Monthly Archives

December 2005

2005, جريدة النهار, مقالات

كبير / السبت في 31 كانون الأول 2005

متعب ذكر الموت الذي متناه في السنة المنصرمة. ولكن لن ننظر الى الوراء كامرأة لوط لئلا نتحول أعمدة ملح بل نمتدالى الأمام راجين الخلاص. هل يعني هذا أن ينكفىء كل منا ليأسه من الأوضاع العامة، من افتقادالدولة مواطنيها بكمّ معقول من الخبز وما اليه. بمقدار معقول من الأمن بحيث تطمئن النخبة السياسيّة الصريحة، المتحدية الى سلامتها ولا يترشح أحد للقتل.

إذا كانت الأيام تتوالى كقطرات الماء وتتشابه الأزمنة لكون الحالة السياسية لا تزال مختنقة وخطانا فيها متعثرة ونفوسنا مصدومة. لا شيء يشير الى أن العوامل التي قتلت خيرة شبابنا زالت، بل كل شيء يدل على أن هذا البلد يستلم وجوده بمنة من الآخرين أو من شرائح فيه تعرف أنها تتكتل من منة الآخرين، وتأمن لهم لتسود في جزئيتها أو انفرادها أو انعزالها، تلك المفردات التي تقلقنا لأن لبنان لا يزال وطن الخوف. وأظن أن جميعنا خائف اليوم واننا لا نرى مخرجاً من هذا الخوف اذ نخشى كلنا التحجيم وأن نفقد الحرية من جديد لتعذر قيام اللحمة الداخلية. اذذاك نقع في بحر من التشتت والضياع وغياب اتفاق على صنع الوطن.

الذين يشتكون من وصاية جديدة ولم أسمعهم اشتكوا من وصاية قديمة، يترتب عليهم هم أن يقولوا لنا كيف نصل الى الحرية من الموت، وتقع عليهم مسؤولية تبيان كيف نصنع وحدتنا الوطنية بلا وصاية. هذا ليس كلاماً يدعو الى وصاية أخرى ولكنه دعوة الى أن يكشف لنا كل الأطراف ما يهيئون لإقامة لحمة حقيقية لا تقصى فيها شريحة ولا تسيطر شريحة بأي عامل من عوامل القوة.

واذا كانت قصصنا بضنا مع بعض ليست صراع عناوين أو مفردات (مثل أنت تريد وصاية وانا لا أريد وصاية) المطلوب أن يبين كل فريق كيف يلتقي وعلى أي موضوع يلتقي هو والآخر وذلك بصورة عملية في الإخلاص الكامل للبلد وحده. واذا تجلى هذا بصدق واقتنعنا بالإخلاص تزول تهمة الوصاية.

ولكن هبوا أننا رفضنا جميعاً بشفافية كاملة وصاية الولايات المتحدة واكتفينا برعاية الدنمارك مثلاً، هل لنا اعتراض على رعاية ما للبنان تحول حقاً دون وصايات كابحة وخانقة أوقامعة أو لاغية. لم يبقَ لبناني يعتقد ان جامعة الدول العربية قادرة على أن تحميه. هل من مروق في استعمالي كلمة حماية لبلد صغير كهذا ليس فيه اكتمال اقتصادي ولا قوة عسكرية كافية تحفظه؟ السؤال هو حماية ممن. ولكل جوابه عن هذا السؤال. اذا استغنى هتلر عن اختراق خط ماجينو فاكتسح فرنسا من سهول بلجيكا ماذا نعمل نحن اذا جيء الينا من البحر والبر والجو؟ دائما السؤال المطروح واقعيا هو ماذا يعمل الضعيف؟

لقد علمتنا التجربة أن أحداً في هذا المشرق ليس قادراً على حمايتنا أو راغباً فيها. وهذا يتعبه ويتعبنا ويتعب العرب. نختار من يحمينا من المعتدي أو من مواطنين لنا اذا عرّضوا الوحدة لانكفاك؟ كان زمن الحمايات لفئة من المسيحيين منذ القرن السادس عشر. هذا انتهى بنظام المتصرفية الذي عبر فيه عدة دول على حماية جبل لبنان ككل. تُركنا لأنفسنا بعد الانتداب وحسبنا أن وحدتنا تتحقق لكوننا أقمنا مسافة من سوريا ومسافة من فرنسا. السؤال الحقيقي هو هل من توافق ممكن بين استقلال ناجز ورعاية خارجية لا استبداد فيها ولا استغلال ولا تبعية ولا تذييل. هل الخيار هو بين رعاية خارجية واستقلال هش يلازمه ضعف كياني يفرضه صغر الحجم والعدد والتنوع الطوائفي الذي نحتاج فيه الى قناعة الوجود المدني المشترك والتركز حول الدولة.

أنا أطرح تساؤلات فقط لأننا نسير الآن في نفق مظلم وترتطم وجوهنا بعضها ببعض أو بجدران النفق. ولا نفع الآن أن تتحد هذه الكتلة بتلك اتحاداً كلامياً تشوبه المصالح السياسية العابرة. في الراهن إننا منقسمون واننا في حاجة الى حلول حقيقية لأوضاعنا المتأزمّة.

على رغم كل ذلك تولد السنة الجديدة من الرجاء أي من الله الذي عصيناه كثيراً في الحرب الأهلية التي لم نتجاوزها. تغير اللاعبون أو تشكلت ملاعب مختلفة واللاعبون هم هم وليس من توبة.

في وكر الأفاعي المخبّأة في الملعب السياسي هل يحمي الله برقته وحنانه كل واحد منا كي لا يذوق موتاً روحياً بعد أن ذاق البلد ذبحاً كثيراً. فاذا لم نتب جماعياً ليرفع الرب غضبه عن لبنان يبقى لكل فرد أن يتوب من خطاياه لئلا يموت هو روحياً. فإذا لم تصبح السنة الـ2006 جديدة على لبنان بما تؤتيه من خير ونعمة ورضا فلتكن على الأقل جديدة على كل روح ليتمجد الله فيها وتنتصر بها المحبة. والمحبون قد يحولون البلد فردوساً.

سيبقى كثير من الفقر زمناً طويلاً ويتعذر حل العقد ردحاً من الزمن ويظل الليل مخيماً على نفوس كثيرة ولكن من أعطي ذرة من الرجاء فليباشر بتجميل نفسه فيشع حيث كان ويفرح به كثيرون والصلاح قد يشكل ضغطاً على الأشرار وتقوى جماهير الأبرار. لعل السؤال ليس هو: ماذا تعطيني أو تعطينا السنة الجديدة ولكن ماذا يعطيني قلبي لو تجدد وماذا يعطي الآخرين.

فاذا قلت لقريب أو صديق غداً: كل عام وانت بخير فلا تذهب أبعد من قلبه الى الوجود لأن ذهابك هذا ليس بيدك. إنه بيد الله. ما هو بيدك إذا آمنت أن تصلح باطنك فيأتي ظاهرك مثله وقد يأتي ظاهر الآخرين شبيهاً بما تكون قد صرت عليه من بهاء روحي.

سنة للعالم نرجوها له جميلة. سنة للبنان ندعو لتكون بهية مثل جباله. سنة لكل منا تكلّلها المحبة أو تؤسسها. في كل هذا نحن فقراء الى الله الذي نجيء من نعمته فقط.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

بهاء الميلاد/ الأحد في 25 كانون الأول 2005/ العدد 52

لا شيء يُفهم في المسيحية الا انطلاقا من الفصح. فالفصح خلاصة الأعياد أو دسمها. عيد القيامة يجد نفسه كامنا في كل عيد. أعياد الشهداء أعياد قيامية لأنها انتصار على الموت.

              الميلاد ظهور إلهي، انكشاف ابن الله في تواضعه، والتواضع الأعظم هو الذي عاشه ابن الله معلقا على الخشبة. الميلاد محطة على طريق الآلام والقيامة. ولمّا كان الخلاص على الصليب أهم شيء في ايماننا، لم يهتم المسيحيون الأوّلون لتأريخ مولد يسوع. فنحن لا نعرف اليوم ولا الشهر ولا السنة التي ولد فيها المخلص على وجه الدقة. والإنجيل نفسه ذكر شيئا واحدا وهو أن الرب عند خروجه الى البشارة كان له نحو من ثلاثين سنة. بعد الإنجيل بقرون وُضع التقويم الميلادي، ووقع في هذا التقويم خطأ حسابي. ونرجح اليوم ترجيحا كبيرا أن السيد وُلد حوالى ست سنوات قبل التقويم الميلادي. ولكن هذا كله لا يهم لأننا نحن لا نعالج تاريخا ولكنا نتعامل مع عقيدة.

         روحية العيد تعبّر عنها الرسالة إذ تقول: “لما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني”. عبارة “ملء الزمان” تعني أن ليس علينا أن ننتظر أزمنة تعطينا معرفة جديدة بالله لأننا نلنا كل معرفة بالمسيح. والأحداث كلها مهما كانت مؤلمة فهي لا تلغي الفرح الذي جاءنا من المسيح. لا يضاف شيء على المسيح ولا شيء ينقصه. فتعليمه كامل وشخصيّته كاملة. “لننال التبني”اذ لم نبقَ بسبب الخطيئة أبناء الله. ولكن بعد أن أحبنا الله بالمسيح جعلنا أبناء. لماذا لم يقل “لننال البنوة” ولكن قال: “لننال التبني”. الجواب أن المسيح وحده ابن الله جوهريا وأزليا، اما نحن فأبناء بالابن أو بفضل الابن. لذلك قال إن لنا التبني. والمتبنّى في الشرع كالابن من حيث المحبوبية. لذلك عاد بولس الرسول فسمّانا أبناء. بسبب هذا نستطيع أن نسمي الله أبانا، ولكن هذا يتم بانسكاب الروح القدس علينا بالمعمودية.

           الى هذا عندنا قطعة ترتيل في أواخر سَحَرية العيد تبدأ بقول الناظم: “لما حان أوان حضورك على الأرض” حتى تصل الى قوله فيما يخاطب المولود الإلهي: “إن مملكتك الأبدية تجددت أزليّتها”. مملكة المسيح أبدية بمعنى أن ليس لها بداءة ولا لها نهاية. فلما نظر اليها صاحب القطعة، رأى أن هذه المملكة الأبدية عند ظهور ابن الله في مذود بيت لحم “تجدّدت أزليّتها” بمعنى أنّ الله كشف حبّه بتجسّد الابن وأننا ننتقل بالروح الى أزليّة هذه المملكة حيث لم يكن زمن.

          نحن في الظاهر معك يا يسوع في بيت لحم، ولكن في الحقيقة نحن معك قبل أن يكون العالم، قبل البدايات، كأننا نحن بمحبتك إيانا ليس لنا بدء٠ لقد تجاوزتَ أنت بداءة الخليقة وجعلتنا قبل البداءة اي معك منذ الأزل.

           غير أن هذا حتى نكونه حقا ونستحقه لا بد لنا من أن نعبر مع يسوع المراحل التي قطعها في جسده اي أن نبدأ بالتواضع ونعيش لله كما عاش هو دائما له ومعه. ولا بد لنا أن ننمو بالنعمة والحكمة فيما ننمو بالقامة.

           إن سرورنا بيسوع بعد أن انسكبت علينا بركاته لا يكتمل الا اذا ذهبنا الى الفقراء ليذوقوا هم أيضا بهاء يسوع اذا كشفنا لهم بالحب أنّ كرامتهم كاملة وأنّ الرب يريدهم أن يعيشوا بلا عوز. فكما جاء يسوع ليشاركنا العظمة الإلهية يدعونا الى أن نشارك الفقراء وكل المحزونين ولا سيّما المرضى الخيرات الروحية والمادية التي نزلت علينا من الله. إذ ذاك يكون العيد عيدهم وفرحه فرحهم ويكتشفون أننا لهم إخوة.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

هذا الميلاد / السبت في 24 كانون الأول 2005

“لما حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة” (غلاطية 4:4). ما تعني هذه العبارة؟ هل تعني ان نفسية الشعوب كانت مهيأة لاستقبال مخلص؟ فكرة الخلاص لم يكن لها في اسرائيل القديم المعنى الذي اتخذته في الانجيل. هل كل شيء في الحضارة نضج لاستقبال الانجيل؟ لست أظن ان الكتاب أراد ان العصور السابقة مباشرة للمسيح كانت حبلى بالوعد الذي قطعه الله قديما بالأنبياء على طريقة “الحفر والتنزيل” في النجارة الشامية. ان النص يوحي بان يسوع هو الملء بمعنى انه مقصد الوجود وتمامه وانه مبدئ الأزمنة الجديدة. كل شيء في الكتاب يوحي بأن الله ينقضّ على التاريخ انقضاضاً وان خلاص هذا التاريخ هو في مشيئته. الله يكتب التاريخ بحضوره وهنا كتبه بإرسال وحيده.

من هنا يبدأ كل شيء. يبدأ على صعيد الله – وهذا المولود العجيب الذي يتكون جسده منها فقط: “ها أنا أمة للرب”. ولأن الله كان في حاجة الى هذه المرأة لإتمام مقاصده جاءت مريم محطة لروح الله ومقراً للكلمة – الابن.

من هذا نقرأ ان الجسد البشري هيكل الله وان الإله الذي يعبده المسيحيون هو فوق وتحت معاً بحيث لا يأتي العلو الإلهي افتراقاً عن البشر ولا التنازل الإلهي ترك الله عرشه أو علوه. كل المسيحية قائمة على التضاد أي جمع الضدين في وحدة فاذا تحدثت عن يسوع تقول انه إله وانسان معاً في تلاحم لا ذوبان فيه. كل قصة الله منسوجة كيانياً في لقائه الانسان لا حكاية تحكى كما كان في العهد القديم ولكن عيشاً يعاش بحيث تقدر على ان تقول أنا في المسيح وتالياً في الله وان الله فيّ بروحه دون أن اهتك جوهر الله ودون ان يهتك الله جوهري. انا معه وهو معي ولكن في ازائية حتى أبد الآباد لأنك على هذا لست ناجياً ما لم يلتحم بك هذا الاله ولست انت اياه، لأن المخلوقية مفارقة للخالقية. تواجهه في الحياة الأبدية كما يواجهك ويدعوك ابناً بسبب أخوة الابن الوحيد لك.

قبل ذلك ظهر “ظهر غضب الله على كل كفر وظلم يأتي به الناس” (رومية 18:1). وباتوا أبناء الغضب “لا فهم لهم ولا وفاء ولا ود ولا رحمة”. فبعد هذا الامتهان وانقطاع النبوة تحركت ابوة الله “لننال التبني”. ثم يتابع بولس منطقه في الرسالة الى أهل غلاطية قائلاً: “والدليل على كونكم ابناء (اي على كوكم صرتم ابناء) ان الله ارسل روح ابنه الى قلوبنا، الروح الذي ينادي: “هنا ينتقل بولس من اليونانية الى الآرامية) ينادي “أبّا” (تلفظ avva)، “يا ابت (هنا يفسر avva للقراء اليونانيين. في الحقيقة ان avva الآرامية تعني يا ابي واذا حذفنا الهمزة تصبح بيّ اللبنانية التي يقولها الطفل لابيه في صورة التصغير للدلالة على دالة الولد على ابيه). المسيحية كشفت عن طريق بولس هنا الحميمية القائمة بين الله والبشر على صورة العلاقة القائمة بين الوالد واطفاله.

ينتج من هذا قول الرسول: “فلست بعد عبداً بل ابن”. هل عرف بولس قول السيد في خطبة الوداع وانجيل يوحنا لم يكن قد دُوّن: “لا ادعوكم عبيداً بعد اليوم… فقد دعوتكم احبائي” (15:15). لقد ضرب يسوع عبودية الانسان للإنسان بعد ان ضرب عبودية الانسان لله. وادخل الانسان في علاقة البنوة. هي البنوة التي تجعلنا احراراً. والحرية بدورها تقيدنا بالمحبة.

كان هذا الموجز اللاهوتي اساسياً لنتلقى المسيح في سر مولده. نحن لسنا نقيم ذكرى مولد باليوم والشهر والسنة. ليس واحد من هذه الثلاثة نعرفه. ذلك لان كتبنا لا تضع المسيح في تاريخ البشر ولكن تضع البشر في سر المسيح. نحن ما ذكرنا الا الفصح. ان ظهور السيد منتصراً على الموت هو بدء فعله في ازمنة الناس وعقولهم. الصليب هو الذي كشف المسيح فعالاً في النسيج البشري. غير ان الايمان المسيحي قال ان اول ظهور للسيد كان عند اصطباغه في نهر الاردن حيث شهد له الآب بقوله: “هذا هو ابني الحبيب”. ولكن الى جانب التعييد لمعمودية السيد عيدت الكنيسة قديماً لميلاده في اليوم نفسه اي السادس من كانون الثاني. فجاء في التسمية الطقوسية هذا اليوم يوم الظهور الالهي حتى فصلت الكنيسة بين التذكارين فكان عيد للميلاد وبقي عيد الظهور المعروف عند العامة بالغطاس. نحن في الذكريين هاتين مع النور. فالميلاد يبقى عيداً فكرياً لا عيد حدث. من هنا انه لا يختلف جوهرياً عن الفصح الذي هو ايضاً عيد فكري او عيد عقيدة. لذلك قال الاقدمون بالعيد الصغير والعيد الكبير. والتسمية باقية عند العامة حتى يومنا هذا. ليس في المسيحية من مضمون روحي الا للقيامة. الاعياد الاخرى تسندها.

نحن لا نجيء من طفل المغارة اذ نجيء من المصلوب لكوننا نجيء من المجد. ولكنا نذهب الى طفل المغارة كما ذهب اليه الرعاة. أي نذهب في بساطة القلب وشفافية الروح. عندما تواجه أنت الأساسيات تجرد نفسك من كل شيء وتدخل في فقر المسيح. المستغنون بأنفسهم لا يقبلون المسيح في تواضعه ملكاً عليهم. لا أحد منا يصير شيئاً قبل ان يتسربل فقر المسيح.

ربما يتوق الى البراءة أولئك الذين جعلوا الميلاد عيداً للأطفال. اليوم يتلقى الاولاد من ذويهم هدايا. في طفولتي ما عرف جيلي هذا. نحن كنا نعرف ان الهدية الكبرى تأتي من الله وهي العيد نفسه في فرح الصلاة والانشاد. غير ان هناك طفلاً واحداً ينتظر منك هدية وهو المسيح. لقد قدم له المجوس ذهباً ولباناً (بخوراً) ومراً. هو يريد الذهب لاخوته الفقراء وان تفتقدهم في هذاالموسم لكونهم أحباءه. وعند تبخير المسيح في الكنيسة يحيل اليك البخور الذي يرتفع من المبخرة الى وجهك اذ ترتسم ملامح وجهه على وجهك ان كنت من التائبين. تعلم في العيد، ان أكلت أو شربت أو زينت بيتك أو فرحت بالأطفال، انه هو صاحب العيد.

لا تقبل ان يحجبه شيء أو ان يعوضه شيء في دنيويات الموسم. لعل هذا هو خطر الأعياد عن الساهين. أما أنت فاسجد لمن ينبغي ان تسجد له وهو يقيمك بعد ركوعك في المجد ويبدأ ميلادك بتمتمات التوبة التي هي أصعب مشروع في العالم وقد لا ينجز فيك حتى عند عتبات الملكوت. ولكن لا تهمل الشوق اليه لأن كل شوق ليس هو حاضراً فيه يصبح بدء استعبادك بعد ان حررك هو وجعلك ابناً لأبيه في طراوة لا يعرفها إلا المقربون. واذا تقت الى حيث وليد بيت لحم يسقط عنك التصحر وتمشي معه مشياً فصحياً في كل يوم وتفرح في طريقك الى الملكوت المكمل في اليوم الاخير والكامن فيك بعد ارتشاف الكأس المقدسة.

ولا ينتهي العيد الا اذا فرح صعاليك الأرض بهذا الذي جاء يغنيهم بحبه وبتحويل دنياهم بالسلام والعدالة. وفي انتظار حرية العالم من الجوع والجهل نقول سلاماً على فلسطين والعراق ولبنان المدعوة الى ان تصبح جميعاً أوطاناً للمحبة.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

احد النسبة / الأحد في 18 كانون الأول 2005 / العدد 51

كان يهم متى في مطلع إنجيله ان يبين ان يسوع الناصري هو المسيح الذي تكلم عليه الأنبياء لأن متى اراد ان يدعو اليهود وهم ابناء جنسه الى المسيح، كما اراد ان يرسخ من اهتدى منهم في ايمانهم المسيحي الجديد. فكتب لهم إنجيله بلغتهم.

          وحتى يبدو لقراء متى ان يسوع هو المسيح المرتجى، كان لا بد له ان يبين انه متحدر من ابراهيم لان هذا هو الخط الإلهي فأورد الإنجيلي لائحة من ابناء ابراهيم معظمها مذكور في الكتاب المقدس. غير ان بعض الأسماء القريبة من يوسف لا بد ان متى استقاها من معلومات خاصة لأن العهد القديم قد انتهى آخر سفر فيه حوالى قرن ونصف قبل الميلاد.

          اجل النسب ينتهي بيوسف اذ لا يمكن في الشريعة ان ينسب الولد الى امه. ولكن في ذكر حادثة الميلاد يبين الإنجيلي ان يوسف لا علاقة له بالأمر كله. علاقة يسوع بابراهيم واولاد ابراهيم هي عن طريق مريم ابنة ابراهيم.

          الغاية من كل هذه القراءة تبيان وجه يسوع الذي يعني “الله مخلص او يخلص”. والخلاص هو من الخطيئة. ثم يؤكد الكتاب قول النبي وهو اشعياء الذي تنبأ ان العذراء تحبل وتلد. وهذا لم يوجد قبلا ولن يوجد. اما قوله: “فلم يعرفها حتى ولدت ابنها” يثبت انها قبل وضعها الطفل لم تكن على علاقة مع يوسف. هذا لا يستنتج منه انها اقامت علاقة بعد مولد الطفل. كان هاجس متى ان يثبت المولد البتولي. ما كان همه ان يكتب سيرة والدة الإله. اما كونها بقيت عذراء كل حياتها فهذا اوضحه المجمع المسكوني الخامس ورددت الكنيسة ان مريم كانت “قبل الولادة وفي الولادة وبعد الولادة عذراء”. هذا هو معتقدنا الذي جاءنا من التراث الكنسي.

          من الواضح ان متى، مع تأكيده النسب الابراهيمي وانتماء بشرية يسوع الى الانسانية كلها ولاسيما الانسانية المؤمنة، لا يهمه من كل هذه اللائحة الا يسوع. فإبراهيم نظر الى مسيح الله، وهذا لم يكن داود ولا ابناء داود حتى جاء يسوع فكان هو المسيح.

          ونحن نتهيأ حتى يوم عيده وتهيأنا في الصوم الميلادي لاستقباله ليكون هو الحياة كلها. هذا النسب كان ليظهر ان كل قيمة هؤلاء الملوك وغير الملوك ان منهم انحدر المسيح وانهم هم خلصوا على الرجاء. وعندما جاء فقط كان هو رجاء الأمم فتحقق الخلاص به ونحن بنعمته مخلّصون ومن كل كلمة من فمه نجيء ونتكون.

          نتبعه منذ مولده وفي طفولته وعندما خرج الى البشارة وصنع العجائب ونؤمن بكل كلمة قالها وبموته وقيامته. كل كلمات الأنبياء كانت اليه قبله كنا امواتا بالخطيئة وبموته على الصليب صرنا نحيا به.

          هذا الميلاد وعدٌ بعطاياه الكثيرة ووعد بخلاصنا الدائم بدءا بالمعمـودية وانتهاء بملكوت السموات.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

قوة الله / السبت في 17 كانون الأول 2005

لا شك في ان الخوف خلق الآلهة القديمة اذ كانت – كالشمس – تملك قدرة لم يمتلكها البشر. لذلك أيضا ما كان بمقدور جيش ان ينتصر في الحروب الا لأن ربه في العلاء هو القائد الحقيقي للحرب. وهذا هو نفسه الذي ينعم على الأغنياء بثروتهم لأن المال هو القدرة. وانه هو الذي ينصر من ينصر في مباريات الرياضة وربما في مسابقات ملكات الجمال. وهو الذي يميت الاحياء لان الموت هو القدرة العظيمة. ولست أعلم ان أهل الذين غرقوا في التسونامي قالوا انه أمر من الله. كما لم أعلم ان قال لهم أحد: ما هذا الاله الذي يسترد من يسترد ويستبقي من يستبقي.

اسرائيل القديم كان أيضا يخاف. ففي جانب من جوانب فكره كان وريث الحضارات القديمة الخائفة كلها. وكان أيضا يؤمن ان حروبه حروب الله. ولكن كيف كان الله ينهزم أحيانا؟ ولكونك على هذا الفكر تسمي هزيمتك نكسة وفي هذا قال إشعياء قديما: «معنا هو الله فاعلموا أيها الأمم وانهزموا». وإذا ألْحَد حكم سياسي يقول ان الايديولوجيا – والايديولوجيا نوع من أنواع الآلهة – هي التي انتصرت.

أجل في العهد الجديد لفظة القوة أو القدرة مستعملة إذا قيل مثلا قوة القيامة أو قوة الإنسان الباطن، لكن هذا لا علاقة له بالبطش والقهر المنسوبين إلى الله قديما ولا علاقة له بإله الحروب والواهب الأغنياء. أما الأقوياء فيقول عنهم على لسان لوقا: «انزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتواضعين ملأ الجياع خيرات والأغنياء أرسلهم فارغين». وأما عن الأغنياء فكل من قرأ الإنجيل يعرف عسر دخولهم ملكوت السماوات. وأما عن القوة العسكرية فيقول لبطرس: «أردد سيفك إلى غمده لان من أخذ بالسيف بالسيف يؤخذ».

***

القوة في العهد الجديد إذًا غير القوة التي جاء الحديث عنها قديما. جانب الشدة في الإله لا يقرأه العهد الجديد. أنا لم أقل ان البطش كان الوجه الوحيد في إله العهد القديم اذ كان عنده رحمة ولطف وطراوة ومرافقة لشعبه وفي هذا أقوال كثيرة. لكن الفظاظة أقصيت عن العهد الجديد وبتنا في ملكوت الوداعة.

أيًّا كانت المفردات هنا وهناك عندنا نحن ان ثمة قراءة واحدة لله وهو كيف تقرأ يسوع المصلوب. ان مشهده على الخشبة هو قراءتنا لله. في هذا الوضع يسميه إشعياء عبد الله بسبب الموت الطوعي اذ يقول عنه: «هوذا عبدي الذي اعضده مختاري الذي سرَت به نفسي. وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم. لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته. قصبة مرضوضة لا يكسر». وتتخذ أناشيد عبد الله قوتها ومداها في الاصحاح الثالث والخمسين من السفر نفسه حيث يقول عن المخلص: «لا صورة له ولا جمال فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه. محتقر ومخذول من الناس رجل أوجاع ومختبر الحزن وكمستّر عنه وجوهنا محتقر فلم نعتد به. لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحملها… كشاة تساق إلى الذبح وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه». ثم تراك أم تضاد (أي تقابل) أو إزائية لا تناقض حيث يقول: «لذلك أقسم له بين الأعزاء ومع العظماء يقسم غنيمة من أجل انه سكب للموت نفسه».

كيف ينتمي إلى الأعزاء من كان كرسي عزه خشبة سمر عليها بحيث فقد – في الرؤية البشرية – كل عز؟ كيف يحصى مع العظماء ذلك الذي ديس حتى النهاية وصار أول الاذلة في الارض؟ نحن إذًا مع مقولتين مختلفتين من العز والعظمة، مقولة أهل الأرض ومقولة الله. القصة كلها هي كيف تقرأ الله فتكون على السلوك الذي تمليه عليك قراءتك.

***

بولس رأى هذا لما تكلم على حكمة بشرية تقابل حكمة الله وعلى قوة بشر تقابل قوة الله فعبر عن هذه المفارقة بقوله: «ان جهالة الله أحكم من الناس وضعف الله أقوى من الناس» (1كورنثوس 1: 25). لعله أراد – وورد ذلك في ترجمات – مستضعف الله أقوى من الناس. لعل قوة الله انه يبدي نفسه ضعيفا كي لا يأخذنا بالقهر. هو يتنازل إلى وضعنا المعطوب لنحس انه يخالطنا في كل شيء ما خلا الخطيئة وذلك بالحبيب الذبيح ففي الذبح فقط يتجلى الحب. وفي الموت فقط تنكشف محبة الله.

هكذا نفهم قول بولس: «الذي (أي المسيح) اذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة ان يكون معادلاً لله. لكنه أخلى نفسه آخذا صورة عبد صائرًا في شبه الناس: (فيليبي 2: 6 و7). هنا يستعمل الرسول كلمة عبد التي وصف بها إشعياء المسيح وهي في المفارقة تتضمن العلو اذ يتابع بولس فكره بقوله: «لذلك رفعه الله (أي رفع المسيح) أيضا وأعطاه اسما فوق كل اسم. نتيجة لذلك سيعترف كل لسان ان يسوع المسيح رب. اعتناق المسيح العبودية كان الطريق لإعلان ربوبيته على الخليقة كلها.

لقد كشف الله قوته بضعف المسيح أو بما بدا كذلك. لذلك لم يبق من مكانة للقدرة بمعناها القديم (البدن، الجمال، المال، السلطة). على ضوء هذا يعزي بولس المؤمنين في كورنثوس بعد ان رأى ان الكثيرين منهم ليسوا حكماء (أو مثقفين) ولا أقوياء (غير نافذين) ولا شرفاء (اذا كانوا فقراء) وشجعهم على انهم هم الموجودون لكونهم باتوا بالمسيح «الذي صار لنا حكمة من الله وبرا وقداسة وفداء».

لقد انقلبت المقاييس كلها. فالله في جانب الضعفاء إذا اعتبروه قوتهم وهو تاليا يبدو ضعيفا إذا رأى اليه المتسلطون من أهل الأرض وهو ضعيف عندهم اذ يستغنون عنه. وأنت لا تستطيع ان تعتبر الله غناك إذا افتخرت بمالك ولا ان تراه جميلا إذا اعتززت بجمالك ولا ان تحسبه ملكا عليك إذا سموت بملك.

سر المسيح هو الفقر، وأنت اليه إذا احسست ان ما عندك من مال أو حسن أو ذكاء أو سلطان ليس بشيء. أنت في السلطة والعقل وما يشبههما من قوة خادم للملك الوحيد ومصدر العقول كلها والبهاء الوحيد. هذا هو المعنى الحقيقي لذكرى الذي سيولد في بيت لحم في مذود البهائم ليكون نطقنا وفي الفقر الكامل ليصير غنانا.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

قلب الكاهن/ الأحد 11 كانون الأول 2005 / العدد 50

جاءني شاب اعرفه من سنوات، كثير المعرفة باللاهوت، وسألني رأيي في طلبه للكهنوت، وترددت في الجواب القاطع اذ قلت له ان الدرس يستغرق منه وقتا كثيرا وان الكهنوت أيضا يتطلب وقتا كثيرا ويصعب عليك ان تضع مجلدات وان ترعى الرعية.

قد لا يهم الأكثرين ان أحدثكم عن أساتذة اللاهوت وانهم في حاجة إلى كل وقتهم. ولكن يهمكم ان تعرفوا اهتمام كاهنكم بكم وأفترض انه محب ليسوع وانه دخل هذا السلك بسبب من محبته. لقد ولى زمن الكاهن المرتزق، وجاء وقت التضحيات الكبرى أي تخصيص كل وقت الكاهن للرعية. وانتم تعرفون ان القداس يستغرق وقتا، وذلك ليس فقط في الآحاد، وان الخِدَم الأخرى المسائية في الصوم والغروب والأكاليل والمآتم والمعموديات تتطلب أيضا وقتا طويلا ولاسيما إذا كانت العائلات كثيرة. غير ان القضية الأساسية ليست قضية وقت. انها قضية القلب عند الراعي. هل قلبه مع المسيح؟ الكهنوت التزام كامل لقضية الإنجيل بحيث لا يجوز ان يبقى للكاهن فسحة لعمل آخر.

في الماضي السحيق كانوا يرون ان كاهن القرية يمكن ان يكون فلاحا، ثم سمحنا في المدن ان يكون له عمل إضافي بسبب من قلة موارده أو لصغر رعيته. ولكن عندما يكون الكاهن مسؤولا عن رعية كبيرة فليس عنده وقت ليتفرغ لعمل آخر ما لم يجتمع أكثر من كاهن في كنيسة واحدة. هذه يجب ان يكون فيها رئيس متفرغ.

ولكن بصرف النظر عن هذه التفاصيل، الكاهن مأخوذ قلبه بالله ويحتاج إلى ما لا يقل عن ساعتين في اليوم يدرس خلالهما الكتب المقدسة ويطالع المقالات اللاهوتية. إلى هذا الزيارات التي غايتها ليست فقط ان يفتقد المرضى والحزانى ولكن ان يطّلع على الحالة الروحية للبيت ولاسيما على الوفاق الزوجي وتقدم الجميع في معرفة الرب. طبعا هذا غير ممكن بالتدقيق في الرعايا الكبيرة، ولذلك نحن في حاجة إلى كهنة جدد ليقفوا على أحوال كل واحد ما أمكن: «اعرف رعيتي ورعيتي تعرفني. وأنادي خرافي بأسمائها». ولا نستطيع ان نبقي الرعايا كبيرة استرضاء للكاهن وحسن ارتزاقه. هذه أمور لا بد من تدبيرها بقوانين وأنظمة، ولكني لا استطيع ان أضحي بالحاجة الروحية في سبيل رخاء الوضع المالي للكاهن.

ثم الافتقاد: هناك افتقاد جماعي وافتقاد عائلي. جماعيا لا بد من الاجتماعات الإنجيلية في البيوت إذ لا مفر من تفسير الكلمة الإلهية وان نحيا منها وقد تردّ البعض إلى القداس الإلهي الذي يهملون. ولا بد من ان نوزع «رعيتي». هذا حد ادنى من القراءة وهذه صلة محبة بيننا.

ولكن هذه الاجتماعات لا تعوض عن اللقاء الشخصي الذي يقوم به الكاهن مع الذي يطلب منه الإرشاد أو هو يتدخل لبث روح يسوع في كل مؤمن. هذا لا يعني ان العلماني لا يهتم بالعلماني ولا يرشده ويدله على كتب دينية. ولذلك لا بد من تنظيم حلقات روحية يلتقي فيها الناس وتلتهب أرواحهم حبا بالمخلّص حتى نعبد الله في كل مكان وننشر كلمته.

تذهلني رؤيتي للأهل يُعنون بأطفالهم. يذهلني السهر الطويل الدائم حتى يكبر الأولاد ويتغذوا ويلعبوا ويتكلموا ويفهموا. هذا الذي يجري على صعيد الجسد والتربية نحتاج إلى مثله على مستوى الفهم الروحي والتعليم المسيحي والرعاية الدائمة والاهتمام بكل نفس.

وهذا كله ينحدر من قلب الكاهن المتأجج حبا ليسوع. الله قادر ان يصنع له قلبا جديدا.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الكلمة الدائمة / السبت في 10 كانون الأول 2005

من الاشياء التي ترعبني ان الكلمة الالهية لم تنزل بقوة او بالكثافة نفسها على اهل المسيح في اجيالهم. سواهم يحيا في سر الله وهو يتدبرهم بحكمته ان كانوا من اهل التوحيد. اما اهل الديانات الآسيوية والافريقية فأنا لا اعرف شيئاً مكتوباً عن مصيرهم وادعهم الى حكمته. لكن معظم الناس الذين لهم كتب لم يقرأوها أو لم يستطيعوا لجهلهم قراءتها وظلوا عن حقيقتهم غافلين وفيها قبس او بعض قبس. والناس من ظلمة هذه الاعين لا يرتجفون وأنا في خوف كثير من ان يستمر هذا الظلام فيهم وفي اولادهم من بعدهم وهم لا يدرون.

ما يقلقني في غيرتي وفي حبي ان هؤلاء الكثير منهم سينجون بفضل رحمة الله من حيث انهم يعاينون الله بسبب من نقاوتهم وهذه في كل حال من امر ربك وليست من باب تأملي الان اذ ينجو الطاهرون من كل جنس مهما قال المتزمتون ولاهوتيو الكتب. ليس هذا ما اعاني منه وعذابي عنهم لا يتعلق بالآخرة ولكنه يتعلق بالاولى كما يقول الاسلام او بالدهر الحاضر كما تقول المسيحية. عذابي في ان معظم الناس لا يفهمون وان بعض المتكلمين هم على لاهوت خاطىء اذ يقولون في الله اشياء مغلوطة. واذا كانت الآخرة امتدادا للأولى فليس فيها كشف الهي يضيف الى ما نعرفه في دنيانا لأن “ما كُتب قد كتب” وانت لا تعرف اشياء جديدة الا اذا قلت ان محبوبيتك عند الله – وهذه نعرفها – كافية للفهم واننا لا نعرف عند ذاك الصلة بين القلب والعقل وقد يكون القلب طاغيا فيفهم ما لم يكن هنا فاهمه دون ان تعبر الكلمة العقل. ما اتأمله في هذه الاقوال يتم عن اني اقيم فرقا بين العقل والقلب في اليوم الاخير ولكن اللعبة قد تكون مختلفة تماما. لعل هذه تحفزات عقلية لي لا تهم بسطاء القوم وقد يقول الله في ذاته ان كلماته انما ينزلها علينا في هذه الدنيا وان له معنا فوق لقاءات ليست من طبيعة اللقاءات التي كانت له هنا على وجود لحمة بين ما هو هنا وما سيكون.

ولعل بعضاً من قرائي يقول لماذا تعنيك هذه الامور ولم يكشف عنها في ما الهمه ربكم. جوابي انك لا تقدر على ان تهمل ما هو لربك أجاء فيه كلام أم لم يجئ لأن هذا يدفعنا الحب اليه. ولعل اهتمامك بالمدعوين الى الخلاص في ما سيكونون عليه أهم ما يكون عليه الفكر الالهي هنا لأن الذين أنت اليهم هنا ستكون اليهم هناك بسبب من وحدة المعشر وهذه المشاركة العظمى التي ستجمع بينكم عند حميمية الله.

لعل ما ليس دون ذلك ايلاماً في ما أسمعه من ارشاد في المعابد ان الخطيب يتحدث باللغة الفصحى وبصورة بليغة أحياناً وأنا أرى الوجوه وهي مقصرة في ادراك العامية فكيف بالفصحى ولعل الواعظ لم ينتبه الى ان القليل قد بلغ سامعيه وان كلمة الله اذاً راوحت مكانها وان شيئاً قدسياً لم يحصل.

يجب ان يتروض الفصحاء على ان قلب سامعيهم هو الذي يتقبل كلام الرب أو لا يتقبله واننا لسنا في مباراة بلاغية ولكنا في تبليغ الحق. ويفرح الواعظ ان الحاضرين كثر وهو يستلذ كلامه الذي لم يصل.

ما من شك في ان الله يريدنا ان نفرح بكلامه وان نغتذي منه بصبرنا ونصيره كي نبلغ القامة الروحية التي من أجل صنعها تكلم وجعل ناساً يتكلمون. أنا لا أستطيع ان أتصور ان الله اكتفى بان يفوض الى ناس أمر ارسال الكلمة ولم يفوض اليهم أمر تبليغها أي ان تشق دربها الى العقول والقلوب كي يصبح كل منا كتاباً الهياً يفتح بدوره بايضاح ما سجل فيه تبشيراً ودعوة.

أجل كان هذا مسعى اذ يصل من الزرع ما يصل ومن استنار من بعد توبة وعلم يبغي ربه منه ان يهيئ النفوس الى السمع وتناول الحق بتوبة وعمق أيضاً حتى لا تعود الكلمة الى مقرئها فارغة في تكامل يبني كل جماعة بالحب والغيرة عسى تصل الى كل منا حبات من الزرع ولا نبقى جياعاً.

أنت، عارفاً، ليس شأنك ان تهمل التعليم وتقول ان الله يرحم من يرحم ويرأف بمن يرأف. انت مسؤول على أعلى درجة كي يفلح الرب كرمه ويفهم من يفهم ويخلص من يخلص. هذا من أمر ربك واما التبليغ فتكليف وأخشى ان اهملته ألا يرحمك ربك ويعدك من الكسالى.

وما يؤذيني ان قلة من العابدين ترغب في المعرفة اذ تتكل على الصلاة وحدها والله يريدنا من العارفين لان المعرفة تقوي فهمنا للصلاة وتجعلنا نستطيبها. أنا أخشى كسل الاتقياء الذين يتكلون على المثابرة ولا يريدون ازدياد الفهم. كما أخشى الذين هم على صلاتهم ساهون. والصلاة تقام في الملكوت على طريقة ما. غير ان المعرفة تبدو في الملكوت أيضاً على كثافة ما والأكمل أفضل من الكامل.

ما يعزيني عن هذا التقصير ان هناك مسجداً غير منظور يجتمع فيه محبو الرب من كل دين يقيمون فيه الصلاة ويتبلغ منهم الكل بقدر حتى يجمعنا الله في المسجد السماوي غير المصنوع بيد ويمدنا الله فيه بالرحمات وربما يزيدنا فهماً لأن الله عقل أيضاً.

ما يحزنني من سنوات عديدة هو ما يبدو لي من ان الهيكليات الدينية على اختلافها تدفعها عوامل كثيرة في أزمنة الناس الى ان تنهمك بنفسها وأنظمتها ورجالها وتهمل الكلمة وادخالها الى ثنايا القلوب. أجل كل الديانات عندها حلقات دراسة لكتبها المقدسة والمذاهب تتسابق في النشاط. غير ان إقبال المؤمنين المسيحيين على العبادات العظيمة والضخمة جعل درس النصوص الالهية يتضاءل جداً. غير ان شيئاً لا يقنعني ان أي نص طقوسي أو نص للآباء مهما سما له في النفس الوقع الذي لكلمة الله. مرة قال لي عالم ليبي في الاسلاميات: لا شيء في الاسلام يؤثر في الانسان مثل النص القرآني. شهادتي المماثلة ان لا شيء أعرفه في كل التراث المسيحي يفعل في النفس المسيحية مثل الانجيل. أضيف الى هذا ان النفوس التي تأصل فيها الانجيل قادرة على ان تواجه تحديات كبيرة من الحضارة الحديثة بما هو اعظم من الايجابات الفلسفية أو اللاهوتية الحاضرة.

“الكلام الذي اكلمكم به نور وحياة”. هذا الكلام الذي نطق به السيد لا يعني فقط معرفة ولكنه يعني تنقية للنفوس وارتفاعها الى الدرجات العلى من القداسة والفهم في آن. طبعاً ليس الملكوت مجمع لاهوتيين والحمد لله ولكن اذا كانت السماء تكمل ما كان في الأرض جميلاً فلا بد من ان تستمر الكلمة الالهية في السماء اذا ما تمجد حاملوها.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

يوحنا الدمشقي/ الأحد 4 كانون الأول 2005 / العدد 49

اليوم نعيّد ليس فقط للشهيدة بربارة ولكن للبارّ يوحنا الدمشقي المتوفى السنة الـ 749. يوحنا هو الاسم الذي اتخذه في دير مار سابا في فلسطين لما تَنسَّكَ فيه. هو منصور بن سرجون. جده منصور كان حاكم دمشق في زمن البيزنطيين. فاوض العرب على تسليمهم دمشق خشية دخولهم المدينة عنوة واستعمال العنف. والده سرجون ولاّه معاوية بيت المال.

لا نعرف اذا كانت العائلة متحدرة من أصل عربي او من أصل سرياني من حيث اللغة. المعروف ان يوحنا كتب فقط باللغة اليونانية التي كانت آنذاك لغة اهل المدن.

اخذ بكل علوم عصره، وليس ثابتا انه كان يتقن العربية. لم يكتب بها لأنها لم تصبح في بدء الفتح العربي لغة المواطنين. الا انه كان صديقا للخليفة يزيد بن معاوية، ولا بد انهما تخاطبا بالعربية. وبقي على علاقة وثقى بالقصر حتى خلافة عمر الثاني الذي منع توظيف المسيحيين، ولعل يوحنا احس ان هذا علامة قمع فزهد قديسنا بدمشق وبالدنيا والتحق بالحياة الرهبانية.

في تلك الفترة شنت الامبراطورية البيزنطية حربا على الايقونات، فدافع القديس عن الايقونات وكتب فيها ثلاث رسائل صارت هي الأساس الذي اعتمده المجمع المسكوني السابع ليُظهر ايماننا بالايقونة ويدعمه.

رسمه بطريرك اورشليم كاهنا فصار واعظ المدينة المقدسة ويتمم خدمته في كنيسة القيامة. بقي لنا من مواعظه تسع اكثرها عن والدة الإله. غير ان اهم كتاب له هو «ينبوع المعرفة» يشتمل على ثلاثة ابواب، اولها فصول فلسفية كناية عن تمهيد للبحث اللاهوتي. يلي ذلك باب الهرطقات، واخيرا الجزء الأعظم «في الإيمان الارثوذكسي» الذي يقع في مئة مقالة.

إلى هذا كتب في الهرطقات التي خرجت عن الكنيسة. وعنده جدل مع المسلمين نُقل إلى اللغة العربية.

إلى جانب الكتابة العقائدية أرسى أسس كتاب المعزّي، وتُنسب اليه قطع طقسية مثل الفصحيات وبعض القطع الأخرى.

لا نعرف بوضوح كامل دوره في علم الموسيقى الكنسية، ولكن لا شك انه اسهم في تلحين قوانين وطروباريات وفي وضع نظام العلامات الموسيقية.

كتابه في «الايمان الارثوذكسي» اهميته الكبرى انه اول كتاب يجمع كل العقائد المسيحية بشكل منتظم، منسّق، مبوّب. قبله كانت توضع رسائل متفرقة: مثلا في التجسد الإلهي لأثناسيوس الكبير، او رسائل في الثالوث المقدس لغريغوريوس اللاهوتي. اما يوحنا الدمشقي فشرح كل العقائد المسيحية مرتكزا على الآباء، وبناء على عمله صارت الكتب المتعلقة باللاهوت العقائدي تُكتب هكذا.

ما لا بد لنا من تذكره من تعاليمه عن الايقونة قوله إن تحريم تصوير الله في العهد القديم أنه كان غير منظور. ولكن بعد التجسد صار الله ذا شكل بشري، فنحن نُصوِّر المسيح لا الآب ووالدة الإله والقديسين. إلى هذا فالايقونات كتب للأميين.

اهمية الرجل جمعه صفات كثيرة في شخص واحد: قداسة السيرة، اللاهوت، الاطلاع على علوم العصر، الجرأة في مواجهة البدع والانحرافات، الموسيقى والتأليف الطقوسي، الحوار مع غير المسيحيين. نفعنا الله بشفاعته.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

العثرات / السبت في 3 كانون الأول 2005

“ويل لذلك الإنسان الذي به تأتي العثرة (متى 13: 7). في المصطلح الإنجيلي العثرة هي تلك السقطة التي اذا ارتكبتها وعرف بها آخر يعثر على طريقه الى الخير. هي صدمة تهز كيانه لأنه نزهك عن الكبائر كما يقول المسلمون أو الخطايا الجسام كما نسميها نحن. لكونه جعلك في مصف الأبرار أو الطاهرين حتى الكمال لا يتوقع منك سقوطاً كبيراً أو صغيراً اذ تخيل انك لست مصنوعاً من تراب أو أنك تخطيته الى نور كبير عمّ كيانك فأنى لك ان تعود الى هذا التراب المقيت. كأن الانسان الذي يشتاق الى الله لا يستطيع ان يحيا الا باشعاع بعض الوجوه عليه ولا يقدر على ان يتصور دنيا بلا قطع من الجنة فيها هي قامات تضيء وتبدو لنا قادرة على ان تقيمنا من هبوط اذ لا نطيق الهبوط فنطل على النهوض ولا نبقى ناهضين ولكنا نتعزى بأن قوماً منا لا يذنبون بشكل مريع وانهم قد يكونون رجاء تجدد لنا اذا حان أوان الرضاء.

ما من شك في اننا في المسيحية نعيش بسبب من كل هذه الدعوات المتكررة في العهد الجديد الى ان نتعاضد روحياً ونبني بعضنا بعضاً ونحب بعضنا بعضاً لكوننا أعضاء متماسكين في جسد المسيح. وهذا مفهوم الحياة الروحية الجماعية لكون الكنيسة كالصليب فيها بعد عمودي يصلك بالله وبعد أفقي يقيم صلة بينك وبين الإخوة. فكل منا ينمو بالآخر، يتكل على دعاء الآخر من أجله. كل منا يقول لأخيه بالايمان: صلّ لأجلي. في هذا العمق الروحي يحتاج المؤمن الى نماذج، الى ايقونات حية حوله يقتدي بها أو يتكىء عليها تعلمه بضعفه من جهة وبالتكامل من جهة وبأن المخلص ترك لنا من البشر من ينقل الينا هذا الخلاص بصورة محسوسة. من هنا قول بولس لبعض من مؤمني عصره: “تشبهوا بي كما أتشبه أنا أيضا بالمسيح”.

غير ان الانسان الذي تتكل أنت عليه ليقوم مقام الايقونة يتصدع كالايقونة، يشيخ كالايقونة. ولعلك في شاعريتك الروحية استعظمته أكثر مما يستحق واذ بك تكتشف انه بشر ولعلك تكتشف ان فيه بعض هشاشة ما كنت انت مستعداً لرؤيتها بلا اهتزاز فيك.

ثم هناك من كانت عيوبه بادية لبعض وما هي ببادية لك لان خيطاً ذهبياً من العشق يربط برؤية نزلت عليك وعشت بها. كنت ترى بلوراً واذا بالبلور ينكسر أمامك فجأة فينشىء هذا فيك صداماً مرعباً. ليس أحد منا لا يرى في هذا أو ذاك أخطاء مريعة تحدث فيه خيبات موجعة. وتتراكم الخيبات أحياناً. ولكنك اعتدت الصداقة ولا تريد ان تبتعد لئلا تجد نفسك في عزلة تامة. يكفيك، اذذاك، شيء من فضيلة الصديق بعد ان تساقطت جمالات كثيرة. تؤثر ان تتغذى من هذا النزر القليل على ان تعيش في صحراء الحب.

واذا انتاب اصدقاءك هشاشات تعيش انت عليها كما يعيش الفقير على الفتات.

في حصاد الهشاشات قد لا يؤذيك شيء مثل ما يؤذيك وضع كاهن (أو اسقف) رأيت في وجع ان قلبه ليس لله وانه تالياً اخطأ العنوان في اتخاذه هذا الطريق. ربما ما كان هذا الرجل يعرف نفسه جيداً لما انخرط في هذا السلك دراسة ثم التزاماً. بالتأكيد ان اساتذته لم يعرفوه اذ ليس مثل الدراسة ما يحجب التفحص الحقيقي. هذا الشاب مغطى بمظاهر التقوى وما كانت بتقوى أو ان الرجل سقط في ما بعد بما تعرض له في مهمات الرعاية. نحن نعرف على وجه الدقة كيف يجرح الطهر ثم نعرف ان التوبة عسيرة وان معظم الناس يموتون في خطاياهم.

ما كنت مخطئاً في المبدأ ان تعلق آمالاً على راعيك أو راع آخر لأنك تعرف من الكتاب والتراث شروط الانتماء الى هذا المصف. غير ان الداخل اخطأ الخيار أو من اقتبله اخطأ الخيار أو كنت تظن ان أمثال راعيك محصنون لأنهم باتوا أشباه ملائكة وما كان لك النضج لتفهم ان ليس في العالم الروحي حصون وان البشر ركامات تراب مرمية هنا وهناك حتى يرضى ربك ويبني منازل قليلة من هذا التراب.

كثيرون تركوا رعاياهم أو مذهبهم في هذا الشرق لأنهم رأوا ما رأوا في مسؤوليهم. الخطأ كان في اعتقادهم ان الانسان قادر على ان يصنع من المسيح نسخاً وتالياً في اعتقادهم ان التراب له ان يصبح ضياء. هذا غير ممكن وغير مكتوب. ان تعطش انت روحياً لا يعني ان قربك ماء. كنت على حق لما سعيت الى أنوار وجه السيد ترتسم هنا وهناك. لكن هذا حققه قلة ويحققه بعض منا فترات ولكن لا نحققه كلنا وفي كل حين لأن السماء لم تهبط بعد على الأرض ولأن الملكوت لا يزال وعداً.

جميل ان تقفز في أشواقك تواً الى الفردوس وان تحس ان من انت مسحور بهم روحياً فردوسيون ولكن ليس من فردوسي. يبقى سؤال يحز في صدري بشرياً ولا يزعزع إيماني مطلقا وهو لماذا سمح الله بكل هذا التلف وسيسمح به الى الأبد. الجواب الذي أعرفه عقلياً هو ان الرب ارادنا احراراً وان نقبل اليه بحريتنا ولم يسخرنا لمشيئته كما تسخر انت الآلة. وثمن الحرية الارتفاع والسقوط وانت لا تسمو الى الألوهة إلا طوعاً وفي كل لحظة ينبض فيها قلبك وعليك ان تدفع ثمن تقلبه حزناً وان تبكي بين خطيئة واخرى نتتراءى لك صور من الفردوس حقيقية لتحقق الكلمة: “اننا بالرجاء خلصنا” (رومية 8: 24). وفي موضع آخر يؤكد بولس: “انكم بالنعمة مخلصون” (أفسس 2: 8).

واذا عرفت ذلك تفهم قول الله على لسان داود: “لا تتكلوا على الرؤساء ولا على بني البشر اذ ليس عندهم خلاص”. أنت مثل المعلم مشلوح على الصليب وأنت وحدك كماكان وحده وليس معه الا الآب. في الأخير الكنيسة هي المسيح المصلوب وليس أحد من البشر مهما علا شأنه يستطيع ان يفعل عمله أو ان يحجبه عنك والكنيسة هي انت والمسيح والذين يحبونه بحق. كافح حتى يسترد المخلص التائهين عن دربه واذذاك تكون معهم ولو لم تر وجوههم. اعلم انت انك حي بمحبة يسوع التي تنزل عليك.

Continue reading