Monthly Archives

December 1995

1995, مقالات, نشرة رعيتي

التابعون/ الأحد 17 كانون الأول 1995 / العدد 51

    عندنا كلمة بالعامية وهي الأزلام وفي الفصحى هي التابعون. هؤلاء نجد امثالهم في اوساطنا لا يملكون شجاعة الرأي ولا شك ان انسياقهم وراء زعيم ناتج من حاجتهم الى حماية عندما لا تحمي الدولة احدا. وهذا ورثناه من العصر العثماني في مرحلته الأخيرة عندما كان الأعيان والوجهاء يمثلون ملة الروم. كان لهذا مبرراته لأن الوجهاء يحملون آلام الشعب ويدافعون عنه ويدفعون بدل العسكرية اذا كان من الضروري ان يعفى المواطن منها.

     مع عصر الانتداب صار لنا وجهاء بلا مسؤولية. يتمتعون بالجاه الذي يأتيهم من القبائل ولا يقدمون للناس خدمة. لهم على الناس حقوق وليس عليهم واجبات نحو الفقير والضعيف. في العصر التركي قام نوع من التكافل بين الوجيه وابن الشعب، لكل منهما دوره، واما الآن فأنت تابع ولا تأتيك منفعة. وان كان من حماية فهي للزعران لأنهم يستطيعون ان يخالفوا القانون وما من معاقب.

    الوجيه الجديد يريدك ان تصمت وانت تصمت لتشتري عدم الاعتداء عليك. شرط بقائك في الحياة الذل. ويذلونك حتى يوهموك ان علاقتك بهم مبدأ. كنت اسمع في الماضي القريب: “انا مع فلان، هذا مبدئي”. وفي قراآتي المبدأ هو معتقد تبدأ منه وتبني عليه حياتك واذا جمعتك مع الزعيم عقيدة فهي مبدأك ومبدؤه. واما ان تكون معه بسبب من مبدأ فهذا ما لم أدركه بعد. من امثال هذه: كان والدي مع والده او نحن بيت واحد وما الى ذلك من عواطف مائعة فهمت منها بعد طول تأمل ان هذا الضعيف ليس له كيان في ذاته وانه لا يرى نفسه إلا محسوبا على فلان. ومعنى كلمة “محسوب” عندنا عميق اذ يعني انه يقام حساب لعائلتين او بعض العائلات في القرية او المنطقة وانها تتوزع الرعايا. وفي المجال المدني عندنا كان يقال: رعايا السلطان، لكونه يملك الأرض ومن عليها. والمستضعَفون يحتمون وهذا يوفر عليهم عناء تكوين شخصية وتفكير في امور المدينة او ما كان دونها، وينتج ناس بارزون وناس “مزمومون” لأن البروز فيه ضرورة الموقف وضرورة الدفاع عنه وان تقول احيانا لا. البروز يعني ان توافق اذا أمرك ضميرك بذلك وان تخالف اذا امرك ضميرك بذلك، ولكن الصمت لا خطر فيه ويسمح لك ان تتكئ في متكأ وثير وان تحتسي فنجان قهوة مع المَرْضيّ عنهم وان ينال ابنك وظيفة يستحقها او لا يستحقها. ألا نموت، ألا نجوع، أن نوجد ظاهريا في عيني الزعيم، ان نقتات من الفتات المتساقط من موائده قد يكون خير ما يصبو اليه الأكثرون في هذا البلد.

    كيف نوفق هذا مع وقوفنا في الكنيسة في حضرة الرب الذي نقول له احيانا نعم ونقول له لا؟ المسيح يترك التسعة والتسعين الخروف ويفتش عن الخروف الضال في الجبال ليرعاه، المسيح القائل لآخر انسان: انت حبيبي. كيف نفهم ان يكون كل منا شيئا عظيما في الكنيسة ويرضى ان يكون تافها في الدنيا؟ لا احد يثق بأنه موجود هو ولو مات كل زعماء الأرض.

Continue reading
1995, مقالات, نشرة رعيتي

المحبة لا تظن السوء/ الأحد 10 كانون الأول 1995 / العدد 50

    “المحبة لا تظن السوء” (1كورنثوس 13: 5). الانسان ظنون لأنه في حالة الخوف. لا يريد ان يرى عيوبه لئلا يضطر على التحرر منها. يظن الشر في غيره. هذا يريحه ويعذره. عيناه تخترقان قلب الآخر، هذا الذي لا يعرفه الا الله. الناس نحن نكوّن عنهم صورة فينا. اما الصورة الصحيحة فتقتضي منا رحمة، والانسان قلّما يرحم الانسان. والحركة التي يريدها الله في قلوبنا ان نثق اولاً بالآخرين. فالثقة ترفعهم وتزيدهم ثقة. كل امرئ يستحق الثقة. انها تقوّيه، تصلحه. نمتد بها اليه وهو يمتد الى الله.

    كذلك “المحبة تتأنى وتَرْفُق”. انها تفرض الصبر، والصبر يفترض ان نتعلم الإصغاء الى الآخرين، ان نفهمهم كما هم، ان نبصر الخير الذي فيهم ولو صرخوا او شتموا. لعلهم يصرخون لكونهم متألمين، لكونهم ظنوا السوء. هم ايضا يروننا على الصورة التي اصطنعوها عنا. لا احد يعرف احدا الا من خلال الصورة التي رسمها عنه، وفي هذا إجحاف في كثرة من الأحوال. ويقول الرسول ان المحبة تصبر على كل شيء، على كل أذى. فبعض الناس يريد ان يوجعنا ويريد ان يدوسنا وان يرانا تحت وطأة الدوس. مع ذلك نصبر لعلنا ننقذه من المرارة التي في نفسه. هو لا يعرف انه يظلم نفسه فيما هو يظلمنا. لا يعرف انه بذلك يكره نفسه. نعطيه حنانا هو وحده حظه في الخلاص. نرفق به لئلا يكسره قلبه. ولهذا لا نحتد، لا نثأر لأنفسنا. الآخر هو الموجود. ويزداد انوجاده إن نحن رفقنا به. بعد هذا يصير انسانا جديدا.

    الخوف من العزلة يجعلنا نمرمر الناس. نحسب اننا نتكون بهذه المرارة التي نذيقها للآخرين ولا نعرف ان العزلة لا نخرج منها الا اذا استدعينا الروح القدس ليسكن في النفس ويلطف بها. المنطلق الى كل ذلك ان الناس ضعفاء. والضعيف يحتاج الى قوي يعزيه فيدعمه. عند ذاك لا نسأله عما يفعل ضدنا او ضد نفسه. المهم ان يخرج من حزنه. لعل محبتنا تساعده ان يخرج من الأنا التي انغلق فيها. والمواجهة عسيرة، ولكن لا بد من ان يخلع عن ذاته الأطمار التي يظن انها تستره. وعيه هتك للستر الزائف. موجع ان يرى الانسان نفسه عاريا فقد يرى في نفسه عيوبا كثيرة ولكن هذا بدء البرء. أن يبرأ هذا هو همنا. ولكن لن نساعده بالقسوة، طراوتنا تجعله يدرك اننا نوشّحه بثوب من نور. يفرح اذا اكتشف انه قادر ان يتسربل حلة منيرة. نفرح نحن بدورنا بالحق الذي نزل عليه وغيّره.

    كل انسان قادر ان يصير عظيما في عيني الله. ولكنه لا يدرك هذه العظمة الا اذا جعله صبرنا والتأني ورفْقنا به يرى نفسه محبوبا، ليس من انسان محكوما الى الأبد ان يتسكع في الظلمة. ليس احد مضيئا ابدا او معتما ابدا. المضيء يجب ايضا تعزيته ودعمه لئلا يملّ فضيلته، لئلا يحس يوما ان فضيلته جفاف. والمظلم يجب ان نقول له انه يمكنه ان ينقذ نفسه من الغرق ان قَبِل خلاص الله له.

    هذه هي قصة العمر. الناس منقِذون للناس. الذين إلههم فيه وشعروا بحضرته قادرون ان يذيقوا الآخرين حلاوة الله واذ  بهم يطفرون كالأيائل ويتعجبون. الصبو الى الكمال ممكن والإصرار على الكمال مطلب للنفس التائقة الجمال. كل نفس جميلة في الأصل لأن الله الذي فيها جمالها وكل نفس قادرة أن تتحرك الى الرب لأنه هو محرّكها. ولكن هذا يقتضي ان تنفتح، ان تشتهي استقبال الخير والتلقّح بالنعمة. اذ ذاك، هي جديدة كالفجر.

Continue reading