كبير / السبت في 31 كانون الأول 2005
متعب ذكر الموت الذي متناه في السنة المنصرمة. ولكن لن ننظر الى الوراء كامرأة لوط لئلا نتحول أعمدة ملح بل نمتدالى الأمام راجين الخلاص. هل يعني هذا أن ينكفىء كل منا ليأسه من الأوضاع العامة، من افتقادالدولة مواطنيها بكمّ معقول من الخبز وما اليه. بمقدار معقول من الأمن بحيث تطمئن النخبة السياسيّة الصريحة، المتحدية الى سلامتها ولا يترشح أحد للقتل.
إذا كانت الأيام تتوالى كقطرات الماء وتتشابه الأزمنة لكون الحالة السياسية لا تزال مختنقة وخطانا فيها متعثرة ونفوسنا مصدومة. لا شيء يشير الى أن العوامل التي قتلت خيرة شبابنا زالت، بل كل شيء يدل على أن هذا البلد يستلم وجوده بمنة من الآخرين أو من شرائح فيه تعرف أنها تتكتل من منة الآخرين، وتأمن لهم لتسود في جزئيتها أو انفرادها أو انعزالها، تلك المفردات التي تقلقنا لأن لبنان لا يزال وطن الخوف. وأظن أن جميعنا خائف اليوم واننا لا نرى مخرجاً من هذا الخوف اذ نخشى كلنا التحجيم وأن نفقد الحرية من جديد لتعذر قيام اللحمة الداخلية. اذذاك نقع في بحر من التشتت والضياع وغياب اتفاق على صنع الوطن.
الذين يشتكون من وصاية جديدة ولم أسمعهم اشتكوا من وصاية قديمة، يترتب عليهم هم أن يقولوا لنا كيف نصل الى الحرية من الموت، وتقع عليهم مسؤولية تبيان كيف نصنع وحدتنا الوطنية بلا وصاية. هذا ليس كلاماً يدعو الى وصاية أخرى ولكنه دعوة الى أن يكشف لنا كل الأطراف ما يهيئون لإقامة لحمة حقيقية لا تقصى فيها شريحة ولا تسيطر شريحة بأي عامل من عوامل القوة.
واذا كانت قصصنا بضنا مع بعض ليست صراع عناوين أو مفردات (مثل أنت تريد وصاية وانا لا أريد وصاية) المطلوب أن يبين كل فريق كيف يلتقي وعلى أي موضوع يلتقي هو والآخر وذلك بصورة عملية في الإخلاص الكامل للبلد وحده. واذا تجلى هذا بصدق واقتنعنا بالإخلاص تزول تهمة الوصاية.
ولكن هبوا أننا رفضنا جميعاً بشفافية كاملة وصاية الولايات المتحدة واكتفينا برعاية الدنمارك مثلاً، هل لنا اعتراض على رعاية ما للبنان تحول حقاً دون وصايات كابحة وخانقة أوقامعة أو لاغية. لم يبقَ لبناني يعتقد ان جامعة الدول العربية قادرة على أن تحميه. هل من مروق في استعمالي كلمة حماية لبلد صغير كهذا ليس فيه اكتمال اقتصادي ولا قوة عسكرية كافية تحفظه؟ السؤال هو حماية ممن. ولكل جوابه عن هذا السؤال. اذا استغنى هتلر عن اختراق خط ماجينو فاكتسح فرنسا من سهول بلجيكا ماذا نعمل نحن اذا جيء الينا من البحر والبر والجو؟ دائما السؤال المطروح واقعيا هو ماذا يعمل الضعيف؟
لقد علمتنا التجربة أن أحداً في هذا المشرق ليس قادراً على حمايتنا أو راغباً فيها. وهذا يتعبه ويتعبنا ويتعب العرب. نختار من يحمينا من المعتدي أو من مواطنين لنا اذا عرّضوا الوحدة لانكفاك؟ كان زمن الحمايات لفئة من المسيحيين منذ القرن السادس عشر. هذا انتهى بنظام المتصرفية الذي عبر فيه عدة دول على حماية جبل لبنان ككل. تُركنا لأنفسنا بعد الانتداب وحسبنا أن وحدتنا تتحقق لكوننا أقمنا مسافة من سوريا ومسافة من فرنسا. السؤال الحقيقي هو هل من توافق ممكن بين استقلال ناجز ورعاية خارجية لا استبداد فيها ولا استغلال ولا تبعية ولا تذييل. هل الخيار هو بين رعاية خارجية واستقلال هش يلازمه ضعف كياني يفرضه صغر الحجم والعدد والتنوع الطوائفي الذي نحتاج فيه الى قناعة الوجود المدني المشترك والتركز حول الدولة.
أنا أطرح تساؤلات فقط لأننا نسير الآن في نفق مظلم وترتطم وجوهنا بعضها ببعض أو بجدران النفق. ولا نفع الآن أن تتحد هذه الكتلة بتلك اتحاداً كلامياً تشوبه المصالح السياسية العابرة. في الراهن إننا منقسمون واننا في حاجة الى حلول حقيقية لأوضاعنا المتأزمّة.
على رغم كل ذلك تولد السنة الجديدة من الرجاء أي من الله الذي عصيناه كثيراً في الحرب الأهلية التي لم نتجاوزها. تغير اللاعبون أو تشكلت ملاعب مختلفة واللاعبون هم هم وليس من توبة.
في وكر الأفاعي المخبّأة في الملعب السياسي هل يحمي الله برقته وحنانه كل واحد منا كي لا يذوق موتاً روحياً بعد أن ذاق البلد ذبحاً كثيراً. فاذا لم نتب جماعياً ليرفع الرب غضبه عن لبنان يبقى لكل فرد أن يتوب من خطاياه لئلا يموت هو روحياً. فإذا لم تصبح السنة الـ2006 جديدة على لبنان بما تؤتيه من خير ونعمة ورضا فلتكن على الأقل جديدة على كل روح ليتمجد الله فيها وتنتصر بها المحبة. والمحبون قد يحولون البلد فردوساً.
سيبقى كثير من الفقر زمناً طويلاً ويتعذر حل العقد ردحاً من الزمن ويظل الليل مخيماً على نفوس كثيرة ولكن من أعطي ذرة من الرجاء فليباشر بتجميل نفسه فيشع حيث كان ويفرح به كثيرون والصلاح قد يشكل ضغطاً على الأشرار وتقوى جماهير الأبرار. لعل السؤال ليس هو: ماذا تعطيني أو تعطينا السنة الجديدة ولكن ماذا يعطيني قلبي لو تجدد وماذا يعطي الآخرين.
فاذا قلت لقريب أو صديق غداً: كل عام وانت بخير فلا تذهب أبعد من قلبه الى الوجود لأن ذهابك هذا ليس بيدك. إنه بيد الله. ما هو بيدك إذا آمنت أن تصلح باطنك فيأتي ظاهرك مثله وقد يأتي ظاهر الآخرين شبيهاً بما تكون قد صرت عليه من بهاء روحي.
سنة للعالم نرجوها له جميلة. سنة للبنان ندعو لتكون بهية مثل جباله. سنة لكل منا تكلّلها المحبة أو تؤسسها. في كل هذا نحن فقراء الى الله الذي نجيء من نعمته فقط.
Continue reading