في اللغات التي أعرفها اوأطلّ عليها كلمة الأم تتضمّن ميما. نجد هذا في اليونانية القديمة وألسنة اوربا الغربية وتلك المشتقة من السلافي كالروسية ومثيلاتها. الكرجية تخرج عن هذه القاعدة. هذه الميمية الشائعة تبدو آتية من ان اول صوت يتلفّظ به الرضيع هو صوت الميم.
وحتى لا أوغل في التفلسف واضح من السلوك ان حبل السرّة ولو قُطع جراحيا الا انه يظلّ قائمًا نفسانيا بمعنى ان الوليد ولو كبر يبقى على علاقة عضوية بأمه وما لم تكن بالغة النضج تتصرف تجاهه على انه لا يزال في حاجة اليها. لا ألجأ هنا الى فرويد الذي يميّز بين علاقة الصبي وعلاقة الإبنة مع الوالدة على أساس الجنس. وقبل فرويد وبالاستقلال عنه نرى الفتاة معجبة بوالدها وبقوّته. ربما هيّأتها الطبيعة لإعجابها بعدالبلوغ بمن تحب.
البحث العميق الدقيق يتطلّب معارف لست أملكها. اني آتي أساسا من الاختبار ومن بنوتي. الواقع يقول اننا كنا أجنّة اي قائمين في بطن امرأة. تتغذّى مباشرة تسعة أشهر من امرأة وتتكيّف من الحشا بكثير من جوانبها البيولوجية وان كنا قائمين منذ البدء من لقاء رجل وامرأة ويستمر فينا اذًا عطاء الوالد. غير ان الجنين على رغم تكوّنه الأول ينمو بما يأخذ من والدته ويتطبّع بأحوالها المتقلّبة. الى هذا تنشئ الرضاعة علاقة مميّزة تؤثّر ليس فقط على الوليد ولكن في الأم ايضًا. يبدو ان الرضاعة ليست مجرد انسكاب لبن في جوف الطفل ولكن أحاسيس ذات طابع شعوري وتغيّرات تحدث في الأمّ وعلى رأسها الضم الى الصدر وما ينتجه من ارتباط بين الأم والوليد.
شيء من حميمية خاصة تجعل الأب عميق العاطفة اذا أخذ ولده كيثرا على صدره. شيء قريب من انضمام الولد الى أمه.
بعد الوالدية في طورها الأول اي قبل انتهاء الخامسة كل شيءممكن في هذه العلاقة. هناك تعلّق مرضي عند الولد بذويه وتعلّق مرضي بالذرية ما يخل بالعلاقة الى الأبد. بهذا المعنى ليست الأبوّة الصالحة او الأمومة الصالحة هي القاعدة التي تجرف الجميع. الخطأ يأتي أساسًا من التربية كما يأتي من رفض أبوة او أمومة ذميمة. أظن ان الشعراء الذين مجّدوا الأم كالشاعر القروي عندنا عمموا الحكم اذ جاؤوا هم من اهل طيّبين.
# #
#
في التكوين البيولوجي تطبيع او تطويع استهللنا به هذه الأسطر ولكنه قد يقود على طريق السهولة فتحسب الأم ان حنانها ينسال من نفسها الى المولود – وهذاواضح عند الحيوان- لأن الحيوان غير قابل للفساد «صلاحه» اذا صح التعبير منطبع فيه ولكن الحنو الكبير لا يأتي من الفطرة. هذا واجب صقله وواجبة تغذيته بما ليس من هذا الجسد وهذه الأعصاب. الإنسان نتاج عناصر متعدّدة المصادر لأنه حيوان اجتماعي كما يعرفه أرسطو. تنصبّ فيه روافد الأرض وروافد التاريخ. وبسبب من ذلك «حيوانية» ما في الأم في مرحلة الطفولة الأولى ليست سيئة الا اذا طغت طغيانا كثيرا.
هناك لا بد اذًا من ان تتثقّف المرأة كثيرا فتؤتي الولد العلم بمعناه الواضح. واذا كانت مرتبطة بالله تصلح ما اعوجّ في طبائعها وسلوكيّاتها لتنقل الألوهية التي حلّت فيها كما نقول في المصطلح المسيحي او اذا تخلّقت بأخلاق الله كما نقول في الإسلام. هذا ما يسمّيه انجيل يوحنا الولادة من الروح وطبعا يريد الروح الإلهي. كذلك يقول يوحنا اننا نولد ثانية من فوق. لهذا كان العلامة الاسكندري اوريجانس يكره تعييد الانسان لمولده. كان يعتبر ذلك أمرًا وثنيا لإيمانه ان الإنسان يولد من ماء المعمودية والروح القدس.
في الخلق الأول المستمر في الحبل والمولد تولد انت من لحم ودم. ولكن «اللحم والدم لا يرثان ملكوت الله». يبعثك في اليوم الأخير الروح القدس الذي يرعى الى النهاية العظام الرميم.
غير ان هذا السمو الروحي الذي أشرت اليه لا يحول دون القربى الجسدية التي تشير الى القربى الروحية التي يجب ان ترعاها انت حسب القاعدة الذهبيّة الثانية: «أحبب قريبك كنفسك». ومع ان الكتاب لا يتحدّث هنا عن النسابة الا ان ذويك يشيخون او يفتقرون او يمرضون ومن طاعة الله اذًا ان ترعاهم ولهم أوّلية في رعاية تعزيهم فيما العمر يطويهم. هنا تنشئ انت قربى جديدة تدل على طاعتك الله ويؤسفني ان ألاحظ ان الجمعيات الأهلية او الخيرية فقط في لبنان تهتمّ بالمسنين وان المجتمع الوطني ممثلا بالدولة لم يقم ازاء مسؤولية عن «الرياضة والشباب» مسؤولية مماثلة تجاه المسنين او ضمانا للشيخوخة وفي ذلك تكلّم كثيرا الرئيس اميل لحود غير ان شيئا لم تحققه الحكومات على هذا الصعيد.
# #
#
لا بد في تكويننا التنافسي ان نتمرّد بطريقة ظاهرة او غير ظاهرة على الأهل والحياة تقضي الا تفهم دائما في فتوّتك ما أخذت عن ذويك. وأنّي أحمد الله على ان الاستنساخ المعنوي غير صحيح فهناك من كان اكثر استقلال او اقل استقلالا عن اهله. ولكن في طور من أطوار حياتك يختلف بين الناس تفهم انك تجيء من حسنات ومن سيئات ذويك ثم يغرقك الحب في جلاء رؤيتك لهم والأهم في هذه الرؤية ان تقرأ النعمة الإلهية التي حلّت عليهم فتستعيد بالذكرى وتاليا بشيء من السلوك ما ارتسم فيها من جمالات الله.
وفي هذا تنتصب مريم نموذجا لمن ولدنا بالروح. هي ليست مثال المرأة. انها مثال الجميع برعاية نقيّة للمسيح. المسيح مولود امرأة لا رجل لها. هل ان ما يربطنا بالسيّد ينشئ عندنا روحا مريميّة. وهل اننا نسقط طهارة مريم على أمّهاتنا ونرفض بالرغم من العقل الفاحص كل كلام ملوّث عن أمّهاتنا. وجد رجل واحد في التاريخ المسيحي هو القديس مكسيموس المعترف قال: ان من ولد المسيح في الآخرين (في البشارة او التعليم) هو مريم ثانية.
بطريقة او بأخرى تتراوح بين الوضوح والغموض نريد ان نجعل امنا على مثال مريم في عطاء الذات والنقاوة غير المنثلمة ربما في حضارات اخرى شيء يشبه ذلك. ولكني لست أعلم. غير ان ما اعرفه ان الأم هيّأتها الطبيعة اولا ثم تهيئها الرحمة الإلهية على إمكان ان تصير كائنا عظيمًا يسهم كثيرا واحيانا -وليس في كل حين بالضرورة- يُسهم في خلاصنا وتقديمنا الى الرب آيات مذهلة.
Continue reading