Monthly Archives

October 2005

2005, مقالات, نشرة رعيتي

الغني ولعازر / الأحد 30 تشرين الأول 2005 / العدد 44

المثل الإنجيلي قصة تعليمية ألّفها يسوع. والمثل يؤخذ جملةً ولا تؤخذ كل أجزائه على أنها ذات معنى لاهوتي. النص يتحدث عن حوار بين هالك وهو الغني ومخلَّص وهو لعازر الفقير، وهذا لن يحصل حسب تعليمنا إذ تقول كنيستنا أن الهلاك والخلاص أمران يحلان بعد القيامة بصورة نهائية. وقبل ذلك نقول أن الأرواح في قبضة الله ولا نتحدث عن أماكن. فمن الأرواح من مات أصحابها على رجاء القيامة والحياة الأبدية فهي ناجية على الرجاء. أما الدينونة فهي الدينونة الأخيرة. وأما من ارتكب خطايا جسيمة ولم يتب فعدم توبته يعذبه قبل الدينونة حتى يصدر الحكم الأخير.

          أما السيد فيتكلم على هذه الأشياء كما كان التفكير عند اليهود. المسكين هو في حضن إبراهيم. حافَظْنا على هذه العبارة ونُصوّر النفوس في هذا الحضن في أيقونة الدينونة. لذلك لا نقول نحن ان الإنسان الصالح يذهب الى السماء لأن السماء هي الغبطة الأخيرة بعد ان يبعث الله الأجساد من قبورها. نقول ان نفوس الصالحين في الفردوس او الملكوت. بالمقابل لا نقول ان نفوس الأشرار هي في نار جهنم. وبصورة عامة لا نستفيض في الكلام عن وضع الموتى قبل القيامة. نصلي من اجلهم لأن بعضا منهم قابل للرحمة. نصلي من اجل كل الناس اذ قد يكونون في الفردوس حيث يرتقون من حال الى حال، ولا نقول عن انسان انه نهائيا في الحجيم اذ لم يكشف الله لنا شيئا عن هذا.

          ليس المجال هنا للمناقشة ولكن لا يقودك المثل الى القول ان الغني المذكور عند لوقا قال عنه السيد انه في جهنم وقال عن لعازر انه في السماء. لم يعط السيد في المثل حديثا لاهوتيا عما يجري الآن للنفوس قبل الدينونة. جل ما أراده أن الذي يتنعم في هذه الحياة الدنيا متجاهلاً المحبة ولا سيما محبة الفقراء تنقلب أوضاعه في الحياة الأخرى. إنجيل لوقا إنجيل الفقراء بامتياز. وهو القائل: “طوباكم أيها الفقراء لأن لكم ملكوت الله”. خطيئة الغني انه لم يلتفت الى محتاج كان مطروحا عند باب الغني. لم يكترث له. الفقير كان له تعزية من الكلاب التي كانت تلحس قروحه.

          اسم لعازر وضعه السيد وهو يعني “الله معيني”. الغني لم يعطه الرب اسما وكأنه لم يكن بشيء. يموت الفقير ويذهب الى حضن ابراهيم. رافقته الملائكة إلى فوق. بشكل يتعمد فيه يسوع القسوة قال: “مات الغني فدُفن”. لم يكن له من ملاك يعينه. طلب الغني رحمة من ابراهيم ان يرسل لعازر ليغمس طرف إصبعه في الماء ويبرد لسانه. لم يقل انه اخطأ في حياته. هذا نوع من التذكر الذي لا يعني توبة، والتعليم الشائع عندنا ان الإنسان اذا كان يتوقع الهلاك لكونه اخطأ جسيما لا تتحرك نفسه لكي تتوب. الحركة البشرية في اعتقادنا هي التي يقوم بها الانسان في هذه الحياة نفسا وجسما معا.

          طلب الغني ان يُرسَل مَن يقول لإخوته ألاّ يفعلوا ما يستوجب لهم العذاب، فأجابه ابراهيم ان عندهم موسى والأنبياء فليسمعوا لهم. هذا يذكّر بعدد من الناس قال لي منذ مطلع شبابي: “مين رجع وخبّرنا؟”. وهؤلاء أرثوذكسيون كانوا يذهبون احيانا الى الكنيسة وكأنهم لم يسمعوا: “المسيح قام من بين الأموات…” او اية قطعة عن الذين هم في الملكوت او لم يحضروا مأتمًا.

          افهم ان تأتي هذه الشكوك من الملحدين، ولكن كيف يقول بها مَن يسمّي نفسه مؤمنا. فليسمعوا لموسى والأنبياء نترجمها اليوم: فليسمعوا من الإنجيل وكل الصلوات التي استند اصحابها الى الإنجيل لما ألّفوها. يسقط الإيمان اذا لم تجدده بقراءة الكتاب الإلهي ومشاركتك الخدمة الإلهية بفهم.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

لا تقتل / السبت في 29 تشرين الأول 2005

“لا تقتل” (خروج 20: 13) من الكلمات التي اعطاها الله لموسى على الجبل ويقابلها الحكم “من ضرب انسانا فمات يُقتل قتلا” (خروج 21 : 12). لقد قال الله هذا في ما قال لان الانسانية مجرمة منذ البدء حسدا ولكل سبب يجعلنا نلغي الانسان الآخر. عابد الله يقر بوجود الآخر لعلمه انه اخذ من الله حقه في الحياة. ويؤمن العابد ان الخالق احتفظ لنفسه بحقه في استرداد وجود هو اعطاه ولم يفوض الى احد هذا. والقاتل يسلب سيادة الله على الوجود.

اتخذ الناصري هذه الوصية وكشف لنا جذورها لنستأصلها فقال: “قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. واما انا فأقول لكم ان كل من يغضب على اخيه يكون مستوجب الحكم” (متى 5: 21 و22) ما قاله السيد عن اسباب الخصومة وما دعا السيد اليه للكف عنها مرتبط بالوداعة التي قال اننا نتعلمها منه. غير ان الذروة في كل هذا ما قاله الله عن وحيده على لسان اشعياء واستشهد به متى: “هوذا فتاي الذي اخترته. حبيبي الذي سرت به نفسي… لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع احد في الشوارع صوته. قصبة مرضوضة لا يقصف. وفتيلة مدخنة لا يطفئ” (12: 18–20) فان لم يلامسك اللطف الالهي فانت شاتم او ساب او غاضب اي انت قاتل في داخلك لانك لم تغفر واذا لم تغفر تكون قد كسرت الصلح المفروض ان يسوس كل علاقاتك وتكون قد حدت عن ايماننا بأننا جميعا ابناء الله اي ابناؤه بالمعية.

ان ضميرك في هدأته يبغي المعية. لذلك يطاردك القتيل ومن تحسب انك الغيته يقض مضجعك ويقال ان بعضا من القتلة تسبب لهم جريمتهم وخز ضمير لا ينتهي الا بالموت. حدثني احد الاصدقاء الصحافيين انه عرف قناصا اعترف له انه لا ينام وقال: استفيق مذعورا وارى الذين قتلتهم في الثياب التي رأيتهم فيها في الحرب يعبرون امامي الواحد وراء الآخر.

امام هول الفواجع قال داود النبي: “نجني من الدماء يا الله”. انها لنعمة على الحاقدين والكارهين والاشداء في الغضب ان ينجيهم ربهم من ان يقتلوا. القضية كلها تكمن في هذه الانا الفظيعة التي لا تعترف بالآخر بغضا ولا تحس باننا معا نستطيع ان نبني هذا العالم وبالتكامل في ما بيننا. ان تشتهي ذاتك مقررا لكل شيء حاسما كل شيء، فارضا رايك على اهلك وعلى غير اهلك. هذا كله سبب الاجرام. وأما ان تعتبر نفسك واحدا من كثيرين، قابلا اختلافهم عنك، وفي الاختلاف متعاونا يجعلك رجل سلام.

السلام بمعناه الشخصي هو ذلك الهدوء الداخلي الذي عبر عنه القرآن بقول هابيل لاخيه قابيل (او قايين): “لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما انا بباسط يدي لأقتلك اني اخاف الله رب العالمين” (المائدة 28 – 29) ثم يرتفع التنزيل من حالة شخصية الى كشف انسانية بهية اذ يقول: “من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكأنما قتل الناس جميعا ومن احياها فكأنما احيا الناس جميعا” (المائدة 72).

احد ولدي آدم اذاً اراد ان يقتل والآخر لم يرد. فهذا يجعلنا نرفض فكرة المولود مجرما بحكم الوراثة التي روجها الطبيب والعالم الجنائي الايطالي لمبروزو المتوفى سنة 1909. اجل لما كان استاذنا في القانون الجزائي يدحض امامنا هذه النظرية وذلك منذ ستين سنة ونيف ما كان العالم يعرف علم الجينات. غير ان هذا العلم حتى اليوم لم يصل الى امر محتوم يتعلق باخلاقيات موضوعة في الجنين. ما من شك في ان ثمة رجالا مجرمين قد يؤثرون في سلوك اولادهم. ولكن هذا ليس قطعيا اذ تأتي ردات الفعل عند الولد مناقضة. على هذه الصورة يأتي ابن الانسان الغضوب لطيفا جدا لاشمئزازه من غضب ابيه او امه. كذلك اولاد السكير لا يبدون سكيرين بالضرورة. ليس عند احد فطرة على الاجرام.

اما البيئة والقانون فيساعدان. عندما يكون السلاح الفردي شائعا بكثرة ويفاخر الذكر امام اولاده واصحابه باقتنائه فمن شأن هذه الحال ان يصبح السلاح اداة للغضب الشديد ولاسيما في بيئات قاسية. مثل على ذلك اذا كان سائق سيارة مسلحا واصطدم بسائق آخر مسلح ولم يتفاهما حضاريا في شأن الخبير يتحول الوضع الى معركة.

ولكن ينبغي دائما ان نصل الى الاعماق في المصادر الانجيلية كونها اظهرت لب المسألة. فالناصري يقول: “سمعتم انه قيل عين بعين وسن بسن. واما انا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر ايضا”. (متى 5 : 28 و29). عين بعين وسن بسن قول من العهد القديم لا يبطل يسوع حرفيته ولكنه يتجاوزه بمعنى انك ان صرت في المسيح لا تحتاج اليه ولا تستعمله. عين بعين… موقف حقوقي تجاوز فيه موسى الثأر فقال ان احتكموا للقضاء. هو المساواة بالقصاص اذ يقتص منك القضاء كما اقتصصت من اخيك. هناك يقول يسوع: ان كان هذا اخاك فما حاجتك الى محكمة. لا تقاوم الشر الذي رأيته عند اخيك بمثله. قاومه بطريقة اخرى. هذا قد آذى نفسه ولم يؤذك ان كنت محبا. فالمحب لا يؤتى شرا. تجاهل اذاً انه قصد اذيتك. واعرف انه اوقع نفسه في خطيئة الغضب او الحقد او الكيد او ما اليها وداوه إذ لما اضر هو بك عيّنك الله طبيبا له. فكّر في الخطيئة التي اقترفها او جرحته. فاذهب وعالجه. واذا لم تعمل هذا تكون قد حزنت لما لحق بك من مضرة ولم تحزن للضرر الذي اصاب الآخر. تكون قد انغلقت واشفقت على نفسك ولم تشفق على الآخر.

غير ان قمة الكلام عند يسوع هو في الآتي “سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك. واما انا فأقول لكم احبوا اعداءكم. باركوا لاعنيكم. احسنوا الى مبغضيكم. وصلوا لاجل الذين يسيئون اليكم ويطردونكم لكي تكونوا ابناء ربكم الذي في السماوات” (متى 5: 43–45).

شخص يناصبك العداء لسبب في نفسه. عندما فعل هذا اقام نفسه في سوء الخطيئة وظلامها. انت يطلب الله منك ان تزيل عنه العداوة لكونك تريده طاهرا، معطيا، محبا، مكللا بالمجد الالهي. ليس لك من دواء الا ان تحبه اي ان تنتبه الى حاجاته وتعنى به كما فعل السامري الشفوق الذي عالج يهوديا جريحا ملقى على الطريق وهو على غير دينه.

يتبسط يسوع فيقول بعد احبوا، باركوا ثم احسنوا. باركوا اي استنزلوا النعمة الالهية على الخصم ثم انتقلوا الى الخدمة العملية بالاحسان وقمة الاحسان الصلاة. فخصمك ان كان شريرا فانما يرحمه ربه بالرحمة التي يغدقها عليك. المحبة هنا ليست العاطفة التي لك نحو زوجتك واولادك والاقارب والاصحاب. هي ان تخدم مجانا ولا تنتظر مكافأة. فان عاملت خصمك بهذه المجانية تكون خدمته كما تخدم الرب.

انا لا انكر التربية ومساعي الدولة. ولكن الدول قد تسقط وسقطت والعائلة قد تضعف وهي آخذة بالانهيار في الغرب وبعض الشيء عندنا. سلام الانسان لا يأتيه بالهيكليات الاجتماعية بل من نعمة المحبة التي لا أسمى منها في هذا العالم وفي السماويات. “لا تخافوا ممن يقتل الجسد”. المهم الا تبيد قلبك بالبغض لان القلب هو الذي يقتل.

السلام ينزل على قلبك من فوق ثم يخرج منك الى القلوب الاخرى.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

الصبر / الأحد 23 تشرين الأول 2005/ العدد 43

الصبر ليس الانهزام أمام المصاعب. ليس الاستكانة. لا يقول الصابر: أنا لا استطيع شيئا فإن الأمور هكذا تحصل وهكذا ستبقى. كل منا يحزن إذا صدمته الأشياء ولكن الصابر لا يقيم في حزنه إلى الأبد لأنه ثابت في الله. الصابر مجروح كما أنت مجروح ولكنه يأمل بأن الرب سيضمد جراحه ويؤتيه اليقظة والتعزيات. قد ينتظر كثيرا ولكن التعزية تجيء إليه.

هو لا ينتظر التغيير من مرور الزمان. فالزمان لا يشفي كل شيء. المؤمن يعرف أهمية النعمة وانها هي التي تبادر بخلاصنا. يصبر ليحافظ عليها ولا يبددها باللهو، ويؤمن بأن الله أبوه ولا يتركه إلى الألم أو الضجر طويلا.

في الحياة اليومية ترتطم بجدران ولكنك تصمد أمامها لأن الإيمان ينقل الجبال والجدران فلا يبقى أمامك حائط. تكون قد علوتها إذا تمسكت بالله. أما قال السيد: «من يصبر إلى المنتهى يخلص»؟ لماذا قال إلى المنتهى؟ لأن الإيمان الحقيقي يحفظك إلى المنتهى. فعلى قدر ما تفرغ نفسك من عدم الإيمان ومن الخطايا تنفتح أمامك أبواب السماء ويمطر الرب عليك نعمه.

تابع الله في كل كلمة منه يتابعك. ابقَ على اليقظة الروحية ولا تنم إلى الموت. ابق على حركتك الروحية الداخلية بحفظ الإنجيل والصلاة. لا تتأفف ولا تتذمر ولا تشتم حتى يظل الله مقيما فيك. اهدأ واذكر الموت فإنه قد يباغتك. اعبر عن اللذات المؤذية التي إذا قطفتها تؤذيك. قد تحزن لحظة إذا لم تأخذها، ولكنك تفرح بعد لحظة لأن الروح القدس يكون قد حلّ فيك. ان التواصل بينك وبين الله يجعلك ساهرا على نفسك، مراقبا لفكرك ولقلبك بقوة الكلمة الإلهية والصلاة فإنها هي القوة التي تجعلك مجابها لكل محنة.

لذلك قال الرسول: «ان عملتم الخير وصبرتم على الألم، كان في ذلك حظوة عند الله» (1بطرس 2: 2). عند ذاك تفهم ان الصبر يأتي من الداخل بعد ان يكون المسيح جعل نفسه في داخلك. هذا البنيان الروحي الذي تكون قد أقمته في داخلك يجعلك مالكا نفسك في كل شيء وواقفا أمام كل شيء وما تطلبه مع جميع القديسين هو «ملكوت يسوع المسيح وصبره» (رؤيا 1: 9).

الصبر لا يجمدك ولا يحجّرك. عكس ذلك، يجعلك ذا حيوية رائعة في هذا العالم، محوّلا لما حولك ولمن كانوا حولك. صابرًا، أنت متحرك بامتياز، تحتمل السجون والتعذيب واضطهاد بعض الناس إياك لأن نفسك لا تعرف اليأس إذ يتنزل عليك الرجاء على الدوام.

الكثير مما حولنا مليء بالشرور. قد لا تغير أنت محيطك كله، ولكنك تغير نفسك وبعض الذين هم حولك. قد تأتي بناس كثيرين إلى الصبر فلا تخف من ان أشياء كثيرة لا تتغير في عائلتك وبيئتك وبلدك. جهادك وجهاد الذين معك هما الضمان الوحيد للتغيير. المتأففون والمتذمرون لا يغيّرون شيئا. الذين يشتمونك يسيئون إلى أنفسهم فقط.

ابقَ على أخلاقك وفي الخدمة المتواضعة والصمت أمام النمّامين والحاسدين لأنك بهذا قد تخلّصهم. اعرف انك قائم على الصخرة التي هي المسيح وان ما ينتظرك هو ملكوت أُعد فقط للذين صَلبوا أنفسهم مع الشهوات. أنت موعود بنور المسيح اليوم وغدا.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الملكوت القائم الآتي / السبت في 22 تشرين الأول 2015

المسيحي معذب أبدا لان الملكوت حل بمجيء الملك اعني المسيح ولم يكتمل اذا لم يصبح كل البشر بعد على صورة المسيح. ويقوى عذاب المؤمن اذ كان يرجو ان تكون الكنيسة مجتمعا ملكوتيا على قدر ما يسمح بذلك الضعف البشري لكن المجروحين بالشوق الالهي لا يرون ذلك كامل التحقيق واحيانا لا يرونه قريبا من التحقيق. وكلما ازداد الانسان غيرة يريد ان يشد الايام الاخيرة الى يومه الحاضر حتى لا ترجئ عيناه سطوع المجد الالهي.

لماذا إلحاح المسيحية على الكمال منذ الآن؟ ولماذا قال المعلم: “كونوا كاملين”؟. لما قال الناصري هذا ما كان اسير الزمن ولو علم ان احدا لا يكمل في حدود الزمان. غير ان يسوع يقتحم هو ازمنة الناس ويشدها الى المستحيل. ولذا اعطى مقولة الشهادة ابعادا لم يعرفها العهد القديم بضراوة. والشاهد ينقل المشهد الذي رآه اي انه كالمشهد. في المسيحية التركيز ليس فقط على السمع ولكن على معاينة الله اي على ذوقه هنا والسلوك الحسن يفهم على انك جئت من إخلاق الله لانك شاهدته في قلب نقي. من هنا ان من رآك يكون قد رأى الله واخذه الى قلبه. من هنا ان مقولة الشاهد في الحياة المسيحية هي اهم من مقولة السامع ومع ان المسيحية تتحدث كثيرا عن البشارة الا ان المبشر لا ينتقل كلامه ولا يفعل الا لكونه عاين في نفسه مجد الله.

ويؤذي اهل الملكوت ان يلحظوا ان المسمين على اسم المسيح ليسوا افضل من باقي البشر وان المعمودية ما نفعت الا قلة. اهل الملكوت لا يرون ان التائبين كثرة وان من ابتغيت منه الشهادة لا يؤديها ولا يطلق بكلام الطيب الذي ينتظر من فمه كأنه ينطق بفم الله وكأن الانجيل بات هدرا او بعضا من هدر، كأن القلة العزيزة فقط احست بالحنان الالهي وانطقها، قولا وفعلا، بلسانه وكأن الكثيرين الذين جلسوا الى مائدة الرب خرجوا الى الليل.

تبدو المأساة اكثر وضوحا في الاكليرس وهي كلمة يونانية تعني النصيب اشارة الى الكهنة العبرانيين الذين لم ينالوا نصيبهم من الارض لانهم جعلوا الله نصيبهم. والذي سموا كذلك في الكنيسة اي العائشون بالاستقلال عن مصالح لهم في الارض قد لا يكونون خيرا من العامة مع ان اغناطيوس الانطاكي المستشهد السنة الـ117 يجعل كلا منهم ايقونة المسيح. والاصول القانونية المتبعة في الكنيسة الارثوذكسية اليوم تقول اذا محوت، بمرور الزمان، صورة القديس عن سندها الخشبي ينبغي ان تحرقها اذ لا يسوغ تكريم ايقونة لم تبق ايقونة.

أجل في الفعل التاريخي المطران او الكاهن بشر والكل يعرف ضعفات بشريته ولست في حاجة الى تفوق عقلي كبير لكي تحلل الرجل ويعسر جدا ان تجد رجلا “بلا لوم” تجعله اسقفا كما تتطلب نصوصنا الموحاة علما بان الرتبة التي يقام فيها رجل عضوا في السلك الاكليريكي تصنف انتقال الانسان من وضعه العلماني الى مقامه الكهنة نعمة مكملة للناقصين.

غير ان الرسائل التي كتبت من بعد العهد الجديد عند الآباء اللاهوتيين او الادب النسكي تشدد على طهارة الكاهن المذهلة وهي ليست كذلك ولن تكون. في التعامل وبعد الخيبات يكتفي الشعب بألا يكون الرجل مرتكب الكبائر، محجما عن الرذائل الجسيمة. غير ان الوجدان المسيحي الحساس لا يقبل بذلك ويريد الكاهن ان يكون على نقاوة نادرة هو واهل بيته. ملكوتيا يكون او لا يكون رأسا لهم اذ كيف يكون قد صار أباً ولم يولد من فوق؟

ازاء ذلك لا يكون كل كاهن أباً روحيا اي قادرا على ان يلد الناس من المسيح. ان تعترف بخطاياك لا تعني بالضرورة ان تولد من جديد. لذلك يلتف الآتون من الروح بعضهم حول بعض على نسيمه ينتقل من واحد الى آخر بالمودة والتقارب الروحي وقراءة الكلمة والبكاء.

الجماعة المسماة مسيحية والتي لم تولد ثانية من السماء تحلل مجتمعيا وحسب الظاهر وتقيم الدعوى على ان الذين احياهم الروح فئة لتقول عن نفسها هي انها الكل اي الكل الفاتر الذي لا التزام عنده. اما انا فأقول لم تزدهر المسيحية الا في الفئات اذا قبلتم هذه التسمية الاقصائية. والاقصاء لناس اساسي عند الاكثرية حتى ترتاح الى التنكر لمقتضيات الانجيل.

المشكلة انه غير مرخص لك بأن تأتي بالانجيل وتحاسب الناس عليه او تدع نفوسهم تحاسبهم اولا لان علو الانجيل يزعج الاوضاع القائمة والناس القائمين على هذه الاوضاع وثانيا لانك تكون قد ادخلت مقاييس غير مألوفة لقيادة الكنيسة وكأنك انشأت كنيسة جديدة.

ان جديد المسيحية بالنسبة الى العهد القديم انه كان نظام الكلمة يذكر الانبياء بها ويخضع لها الشعب او لا يخضع. اما في العهد الجديد فبت في نظام الايقونة وهي – اذا شئت – الكلمة المفعلة والمبتغى دائما تفعيلها بحيث تقول: “تعال وانظر”. انت شاهد والآخرون شهود ومن رآكم يكون قد رأى الله وإلا لا يعبر الله الى احد او يعبر فقط الى من اصطفاهم بلا مساندة شاهد.

“الذين لم يسجدوا للوحش ولا لصورته” باتوا قلة عزيزة. هم الذين يحملون في نفوسهم نصر الله الى ان يملك الى الابد في الكنيسة الظافرة. غير ان الجهاد يبدأ وينتهي في كنيسة الارض بكل وداعة ولكن بكل صدق حتى لا يزول حرف واحد من شريعة المسيح وحتى نبقى بذا نارا متأججة.

الكنيسة فيها ناس قلوبهم في هذه الدنيا ومنها. هم اخوتنا على رجاء ان يتجلوا بالمسيح على قدر قبولهم النعمة حتى يأتي المسيح ثانية ويتوب اليه من يتوب. حياتنا في الكنيسة تأخذ قوتها واستمرار بهائها بالمخلص ولكن يرافقنا اولئك الذين لا يقربون وجهه بصدق وجدية. معنى ذلك اننا متألمون دائما في زمن الناس ولكنا لسنا تحت وطأة الالم اذ نذوق فيه قوة القيامة. لا تحمل انت الصليب الا شريكا للذين لا يطيقونه. هم ايضا يتألمون ولا يعرفون فصحية تنبلج من اوجاعهم.

الحياة في الكنيسة ليست مريحة لانها طلب ما كان غير محقق بالكلية. هذه فرادة المسيحي الملتزم ان لا سقف فوق رأسه الا قبة السماء. بهذا المعنى المؤمن مشدود الى فوق ولا يقف. فهمها يلفت من البر انت دائما جريح الخطيئة. المسيحية توق لكن التوق له وعود الحياة الابدية التي تبدأ معك من اول مسيرتك في التقوى. المسيحي انسان ممكن ليس بمعنى انه يكمل نظاما مغلقا، منتهيا، ولكن بمعنى انه يحيا على الرجاء وفيما هو يحيا يستلم ويحيا ليستلمه الله بمجانية رحمته.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

مثل الزارع/ الأحد 16 تشرين الأول 2005 / العدد 42

للناس امام الكلمة الإلهية مواقف مختلفة. غير ان الكلمة واحدة لا تتغير اذ نحيا بها ولا نحيا روحيا بغيرها. هذه زرعها الله بالإنجيل. منا من لم يقرأه اذ يتكل على ما يسمع منه في قداس الأحد، هذا اذا حضر كل احد. وفي هذه الحال يسمع جزءا صغيرا. والإنجيل تتدرب انت عليه بالقراءة الشخصية، بالاستمتاع بها اي بالتأمل فيها وعهد لك مع الرب ان تطيعها كليا.

          كذلك من كلمة الله ما تسمعه في العبادات ان كنت من العابدين. والعدد الكبير منا لا يدخل الكنيسة الا قليلا او يدخلها في المواسم. هذا يعني ان سماع الكثيرين للكلمة قليل.

          ولكن عودًا الى هذا المثل الذي ألّفه يسوع، عندنا فئة تسمع ويجرّبها إبليس كي لا تحفظ. تبقى الكلمة قليلا ثم يأتي روح الشر وينتزعها لأنه لا يريد الناس ان يتأقلموا مع الكلمة، لأنها اذا بقيت في الناس يكون هو مطرودا من الناس ولا يبقى له شغل.

          ثم هناك فئة قال عنها يسوع انها على الصخر. هذه تقبل الكلمة بفرح ولكن هذه المجوعة ليس لها أصل. تؤمن الى حين وترتد في المحنة. فالعيش مع الله ثبات. في مواضع كثيرة من إنجيل يوحنا يقول السيد: “من يثبت فيّ وانا فيه”. هذا الكلام يعني انك اتخذت الرب مقاما لك. اما اذا استطبت كلامه الى حين، وقت سماعه ولم تسكنه، تكون فقط قائما بمشوار. ليس مع الكلمة مشوار. انت تسير دائما فيها او تسمّر نفسك عليها او تبيت فيها بإصرار لأنك تعرفها الإنقاذ. وكلما قويت فيك تصبح ذلك الترس الذي يجعلك تصد التجارب. انت مع الرب في السراء والضراء، اذا بدا لك نافعا واذا بدا انه يعرقل مشاريعك. اي تبقى معه اذا استخدمته لمصالحك الدنيوية ولا تبقى معه في العراء، في الجفاف وهو يريدك ان تعطش اليه كما هو دائما عطشان اليك. يريدك معه في الصحة والمرض، في البحبوحة او الفقر، اذا احسست بقربه او أحسست ببعده.

          ثم عندك فئة رهيبة هم اولئك “الذين يسمعون ثم يذهبون فيختنقون بهموم هذه الحياة وغناها وملذاتها فلا يأتون بثمر”. تذكّر اننا في النشيد الشاروبيمي في القداس قبل ان نقدّم الذبيحة نقول: “لنطرح عنا كل الاهتمامات (او الهموم) الدنيوية”. فاذا عرقلك اي همّ او هاجس او وسواس او قلق لا تستطيع ان ترفع القربان لله ولا تقدر ان تتحد بجسد المسيح. ينبغي ان تكون حرا من كل ضغط نفسي لتتجنح نفسك وتطير الى الله.

          هنا لوقا يوضح اهم الهموم ويقول انه الغنى والملذات. تعرفون جميعا قول السيد: “لا تستطيعون ان تخدموا ربين، الله والمال”. المال في خدمتك. لا تصر انت عاشقا له اي أسيرا له اذ لا يبقى عند ذاك موضع لله في قلبك. لقد أسلمت نفسك ليسوع بالمعمودية التي فيها رفضت الشيطان ووافقت المسيح. بعد هذا صار الطعام والشراب والمسكن كلها ثانوية، فلا تقمها في المقام الأول من قلبك لئلا يتحجر قلبك.

          اما الملذات فهي طاغية. كن معتدلا فيها ولو كانت شرعية لئلا تؤخذ بها.كل لذة اذا استفحلت آسرةٌ اي صعب الرجوع عنها فقد تسجلت في اعصابك وذوقك. دور المسيح الأساسي انه المحرر.

          تبقى المجموعة الحبيبة الى الله، مجموعة الذين “يسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيد صالح ويثمرون بالصبر”. وكأنه يقول انت يمكنك بالنعمة التي تنزل عليك وبالجهد الموصول ان تجعل قلبك صالحا. وعندئذ تستحلي الله فيك. من هنا يأتيك الصبر على المحنة والقوة لتتصدى لها. فاذا بقيت على الإخلاص تنزل الكلمة عليك وتصير انت بالشهادة والعمل كلمة من كلمات الله.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الصبر / السبت 15 تشرين الأول 2005

كثير يزين له ان الصبر استسلام للقدر، للظرف الخائق، لوضع محتوم عليك في بيتك او عملك او بلدك او اية جماعة تنتمي اليها. فتبقى كما انت او حيثما حللت خوفا من ان يخضك التغيير، ذلك ان الجديد مخيف اذ عليك ان تختار امامه وان تألف ما لم تكن معه على ايلاف وقد يكون في هذا تخلق جديد وانت معشش في العتيق، راض بما تقول انه كتب عليك اذ تنيب الله ان يفكر عنك وان يحل لك مشاكلك بلا إسهام منك. ما من شك في ان الجبرية هي فلسفة الحياة عندنا. ربما البدوي الكامن فينا كان يرى ان ما فوقه اي الشمس هي دائما في محلها وان الصحراء التي تحت قدميه في محلها ايضا. اول استسلام هو للطبيعة ما في ذلك ريب.

وليس دون ذلك ايلاما كل اندراجك في الدولة لان كل دولة تطغى وترى انت ذلك يوما بعد يوم وكأنك مسجل لتاريخ لا يتغير وتستكين الى ان «الظلم في السوية عدل في الرعية» وكأن طبائع الاستبداد عميمة في كل شعوب الارض وما سمي الهدر عميم وتختلف البلدان بأن في بعض قضاة منزهين وفي بعض قضاة يسودهم الاقوياء. واما انت هنا فمن العالم الثالث حيث لا يرى احد في الدولة امكان قوة وترجيح العدل. فحالك ليست افضل من حال جدك البدوي القديم اذ الارض تحت قدميك تميد وعلى هذا هي لا تتغير.

ثم تأتيك تعقيدات شخصيتك وسقطاتك وتلحظ ان ما تفعله اليوم كنت تفعله منذ ازمنة سحيقة وتعرف ان ما في نفسك غير ما يبدو وان فيها نتانة كثيرة وانك غالبا لا تميل الى التوبة عنها لان الاغتسال الحقيقي يكلفك جهدا كبيرا وموصولا وتعرف ان هذا متعب. ولعلك تكون قد قرأت شيئا عن التحليل النفسي ونفقاته كثيرة ثم قرأت في الآونة الاخيرة عن حملة رهيبة في الغرب على التحليل النفسي وتريد الشفاء وليس عند الاطباء شفاء.

امام كل هذه قد تنهزم وقد تستطيب الانهزام وتستكين الى الغلط والغلط في هذا انك تدور حول نفسك ولا تريد الخروج من الدائرة وتتعب وتكتئب ولا تخشى ان تحمل كل هذا الى الموت والموت عندك آخر محطة من محطات اليأس. واذا كنت على هذه الاحاسيس فما من شك في انك مؤمن صغير وانك لا تعرف بعد صبر الابرار وظننت نفسك عليه.

والصابر لا يختلف عنك في انه مقيم بدءا في الاحزان ولكنه ليس مقيما فيها الى الابد. ويخطئ كما انت تخطئ ولكنه يعرف نفسه كذلك ولكنه يعرف ايضا ان الارض لا تميد تحت قدميه لانه ثابت في الله بمعنى انه مقيم فيه. فالله ليس عنده بيوت هنا. انه هو البيت. والصابر مجروح كما انت مجروح ولكنه يؤمن بان له من يضمد جروحه وهو الرب. وحتى يأتي الرب بتعزياته ينتظره باليقظة وقد ينتظره كثيرا، وفي الاخير يأتي.

ليس الزمان يعينه فالزمان لا يحمل مضمونا. انه يتعب حتى الضجر الكثير. كل منا يعيش في الوقت ولكن المؤمن يسود الوقت بما يعلوه اي بأبدية الرب. لذلك يقول الكتاب: «صبرا صبرت للرب». الصابر يرجو الرب القادم اليه بسبب من وعده وبسبب من رحمته. من هنا ان هذا الانسان ليس اسير شيء لانه مولود من فوق، على ما قال يوحنا الحبيب. المؤمن يعرف انه لا يلد نفسه ولا تلده جهوده ولو كان عليه ان يبذلها طاعة. هذا كان فضل اوغسطينس علينا انه كشف باصرار وحرب عقلية ضروس اهمية النعمة بادئة للخلاص. ولعل الفرق العميق بين اهل الايمان واهل هذا الدهر ان اهل الايمان عارفون بانهم يجيئون من الله ولا يجيئون من الارض ولو كانت ام اجسادهم. ان يصبر المؤمن يعني ان ينسلخ من امومة الارض الى ابوة الله له. من هنا ثقته ان الظالم اذا جلده فانما يجلد ما جاء من تراب الارض وهو يعرف ان ما كان من التراب لا يرث ملكوت الله. لذلك كانت عيناه مسمرتين على الحياة الابدية اي المسكوبة من عند العلي لانها حياته هو.

في المراس اليومي كثيرا ما ترتطم بجدار وليس عندك حل ان اردت ان تبقى لله مطيعا تصمد امام الجدار حتى ينقله عنك ايمانك، اذ لا ينفع ان تضرب رأسك بالحائط وانت في حاجة الى حكمة تخرج من رأسك.

لماذا قال يسوع: «من يصبر الى المنتهى يخلص؟» لماذا الى المنتهى؟ كان هذا حتى لا يتحير المصابر بين حل يأخذه من الارض وحل يستلمه من السماء. وسر الانسان الصبور انه يصلي ويتلقى نفسه جديدا بصلاته. فعلى قدر ما ينتظر الله يفرغ نفسه من ادعائه القوة وينفتح في اتجاه السماء حتى تمطر عليه بكل مكرماتها. الزمن فيه شيء واحد ان احتملته ان يجعلك تحس بفقرك وان تحب فقرك.

ان تحصل كل شيء لنفسك، ان تملأها حتى التخمة يجعلك تستغني عن متابعة الله. ان تتابعه هو اليقظة وهذا اسم آخر للصبر. واليقظة موهبة تنزل عليك. لذلك الصابرون لا يستكينون. هم في حركة داخلية دائمة وان بدا الصابر لاهل الدنيا كأنه بلا حراك. هو طبعا يتحرك بصمت والصمت ضد التأفف والتذمر والتضجر لانه اقامة في الله. واليقظة تعني الهدوء، وان تذكر الموت لتجبه به اللذة العابرة وان تتضع وان تحزن من اجل خطيئتك. قال احد آبائنا: «طوبى للذي يجعل خطاياه امام عينيه كل حين لان هذا الانسان يقظ دائما». ان تحزن الهيا اي بسبب اخلاصك لله يديم فيك اليقظة.

هذا التواصل بينك وبين الله بسهر الصلاة يجعلك مراقبا عقلك وقلبك ليكونا دائما في رقابة الكلمة. لتتغذى بالدعاء وتحيا به. فاذا كنت على ذلك امكنك ان تواجه كل تجربة شر تعتريك وتصمد بسبب القوة التي تكون قد اختزنتها.

من هنا قول بطرس: «إن عملتم الخير وصبرتم على الآلام، كان في ذلك حظوة عند الله» (1بطرس 2: 2). الصبر يأتي من الداخل كما اسلفت وابديت في الاسطر السابقة، هذا البناء الداخلي الذي تكون قد اقمته يجعلك مالكا نفسك في كل شيء وواقفا امام كل شيء وما تطلبه مع جميع القديسين هو «ملكوت يسوع المسيح وصبره» (رؤيا 1: 9) والصبر يعني هنا ثباتك انت في يسوع.

واذا كنت ثابتا على هذه الصورة فأنت ذو حيوية رائعة في هذا العالم، محول للعالم. اكرر هنا ان الصورة المغلوطة هي ان الصابر مستكين. انه حركي بامتياز، يحتمل السجون والتعذيب والتنكيل كما يطلب الجبه والنضال لان نفسه لا تعرف اليأس اذ رجاؤه ينسكب دوما عليه.

في احزان لبنان الصبر الى جانب الجهاد سلاحنا للصمود. لا نبقى مسمرين على الخطأ والخطيئات. كلنا في الخطيئات والمهم الا نقطع الرجاء ففي البلد طاهرون لا يقبلون الزغل ولا هذه الشطارة اللعينة التي يتغنى بها الكثيرون وجعلتنا نضل كثيرا منذ اقدم العصور. غير ان الامل في نهوضنا قائم على ان نكون يقظين، حارين في الروح، مؤمنين بالله لان صبرنا لا يأتي من غيره. عيب علينا ان يصيبنا الهوان اكثر مما اصابنا حتى الآن. لا يجوز ان نكذب كما فعلنا كثيرا. الطهارة ليست مستحيلة على من طلبها. منها ينطلق العمل المشترك لتهذيب المجتمع والدولة وجعل اللحمة بينهما بحيث يعتمد الحكم على الطاقات الخيرة في شعبنا ويفيد شعبنا من عمل دولة صالحة.

نحن لا نطلب من الحكم ان يكون فردوسيا ولكن ان يكون جادا لنصبر على نقائصه وندعمه في الخير الذي يقوم به حتى لا يجوع الفقراء ولا يموت كل المرضى ولا يبقى الولد بلا مدرسة. كيف نبرهن للعالم ان لبنان بلد ممكن وقادر الا بتنقية كل منا نفسه في العمل العام كما ينقيها في العمل الفردي؟ كيف نثبت للشعوب انها في حاجة الينا إلمّ نكن على مستوى المسؤولية في كل ما نقوم به؟

هذا يعني تاريخا جديدا واخلاقا جديدة هي وحدها ضمان استمرارنا. ونستمر في الخدمة والتضحيات في اخلاص كبير بحيث نؤمن ان لهذا الوطن حقا على كل واحد من ابنائه وان عليه واجبات لكل من ابنائه فيحيا بهم ويحيون به ويحبونه لا لطبيعته الجميلة فقط ولكن لفضائل شعب يطلب الكرامة.

هذا هو صبر يجعلنا قديسين غير غارقين في اهمال بعضنا البعض، محبين للخير، مبغضين للشر ننتظر من اجل لبنان انبلاج نور عظيم.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

رسالة اليوم/ الأحد 9 تشرين الأول 2005 / العدد 41

يبدأ بولس هذا المقطع من الرسالة بكلمة من اشعياء: “اني في وقت مقبول استجبتُ لك وفي يوم خلاص اعنتك” ليقول ان وقت الخلاص هذا انما نحن فيه لأن هذا الخلاص أتانا بيسوع المسيح.

          ثم انظروا كيف ينتقل من هذا ليقول اننا “لسنا نأتي بمعثرة في شيء”. لماذا يجب الا يُعثر الرسول الآخرين؟ هل لحفظ صورة عن نفسه عند الآخرين، هل هو حريص على سمعته الشخصية؟ السبب الوحيد الذي يعطيه هو “الا يلحق الخدمة عيب”. فقد يشك الناس -لو اساء السلوك- بقدسية الخدمة الرسولية التي يقوم بها. وفي ايامنا اذا أتى المسؤول الروحي بمعثرة فيلحق هذا الكهنوت والكنيسة. من اجل كهنوتي أو أسقفيتي أحفظ نفسي.

          ثم يتابع: ان تكون خادما لله يتطلب صبرا كثيرا لأن بعض الناس متعبون ولأن بعضا مخالفون شتى انواع المخالفة، ولكن خدمتك اياهم يجب ان تستمر كل يوم لئلا يغضبوا او يصيبهم إحباط.

          بعد هذا يتبسط بولس بالحديث عن أتعابه ويسميها بعامة شدائد وضيقات، ولكن يحدد أنواعها اكثر فيقول انه تقبل جلدات وزج في سجون وتعب كثيرا من أجل الإنجيل وصام طوعا تقربا من الله وفي كل هذا لم يتذمر وبقي على طهارته والمعرفة اي معرفته لله بالمحبة والخبرة. وبقي على طول أناة وسعة صدر يحتمل المؤمنين ويحتمل الأمم وكل ذلك في رفق، في حنان، بلا غضب، في انعطاف واحتضان ثم يقول “في الروح القدس”. بمعنى ان كل هذه المواهب كانت تنزل عليه من الروح الإلهي. والروح يفتح لك باب المحبة الصادقة بلا تفريق بين ناس وناس.

          ويعلو في الكلام ثم يعلو ويوضح ان المحبة التي تدفقت عليه إنما تجعل في فمه كلمة الحق وهذه الكلمة نفسها هي قوة الله. وكلمة الله هذه تُسلّمه من كل صوب في كل الأحوال التي تمر عليه أكان في مجد ام كان في هوان، أكان في سوء الصيت (لأن هناك مفترين) ام في حسنه.

          في هذا الصراع الذي يواجه فيه الوثنيين والإخوة الكذبة الرافضين تعليمه يعتبرونه مضلا وهو صادق. وما اصعبه موقفا ان يخونك احد الناس وانت تعرف نفسك صادقا وقابضا على الحقيقة.

          ثم هناك من يجعله مائتا (اي كلا شيء) في حين انه حي، مليء بالحياة. وثمة من يظنه حزين وهو ممتلئ بفرح المسيح. هناك ايضا من يعتبره فقيرا ويعيّره بذلك وهو كان كذلك حقا الا انه غني بالمسيح ويغني الكثيرين بالمسيح، حتى يصل الى قمة تعييرهم “كأنّا لا شيء لنا” ويرد عليها بقوله “ونحن نملك كل شيء”.

          المسيح عنده كل الوجود وهو الغني ويغني احباءه. واذا كان السيد كل شيء فأنت تلازمه وهو يلازمك وُيمكّنكَ من الشهادة له ومن العطاء ومن ان تبقى على إخلاصك حتى النهاية ولا شيء في خطاياك وهذه الدنيا يزعزعك لكونك تعرف الرب يسوع يقينا.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

بشرية المسيح / السبت في 8 تشرين الأول 2005

ان تقول ان المسيح انسان جزء من ايماننا وليس فقط حدثا تاريخيا. وللمفارقة انكر ناس بشريته وهم المشبهة اذ قالوا انما شبه للبشر انه بشر كما انكر الآريوسيون (او الاريسيون في الادبيات العربية) كونه إلها فأقر دستور الايمان النيقاوي (325) انه الاثنان معا. وهو في هذا فريد. ما لهذه الاسطر ان تقول كيف يكون هذا وليس لها ان تدخلنا في سجال حول هذه الاثنينية. غير اني بصورة عابرة ألفت الى أن القول بان الله تكلم بكلمات تطرح السؤال عن علاقته بهذه الكلمات التي هي من اللغة اي من جسد هذا العالم. فإذا كان الله قائلها فهو فيها. ما علاقة الخالق بتعابيره التي كانت على ألسنة الناس قبل ان ينطق الله بها. ما الفرق بين ان تقول ان الله عبر عن نفسه بادوات النطق وانه عبر عن نفسه في صورة انسان. عندنا ان المسيح قبل ظهوره على الارض كان كلمة الله وطبعا بقي كذلك.

أليس هذا قريبا من الآية 45 من سورة آل عمران: “اذ قالت الملائكة يا مريم ان الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين”. فسرها سيد قطب بقوله: “فالمسيح بدل من الكلمة في العبارة وهو الكلمة في الحقيقة. فماذا وراء هذا التعبير؟ فهذه وامثالها من امور الغيب الذي لا مجال لمعرفة كنهها على وجه التحديد”. لن ادخل هذا المبحث اذ انا باسط الرؤية المسيحية اذ تقول انه وحدة، التقاء بين الناسوت واللاهوت في شخص واحد (المصطلح المسيحي القديم هو اقنوم المأخوذ عن السريانية).

ليس مبتغاي ان اتبسط هنا في علاقة العنصرين الالهي والبشري في المسيح وقد سميناهما اللاهوت والناسوت. ولكن جل ما اقوله ان المسيحيين كلهم بلا استثناء فرقة يقولون بذلك ولو سمى بعض هذين العنصرين طبيعتين او سموهما بعد التقائهما طبيعة واحدة. فلقد تبين للباحثين قديما وحديثا ان هذا فرق لفظي ولم يبق شيء من الجدل الذي قام بدءا من القرن الخامس بين اهل الطبيعة واهل الطبيعتين لان مضمون الايمان في المسيحية جمعاء ان المسيح هو اله وانسان معا.

في الحس المسيحي الى جانب موضوع خلاص أتمه المسيح الكامل ما يحرك النفس ان الله بات قريبا من الانسان كما لم يكن في العهد القديم اذ جعل الانسان مسكنه وما اكتفى الله بانه علم الانسان بكلمات. فالله الذي لا يزال يعلو بطبيعته الانسان صار في الانسان. والامر المرتبط بهذا ان الله بات معطى لنا في هشاشة طفل مولود في بيت لحم وفي معطوبيته. وبهذا تنكشف لنا محبة الله ويتضح لنا ان الناصري بات قربانا عنا لله وعطاء الحب الالهي على مذبح الكون. وعن طريق هذا نفهم ان المسيح هو الحَمَل المذبوح قبل انشاء العالم (رؤيا 8:13) وانه بهذا الذبح الطوعي صار مثالا لكل المعذبين في الارض الذين خلقوا على صورة الله ومثاله (26:1) ويصبحون على صورة المسيح المصلوب اذ بعد تجليات الله كلها في الانبياء قديما وفي معجزات السيد وحلاوة كلامه تجلى الله آخر مرة بالمصلوب. في الجلجلة سطعت حقيقة ما قاله مكسمس المعترف: “ان وحدة الله والانسان يمكن تشبيهها بوحدة الحديد والنار في الكور. فاذا القيت سيفا في النار حتى يسطع بالحرارة فالنار والحديد متحدان بلا تمييز واذا صار السيف متوهجا لا يسعك ان تفصل بين الحديد والنار”.

صارت بشرية المسيح كاملة التوهج بالموت. وفي طريقه اليه ابتلي ليعين المبتلين بحيث ان المسيح ملازمنا في كل ألم كما هو رفيقنا في الموت. الانسان لا يموت وحده لان المسيح لصيقه. لذلك يقوم الانسان في اليوم الاخير. السيد معنا ايضا في الخطيئة وهي صورة الموت وان لم يكن في الخطيئة ولكن قي قلبنا حيث يمحوها.

عندما يقول المعلم: “انا معكم حتى منتهى الدهر” لا يريد فقط انه مع الكنيسة ولكنا نريد ايضا انه في جسدنا على ما يعتريه من نقصان او هبوط او محنة لان هذه المحنة نذوقها في دائرة المسيح وليس لنا وجود خارج هذه الدائرة.

لست اعرف ولا احد يعرف لماذا يتزلزل جسد او يتزلزل الكون اي بأي هدف يكون هذا كله. الله ليس معذبا لاحد ولا تسره آلامنا وخطأ شائع ان نعتقد انه هو الذي يرسل الألم ليطهرنا به. الرب ليس ربا ساديا. السادية اذا قرأناها في الله تلغيه لانها تكون كراهية إلهية للانسان. الرب يؤدب بحنان الذين هم له فقد يكون التأديب وجها من وجوه الرفق الالهي لكن الالم ليس نطاق الخالق.

أجل الله هو الضابط الكل بمشيئته اي انه يحفظ هذا الكون وكل امرئ بمفرده. وقد يكون الحفظ بالموت. للحياة حد فاذا فقدناها يتلقانا الله برحمته ولا احد يغوص على حكمة الله في خلقه. جل ما عندنا ان الرب يرافقنا في الحياة وفي الموت والمهم الا يغيب عنا وجهه اذا ا ستبقانا واذا استدعانا اليه.

وقبل هذا النداء الاخير نحن في ملاطفاته. المهم ان نقرأ هذه الملاطفة في الحزن وفي الانتعاش والا تحول محنة دون القراءة. وهنا لا تنفع البطولات فقد تكون هذه كبرياء الأنا المستلذة ذاتها. انا في الجروح لا ابدأ في نفسي. ابدأ من جروح يسوع الحي ابدا فيّ كائنا ما كان شكل جسدي او انعطافات روحي اذ اجيء من المخلص ولا يجيء مني. واذا أسلمت له استلمه بكل ما عنده من رفق وما يفيض منه من تعزيات. ويعني هذا اني أتتلمذ عليه كليا وأتعلم منه في واقع كلومي انه “وديع ومتواضع القلب” فينكسر فيّ كل ادعاء وكل استعلاء واصير طفلا بين يديه.

قد يلازمك عجز كبير او صغير في جسدك او انخلاع في نفسك. والعجز قرر الاطباء استمراره فيك الى يومك الاخير. وتعرف انت ان نفسك غالبا ما تبقى مكسورة في ما انتابها من تجارب تراكمت وطبعتها ولو نوديت الى التوبة. ويبقى الكسر ولو حاولت. ويراك الله على الاقل كما ترى نفسك وعلى الاكثر حسب معرفته وهذه لن تنكشف لك لئلا تخور قواك. وفي هذه الكومة التي انت تبدو امام الله في استعطافه والبكاء هو وحده يمسح عن عينيك كل دمعة وتجيء بنفسك الى قدميه لتقبلهما وليس لديك عطر تسكبه عليهما وتتعطر انت من القبلة وترجو.

وتننتصب في الدعاء الى ان يطلع الفجر وتلح في الدعاء حتى تنزل عليك التعزيات وهي نازلة بلا محال اذا كنت سليما او كنت مكسورا وتنزل اذا تقت الى التوبة في سلامة جسدك او في تهشماته لان الله اعظم من جسدك واعظم من روحك وهو معطيك برفق ولكن احيانا متأنيا كي تعرف انه هو الالف والياء فيما انت في التنعم وفيما انت في الحرمان فإنه هو الذي بحبه الواحد ينعم او يحرم.

اذا انت فهمت بشرية المسيح تفهم كل ذلك. السؤال لماذا انا بت مضروبا ولماذا بهذه القسوة والآن او لماذا مات ولدي وما الى ذلك كل هذه الصرخات تزول اذا انت آمنت ان المعلم يلازمك في كل وضع وانه منتشلك من محنتك بطريقة هو يعرفها وانت لا تعرفها. انت فيك مجموعة خسارات على كل صعيد. الرب وحده يعينك ويشفيك بطريقة قد لا تنتظرها. انه يرى غير ما ترى وانه هو الحكيم حتى تنطبق الكلمة: “وللموت لن يبقى وجود بعد الآن، ولا للحزن ولا للصراخ ولا للألم لن يبقى وجود بعد الآن، لان العالم القديم قد زال” (رؤيا 4:21).

ان بشرية المسيح في المتألمين استباق لقيامته في اجسادهم وارواحهم.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

الرحمة/ الأحد 2 تشرين الاول 2005 / العدد 40

إنجيل لوقا إنجيل الرحمة بامتياز وهذا يظهر واضحًا في هذا الفصل الذي نتلـوه اليـوم. الوصية التي نستهل بها هذه القراءة: كما تريـدون ان يفعل النـاس بكم… أقوى من الوصية القائلـــة في موضع آخر: ما لا تريدون أن يفعـل النـاس بكم… إذ تدفعنـا الى المبادرة بالمحبة بأفعال مختلـفة محددة تُجمع كلهـا تحـت رايـة الرحمـة. من هذه الأعمال الإحسان وهو سكـب الروح للروح معبَّرا عنـه بالعطـاء المــادي إذ يقوم على المشاركـــة واليقـيـن ان ما لي هـو لك لأنك الأحـوج.

          ووصية الإحسان تعلو علوًا كبيرًا إذ يدعونا السيد الى ان نحسن الى مَن لا يحبوننا اذ الإحسان عنده ليس قائمًا على العاطفة   ولكن على الحاجة فالأكثر حاجة هو مَََن ينبغي أن تلتفت إليه فهو بسبب من الحاجة قريب الى الله. وتصبح أنت تالًيًا أقرب الى الله إذ ليس لكََ مصلحة عاطفية.

          كذلك الدَين الذي تطلبه او لا تطلبه اذا كان مَن استدان منك عاجزًا عن تسديده. وقد تقتضي حكمة التربية ان نذّكر المدين بإيفاء  دينه حتى لا يقع في استغلالنا وعدم التحسس بمديونيته وقد يكون لنا في هذا إفقار. يجب أن نربّي الناس على ضرورة الوفاء بما عليهم من واجب.

          والقمة في كل هذا الكلام قول السيد: “فكونوا رحماء كما ان أباكم هو رحيم”. وإذا عنَت الرحمة طول الأناة وسعة الصدر فإنما يقع كل ذلك تحت الغفـران الذي هو القبول بأن مَن أساء إليك إنما أساء الى الله اولا والى نفسه ثانيًًًًًا وان ما يشفيه هو ذلك الحب الذي تغمره به لأن هذا الإنسان إناء خزفي كما يقول بولـس في رسالة اليوم وقد انكسـر بالخطيئة واذا غفرت تعطيه حظًا في أن يقوم من الخطيئة الى وجهه ربّه الذي ينظر إليه بالحنان.

          غير ان حنان الرب انما يُتَرجم بموقف الغافر أسيء اليه. والغافر يصبح هكذا كالإله الغفور الذي ينظر الى الخطأة على انهم ابناؤه كالصالحين… وانت إذًا تنظر الى مَن آذاك بكلمة أو تصرّف على أنّه أخ لك فيقوى انتماؤك الى عائلة الآب التي فيها الصالح والصالح والناس فيها أوانٍ خزفية معرضة للكسر. بعض يُجبر وبعض لا يجبر. ولكن ليس أحد منا من حديد. ولعلك اذا غفرت تذكر انك قادر على السقوط. لهذا قال الرسول: “اذا زلَّ أحد منكم فاصلحوا انتم الروحانيين مثل هذه بروح الوداعة”.

          هذا هو اللطف بمن قسا عليك وهو أصعب من اللطف بالودعاء… لقد فوّضنا الله بأن نكون أطباء. ليس من طب روحي أعظم من طب الرحمة الذي في كل حين يشفي ويضمد ويجعل في النفس رقة وبالرقة يتكوّن مجتمع الإلهيين. وهكذا فقط نكمل التشبه بالمسيح: “تعلموا مني انا وديع ومتواضع القلب”. المسيحية مجتمع الودعاء الذين أعد لهم الملكوت وسُرَّ الله بهم لكونهم أصدقاءه.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الأنا المقيت / 1 تشرين الأول 2005

ماذا يريد باسكال عندما يقول: “ان الانا مقيت” Le moi est haissable؟ هو يفسر ذلك بكلمتين في كتابه الشهير، الافكار: “للأنا صفتان انها ظالمة بحد نفسها اذ تجعل ذاتها مركز الكل وهي مزعجة للآخرين لانها تريد ان تستبعدهم لان كل انا تطغى على الكل. فاذا أزلت الازعاج لا تزيل الظلم”. سأحاول ان أتأمل في ذلك.

لا تنغلق النفس على ذاتها الا بالامتلاك اي بتملك اشيائها، باستلذاذ الملك. فأنت تصير ما تملك وهو لا يصيرك واذا ما تملكه كان انسانا فهو شيئك فتصبح انت عبده اي شيئه. وكان الشرع الروماني في اولى مراحله يبيح قتل العبد اذ كان يحدد العبد على انه res اي شيء. وانت لا تسود الا بالفقر اذا احببته لانك فقط بالفقر المحبوب يصبح الحب مالكك.

وانت مالك اذا اعتبرت نفسك فردا اي مستقلا عن الآخرين. وكلمة فرد في اليونانية هي اتومس atomos اي ما كان غير قابل الانقسام. وتاليا غير قابل المواجهة اذ الآخرون ليس لهم وجه لكونهم عنده اشياء. انت لا تخرج من ذاتك لانك تعبّ الوجود ليس لان لهذا الوجود وجودا ولكن لانه بالملك جزء منك.

بالفردية او الفردانية individualisme تقيم نفسك في هذا العالم باعتبارك وحدك وان الناس واشياءهم يعودون اليك وانت تعرفهم من حيث انهم في مجالك. ولذلك انت معزول. ولكن في فهمنا نحن للوجود العزلة التي اعتبرتها صمدية لك لم تعطك اية صمدية لكونك لا تخاطب احدا ولو اوحيت بذلك الى الناس. بينك وبينهم كلام وليس بينكم خطاب اذ الخطاب يفترض الانكشاف واذا شئت كلاما فابلغ الخطاب هو التعري الذي يفرض ان الآخر يقرأك وانت تقرأه واذا انتما كتاب واحد. فقط من يراك يرى نفسه فيك. يتكون بك وتتكون انت به. فالوجود يبدأ من العلاقة. فاذا اقمتها لم تبق فردا، صرت شخصا. فتجيء ليس من الخطاب الذي يصدر عنك ولكن مما سمعه الآخر منك.

تبطل الآلة فيك اذا استمع اليك. واما اذا اقمت في الفردية فعلى وجهك قناع اي ليس بينك وبين الآخر من صلة القابع في فرديته، المنطوي فيها يعيش ولا يعايش. وجوده مع الاخرين تراكم. لا تخرج انت من فرديتك الا اذا فتحت حدودك ففيها تستقبل وتستضيف. قبل ذلك انت واصل الى آخر حدودك ومصفح ومن لا تستقبله لا يريد اختراقك.

ليس احد منا موجودا بذاته وان قال انا. في اللغة انا لا معنى لها الا اذا قابلت انت وألا تكون متكلما في فراغ. وانت لا تذهب من انا الى انت الا بحد ادنى من الحب والحب هو اعتراف بالآخر على انه آخر أي على انه مواجه. والحب هو بذل الناس اي انكار للمنطوي فيك وثقب للمنتفخ فيك حتى تعود الى حجم يمكنك من الاتصال. كل اتصال يفترض انقباضا قبله اي اعترافا بأن حجمك الحقيقي هو دون ما تراه وما يراه الناس. ما التواضع سوى ان تقلص ما يبدو وتجعل الحقيقة وحدها تبدو.

ايضا باسكال: “الله لا ينظر الا الى الداخل” اي الى الوجود الحقيقي غير المتضخم. واذا عرفت ذلك تفهم ان رؤية الله اياك هي التي تكونك. انت فقط ما يراك الله. انت ملغى اذا رأيت فيك ما لا يعترف الله به، المال او السلطة او جمال الجسد. الاكثر من هذا ان الرب لا يهمه ذكاؤك او نسبك واي ما يعتد به الناس. لذلك ما نسميه التواضع هو التغاضي عن كل هذا والاقتناع بأن الآخر دائما افضل منك. فاذا شاهدت بهاء الآخر تتلاشى فيك الجمالات الكاذبة وتفهم، اذ ذاك، انك لست فقط تتكامل والاخر ولكنك تصبح واياه واحدا بعدما افتقرت اليه وادركت ان الـ”نحن” الذي تكونان هو فيه الاعظم والاغنى. واذا كبرت في هذه الرؤية ترى انك لست بشيء وانك تاليا مكون بالآخر وقائم فيه.

فالتواضع ليس فقط ان تلغي الباطل فيك ولكن ان تؤمن ان الآخر يمدك بكل ما فيه من خير والخير يزداد فيه اذا افرغ نفسه منه لان الخير لا ينقص اذا اعطيناه بسبب انه “ينبوع من ماء حي”. لا يمكنك ان تتواضع ما لم تكن مليئا فيمتلئ الآخر مما بذلت ولم تخسره. التواضع هو ان يكون الآخر كل شيئاً عندك فيؤهلك هذا ويؤهله ان تكون كل شيء عند الرب. وهو وحده الذي يهب التواضع لانه هو الملء.

أنت لست متواضعا لانك خائف، خائف على مالك وسلطانك وما اليهما. تظن انك تقوى بهما وهذا من باب الاستيهام لان شيئاً من هذه الدنيا لا تقوى به. في الحقيقة انك تظن انك تزيد على حجمك شيئا وكان عليك ان تقرأ: “لا يستطيع احد ان يزيد على قامته ذراعا واحدة”. والقامة هي التي الله معطيها وليست تلك التي نتصورها. هذه فيها تفاهات كثيرة.

عندما نقول ان الشخص يقوم بالعلاقة فلا نعني علاقة عداء لان هذه ليست علاقة. هذه امتداد الموت والعلاقة نقل الحياة الى الحياة اي ان العلاقة حب وهذه لا تتم الا بالاستغناء عن الأنا بالموت لتعود اليها والى سواها الحياة. وعلى هذا قال المعلم: “من اراد ان يكون لي تلميذا فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. فلينكر تعني ان يلغي الانا وما هي به مثقلة فاذا كانت حاملة غير هذا الذي تحب فترزح او تراوح مكانها اذ هي منشغلة بما تحمل. لا تستطيع سيرا الى هذا الذي تطلبه حبا الا اذا القيت عنك ما يعرقل دنوك من الحب وارتميت فيه. تبدأ العلاقة اذا بإماتتك نفسك واستمدادك الحياة من الآخر فتكون ويكون. وقد اشار السيد الى الاعباء التي تميتنا بقوله “يحمل صليبه” الذي هو اداة الموت. غير انه قال “ويتبعني” اي يتبعني الى آخر طوافي وهو القيامة. من هنا ان الشخص لا يتكون الا بالعلاقة الطاهرة.

صورة العائلة المثلى في تنازل ابن الله الذي اخلى نفسه من المجد (اي من اظهار المجد) آخذاً صورة عبد صائرا في شبه الناس. هذا كان تخليه الكامل عن الانا ليجدها في الموت. ولما أطاع حتى الموت “رفعه الله واعطاه اسما فوق كل اسم”. هذا الذي هو صورة الله لم يشأ ان يظهر هذه الصورة الا بمحوها عن الابصار. “لا منظر له ولا جمال لنشتهيه”. هذا “الذي هو قبل كل شيء وفيه يقوم الكل “ما قام به هو الا لما محا نفسه بالاتضاع الفائق. وعند ذاك اقام علاقة بنا فارتفعنا به الى مصاف آلهة وكنا قبل ذلك لا شيء.

لن تستطيع على ضوء هذا ان تقيم علاقة الا اذا صلبت نفسك مع شهواتها وصلب الاخر نفسه بشهواتها فجئتما قائمين من بين الاموات. اذا صرت انت صديقك وصار هو اياك نكون دخلنا اعماق السر. في المحبة لا يطرح السؤال عن ماهيتك وماهية الآخر اذ ليس لاحد منكما حدود. الحدود هي في الملكية الفردية. اما اذا بات كل واحد مملوك الله تمكثان فيه كلاكما وهو لا تعرفه الحدود ولا يبقى موضع لسؤالك عن نفسك او سؤاله عن نفسه ففي الحقيقة لا يوجدك صاحبك ولا توجده اذ ليس في الانسان ولا في الكون من ثنائية. وليست الوحدة ان تذوب فيه ويذوب فيك ولا ان تضمحلا في الله لان الله لا يلغي احدا ولكن في الله يتحول الفرد الذي كنته بالاناوية الى الشخص الذي صرته بالصلة. ولذلك ليس في ذروة اللقاء مجتمع ولا امة. هذا ترتيب للدنيا ولا بد منه بسبب من الزمن ومن التاريخ وهذا له شرعيته ففي الاجتماع البشري افراد كما العقار يحده عقار.

اجل لك جسد هنا وانت ابن ابيك وامك ولك ذرية من بعدك وهذا ايضا له سره ولكن كما ان الله لا يحده شيء فأنت ايضا لا يحدك شيء اذا بلغت ذروة الحب والله يراك بلا حد بعدما صرت على شبهه. وهنا يصح قول الكتاب: “الله في مجمع الآلهة” الذين صاروا كيانا بعدما تشبهوا به. وكما ان وحدة الله ليست رقما فأنت الغيت العدد اذا صرت بالمحبة اخا لآخر لانك بت واياه “غير مولودين من لحم ودم ولا من مشيئة جسد بل من الله”.

هذا هو مشروع الرب في خلقه. ولكن هذه كلمات لا يسوغ النطق بها. انت والآخر الذي اقمت معه صلة الهية اصبحتما في المعية كلمة الله وليس للذين هم كذلك بداءة ولا نهاية.

Continue reading