Monthly Archives

November 1999

1999, مقالات, نشرة رعيتي

أنت والأغبياء/ الأحد 28 تشرين الثاني 1999 / العدد 48

معظم الناس ليسوا أشرارا, إنهم أغبياء. والغبي صعب علاجه. مع ذلك لا بد من التعامل وإياه. وهذا يحتاج إلى صبر كبير لأن الرجل يبقى غبيا الآن وغدًا. ومن الصعب تثقيفه. ولكن لا بد من التواصل والتعايش أحيانا حتى يهدي ربك من يشاء. تنازل إلى مستواه لترفعه قليلا قليلا. ربما استضاء لحظة, اغتنمها لتُفتّق وعيه, لتأخذه معك إلى الفهم.

لا شك عندنا أن المحبة فيها طاقة إرشاد. ربما إذا أدرك أنه محبوب ينمو عقله قليلا. لا تطفئ ومضة ظهرت في عقله. امش خطوة أخرى علّ الومضة تصير ومضات، ولكن انتظر النكسة فالغبي يحب التقوقع لكونه يخاف.

الغبي يظنك أنت غبيا. تغاضَ عن ذلك لأن مرامك أن تربحه لله. تجد الجاهل في كل الشرائح الاجتماعية. تجده في الكهول والشيوخ, بين عظماء الدنيا, بين أصحاب المسؤوليات. وقد تأمّل سفر الجامعة في ذلك وقال: «ويل لكِ أيتها الأرض إذا كان ملِكُكِ ولدًا» (10: 16). المشكلة أن تكون حكيما ومَن يعلوك جاهلا. ادعُ الله له حتى لا يمطر عليك غباوة كثيرة.

ستمشي أياما وحدك وتقضي سنين ويُحيط بك الجهّال، ويحزنك أنك لا تستطيع شيئا وأن نصيبك الوحيد أن تنتظرهم يموتون. المشكلة إذا كنت فهيما خوفك أن يخلفك جاهل. يمحى, إذ ذاك, ذكرك من أرض الأحياء. وقد تكون تجربتك أن تقول مع الجامعة: «فكرهت كل تعبي الذي تعبت فيه تحت الشمس حيث أتركه للإنسان الذي يكون بعدي. ومن يعلم هل يكون حكيما أو جاهلا. ويستولي على كل تعبي الذي تعبت فيه وأظهرت فيه حكمتي» (2: 18-19).

الجامعة في العهد القديم فيه الكثير من المحزن. ولكنا نحن الذين نحب يسوع لا مجال لنا للحزن إلا قليلا وإلى حين. الحقيقة أن حكمتك لا تزول. لعل أحدا لا تعرفه ولم تره يكون قد أخذ عنك النور وأشاعه. إن العطر لا بد أن يشمّه أحد والنور لا بد له أن يضيء. لا تيأس من كثرة الجهّال. لا تضطرب بسببهم. أنت اعمل لا للطعام البائد بل للطعام الباقي للحياة الأبدية (يوحنا 6: 27). ليس المهم أن يرى الناس هذا. إنه محفوظ لك في السماء، وهنا على الأرض يكون أحد قد أخذ الشعلة.

ليست الدنيا مرتبة ليقبض عليها الفهماء دائما. إنها لهذا الخليط المؤلف من الذين يعلمون والذين لا يعلمون، من حسني النية وسيئيها, من النقية قلوبهم والدنسي القلوب, من المتسلّطين الذين يريدون أن يتألقوا والناس حولهم ومن المتواضعين. وستبقى البشرية هكذا حتى يقبض الله كل واحد بالموت.

أجل، محزن ألا تكون الدنيا بيضاء كالثلج، متلألئة كالشمس. الظلمة أكثر انتشارا لأن «الناس أحبوا الظلمة على النور». هذا لا ينبغي أن يقودك إلى الإحباط، فأنت لا تعمل لوجه أحد ولكن لوجه ربك الذي يراك في خفاء تواضعك ويعلنك بهيّا في اليوم الأخير.

من تعزياتك أن الأغبياء أفضل من الأشرار. الأشرار لهم ذكاء الشياطين وسيلحقون بشياطينهم. تابع أنت وحدك مسيرتك في ضياء المسيح. تابع وجهه لتبلغ وجه الآب في اليوم الأخير حيث تفنى الغباوة وتقوم فيك وفي القديسين حكمة الله.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

عودًا إلى مجلس الرعية / الأحد 21 تشرين الثاني 1999/ العدد 47

رُبّ معترض على هذا العنوان يقول: يا سيدنا إنها لمبالغة إن تحدثنا كثيرًا عن مجالس الرعية. جوابي: أليست مبالغة أن تقلقني بعض القرى بهذه الحكاية؟ أنا بادئ الآن بحكاية. منذ فترة قريبة كنت أجالس المؤمنين في قرية حضارية تثقف الكثيرون منها في الجامعات. وكنت قبل أيام قد عينت مجلسها الرعائي. فبادرني شاب متنور ناقدًا النقص في التمثيل، معترضًا على أن استمزاج الآراء لم يكن واسعًا، مذكّرًا أنه كان عليّ أن أكون أكثر تدقيقًا في الأمر.

حاولت أن أوضح أن النقص قبل أن يكون في إدارتي أو المعاون الذي يهيء لي اللوائح هو في القانون. ماذا يعني «التفاهم بين الراعي والرعية»؟ من يكون لسان حال هذه إن لم يأتِ تعبير الرعية بالانتخاب أي بالاستفتاء الديمقراطي؟

لقد اقترحت هذه الطريقة واعترض عليها الكثيرون بحجة أنها تقوي الخلافات كما قوتها الانتخابات البلدية في غير بلدة، إلى صعوبة جمع الناس وصعوبة الاقتراع ولوائح الشطب إلى ما هنالك. السؤال الناتج عن القانون: من هم الذين يستفتيهم المطران؟ أهُمْ أرباب البيوت؟ لماذا الأرباب لا أولادهم الذين قد يكونون أحيانًا أكثر غيرة وأعظم التزامًَا؟ ثم هل العيلة نواة الكنيسة، وهل هذا تعليمنا أم أن كل فرد عضو في جسد المسيح دون المرور بعائلته؟ هل ننهزم أمام العائلية؟

أنا أعترف أننا بحاجة إلى كثير من الحكمة في الانتقاء وكثير من التأنّي. وعلى الرغم من أننا نحاول ذلك، لا يأتينا مرة مجلس يرضي جميع المؤمنين. ولا بد أننا نخطئ الاختيار لهذا أو ذاك أحيانًا لأننا لسنا من المحلة ولا نحيا فيها. ولعل تغيير ثلث الأعضاء كل سنتين كما كان منصوصًا في القانون قبل تعديله يوجد توازنًا أعظم ويحدّ من الخطأ. أظن أن لا شيء يحول دون تمسكنا بالقانون القديم في تدبر هذا الأمر في الأبرشية ونحن لا نعدّل النص الموضوع. كما أن لا شيء يمنع المطران من أن يحلّ مجلسًا قبل انقضاء الأربع السنوات إذا رأى أن ذلك أقرب إلى تهدئة الخواطر أو درءًا لأخطار.

ليس من قانون كامل في هذه الأرض. القوانين تتفاوت في السوء. ولكن الجميل عند القلوب الطاهرة والقادرة على النقد البنّاء أن تتعامل مع المجلس القائم على نقصه أو ضعفه إن لم يكن فيه ناس سيئون حقيقة. الكاملون ليسوا من هذا العالم. شوقنا إليهم ولكنهم أمنية. الغيورون والأنقياء سند للمجلس وطوق له في آن، قوة ضاغطة عليه. لا يستقيل مؤمن من رقابة الوكلاء وإسداء النصح لهم وكشف أخطائهم لنا وتشجيعهم في مقام التشجيع. أمور الكنيسة مسندة إلى كل المؤمنين معًا. والتبديل لا يعني تنكّرًا لفضل أحد. هو مجرد محاولة لتدريب الناس على العمل وتقويتهم في روح المسؤولية.

لذلك أتمنى أن تقبلوا التعيين الذي يحصل حتى لا تضطروني أن أصرف كثيرًا من وقتي في أمر المجالس، وأمرها مهلك. اقبلوا التعيين إن لم يكن فاجعة حتى يأتي انتقاؤنا أكثر نضجًا في السنين الأربع المقبلة، وتعاونوا على الخدمة وعلى إبداء آراء جديدة وذلك في روح الإبداع والتضحيات.

والمهم في كل ذلك أن تجددوا أذهانكم وأن تركّزوا على الأساسي وهو مساندة الكاهن وتعزيز وضعه وخدمة الفقراء ونشر الثقافة الروحية ومكافحة خصوم الإيمان إذا تسرّبوا إليكم واستثمار الأوقاف بصورة علمية وشفافية الحسابات وكتابة المحاضر وضبط السجلات وأن تفكروا بتحسين كل المرافق حتى لا تلام الخدمة كما يقول الرسول.

ولننصرف عن روحية التذمر والنقّ التي هي آفة بلدنا إلى روحية التعاون لبناء جسد المسيح ونبذ الخلافات العائلية. ولا تخلطوا الأحزاب بشؤون الكنيسة. قد يكون المحازب المخالف لك في سياسية الوطن إنسانًا خلوقًا، محبًّا لله. الكنيسة جامعة للمؤمنين بيسوع ولو اختلفوا في شؤون الدنيا. القانون الوحيد الذي يوحّدنا هو قانون المحبة.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

السامريّ الشفوق/ الأحد 14 تشرين الثاني 1999/ العدد 46

هذا المثَل الإنجيلي (لوقا 10: 25-37) قصة عَبَّر فيها السيد عن كيف ولمن تكون المحبة بين الناس. يأتي «ناموسيّ» أي معلّم وناسخ للتوراة إلى السيد ويطرح عليه سؤالا في اللاهوت –ربما ليمتحنه– «ماذا أعملُ لأرثَ الحياة الأبدية؟». يردّ الربُ السؤالَ بسؤال: «ماذا كُتبَ في الناموس الذي أنت قارئه وشارحه؟». فأجاب: «أَحببِ الربَّ إلهك… وقريبَك كنفسك». في الحقيقة أن الناموسي استشهد بوصيتين في العهد القديم ودمجهما. الأولى من سفر التثنية: «اسمع يا إسرائيل. الرب إلهنا رب واحد. فتحب الربَّ إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل قوّتك» (6: 4 و5). الوصية الثانية: «لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك بل تحبّ قريبَك كنفسك. أنا الرب» (19: 18). هذه الوصية الثانية ما كان العبرانيون يُبرزونها إذا تكلموا في المحبة. وإذا ذكروها عَنوا «لا تحقد على أبناء شعبك» أي اليهود.

          في سيرة السيد، حسبما ورد في إنجيل متّى، أنه هو الذي دمج الوصيتين. عند لوقا يرد هذا الدمج على لسان الأستاذ الفقيه.

          بعد أن وافقه السيد على جوابه، عاد الرجل ليسأل يسوع: «من قريبي؟». وكأنه يقول: أنا أفهم ما تعني محبتنا لله، ولكن مَن تشمل محبة القريب؟ إذ ذاك، قص عليه الرب المثَل الذي قرأتموه: الجريح على الطريق… الكاهن واللاوي (المساعد للكاهن) اللذان عبرا بهذا الطريق ورأيا الجريح ولم يُشفقا عليه وكان من جنسهما. وقد مرّ بعد هذا سامريّ غريب الجنس والدين، فساعده كما هو مفصَّل في المثَل. هنا يسأل السيدُ الناموسيَّ «أيّ هؤلاء الثلاثة تَحسَبُ صار قريبا بالذي وقع بين اللصوص؟». اذكروا أن سؤال الفقيه كان: «مَن قريبي؟». يغيّر يسوع صياغة السؤال فيسأل: «مَن صار قريبا للذي وقع بين اللصوص؟». وكأن السيد يقول: السؤال الصحيح ليس من هو قريبي ولكن: كيف أصنع لأصير قريبا؟ العقل الطبيعي يقول: قريبي من يُظهر لي مودة. أما العقل الذي اقتبل الروح القدس فهمُّه آخر. يتساءل لمن أصنع الرحمة، فبالرحمة أجعل الآخر قريبي. أيّ إنسان مهما كان دينه وأيّة كانت طائفته وأيّة كانت قوميته أو عشيرته أو ضيعته إنْ أنا أحببتُه أَصيرُ له قريبا.

          الهاجس لا ينبغي أن يكون مَن هو القريب إليّ لكي أساعده ولكن أن أَقترب من أي بشريّ مرميّ على فقره، على حزنه، على خطيئته، هذا الذي أكتشفه في ظروف حياتي اليومية. أنت لا تفتش عمن يقترب إليك بل تذهب وتأخذ المبادرة وتقترب.

          الهاجس ليس أن تُقوّي روابط العشيرة أو ما يسمّونه في الجبل «الجُبّ» لأُقيم بيني وبينه عصبية. العصبية ليست المحبة. هي موجودة طبيعيا. «وإن أَحببتم الذين يُحبّونكم فأيَّ أَجرٍ لكم؟». وليست غاية التعاضد أو المشاركة أن تقرِّب أناساً إليك لكي يدعموك أو تحتاط بأزلام ليقوى نفوذك. أنت لا تبتغي شيئا من العطاء. أنت لا تسعى إلى أن يحبك هذا الذي تعطيه. همُّك أنت أن يحب الرب إلهه، أن يشعر بأن الرب هو الذي ألهمك وأن يعود منك إليه.

Continue reading
1999, مقالات, نشرة رعيتي

من يقرر في شأن الأوقاف؟/ الأحد 7 تشرين الثاني 1999/ العدد 45

بعثتُ بما لا يقل عن رسالتين إلى كل رعية طلبت فيهما أن يرجع إليّ مجلس الرعية في كل ما يبغي استحداثه في مبنى الكنيسة والأوقاف لسبب قانوني هو من طبيعة معتقدنا أن المطران هو المؤتمن على الأوقاف. أن يكون الإنسان مؤتمنا يعني أن يكون منفذا لئلا تفرغ الكلمة من كل دلالة. وذكّرت بهذا مرارا على صفحات هذه النشرة, وتقيد الأكثرون, تعزيتي أننا أخذنا نتقيد بالنظام الكنسي, غير أن نفرا قليلا لا يزال يشذ.

          القاعدة البسيطة التي أرسيناها أن كل بناء أو تغيير في البناء أو إضافة على البناء يحتاج إلى إذن من المطران. ذلك أني أنا المشرف على سياسة الإنفاق وعلى الأوليات. فقد يقوم مجلس الرعية بإنفاقٍ الأَولى به مجال آخر في الرعية. وقد يؤتى بتغيير في العمارة غير مدروس فنيا، وقد تُرتكب أخطاء ضد الطراز البيزنطي، فكنائسنا مملوءة بصور غير بيزنطية، وبعضها مكدسة فيها ثريات كثيرة لا انسجام بينها بحجة أن فلانا نذر فقدّم. وقلنا غير مرة نحن لسنا ضحايا الأمزجة الخاصة. فمن ألهمه الله العطاء فليعطِ مالاً ليُنفَق ماله وفق برنامج للتجميل موضوع سابقا. فقد يندفع وكلاؤنا إلى نزع القشرة أو الورقة عن الحائط، وهذا ضد تقاليدنا لأن الحائط البيزنطي لم يكن يوما في التاريخ عاريا بل كان مكسوا بالفسيفساء أو الجداريات.

          وذهب الجهل بالبعض من قديم أن طلوا الجداريات الجميلة المرسومة منذ قرون فاندرست معالم فنية رائعة. وإذا تركنا سلطة المطران من الناحية القانونية فليُستشَر الخبراء الذين اعتمدناهم، ولتُرسم الأيقونات عند الفنانين الذين نعرف أنهم يعرفون التصوير البيزنطي.

          ماذا وراء كل هذا التصرف؟ وراءه نزعة التفرد المحلية، كأن كيانية الرعية تعني أن المعتمَدين فيها مجلسا يعرفون كل شيء، وقد يكون بينهم الخبير الاقتصادي أو الحقوقي أو الهندسي وقد لا يكون. أنا لست أشك بتقوى أحد، ولكن التقوى ليست هي المعرفة.

          والنفحة الأخرى التي نسمعها أن الوقف وقَفه أجدادنا. جوابي على ذلك أن الذين وقفوا الوقف انتزعوه من سلطة ورثتهم وجعلوه ملك الجماعة كلها. وجوابي الآخر عن هذا أن القرى فيها أحيانا حزازات عائلية، والمطرانية ليست فريسة لهذه الحزازات وتنظر إلى الأمور بموضوعية. وجوابي الثالث أنه لو كان لك ملك خاص فتأتي بمهندس ولا تفرض عليه شيئا يأباه ذوقه. والأهم من كل ذلك أن الرعية ليست كنيسة مستقلة. هي جزء من كلّ يدعى الأبرشية.

          أضف إلى هذا أن هناك مرضا متفشيا وهو استعمال المال للبناء أولا فندخل في مشاريع نعجز عن إكمالها. والأولية ليست للتعمير ولكنها لتعزيز الكاهن ولعزة الفقراء. وما كان البناء عندنا أو الزراعة إلا وسيلة لدعم الكاهن والفقراء. إن الشغف المفرط بالحجر يؤذي المسيرة الروحية. الأولية في سياستي الرعائية هي إعلاء شأن الراعي المحلي وإعلاء شأن المحتاجين ومنهم الشبان الأذكياء المحتاجون إلى دخول الجامعات ونحن نرصف الحجارة بعضها على بعض لنفتخر بها.

          أنتم تؤمنون بأن الأسقف أبوكم. قد لا يرى البعض هذا، ولكنه هكذا في التعليم الأرثوذكسي، وأرجو الله أن نكون قد مارسنا الأبوة بلا تحيز ولا نزق. فإذا كنتم تريدون في العائلة أن يستشيركم أولادكم في قراراتهم، أتُعرضون عن الأب الروحي وتستقلّون عنه لتفرضوا عليه أمرا واقعا؟ هل هذه عائلة؟

Continue reading