيكل يعرف الناس فيه انه لا يعتريه فساد. ولكن هذا يتطلب انضباطا يذهب بالمسؤولين الى حد الشدة.


قال الرومان: نعيش اولا ثم نتفلسف. علينا نحن اللبنانيين ان نتعلم هذا لنبقى معا.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

إلى دولة الرئيس نبيه بري / السبت 9 كانون الأول 2006

ليس هذا كتابًا مفتوحًا اليك ونحن على تعارف وجداني قديم ولكنّه تأمّل متواضع مجروح في حال الأمة. أخاطبك اليوم ليس لكونك قطبًا لبنانيًا كبيرًا آتيًا من جراح الجنوب متكئًا على الشعر الذي لولاه لما كلّمتك على السياسة اذا صحّت التسمية في هذه السطور.

أكون كاسرًا كل قواعد المعرفة لو اخترقت العرفان الشيعي الذي يجيء الخيّرون من طائفتك منه. ولكن أجرؤ على دخول العاصفة الحاليّة لأكلّم قادرًا على ان يتقبّلني بخفري.

ذهولي ان قومك حلموا ان تتسع أرائك جلوسهم في ساحة السياسة الواسعة بعد ان رفضوا خلال قرون مديدة كل حكم في الأرض ما خلا فترة واحدة من التاريخ الإسلامي لأيمانهم بأنّ الإمام المطهّر عند انتهاء غيبته سيحكم الأرض. غير أنكم تلبننتم وسعيتم مع الآخرين الى مصالح الدنيا (وما قلت مصالحكم) وأردتم أن تشاركوا. وهل المتميّز مشارك أم الاشياء تأتي كما تأتي وأنتم حاضرون فيها بالشهادة لكي تقوم كربلاء شاهدة على الناس؟

مرة قال لي الإمام محمد مهدي شمس الدين: «لماذا كتبت ان الشيعة فاجعيون»؟ فأدركت أن الإمام تلبنن وان السياسة لا تصنعها الذاكرة الجماعيّة فحسب ولكن يصنعها النضال في معطيات الوجود السياسي وفهمت أنّ المتلبننين قد يفقدون شيئًا من صفة أهل الآخرة. ولكني لن أعلم قومك شيئًا آخر وأنا من أهل الكلام المسيحي. غير اني سمحت لنفسي بهذا التجاوز العلمي ان أطمع بأن أهلك يغفرون لي هذا التدخل الفقهي في شؤونهم لمعرفتهم بمحبتي.

نتلبنن اذًا جميعا ولا سيّما ان قوة العدو تغري والعدو هو من الدنيا. لقد أراد قبلكم مسيحيون كنيستهم رهبانيّة نسكيّة أي تطلب الملكوت قبل كل شيء ان يصيروا من هذا العالم وان يصيروه في لبنان الذي اصطنعوه وتبعناهم جميعًا زمنًا بعد زمن ظنّا منا ان هذا قد نجعله معًا وطن التجلّيات وأراد هؤلاء المسيحيون ان يجعلوا بلدنا فردوسًا بعد ان أنكروا الطموح الفردوسي عند الماركسيين فأوصلوا البلد الى ما أوصلوه اليه وغابوا ولن يعودوا كالمهدي. غيّبت الحرب الموارنة أو هم هكذا يقولون ويريدون العودة الى السيادة من طريق الدنيا لأنها أكثر محسوسيّة من الملكوت. وانتم الملكوتيين عن طريق المهدية جلستم في أماكنهم وبعد ان انكر الجميع على الموارنة امتيازاتهم وسموها هم ضمانات لئلا يستكبروا قبلتم انتم ان تكونوا من الأرض والذين اشتهوها قبلكم قالت لهم كتبهم ان هذه أيضًا ستنزع منهم لتُعطى لأمّة أخرى.

#  #

#

شيئًا قريبًا من هذا يا دولة الرئيس أقوله لك وهو ان مرشدك الروحي الإمام المغيّب السيد موسى الصدر عرف ان يجمع بين ما هو للآخرة وما هو للدنيا. وقد رأينا. أنا وأنت، ذلك معًا مع كونك كنت فتيًا. وما كان يطلب لقومه سوى العدل على رجاء ان يتحقق في كل لبنان وما طلب لكم تمايزًا لأنه كان يقيم في الرقة ويتجاوز التكتل الطائفي مع محافظته الشديدة على الفرادة الشيعيّة في كل أبعادها. أقام في السياسة سيدًا ولم تسحره وما اشتهاها. غير ان مواهب الكثيرين منكم جعلتكم طائفة ناهضة في فكرها وإنتاجها العلمي على المستوى العالمي وفي القضاء والشعر. ولن أوغل في الإطراء فهذا ممنوع عند آباء كنيستي. ولكني أحببت ان أتعزّى بكم، اثبتوا في الحق الحاضر كما يقول عهد الحب في كتابي.

أما بعد، فنحن في الخوف وان كنا ثابتين على الرجاء. هنا يأتي دورك يا دولة الرئيس اذا لم تنحل الأزمة حين صدور هذه السطور. وشعور الكثيرين انك انت منقذ ممكن ان لم أقل انك المنقذ اطلاقا لأرعى تواضعك. فكما جمعت كبار الساسة حول طاولة ثم حول أخرى، لك من القوة والنفوذ لتجمعهم للمرة الثالثة عسى لا ينهار البلد. انتم كنتم دائمًا على الصعيد الثقافي الروحي على علاقة وثيقة بإيران وليس من فهيم يعترض على ذلك لأن الإيمان يجمع وهذا دفع للمؤمنين. ولكنكم ما كنتم تنصاعون لأحد وما أغرتكم متعة الدنيا. وشاء تطوّر شعبنا وشاءت وطنيّتكم ان تكونوا في طليعة العاملين في السياسة وصار هذا الآن حسنا على ان تحفظوا وحدة البلد مع الذين يريدون حفظه. ومن هذه الزاوية قيض لكم ان تدخلوا التاريخ.

أدرك ان أحدًا منا لا يقرأ التاريخ مثلما يقرأه سواه. صعوبة مهمتك يا دولة الرئيس ان الخلافات ليست سطحيّة أي تبدو مسابقة على النفوذ ولكن على نظام التقية التي يدين بها كل اللبنانيين ولكن الخلافات أعمق من ذلك. السياسة في وضعنا ظاهر المرض وأما الباطن الذي من التاريخ وفوق التاريخ فلا أطلب اليك ان تعالجه. القلب لا يعالجه إلاّ ربّك.

لم يبق الآن من مجال ليحاكم فريق فريقًا. الحكومة لم تهمل المعارضة لقراءة مسودة القرار المتعلّق بالمحكمة. هذه حجة سقطت الآن جزئيًا ولن يهمل مجلس الأمن لبنان بأبيه وأمه ويقر النص. لم يبق في الواقع اذًا صدام بين اللبنانيين في هذا المجال وأحسب ان الجميع يريدون ان يعرفوا القتلة. يبقى موضوع عدد الوزراء من هذا المعسكر وذاك. بربكم حلّوا هذه المشكلة بالتي هي أحسن ويقال ان غير حل قد عُرض. أفهم من جهة اخرى ألا يعني تساهل الحكومة ما يقوله الفرنسيون: «اترك مكانك لاجلس فيه».

إن ما أدعوك اليه اليوم أن تجعل من حيث المنهجيّة العمليّة لا من حيث القناعة بينك وبين أمل مسافة مؤقتة من أجل تطهّرك الروحي لتقيم في مجلس لبنان كله وتضطر زعماء البلد الى أن يجالسوك في قلب لبنان ناسين مواقعهم الى حين لنخرج من الموت. هذا من باب الترتيب وما هو بكتاب موقوت لنحل مشكلة طارئة ولو ضخمة ولا نتذابح وما هو أعمق من هذا يترك للقناعات الايديولوجية التي هي عند حلفائك على عمق وتاليًا على حدّة ليس عليهما الآخرون.

في كل فئة من فريقكم شرعة ومنهاج لا يتسع الوقت لمناقشتهما. نريد فقط الآن ان نسعى الى حل الأمور البادية أو التكلم عليها ولو تعرضت لبعض خسارة في دنياك لأنك تعلو في ان تؤثر لبنان على نفسك. ادع زملاءك. أرجوك، الى الهدوء، الى كون السلام أفضل من الصراع لأن في الصراع شهوة والسلام اسم من اسماء الله الحسنى عندكم وعندنا.

فلنبدأ بهدنة بين الشوارع ووقف الإعلام التحريضي لنلازم منازلنا ومحالنا ونعمل ولا نفتقر ولنفهم المشاركة على انها ليست تعطيل فريق لفريق وانها تلاق صادق بين أهل السياسة ولو كان ذلك في احتدام.

أظن ان لم يحترق البلد بين اليوم الإثنين الذي اكتب فيه ويوم صدور هذه الأسطر ان مشاعر اللبنانيين اليك. انت الشاعر اجعل ترؤسك طاولة الحوار شعر لبنان حتى يبقى شعور فينا اننا قادرون وحدنا في معيّة طيبة مباركة على ان نواجه وضع البلد في صدق وحماسة ليكون الله في عقولنا وقلوبنا حميدًا.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

سلام هذا البلد / السبت 2 كانون الأول 2006

بين الجماعات المسيحية المختلفة طائفة «الكواكرز» او جمعية الاصحاب التي اسست المدرسة الانكليزية في برمانا احدى خصائصها انه اذا تعذر اتخاذها قرارا في الاجتماع تنهي الاجتماع ويذهب كل واحد من المؤمنين الى الصلاة لان كل قرار مبني على تصويت قهر للفريق المخالف.

طبعا هذا حلم في السياسة والدستور قال به مثالا لكنه لم يقل بالصلاة. اظن –وهذه الاسطر كُتبت ليل الثلثاء، اي خمسة ايام قبل نشره– لا يستطيع احد ان يطمئننا الى مصيرنا ليس فقط لان المستقبل لله ولكن عبثا لان المستقبل تصوره قوى متصارعة وليس ما يجمعها الا رفض الآخر. وهذه الزاوية ليست سياسية الا عرضا. ولذلك لن اناقش اهل المواقف واهل الفكر السياسي وهم ادرى مني في مجالهم. ولان الابواب كلها موصدة ولم تحصل هزة لفتحها ليس لي الا ان ابكي وهذا لا يهم احدا لكني لا املك قوة على الكلام. شيء مثل الصلاة يجب ان يحصل في القلب علّ الحب الحقيقي للبنان يلهم المتصارعين (والكلمة ليست شديدة).

في هذه الخضة الشعورية التي انا ملقى فيها ذكّرنا الاعلام هذا المساء ان قد مر اسبوع على اغتيال الشيخ بيار امين الجميل. في حركة اولى في القلب كل اللبنانيين كانوا الى هذا الشاب والى ابيه وامه. في الحقيقة كنا الى النضارة والى رفض الموت العبثي والحسرة على ذبول الورد. احببت اني منذ فترة كنت اتلقى حماسة هذا الفتى يدافع بها عن فكره الوطني كائنة ما كانت قناعاتي. لكني كنت احس ان الانسان الصادق ملتهب داخليا وغير محترق كالعليقى التي كلّم منها الله موسى قديما.

الى جانب الدموع التي ذرفها اللبنانيون على الوزير المغدور وما وراء الحادث الكارثة كان المطلوب الامعان في قتل لبنان ومن أهم مكونات القتل كم الافواه لان لبنان كلمة يراد تحويله كيانا اخرس ولبنان على هزالته تبكيت. تبكيت لبعض من ابنائه وللغارقين في حضارة اللفظ اي الذين يعيشون خارج عالم المعنى. رأيت في بيار الجميل على الاقل رمزا للرافضين. لا فرق ان ترفض خصومك السياسيين او احيانا بعضا من معسكرك. لكن الحياة هي قبل كل شيء رفض. وبعد هذا تكون قبولا ولكن لله. بيار الجميل في سنوات قليلة كان مسعى ولعل غيره سيحمله كائنة ما كانت تشكيلات الدنيا السياسية.

ان ننتصر سياسيا قد يضمن شيئا من الحقيقة والخير ولكن ليس دائما ولذلك كان الشك في مواقعنا الدنيوية احيانا منقذا من الضلال. الخطر في السياسة ان نتكلم فيها وكأنها الحقيقة المطلقة. نحن تبنينا من زمن طويل كلام قائد كبير في حكومات الاستقلال المتتابعة ان لا غالب ولا مغلوب. افهم هذا شعوريا في بلد دقيقة فيه العلاقات بين اهل الاديان ولكن في مجالسة الشورى التي اسمها ديموقراطية هذا غير معروف ولا حياء في ان نكون مغلوبين ان لم نكن مظلومين.

#  #  #

لا غالب ولا مغلوب تعني الا يكون شهيد. وانا افهم ان المسيحية والاسلام قائمان على الشهادة وهي وصول المغلوب ظاهرا اي المهراق دمه الى نصر الهي غير مسجل في عالم السلاح. فقط المقهورون هم الذين حاكوا الحب وبنوا الحضارة. عندنا نحن المسيحيين ان نصر يسوع الناصري تم فقط لما رفعه اعداؤه على خشبة وطعنوا جنبه بحربة.

اذا كنت تجيء من الموت اي كان هو اباك وامك فتربح يوما في الحدث السياسي وتخسر يوما وتعود الى الشورى في سلام لان خصومك في الحلبة السياسية هم ايضا يجيئون من لبنان وتشاربهم جميعا اذا كان الحين كأس الفرح بهذا الفردوس الذي يدعى لبنان. ولكن اذا كنت في احتراب او استعددت للفتنة فتتصحر الجنات في هذا البلد.

واظن اننا وسط هذا التشنج قادرون على ان نفهم – بلا انفصال سياسي – على رغم ذاكرتنا الجماعية اننا مهيأون حتى لا ننقسم طائفيا الى حد التقاتل. ما يدهشني ان مجموعات دينية مختلفة تستطيع ان تقول قولا واحدا. وهذا ما يدفعني الى التفكير في اننا ما كنا نختلف دائما لاسباب طائفية وان التواجه بيننا كان تواجه اطروحات سياسية مختلفة لا تعبر عقيدة دينية ولا تعبر احساس جماعات مختلفة المصالح. المأمول اذاً ان نجد لغة سياسية واحدة ولو اختلفنا في المواقع.

وقناعتي كاملة –مكره اخاك او بطل– اننا نستطيع ان نصير مجتمعا وطنيا واحدا ولو قال كبير في الصحافة اننا شعوب. ولكن هذا يقتضي ان نغير كليا تربيتنا السياسية فلا نظل عشاق نظريات لم تبق من هذه المرحلة ولكن نتبنى –للمرة الاولى في تاريخنا– المنهج البراغماتي نواجه فيه عمليا الامور بما ينفعنا كل يوم. كذا كانت سياسات دول كبيرة قبلنا وبقيت على هذه التجريبية المتواضعة التي لا تدعي تجديد الكون لكنها تكتفي بعيش كريم متواضع.

#  #  #

الى هذا هزني كلام السيد البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير الذي قال ما مفاده ان المسيحيين باتوا غير قادرين على التفاهم. هذا الكلام يحز في صدري الما والبطريرك اب لهؤلاء المتخاصمين فإن المسيحيين الذين ليسوا تحت رايته ليس لهم فاعلية سياسية. واذا كان تحليل غبطته صحيحا فهذا يرمي الكثيرين منا في جب الحزن.

نحن نريد ان يكون الموارنة واحدا ما امكن ذلك لقوم يتخاصمون ديموقراطيا. وقد سبق للموارنة ان تخاصموا طويلا في منهاج غير ديموقراطي.

هم يعرفون دروبهم الى حق هذا البلد عليهم ولا سيما انهم انشأوه. الآخرون قالوا –وتبنينا قولهم– ان هذا البلد وطن نهائي. لكنك على قولك هذا انت قادر على ان تمزقه. وبعد ان ارتضينا جميعا هذا البلد وتردد في الارتضاء كثيرون تأتي طائفة كبيرة وهي افعل حضاريا من عددها ليقول ابوها الروحي انها ممزقة.

الموارنة كانوا عصبة واحدة في قبول البلد. اذا هم اصروا على بقائه يبقى. كل مجموعة بشرية تقوم على تسويات بما في ذلك الكنيسة في عنصرها البشري. اذا كنت مصرا على القيم العليا تستطيع فقط ان تطلب القداسة من نفسك وتقبل بالضعف عند الآخر حتى يشفيه الله.

لقد احس البطاركة الكاثوليك منذ بضع من السنين ان المسيحيين يهاجرون باعداد رهيبة وقد اسف لذلك كبار المسلمين. بقاؤنا هنا يستحق الا نختلف كثيرا، الا يكون في صفوفنا احتقان ولا سيما اني لا افهم اختلاف الاطروحات السياسية العميقة بين المسيحيين حتى زين لي اني ساذج كبير ولا ارى الفرق في الطرح بين هذا الفريق او ذاك من الموارنة الا في ما يتكتكون به أي في مجالات عابرة لا تستحق الخلف.

في الاخير ارجو ان يفهم المسيحيون ولا سيما الكبار في صنع سياسة البلد ان من هو اهم منهم جميعا هو المسيح وان هذا هو الذي يجب ان يبقى في هذا البلد وليس فقط في السماء. الموارنة اولا ثم الارثوذكس وغيرهم من الاقليات المسيحية ان لم يفهموا ان بهاء المسيح على ارضنا اهم منهم جميعا فليذهبوا هم وسياساتهم بسلام وهم احرار ان يتركوا البلد بلا مسيح.

يا ايها السيد البطريرك الحبيب المتمتع بمحبة الكثيرين من اللبنانيين وتقديرهم جميعا نلتمس منك باسم يسوع ان تستخدم هيبتك وجلالك اللذين لا يشك فيهما احد ان تأتي لبنيك القادرين وان تأمرهم بالمحبة ان يتحابوا. ويكون هذا ثقلا سياسيا كبيرا وتزول الصحراء ونتحول من جديد جنات وتصبح بيروت عاصمة الفكر العربي من جديد وتنطلق من لبنان حرية العرب الذين سيصيرون حضارة معنى. فاذا امتددنا الى هذه الآفاق بالحب سنكون حاملين الفكر الذي كان في المسيح يسوع كما يقول عظيمنا بولس.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

الخطاب وما تحت الخطاب / السبت 25 تشرين الثاني 2006

كل تصرف سياسي يقوم على طبقات مختلفة من الخطاب ليست كلها على جدية واحدة او حرارة واحدة فما تريده حقًا تخفيه وراء كلام وتتكتك من أجل الخطاب المحوري الذي تحفظ به حياتك الحقيقية. اي ان كل خطاب لباس لموقف مقول احيانًا بدقة او مقول بفتور.

أنا لا أجهل مصالح تكمن وراء خطاب سياسي محض ولكني في آن واحد لست اقول ان السياسة كذبة كبيرة. اعتقد ان هناك موروثات سياسية وربما دينية تحفظ كيان الجماعات الدينية في بلدنا ولكني افهم ايضًا ان اختلاط عناصر سياسية وغير سياسية رافق في التاريخ ظواهر كثيرة بما في ذلك التاريخ الديني أفي الكنيسة كان هذا أم في الاديان الاخرى.

هناك طبقات كلام وتجمّع مسالك. هذا يذكرني بحديث جرى بيني وبين صاحب جريدة خارق الذكاء… سألته: كيف يجب ان نقرأ الصحيفة، هل الكلام المنشور نأخذه على ظاهره ام ثمة شيء آخر؟ قال لي ما مفاده ان هناك صيغ كتابة او رموز كتابة وهناك غير قراءة الظاهر.

كثيرًا ما رأيت نفسي ساذجًا في قراءة السياسة الفعلية لاني لا أفهم الاّ النص الظاهر ويبدو ان هذا غاية في البساطة. والبساطة كلمة اخرى لتقول الشفافية او لتقول العراء، ولا سيما اذا كنت تحاول ان تجيء من الله الى هذا العالم.

واذا تعقدت الامور ولم تبق قادرًا على التحليل فتذهب الى الدعاء اذا احسست انك كاتب تنزل من الحياة الروحية الى دروب التاريخ المضني الذي يعيشه شعبك واذا كنت تخشى ان يحل الشر في شعبك. والشر هو الدم اولاً والدم هو الانقسام والهروب من العيش الواحد. ولست مطمئنًا الى شيء. وهذه الاسطر كتبت اول هذا الاسبوع لان تقنيات الطباعة تقضي بذلك وقد تجري حوادث كثيرة بين ليلة كتابتي ويوم صدور هذا المقال.

ما وددت قوله “إن سلام شعبنا أهم من كل موقف سياسي واهم من كل ايديولوجية. ان يحكم غيرك أو ان تحكم أنت خلاف لا قيمة له اذا قورن باطعام اولادك وتدريسهم وتطبيبهم. أظن اننا لم نفهم بعد في لبنان ان الحياة اهم من الفلسفة حول الحياة وان العمل السياسي هو قبل كل شيء ان يحفظ انفسنا من الموت والى ما يقود اليه. انا ليس عندي مشكلة، ان تسيطر هذه الشريحة او تلك. امنيتي ان يسودنا المتنورون كما حلم بذلك افلاطون والفارابي حتى يأتي الحكم خدمة.

اذا اهتممت بالعيش حقًا، بالخبز والدواء والمدرسة وما اليها، يقيني ان حجم السياسة يتقلص. واذا سودت العيش الوافر على كل أمر آخر يتحول البلد ورشات عمل وتغدو السياسة وسيلة لقيام هذه الورشات.

ارفعوا القهر عن هذا البلد. ما عندنا هو قهر القبائل التي لا تحس انها جزء من الوطن، اظن ان كل فريق يرى نفسه مؤهلاً لانشاء دولة عادلة، طاهرة ومقاومة. اي ان ثمة بعضًا من سوء الظن في الآخر. المشكلة في هذا البلد ان الحذق فيه كبير وان الطهارة ليست في خدمته. الانسان يطلب الثقة. امنحه اياها تحسن معاملته. من يعيد الينا الثقة؟ لا بد من محاولات جديدة لاقناع كل فريق ان الفريق الآخر لا يمارس الزبائنية او التبعية لقوم في الخارج. ان المسألة هي في هذا ان تبين انك لا تلعب لعبة الآخرين ولكن هذا قد يقتضي بعض الوقت، والسؤال الاكبر هو ماذا يجعلك تلعب لعبة لبنان اي لعبة المواطنة التي ليس لك منها منفعة مال او سلطة او مجد.

لا يهمني ان نكون واحدًا في الحكم اذا لم نكن واحدًا في الحياة. كل حكم في هذه الدنيا الى زوال. اما بقاؤنا معًا بلا ايديولوجية وبخاصة بلا تخويف ولا احتمال سفك للدماء فهذا ما نسترضي الله به. ان سيادة الطوائف معًا ليست سيادة لاحد وذلك في مسيرتنا الى تجاوز الطائفية الى حكم مدني. ولكن اذا سادت طائفة واحدة فلا يمكنها ان تسود بسياسة حكم مدني. هي لا تسود بايمانها لأن الايمان مع القوة يستحيل الى سياسة اي الى انشقاق. اية سيادة لأية طائفة قهر. هذه سيادة بشر وتاليًا مختلطة بشهواتهم.

وسيادة فريق تعني في آخر المطاف نكران المواهب عند الآخرين وتاليًا التفريق الديني الذي هو تعبير اضطهاد. والذي هو فوق السياسة لا يتنازل الى من هو دونه فهناك حروب بلا سلاح. فالاقوى صامت والصامت لا يشارك حتى يقلب المعادلة ويصبح اكثريًا. وهذه هي لعبة الديموقراطية التي فيها أسواء كثيرة ولكن في لعبتها العملية تحافظ على امنك وسلامتك وحرية كلامك حتى تختل الموازين ويتكلم الصامتون.

كل قوة قاهرة. لكن الديموقراطيات الراقية تجعلك تتكلم ولا تجعلك تنتصر بالقوة بالسلاح ولكنك تنتصر بالقناعة ونشر القناعة اي بالعدد. وعلى رغم هذا الرقي ففي مرحلة من مراحله النضالي هناك دائمًا قهار. لذلك حلم افلاطون في الجمهورية ان يحكم البلد فلاسفة لأنهم في المبدأ أهل الحقيقة وأهل خير ولا يكرهون.

دائمًا كان يهزأ بي بعض السياسيين الكبار في الغرب لما كانت ظروف حياتي تسمح لي بالتكلم اليهم وأسألهم اذا كانت الطهارة ممكن جمعها الى السياسة. المشكلة ان السياسة ميزان كالقضاء لكن القضاء ليس فيه مصالح ان ابعدنا عنه الرشوة.

عند اليونانيين القدماء كل الاشياء بما فيها السياسة تستقيم بالعدل فاذا أخل بكفة من كفتي الميزان لا يكون عندهم إذًا موافقا لنظام الكون ومن نظام الكون يأتي الفكر الصالح وكأن المبتغى ان يقتنع القوم بنسبية السياسة ونسبية اي تدبير من تدابير الحكم.

هذا لا يعني ان ادارة الدولة ليس فيها ايمان بأي طور من اطوار التاريخ. ففي الحقبة التي نعيش فيها لا بد من اعلان ان اسرائيل هي العدو واننا متحفظون جدًا عمن يناصرها. هذا يعني ايضًا اننا نشك كثيرًا في مشروع الشرق الاوسط الكبير لأن قلبه اسرائيل. وبالقوة نفسها نرفض الشرق الاوسط الاسلامي لأن المسيحيين في العمق مرفوضون فيه ولو استرضوهم ببعض الوظائف اي انك لا تستطيع اذا كنت سوريا ان تحتويك اية عمارة اقليمية او عالمية.

“تعالوا الى كلمة سواء” في الحقل السياسي تعني ان نرفض معًا ما يفرقنا وألا نقبل بأي محور. هذه كانت سياستنا منذ رفضنا حلف بغداد ومنذ البيان الوزاري لحكومة رياض الصلح العروبي الصميم الذي أبى ان ندور حول اي بلد قريب او بعيد. هناك فرق بين ان تصادق وبين ان تترنّح بمعاشرة هذه او تلك من الدول.

شعوري اننا في حاجة اليوم الى مبرات الاطهار والى ادعيتهم لنمنع عنا الويلات ونأكل لقمة عيش مع اطفالنا بهناء وان يأتينا نشاطنا السياسي اقرب ما يكون الى عقلانية هادئة رافضة للانغلاق حتى تدلنا قلوبنا المطهرة على حل مشاكل هذه الدنيا فنجعلها، اذ ذاك، على ضعفنا فردوسًا. أيها اللبنانيون، لا تضيّعوا فرصة فردوسيتكم على الارض.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

مجتمع بلا دماء / السبت 11 تشرين الثاني 2006

من يحمل وزر قطرة دم فالدم سياسي في لبنان؟ غير أن الجديد في البلد ان ليس عندك اصطفاف اسلامي أزاء اصطفاف مسيحي. الأمر الذي يجعلنا للمرة الأولى لاعبين في ساحات دوليّة متنافرة أو لاعبين لها. واللاعبون على ايديولوجيا تحدهم أو تحددهم أو بلا ايديولوجيا لكن أحدًا ليس في فراغ. فقد اختار كل منا فريق لعب ولو لم يدخل اللعبة لكنه صفق لها. اللبناني لا يتفرج على شيء ولو مست قواه ويحسب انه يستطيع ان يحيا بقوى مستعارة، داعمة فيه أو به مصالحها وهو دائما يتصور لنفسه حجمًا ضخمًا ولو كان في ذلك حالمًا.

ما نتمنى جميعًا ان يفهمه اللبنانيون ان ثمة دائمًا دولاً متسلطة تقف وراء اية كتلة قديمة أو جديدة تتشكل ولكن يحسب ان يفعل ذلك خدمة للبنان، الأمر الذي يجعلك في حلف موضوعي مع هذه الدولة أو تلك. منذ أيام قليلة زارني صديق فرنسي عرفته هنا منذ عقود. سألته عن فرنسا فقال انها ليست مستقلة كل الاستقلال عن الاتحاد الاوروبي ولا عن أميركا. قلت في نفسي: من باب أولى ألا نكون مستقلين عن دولة فاعلة تدعمنا وتحفظ سيادتنا. ولكن هذا شيء يختلف عن الزبائنيّة اللبنانيّة التي لا تفتش عن دولة ذات نفوذ ترعانا جميعًا لنتمكن من ان نختلف في ما بيننا وينصرها هذا على الدولة التي ترعى مواطنين لنا من كتلة أخرى.

المصيبة ليست في تحالف دولتنا ودول أخرى ذات وزن حضاري والمشاعر العربيّة تبقى اياها لكن المصيبة ان ننقسم بعضنا على بعض أو نلتمس دعمًا خارجيًا لنوطّد الانقسامات الداخليّة.

أظن اننا نستطيع سعيًا الى وحدتنا ان ننتقل الى معرفتنا وطنًا واحدًا. لنا ان نتخذ قرارًا جديدًا لم يسبق له مثيل واضح في تاريخنا الحديث اللاحق لعصر الإمارة. الغريب ان الإمارة كانت وحدها نظامًا علمانيًا في تاريخ الجبل وان الدول الحامية للبنان عند نشوء المتصرفية جعلت البلد ينتظم في الطائفيّة التي قام عليها مجلس الإدارة ومع تجميلات قليلة فقدنا ما كان يصبو اليه الأمراء أي نشوء بلد واحد ليست له هيكلية طائفيّة هذا ما وجب استعادته.

#  #

#

ان تنوعنا السياسي –ولم يبقَ تنوعًا طائفيًا اليوم– يؤهّلنا لأن نفتح نوافذ على كل العالم. ونغلق هذه النافذة أو تلك بتغيير الأزمان. المعيار –في المستوى الأدنى– معرفة قدرة من نحالف وصدقه ومعرفة احترامه لاستقلالنا الذي يبقى نسبيًا الى الأبد لأننا لسنا في مصالح الشعوب الكبرى أو الوسطى بلدًا تافهًا أو بلا نفع استراتيجي لأحد. مشكلتنا مثل عظمتنا. مشكلتنا اننا طريق ومنها تأتي عظمتنا اننا كنا خلال ألوف من السنين بودقة حضارات وكنا على بهاء كبير في حقبات من التاريخ كثيرة. من ذلك كان هذا البلد أوسع بكثير من حجمه ولم يظهر من يوحّده.

ليس من سوء في الاختلاف بما في ذلك السياسة الخارجية. السوء ان نكون زبائن للأجنبي. الخروج من الزبائنيّة يعلن وحده انكشاف لبنان جديد قائم على المواهب وتنظيم اداري، عقلاني، صارم واقتناع الجميع بانهم ممثلون في المجلس التشريعي تمثيلاً فاعلاً. واصطلحنا على نظام حكم برلماني محوره اعتبار مجلس الوزراء مجتمعًا صاحب السلطة الاجرائية. وهذا كله قابل للتطوّر. وملتئمين حول ان القوة ليست قوة طائفة واحدة أو طائفتين متحالفتين أو أكثر ومقتنعين اننا قادرون على ان نختلف على كل شيء الا على العيش المشترك.

العيش المشترك عبارة ابتدعناها لنقول اننا لا ننقسم على أساس طائفي ولا نقول بفائدة هذا الانقسام.

اليوم لسنا منقسمين على هذا الاساس اذ بتنا كتلتين فقط كل واحدة منهما مختلطة الهوية الدينية، في الحقيقة انقسامنا الحالي توتر ضمن الديموقراطية لكنه مهدد بالاختلال عنها لكونها ترفض التذابح وربما لكونها قامت في بلدان ادعت في تاريخها الحديث ان سلامة الأجساد هي منطلق كل تلاق.

أظن اننا في هذا البلد نحتاج الى الاقتناع الحقيقي والصادق ان الآخر موجود وان الحياة تقابل أي تفاسير مختلفة لما يجب ان يكون أو لا يكون اذ الناس مختلفو العقول من جهة ومختلفو المصالح من جهة ومع ذلك ينبغي ان يتعايشوا بسلام.

هناك آلية دقيقة للوصول الى السلام الذي يعني احترام الحياة ولو بقي كل فريق على اقتناعه. هناك الأدب السياسي وغير السياسي وهناك مستوى التهذيب والحضارة في البلد. هناك آداب ديموقراطية في الحياة العادية بحيث تختلف بحدة ولا تشتم ولا تؤذي مصالح الغير. وهذا مقتن كثيرًا عندنا مع بعض تملق أحيانًا اذا تحدثنا في شؤون الوجود. لكنه يختل اذا تحدثنا عن الطوائف الأخرى أو المحاور السياسية الأخرى.

هذا الذي بدا متعذرا حتى الآن ينبغي ان نقتحمه وان نستدخله وعند ذاك لا يخيفك تشنّج مهما بلغ من القسوة. وهذا يتضمّن خيار اللاعنف كما انتهجه غاندي لأن سلامة الأجساد في الوطن أهم من كل نقاش سياسي.

#  #

#

الى هذه التأملات لبنان على كف عفريت. هل ينجينا العقلاء اذا عقلوا أم اننا لا نزال في حاجة الى خلاص إلهي أو الى «نصر إلهي» ينصر الله فيه عباده جميعًا بحيث يفتشون معًا عن نصر بسيط، شعبي، ربما على أنفسهم. انه لشأن عظيم جدًا لو عرف أهلنا معنى السلام. ألاّ يموت أحد ذبحًا هو خير انجاز يقدمه من بيده حفظ وحدتنا.

الألم هو المشهد الوحيد في الشرق بين بغداد والقدس. أرقام لا تطاق بين العراق وفلسطين الحبيبين. اليوم ايها الأقوياء ان سمعتم صوت الله لا تجعلونا عراق آخر. لقد قاسى لبنان منذ بدء السبعينات آلاما لا توصف. يا أيها القادرون على ألاّ يُراق دم حافظوا على أهل هذا البلد خارج نطاق الموت. لا تأخذوا مكانة الله بالسيادة على الحياة والموت. بعد ذلك كل معضلة الى حل. اذا كان هذا قراركم يرضى الله عنكم ويبارككم تبريكاّ كثيرًا.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

إلهامات في ايطاليا / السبت 4 تشرين الثاني 2006

هل لوجه الله مطارح يتجلى فيها بامتياز؟ لاعتقاد بعض بهذا انتهينا، كتلة صغرى، الى دير Bose في مكان قصي من الشمال الغربي لايطاليا حيث ما يقارب سبعين راهبا وراهبة يطلبون ربهم بصورة فريدة. ومن الفرادة ان هذه الجماعة الكاثوليكية تتقبل مسيحيين آخرين في عضويتها. أردنا هذه الجماعة لنصلي معها على القلة التي عندنا من اللغة. ذلك ان المزامير التي يكثرون من تلاوتها وفصول الكتاب كنا نفهمها بناء على العربية.

لقد الفوا عباداتهم وانتقوا لها ما انتقوا والمصادر واحدة ووجد أسقف فهيم أباح لهم الحرية. الترتيل واحد حينا او على نظام التناوب وموحد الصوت يرتدون ثوبا رهبانيا في الصلاة فقط وخارج البيعة ثياب مدنية بسيطة لا افتعال فيها للتشبه بالفقراء وفي العبادة لا تقليد للأباطرة وبعامة ليس من التماس للزينة. هناك فقط المصلوب الفلورنتيني المعروف وأيقونة بيزنطية واحدة تتغير حسب الموسم الطقوسي.

اذا أكلت لا تجوع ولا تتخم. تتناول خمرا طيبة كما في كل أديرة العالم. هذا طعام النصارى كما كانوا يقولون في بغداد في العصر العباسي والاخوة يغتذون بخاصة مما تنتجه أرضهم ويصنعون الكثير مما يحتاجون اليه. ذلك ان الاثاث الخشبي مصنوع بجمال يبلغ حد الاناقة أحيانا. هناك تجتنب الغنى المبتذل واصطناع الحاجة المثقلة ولا تسلك مسلك الرهبانية المتقشفة حتى الشراسة لان نسك العقل والقلب أنجع من نسكيات الجسد وأعمق والقاعدة في الرهبانية كانت الاعتدال على مدى الأزمان.

قرأت قانون أو دستور Bose ويتضمن ما نعرفه عن الفقر والبتولية والطاعة. وعلى هامش النص مصادر هذا القانون في الكتاب المقدس. في المضمون العميق كل هذا من التراث ولكنه مسكوب في قالب عصري. هناك مرحلة ابتداء من ثلاثة اشهر او مرحلة مريدية كما يقول المتصوفة ليترك الشاب او يبقى واذا بقي له مرحلة النذور. أظن ان النص الذي قرأته يدخل القلب دخولا سلسا ويجعلك تحس ان الرهبانية –إن عُرفت– هي من الانجيل او من شدته وأقصى متطلباته وتفهم ان الانجيل لين وان نير الرب حمله خفيف ان أنت أحببت وطلبت النور.

لعل الجديد في ما رأيت ورأى صحبي انك مع جماعة لا تتفرد باستقبال عضوية الكاثوليك ولكنها تتسع الى معايشة مسيحيين آخرين فهناك الى جانب انجيليين او ثلاثة اسقف أرثوذكسي يلازم الدير ستة اشهر في السنة ويشترك في الصلاة وهو شديد التمسك بعقيدته ولكنه يرى نفسه معزى. هناك لا تسمع نقاشا مذهبيا ولا تلمس أي احتدام بين الاخوة وتتعلم السماحة وان تزيل سوء الظن وان تلوم في موضع اللوم وان تغفر دائما ولا تستعلي فقد سألت مرة عالما كبيرا بينهم عما يعمل غدا فقال لي: غدا سأكون في المطبخ طوال النهار.

#  #

#

الدير مكان خلوة للذين يحبون ان يتوبوا وان يتجددوا بكلمة الله. لذلك يعقد الرهبان حلقات دراسة للكتاب مرة في الاسبوع لمن جاء اليهم والكثيرون يأتون فقط في الآحاد للمشاركة في القداس واذا استمعوا فيه الى العظة واقتبلوا الكأس المقدسة يعيشون ساعات من الدفء في ما بينهم ويذوقون الله وما أخذوه من قدوة حسنة وتتبارك بيوتهم بعد ذلك بما يصير فيها من حب.

فالدير اذا كان مقرا للبهاء الالهي انما يصبح لهذا البهاء ممرا الى قلوب المعذبين في الارض. هنا تفهم ان الذين يسنّون القوانين ويؤسسون الدول انما يفعلون قليلا لأن حيلة الناس ان يخالفوا القانون والدولة تزول ككل شيء أرضي او تتدمر مع انه لا غنى عن المؤسسات تقيمها والقوانين تسنها والدول تحميها ولكن ذلك زائل ولا بد أن تعمل في الزائل وعبقرية السياسي ان يعرف ذلك ويستمر في البنيان ويزدهر به في آن. لكن الدولة لا تجعل القلب نيرا او مستمرا. ولا يقودنا اهتراء الاشياء الى ان نذهب الى الصحراء او أن نهمل عائلاتنا ولكنه يعني ان نجدد أنفسنا بالروح وأن نفهم ان النور كان دائما في كتل صغيرة تحتضنه وهو يرعاها. تلك هي المأساة ان المؤمن نور العالم والناس أحبوا الظلمة على النور لأن أعمالهم كانت شريرة وان أنت أوجدت سجونا للمعاصي فلا تستطيع ان تسجن كل الناس عن كل خطيئة وتستمر الخطايا في السجن او تولد فيه. الدير كهذا الذي كنا فيه يقول اننا قائمون على الرجاء وان النور سوف ينبلج كاملاً في اليوم الذي يعيّنه لك في حكمته وإنّا الآن نرى أضواء تزيل بعض العتمات فإن «النور في الظلمة يضيء» ربما لا نستطيع ان نعمل شيئًا الا ان نكون جماعات نورانية خطاياها قليلة وبرها كثير. ان ملكوت الله عند القلة أو هو مؤلّف من القلّة وبعد هذا طوائف فيها حنطة وزؤان معًا لأن الطوائف جماعات ولن يستأصل منها الزؤان قبل اليوم الأخير.

ويمكن ان تعرف من في طائفتك مطفأ ومن هو وضّاء ولا سيما اذا كان التعليم ضعيفًا أو قليلاً واذا كان القليليون يسهرون على التقويم. غير ان السيد قال لمن لا نعرف بالضرورة هويته: «أنتم نور العالم» وكذلك: «أنتم ملح الأرض» هؤلاء يمكن ان يكونوا من كل الأمم ويمكن ان يأتوا من المشارق والمغارب ويطرح أبناء الملكوت خارجًا. رُبّ أخ لا يكون على عقيدتك ورُبّ من سمّي أخًا ليس بأخ. وتذهب الدنيا ويعرف الله مختاريه فتُشكل كنيسة السماء ممن نعرف وممن لا نعرف. لكن الله واضع في قلبه الذين يذهبون كل يوم الى الشهادة.

#  #

#

هذه الجماعة في دير Bose مسكونية حتى العظم اذ انها تقيم في الصيف لقاء حول روحانية الكنيسة القديمة (شرقية أو يونانية) ولقاء آخر حول روحانية الكنيسة الروسية وذلك على مستوى علمي فائق العلو. ويشترك في هذين المؤتمرين اختصاصيون من كل الكنائس. وفي احساسي ان هذا التراث الشرقي يراد به إغناء الكنيسة الكاثوليكية الغربية التي تسعى الى مناهل الشرق منذ عقود وعبّر عن هذا السعي إصدار نحو خمسمئة كتاب للآباء اليونانيين والآباء اللاتين. هذا عمل فرنسي أثّر نسبيًا في المجمع الفاتيكاني الثاني ما في ذلك ريب.

أما اللبنانيون الثمانية الذين حجّوا الى هذا المكان فاستمعوا الى محاضرة خلابة عن الكنيسة الأنطاكية ألقاها عالم بنديكتي ضليع من الفكر الشرقي فكشف الأسس ورنا الى الاتفاق واتضح انه أراد ان يرسخ الإنطاكيين (الأرثوذكس والموارنة) الذين كانوا هناك على انطاكيتهم. هذه التي تجذب الجميع اذ في انطاكية «دعي التلاميذ مسيحيين للمرة الأولى».

كذلك حاضرنا رئيس الدير في الخلاص وفي صعوبة الانسان المعاصر في فهم هذه المقولة وتكلم أسقف ارثوذكسي وعلماني ماروني في الموضوع نفسه. الأرثوذكسي في رؤية كتابية – لاهوتية والماروني من موقع التحليل الأنثروبولوجي المستنير بالايمان. فكان تلاحم بيننا وبين الرهبان وكأننا عشنا حياة عائلة واحدة.

طرحت أسئلة دقيقة عن الخلاص في المسيح وعن خلاص الأمم التي لا تدين بأزلية المسيح دون التعرّض لديانة معينة. وخلصنا الى ان الوضع النهائي للنفس البشرية هو في سر الله الراحم جميع البشر. لم يكن هاجسنا ان نبحث علاقة الأديان بعضها ببعض ولا ان نقيّمها تقييمًا ولكن كان همنا ان نغوص في علاقة الرب المباشرة بالبشر.
أعطيناهم وأعطونا. أحببنا بساطتهم المذهلة وضيافة قلوبهم وبراءة طفولتهم الروحية المستوية على رجاحة عقل. وأظن انهم اقبلوا على انفتاحنا الكبير عليهم وعلى ما بنوه في طريقهم المنور الى السيد وكأننا ترهبنا خلال إقامة خمسة أيام وكأنهم مسّوا ما كنا نحمله من مسيحية هذه البلاد.

أدركنا ان قلوبهم كانت الينا طوال الحرب العبثية الاخيرة وفهمنا ان الصلاة عنصر من عناصر السلام لأن الله سلام. عدنا الى لبنان ولم نغادر الطيّبات الروحية للمكان وكأننا غلبنا المدى بالحضور الإلهي. ان نرجو ان نبقى على مسيحية جدية وان يظل هؤلاء الاصدقاء على مجاهدتهم المباركة. هذا هو التحقيق الحقيقي للوحدة والباقي يُزاد لنا في اليوم الذي يعيّنه للكنيسة جميعًا ربّنا في غزارة رأفته.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

أحبوا أعداءكم / السبت 28 تشرين الأول 2006

العدو، تحديدًا، هو من عاداك هو وكرهك وتأمّر عليك وأخل بعملك ونمّ عليك وقتلك في نفسه خشية من عقابك الفعلي. هو من ألغاك اي أخرجك عن نفسه ورغب في ان يزيلك من الوجود. قد لا تجتمع كل هذه السيئات مرة واحدة عنده وقد تتدرج لكن الاصل هو انه لا يحتملك ولا يطيق رؤية وجهك ولا استماع كلامك. وغالبا ما ظلمك مجانا وانت ما آذيته. ويجتمع عليك كل سخطه لان شرا فيه يتأكله فلا يستطيع ان يرى فيك خيرا ولا حسنا ولا يجد مكانة لكما معا لانه قرر ان الوجود ينبسط له ولمن اعارهم هو الحياة.

عرف القدماء هذا فقال الرومان: «الانسان ذئب للانسان». وعرف بعض من الأدباء ذلك فقال جان بول سارتر: «الجحيم هي الآخرون». اما الشعر العربي فقد كان فيه هجاء وهذا جزء من القبلية. انها هي البغض الجماعي الذي قد يكون اقل حدة من البغض الفردي لانه ليس محسوسا مثله وفيه شيء من تخيلك للقبيلة الاخرى. غير ان نظام القبائل العربية مارس الجوار ومارس الحلف اي التقارب بين العشائر. وكل مجتمع ينمو نحو القبلية كالمجتمع اللبناني لا يجهل العداوة الجماعية فقد تكره انت طائفة اخرى عندنا ولو لم تكره واحدا منها. اي انها كراهية بلا محسوسية لانك لا تجرؤ على المعرفة ولا تمحص الدوافع التي تدفعك الى البغض اي انك لست فاحصا للذاكرة الجماعية فتعلق فيك احداث قريبة او بعيدة وتتأصل فيك البعيدة كأنك واحد من التآمر الذي قيم به على جماعتك مع انك لم تكن في حادثة عمرها مئات السنين. هذه هي القبلية التاريخية التي تنزل عليك من المخيلة وانت لم يشتمك احد ولا اضر بك احد. انها جماعية التاريخ وفاعليته. انت لا تغفر للآخر ما قام به اجداده ضد اجدادك وقد يكون انسان الجماعة الاخرى صديقا لك ولكنك سجلته عدوا بسبب من انتسابه. انها لحرب لم تخضها. ورثتها كأنك كنت حاضرا لمشاهد قديمة. كيف تتخطى التاريخ او كيف تتخطى الجرح الشخصي. ذلك هو السؤال.

#  #

#

فلسفيا، لم يحتضنك العدو. لم يحس انك تؤلف معه كتلة انسانية غير قائمة على منافع الارض. لم يفهم انك ترثه وانه يرثك ولم يدرك ان الانسان ينتمي الى قلبه المفتوح الذي يتسع للكثيرين وينمو باجتماعهم فيه. لا شك في ان ثمة مجتمعات مكونة سياسيا أو طائفيا (والمجتمع الطوائفي هو أيضا سياسي لأن القلب الطاهر لا ينشئه). انه ناشىء من الخوف في كثرة من الأحيان، من التراص الخائف ولا علاقة له بالدين في الحقيقة. في هذه الحال الدين ذريعة لحماية النفس وكثيرا ما كان ذريعة للانقضاض على الآخرين الذين هم اعداء لأنهم في الاخير اصحاب سياسة اخرى. الطوائف مجتمعات مغلقة عندما تقوم ازاء الآخرين. ويؤسفني رجوع الناس الى القيم الدينية كلاميا ولا يوظفونها لكسر الاقفال ويرون قيما واحدة او متقاربة هنا وهناك ولكنها في الحقيقة تبقى ملك الله في ذاته ولا تصير ملكهم بالارث بحيث تبقى متشددا بالطائفية ولا ينتقل اليك شيء من الخلق الديني وتحسب نفسك انك تنتسب الى الله.

أنت تكره الآخر لكونه آخر اي لم يرصف نفسه معك في العلاقات الفردية او في علاقات الجماعات. والآخر يجب ان يموت بطريقة او بأخرى وفي الواقع ان قلبك هو الذي مات على رغم ما ظننته فيك من قوة. ثم تخترع لنفسك صورة وجود وما هو بوجود فتقول بعلاقات طوائف اي علاقات مسيّسة هي في التنظيم القانوني اي في صورة غير وجدانية للجماعات. هي حفظ او محاولة حفظ للناس في دنياهم اي خارجا عن القلب لئلا يعم الموت وليس عدم نشر الموت هو الحياة. وما صح من اعدام الآخرين معنويا او في العمل السياسي هو اياه اعدام الفرد للفرد معنويا وشيء من تحطيم وجوده.

هذا ما عرفه يسوع الناصري: «سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك» (متى 5: 43). في الواقع ان العهد القديم قال فقط: «تحب قريبك كنفسك» (لاويين 19: 17) ولم يدع الى كراهية. واحتسابي في قراءة كلام يسوع انه يرد على اليهود ولا يرد على الشريعة اليهودية. هم اخذوا يكرهون الاعداء لكونهم غوييم اي من الامم (الاخرى) او باللغة اللبنانية من الطوائف الاخرى. فعندما يقول السيد: «احبوا أعداءكم» يسقط جدار العداوة اذ اصبح هو سلام العالم. يبطل الطوائف بمعناها المجتمعي المتراص المنغلق. يبطل الشرقية والغربية في بيروت كما يزيل الجدار الفاصل بين دولة اسرائيل والضفة الغربية. يلغي الهويات التي اقامها الناس في ما بينهم لأن الهوية اذا كانت مشتقة من «هو» اي ما تحدد بها نفسك ازاء الآخر فهي من الخطيئة. اما اذا كان الـ «هو» هو الله فهويتك وهوية الآخر هي الانتماء الى الله وحده وتاليا ليس في الحب من هوايات دنيوية.

ولا يكتفي يسوع بالدعوة الى حب الاعداء بل يزيد «باركوا لاعنيكم، أحسنوا الى مبغضيكم… لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات». الهوية هي التي تكتسبها من البنوة الواحدة. ولكي يضرب السيد كل فارق بين البشر قال عن الله: «انه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين».

انت والآخر (المسلم والمسيحي في هذا البلد على اختلاف المذاهب) واحد بسبب من الانتساب الواحد الى الله ويستتبع هذا الانتساب الواحد الى البلد. فالوطن هو المكان الذي نعيش فيه الكلام الالهي او ليس بشيء. الامة هي امة الله والباقي قيود في سجلات الدولة.

ما كان يهم يسوع الناصري ان يقطع شروش العداوة وهذا ممكن ان بادر المكروه بالمحبة. المبتغى الا يولد البغض فيك بغضا وان تحاول شفاء الآخر بالحب. قد تجمع جمر نار على رأسه بهذا الحب كما يقول بولس. لكن الكاره قد لا يرتدع فتكون انت خلصت نفسك من شعور العداء ويبقى هو وحده في العداوة.

كل فكر غير هذا الفكر يعني اننا نجعل الآخر في كفة ميزان ونحن في كفة ميزان اخرى. والايمان الكبير ليس فيه ميزان. لذلك اختتم المسيح كلامه في هذا الفصل بقوله: «كونوا كاملين كما ان اباكم في السموات هو كامل». في السياق، الكمال يبدأ في الإعراض عن رصف البشر كتلا كتلا او جماعة اصدقاء وجماعة اعداء. الكمال يلغي المقابلة ويشد البشر جميعا الى وحدة واحدة وهي وضعهم في الله فانه وحده لحمتهم. وهو لا يقابلهم بعضهم مع بعض اذ لا يعرف الازائية. الطائفة الالهية الوحيدة هي التي يراها في نفسه اي التي ادركت بنوتها له بالايمان، وادركت الاخوة فيها بالمحبة. وبعد هذا كل العقد الى انحلال او ليس من عقد.

البغض تضخم الأنا المستقلة عن الأنا الاخرى. ففي الحب «أنا من اهوى ومن اهوى أنا/ نحن روحان حللنا بدنا» أنا يسعدني ان تراني كما ترى أخي بعطاء من القلب واحد بعد ان ازلت أناي المستبدة وصرت كما يراني اخي بمحبته فأتكوّن به ويتكوّن بي وما هو لي هو له. هو لي لانه هكذا يريد.

لا ضربة للعداوة الا بانسكابي فيك وانسكابك فيّ ليكون الله واحدا فيّ وفيك.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

في توديع رمضان / السبت 21 تشرين الأول 2006

أودّع رمضان مع المسلمين وانا في الغربة. حدثني أحد أصدقائي فيما كان في رأس بيروت منذ أسبوعين انه سمع خطيب المسجد في شارع بلس في بيروت يقول: «نحن لانعف عن الاكل ولا نصوم لمجرد ان نصوم وننقطع عن الاكل بل لنشعر بجوع الى وجه الله لنتغذى منه. الأكل واللذات تلهينا عن ذكر الله فاذا صمنا تفرغنا عن شهواتنا لننظر الى وجه الله». حرفيا كان هذا الاستشهاد أم غير حرفي انه قول ملهم وما من شك ان الكثيرين يحسون بذلك.

كذلك أورد لي هذا الصديق نشيد المسحراتي في حيهم في طرابلس ما حفظ بعضه: «طرقت باب الرجاء والناس قد رقدوا / ورحت أشكو الى مولاي ما أجد / فقلت في كل نائبة… يا من عليه… أعتمد / مددت يدي في الظل خاشعة / اليك يا رب وبحر وجودك الامل». فاتتني كليمات غير واضحة في التسجيل ولكني أحسست ان هذا الدعاء المنشد يحرك نفس الصائمين.

منذ أيام كنت في بيت أهلي في طرابلس وسمعت جوقا يصعد الى البناية مع طبال ولما وصلوا الى البيت سجلت نشيدا عن خلعة فاطمة. وأطللت على المنشدين فأنشدوا عن عرس لليهود حضرته السيدة فاطمة التي سألت النبي اذا كان يمكنها ان تذهب الى العرس. «صلى النبي ركعة فنزلت على يده خلعة من حرير ومخمل. قال قومي قيسي الخلعة. طلعت طولها بالطول. لما رأوها (هكذا) اليهود قالوا أعطينا اياها. قالت تأدبوا يا يهود هذه خلعة القدرة. / قالوا اعطينا منها قطعة. أعطتهم قطعة قطعة وذكرت النبي المصطفى».

راقني هذا الادب الاسلامي الشعبي كما راقتني الموعظة. وعشت تلك الايام تأتيني من مسجد قريب جدا من بيت العائلة أناشيد تتبع أذان صلاة العشاء. وقرأت أحد الأناشيد يأسف فيها واضعها لرحيل رمضان. ثم يقول:

نبكيك يا شهر الصيام بأدمع

تجري فتحكي في الخدود سيولا

أسفًا على الأنس الذي عودتنا

وصنيع فعل لا يزال جميلا

شهر الأمان والصيانة والتقى

والفوز فيه لمن أراد قبولا

لاحظت الشعور نفسه عند المسيحيين الشرقيين الذين يأسفون لتوديعهم الصيام والفصح وكأن الشعور الديني واحد عند اهل الله اذا ما مارسوا.

ورمضان شهر رياضة على التقوى وانتهاج الآداب الدينية في صفاء العبادة ومبرات التهجد وذلك على اساس النية والاخلاص انه سير الى الله نفسه او سير في الله كما يقول اهل التصوّف. انه حج الى رب البيت، الى وجهه من وراء النص او ما بعده ففي الحديث القدسي (اذا لم تخطئني الذاكرة) «الصوم لي». كلام يفاد منه ان الرب نفسه يقيم علاقة من عطفه وكرمه بينه وبين المؤمنين. وعلى رغم ان الصوم يبدو من التكاليف الظاهرية الا انه في عمقه امساك النفس عما يؤذيها من مكاره. وعفّة عن المعصية واعتكاف في المساجد على من قدر عليه لاداء الصلاة والتلاوات والنجاوى.

واول ذكر للصوم صوم مريم حيث قالت: «اني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم أنسيا». اصوم – تقول – لتكلم الله بالصلاة او الذكر او في دعاء موصول وهذا يغني عن الاختلاط بالبشر. والصمت مجال لنزول الالهام على مريم بهدوئها وسلامها وطهارتها فيتجاوز رمضان مكانته الزمنية حتى يصير المؤمن الى ما قاله الشاعر:

اذا ما المرء صام عن دنيانا

فكل شهوره شهر الصيام

إذًا كان زمن الصيام ليس رياضة تنتهي بل دعوة للاقامة في معانيه في جهد موصول بلا فريضة. انه من الجهاد الاكبر اذ تكف الحواس عن الآثام. هو صوم القلب عن هموم الدنيا وكفّه عما سوى الله.

اما الذي هو حب الهوى/ فشغلي بذكرك عمن سواك. كما تقول السيدة رابعة العدوية.

واما الانهماك في الاطعمة فليس من التراث الاول وفيه تقشف. هذا رد عليه صيامه لأنه لم يبلغ غايته. أما الذين بلغوا من صيامهم مبلغا كبيرا فقد قال أحدهم: «الهي وقف السائلون ببابك، ولاذ الفقراء بجانبك، ووقفت سفينة المساكين على ساحل كرمك، يرجو الجواز الى مساحة رحمتك ونعمتك. الهي ان كنت لا تكرم في هذا الشهر الشريف الا من أخلص لك في صيامه، فمن للمذنب المقر اذا غرق في بحر ذنوبه وآثامه. الهي، ان كنت لا تقبل الا العاملين، فمن للمقصرين؟ إلهي ربح الصائمون ونحن عبيدك المذنبون، فارحمنا برحمتك، وجُدْ علينا بفضلك ومنّتك، واغفر لنا أجمعين برحمتك، يا أرحم الراحمين».

هذه هي حياة الحب الالهي وهذا يذكرني بأن في القرآن الكثير من إيثار الآخرة على الدنيا كما جاء في التنزيل: «ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين» (البقرة، 36). وكذلك: «وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور». ومثل هذا كثير.

نحن أهل البلد والبلدان التي نحن فيها مختلطون في حاجة الى قيم رمضانية تبقى في المسلمين طوال السنة لنتقبل بعضنا على بعض في استعفاف بروح التعالي عن شؤون الارض وشهواتها بحيث نعطي بعضنا بعضا البركات التي نزلت علينا من الله فنمارس معا كرم الروح كما يمارس المسلمون كرم الافطار. نريد موائد الرحمان ممدودة لكل أيام حياتنا كمآكل روحية نغتذي منها لأجل العدل الواحد لنا كلنا ولأجل بساطة العيش ونعف معا عن شهوة السلطة فيكون السلطان الحقيقي للمحبة والتقدير للفقراء حتى نتعاون على محاربة فقرهم اعلاء لكرامتهم في الارض. والارض، اذذاك، باب من أبواب الجنة او من أبواب السماء بلغة أخرى.

ولا يمكنك ان تحب الفقراء حبا جما اذا استلذذت هذه الدنيا. اذذاك هي لك وحدك. واذا أحببت مشاركة الآخرين بالطيبات طوال عمرك فأنت صائم الدهر في عمق المعنى. واذا كنت من خصوص الخصوص كما يسميهم الامام الغزالي فتقوم بصوم القلب وتكف عما سوى الله. أجل، لا بد ان تتعاطى الدنيا وأنت فيها ولكن مبتغاك ان تلتمس وجه الله وان تدني منه الاخوة المحتاجين الذين سيعرفون الله ان انت عرفتهم وأحببت.

Continue reading