Category

2011

2011, جريدة النهار, مقالات

٢٠١٢ / السبت 31 كانون الأول 2011

المؤمن لا يهمّه التكهّن اذ لا يؤمن به والحزن ان اناسا يقامرون في هذه الليلة وما قامروا ابدًا ليعرفوا حظهم في السنة المقبلة كأنه مهيأ لهم في بقعة من الوجود المستور اذ كان ثمة جبرية تدفعه اليهم فترة بعد فترة من السنة المقبلة والمؤمن لا ينتظر حظا بل من ينتظر من الرب رحمته ويقبل الابتلاء وقد يكون حاملا بركات وكل شيء من الحب الإلهي. الإنسان منفتح لاستقبال النعمة مصحوبة بالهناء او مصحوبة بالوجع وكلاهما احتضان اذ لا يصدر عن الرب سوى حنانه.

من هذا المنظار ليست السنة سنتي فما انا بمركز لشيء. هي سنة الآخر الذي جعلني الله في خدمته وانا شوقي الى فرحه والى ان تخف آلامه ويصبح مع من يحب في مشاركة تنمو ليتذوقوا معا في نفوسهم ملكوت الله يتمم نفسه.

المؤمنون يقضون بعضا من هذه الليلة في  الصلاة لتتبارك السنة القادمة وتحسرا عما فاتهم من الرضاء وتكفيرا عما اقترفوه من خطيئات على رجاء نزول النقاوة عليهم. السنة القادمة ذات فحوى إلهية او هي مجرد مرور زمان. هذا الزمان المقبل نفتتحه بالرجاء، برجائنا العطاء الإلهي الكبير الذي اذا لم يحمله العام الذي ندشّن غدا يأتي العام فارغا من المعنى والهدف لعلّ عبارتنا في دستور الإيمان: «وأترجى قيامة الموتى» تعني ايضا قيامة الحزانى والمتألمين والمتقلبة عليهم خطاياهم من منزلقاتهم عساهم يستقيمون اذ ينتصب قوامهم امام وجه الله.

ما يلفتني امام الأيام الآتية هو كيف تواجه البشرية وجعين لها: الجوع والدم. اما الجوع فعميم في بلدان كثيرة. يموت به ملايين من الناس ولا سيما الأطفال. وليس من مورد لهم في بلادهم وليس هذا المورد ممكنا بلا مساعدة البدان الغنية. كيف نقدر ان نحيا وهؤلاء يموتون مع اخوتهم وأقربائهم. هل يريد لبنان ان يساهم في نهضة الشعوب المحرومة بحسب مقدرته؟ اجل عندنا 30.% تحت مستوى الفقر وهذا يجعل نسبة من شعبنا قريبة من الجوع وهذا يقربها من الاضطراب الكبير والخوف الكبير الى ان نرفع خطر الفاقة الموجعة عن كاهل الشعب.

#   #   #

ما يطلب الرب ان نفهمه ان ما نظنه ملكنا من طعام وشراب أودعناه لصالح الذين لا يملكون شيئا او يملكون القليل. نحن شركاء في كل ما عندنا لأن هذا ملك الله فلا يحرم منه احد وتدعي انه اخونا. الأخوّة بلا ترجمة حقيقية وهم هي. والسؤال لا يبقى عندنا بعد رأس السنة ماذا نأكل وماذا نشرب ولكن ماذا يأكل جارنا ويشرب.

هالني مرة مشهد رأيته في أديس أبابا. كان مشهد قصر عظيم والى جانبة كوخ. كنت على يقين كامل ان صاحب القصر لا يعرف اسم صاحب الكوخ ولا يزوره.

ما العهد الذي نقطعه غدا امام الله للفقراء؟ ما يجوز لي ان اختزن وما لا يجوز؟ كيف أصير واحدا مع محتاج أعرفه وكأنه اخي او ابن؟ اذا تزوجت وكنت انت وزوجتك عديم المقتنى الا تتصرف وكأن الملك مشترك. كل دعوة الى المحبة غير مقرونة بنتفيذ باطلة حتى الكذب. اعتبر روح العام الآتي لا يسوده السعي الى الاقتناء ولكن السعي الى العطاء ليكون عامك حقيقة جديدا.

#   #   #

اما الدم فكان السائد في الأرض ليس فقط في الدم الذي ينتهي ولكن في القرن العشرين كله والسنوات العشر التي مضت من هذا القرن. الدم الذي سفك منذ الثورة البلشفية والحكم الهتلري فاق كل سكيب دم في كل العصور السابقة في الفترة التاريخية. والأكثر تجريحا للشعور البشري ان القاتلين الكبار أتوا بمبررات كثيرة ظاهرها فيه شيء من الفلسفة وحقيقتها إجرام محض.

أي شيطان يستولي على قلب المجرم ليستولي هذا على حياة آخر؟ القتل الفردي يأتي من الغضب والغضب يأتي من البغض. هذا كله عنف لم يذب امام لطف الله. هناك قتل جماعي تقوم به القبائل وما لم تتحول هذه الى جماعات الهية كل شيء يدفعها الى التقاتل اي الى إفناء كل كيان مخالف. متى نرى الناس جميعا اخوة، متى نحب بالبساطة التي دعا الله اليها؟

لست أعرف تعريفا للقتل الا قولي انه الإلحاد  بمعناه الكامل. أليس الالحاد الاعتقاد  ان الله ليس إلهًا، ليس صاحب الكلى والقلوب، ليس سيد وجودي وووجود من أبعدته عني.

هكذا الشعوب الشغوفة بالحروب والطمع بالشعوب الضعيفة او المستضعفة، حب السيطرة والامتداد هذا كله غضب وبغض وقتل ودم. هناك شعوب تحاول ان تربي نفسها على السلام وبعضها أدرك الغاية. متى تقف الحروب؟ هل نعيش ذلك السلام الذي يريده الله؟

لا يبقى لنا ان أقمنا العيد الا ان نسلم هذه السنة التي نفتتح غدا الى رب البلدان وأزمنتها لكي تأتينا مليئة بالحب حتى نتحرر من صنع السلاح وإبادة البشر به.

الله إله المصالحة بين الأفراد والشعب وأهل الأديان وكل حسب نفسه قائما بذاته. انت تقوم بالله فقط وتحيا به. انت لا تغلب احدا بالقهر. ترجو ان يتحوّل قلبه الى مسكن الله ليصير بشرا سويا.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الميلاد غدا / السبت 24 كانون الأول 2011

المسيحية في مطلعها لم تكن لتهتم بتاريخ كل أحداثها. برز الفصح فيها منذ القرن الأول لكونه المركز من حيث انه التعبير عن الخلاص. من بعد هذا تفكّرت الكنيسة بعيد اقامته في السادس من كانون الثاني وسمّته الظهور الإلهي جمعت فيه في الشرق والغرب مولد المسيح وذكرى عماده. ثم دفاعا عن نفسها رأت في أواخر القرن الرابع ان تفصل الاحتفالين فجعلت المولد في الخامس والعشرين من كانون الأول لتكافح عيدا وثنيا يقع في هذا التاريخ وهو عيد الشمس غير المقهورة.

وكان عيد طيش للشباب الوثني الذي كان يجرّ الى طيشه الشبيبة المسيحية. فأعلنت في رومية والقسطنطينية عزل مولد السيد عن تذكر عماده لقولها ان عندنا نحن شمسا اخرى هي شمس العدل وحررت الشباب المسيحي من الخطر الخلقي المحدق بهم وبقي الظهور الإلهي على دلالة المعمودية الى هذا اليوم.

فاذا كان العيد لقاء الله والإنسان يبدو الميلاد اول لقاء لهما في انسانية الانسان. جاء العهد الجديد بقلم يوحنا يقول: »في البدء كان الكلمة« وخشية فهم سيء لمضمون الكلمة اي هربا من الفلسفة اليونانية أكمل الإنجيل الرابع قوله: والكلمة كان الى الله او عند الله كما يترجمون ولكن حتى لا يقع القارئ بالالتباس قال: وإلهًا كان الكلمة.

ولكن بعد تأكيد ألوهيّة الكلمة كان لا بد له ان يتحدّث عن ناسوته (الكلمة مذكّر باليونانية) أضاف في الآية الرابعة عشرة من مدخل يوحنا (وهذا ترجمتي): «والكلمة صار لحما ونصب خيمته في حينا» اي ان الابن المتجسد ساكننا ولم يبقَ في الحيّز اللاهوتي فقط وتبدّى بشريا معنا حتى الموت.

لم يهتم الإنجيل لتأريخ هذه المساكنة بين الله والناس. لذلك لا نعرف على وجه الدقة زمان التجسد. الإنجيل لم يورد شيئا كهذا لأن الإنجيل يريدك في الإيمان لا في الزمان ولا نعرف شهر الميلاد ولا يومه. وجاء شبه معرفتنا للتاريخ من حساب وضعه راهب يدعى ديونيسيوس الصغير تفسيرا له لبعض ما ورد في الكتاب مثل ان المسيح ولد لما كان كيرينيوس واليا على سوريا. نحن أبناء عقيدة تقول ان المسيح «نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق».

#   #   #

في التجسد المعبّر عنه اولا بالبشارة والظاهر في الميلاد نتبيّن اللحمة بين الألوهيّة والبشرية في شخص المسيح. العيد الذي نحن فيه غدًا يجعلنا نشعر بأن الله غير بعيد وبأنه أحبّنا حتى بذل ابنه الوحيد عنا . كان الرب يقول في العهد القديم انه يحبّنا. الآن يكشف لنا ذلك بأن ارتضى ان يصبح ابنه بشرا. نحن نعرف الآن بوضوح ان المولود من الآب قبل كل الدهور صار ايضا مولودا من امرأة ليجعلنا نحن أبناء الله بالتبني اي ليجعلنا أحباء الله لنا المحبة ذاتها التي للمسيح من أبيه.

لقد زال الانقطاع بيننا وبين الرب، هذا الانقطاع الذي أوجدته الخطيئة. زوال الانقطاع يأتي من السلام والمسيح هو السلام. لقد تمّ السلام بالصليب وتدرّجنا اليه بكل كلمة تفوّه بها المعلّم وبكلّ عجيبة من عجائبه وبكل خطوة خطاها منذ مولده من البتول. ما أجملها حقيقة ان يقدر الإنسان ان يقول: انا حبيب الله اي انا شبيه بالمسيح.

انا شبيه بالمسيح الأزلي الذي أعدّ الآب له قالبا بشريا منذ الأزل وسكبه فيه لمّا حلّ ملء الزمان بحكمة الآب. لذا نهتف للمخلّص في ذكرى ميلاده: «ان مملكتك الأبديّة تجدّدت أزليّتها» كأنه يقول ان الميلاد في بيت لحم ينقلنا الى المولد الإلهي الأزلي من الآب ويجعلنا مع المسيح كأننا بلا بدء آتين من النعمة الأبدية.

ان لم نصبح على هذا الشعور غدا لن يكون لنا عيد، لن نكون قد امتددنا الى الأبد.

#   #   #

هذه الإلهيات المشرقة علينا كيف ندركها؟ كان يسوع موضع اقصاء من الفندق الى مذود البهائم. «ليس لابن الانسان موضع يسند اليه رأسه». هل نحن اليوم تائبون اليه، قابلوه في فقره، في عرائه؟ هل قبلنا منذ الآن مسيرته الى الصليب، هل غدًا نتمم الفصح اذ هو وحده شوقنا؟

ان مسكنته التي سوف نراها غدا هي سكناه نفوسنا المتكسّرة المنتظرة منه تضميدها حتى تصير كلها من حنانه ورأفاته ومحبته للبشر. منذ الآن اتخذ اوجاعنا وستلازمه حتى الجلجلة لتفنى في قيامته. كل شيء منا يحمله في ميلاده ليجعلنا على صورة لاهوته الكامل.

انه غدا سوف يأخذ صورة فقراء الدنيا. «المساكين يبَشرون». هم الذين سماهم إخوته بامتياز. الميلاد ميلادهم في الرجاد اليه وليس لهم من دنياهم رجاء. أمسى هو كل دنياهم وكل غذاء لهم. واذا نحن لم نلتقهم بمشاركة الحب لن نلتقيه هو ابدًا. واذا لم نذكر الأغنياء بهم يموت هؤلاد من جفافهم. وان لم نخضّ الدول الغنيّة في سبيل الشعوب الفقيرة يكون كلامنا في المسيح كلاما فارغا.

اذا قبلنا كل هذا يبدأ رجاؤنا الى الحياة الأبدية. اذا أحببنا المحتاجين بالقدر الذي نحب به المسيح يكون لنا غدا عيد.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

لغة الله / السبت 17 كانون الأول 2011

ان اقتراب الميلاد لا يحرّك عندي الشعور ان مسيحيي لبنان يقدمون المسيح لشرائح لبنان بما فيها شرائحهم. هم يكشفون انفسهم طوائف اي شعوبا منبسطة بتعددها لا ترق لها ان تصبح شعبا واحدًا اذ لا تتحسس لمسيح يعطيها هذا التوق. بكلمة أخرى هي شعوب فاهمة سوسيولوجيتها على هذا القلبل من الروحانية التي تحمل.

واذا بقيت على ذلك فهذه الشعوب على دوام صراع والقضية باقية مجتمعيات ازاء مجتمعيات الى ان ينفجر هذا التعدد. عندما يفتخر اهل السياسة بعدديتنا هم يشيرون الى كثرة الطوائف التي لا تتقاتل ظاهرا ولكنها لمصالحها تضبط الانفجار حتى حين يأتي بلا قوة لتردعه ولكن المسيحيين لا يفتشون عن دور لمسيحهم لأن الدوام لهم لا له. لقد قبل المسمون مسيحيين انهم والآخرين في حالة تراكم لا في ابتغاء اتحاد اذ الاتحاد من قبلهم يأتي من القلب والقلب يأتي من المسيح.

لست أرى طائفة مسيحية مجموعة بالجامع الوحيد الذي هو المخلص واذا شعرت ببعض من تجمع فهذا يكون ازاء تجمعات أخرى بما هو الأقرب اليها في العقيدة. ما تتميز بها الجماعات ليس الوحدة حضورا او شوقا ولكن الإزائية ولكون المسلم آخر تسمي وجودها معه تعددية والتعددية مذهب مجتمعي او منحى. التعددية لا تعدو كونها اصطفافا اي لصوق اجساد وأجساد وليس قربى فكر لفكر او انسكاب روح في روح.

للمسلمين نظام كامل شرعي او شريعي للتحدث عن لقائهم واهل الكتاب كما لهم لغة محدثة اي ملونة للشرع في هذا التلاقي. ما قوتها، ما سر نجاحها عليهم ان يبينوا ذلك ولكن المسلمين نظريا امة تأمر بالمعروف وتنهي عن المنكر وهم على الأقل يريدون ان يستشعروا انفسهم قريبين من الله ليعاملونا والدين عندهم معاملة.

وسط ذلك ما سمعت مسيحيا متزعما في قومه  يقول ان مسيحيتنا في العيش اللبناني تفرض علينا هذا وذاك في المسالك. قد يكون هذا من المرتادين الكنائس وتقيا على نوع ولكن مسيحه حبيس الكنائس ولا يعرف هذا الزعيم ان مسيحه احيانا يتنزه في المجتمع ليحييه وان المجتمع كائنة ما كانت عقيدتنا لا يقوم الا بروح عيسوية وهذا قول كثير عند مفكري الإسلام. ولكنا نحن على مقربة اسبوع من الميلاد لا نلد فيه الناس كل الناس بحنان يسوع اي بشمولية محبته للقوم جميعا كائنا ما كان شكل صلاتهم او شكل صومهم.

وبلا اي تعميم او حكم اقصده وبلا دينونة الكثير من كلام عند الرعاة كلام عن الطوائف اذ لست أرى انهم يريدوننا كنيسة بقدر ما يريدوننا طائفة اي تجمعا سياسيا. انهم لقد اعتمدوا لغة هذا العالم حين قال لهم المعلّم: «انهم لا ينتمون الى هذا العالم كما انا لا أنتمي الى هذا العالم» (يوحنا 18: 17).

#   #   #

هذا من خطبة الوداع. من قرأها بإمعان اذا قرأ الإنجيل كله يفهم ان يسوع الناصري أتى بلغة جديدة وانه أنهى كيانات وبداء كيانات. بنعمته انت ترى عالما جديدا ولا تغرق بالمؤسسات القائمة وان اضطررت ان تقوم معها بتعامل. على هذه الصورة تأبى ان تكون الكنيسة طائفة لها امجادها التافهة. انك انت اصطنعت مجدها لتقيم عليه مجدك الباطل ومجد المنتمين الى مجموعتك. انت واياهم تريدون هذه الأرض وتريدون ملكا ارضيا بغطاء سماوي وما هو بسماوي.

تغيير اللغة شيء خطير. يجعلك من المنحدرين  من برج بابل لا وحدة لك مع الحق ويجعل لسانك من ألسنة الناس حين جعل لك الروح القدس في العنصرة لسانا واحدا هو لسان الله الفائق السنة الملائكة واذا عطفنا هذا على نشيد بولس عن المحبة نفهم ان اللسان الوحيد المتروك لك  من الله هو لسان المحبة. من هنا تبدأ حساسية. ومن هنا تبدأ الرعاية في الكنائس.

ما نقرأ في كنيستي اليوم ان مريم كانت عذراء. «ستحبل العذراء، فتلد ابنا يدعى عمانوئيل، اي الله معنا» (متى 23: 1). اذا قرأنا هنا سياسيا  افهم ان الطوائف المسيحية مدعوة ان تنقلب كنائس اي لا يكون فيها الا زرع الله بحيث لا تأتي من العالم بل تنزل من فوق الى هذا العالم. وكما ان يسوع لم يكن له أب جسدي لا يكون لها هي مشاعر دنيوية تحركها ولكنها تشعر شعورا الهيا كأنها الله على الأرض. وهذا يتمشى مع فلسفة التجسد التي عليها نرتكز. وعند ذاك، نكون جميعا ومعا عمانوئيل اي الله معنا ونكون ردمنا الهوة بين اللاهوت والناسوت فينا ليكون كل واحد منا حاملا لاهوتا عظيما.

وعلى غنانا الكبير نبقى فقراء الى الله والناس معا كأننا مولودون في مذود نعطي من فقرنا الغنى، مولودون في البرد ونعطي البشر جميعا الدفء والسياسة تحل بعضها ببعض ويدرك اخوتنا في الكنيسة والناس ان لنا لغة اخرى واننا قائمون لنعلمها الناس ونلح على ان نخاطبهم بها وعليهم ان يتعلّموا.

تبدو السياسة من علم الاجتماع ولكنها في تبلورها هي علم اللاهوت فكيف اذا صار اللاهوتيون علماء اجتماع ونسوا ما انتدبوا له لما كانوا على محبتهم الأولى. هل يعني هذا اهتداء، عنصرة يومية تميت هي وحدها الطائفية وتجعلنا مطلات السماء على الأرض؟ سنسعى الى ذلك حتى لا يتقيأنا الله من فمه على ما ما يقول الكتاب.

#   #   #

اذ لم نقبل هذا نكون تذاكينا. هذا يعني في هذا السياق اننا أبدلنا الذكاء الإلهي فينا بالذكاء الدنيوي اي اننا اعتقدنا ان حكمة هذا العالم يجب ان تدخل الكنيسة لتصبح هذه فاعلة. بكلام آخر نكون قد ألحدنا. ما الإلحاد اليومي، العملي (اذ ليس من ينكر وجود الله من حيث هو كيان). الإلحاد العملي هو ان تتصرف كأن الرب لم يوحِ لك يوما كيف تتصرف كأنه خالٍ من كلمة يبنيك عليها في هذا العالم كما هو هذا العالم الملحد. هو من احتسب ان الله ليس عنده شيء يقوله عن العالم وعن مخاطبتك اياه. انت في هذا العالم ولكن تكلمه بلغة الله وتحييه بها.

عودا في هذا المنطق الى لبنان. التعددية ليست كثرة الطوائف ولا احترام الواحدة للأخرى. هو، بدءًا ان تخاطب كل مجموعة كما تفهم ان الله خاطبها فتطلب منها ان تأمر بالمعروف وتنهىv عن المنكر وتطلب ذلك من نفسك بالزخم نفسه ولا نفور بين الله وذاته.

اما كيف ترتب العلاقات بين شعوب هذا الوطن فيأتيك من بعد ذلك. كيف يريدك الله ان تلتصق بالآخرين لتعظيمهم وطهارة نفسك هذا هو السؤال. هذه شعوب مدعوة ان تكون الهية حسبما تفهم علاقتها بربها وبعد ذلك تقترن بالشعوب الأخرى فيأتي لنا بلد لامسه الله. والباقي يعطانا زيادة.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

العتاب / السبت 10 كانون الأول 2011

في آذار 1952 بعد انهاء دراستي في باريس عدت الى دمشق حيث مركز كنيستنا وفيما كنت أزور احد أصدقائي سألني أتريد سماع أغنية «عتاب» لفيروز فسمعتها وفهمت انها معاتبة لفقدان حب. كنت أفهمها على انها تعني لوم الآخر لأنه أنقص ما يفرض عليه واجبا نحوي. انا اذًا مركز وما همّني من الناس أنّ عليهم اداء واجب انا أستحقه مكتوب عليهم بسبب ود مفروض انه يربطنا. الود يتطلّب تعبيرا وان لم يؤدَ حسابًا وانا المحبوب أحاسب لأني أقضي وانت كنت ناقص الواجب ولست على الحرارة التي كنت أتوقعها منك. انت تحت القضاء وانا القاضي. كيف يكون المحبوب قاضيا؟ سلوا اللذين ألّفا عتاب رحمهما الله.

الصداقة تنزل على من تنزل وكذلك ما يسمى الحب. هذا سرهما وانت تتقبل ذلك بشكر وانفعال قلب وهذا يغنيك وقد يكون غنى شخصيتك الأول او الاهم. المحبة تعطي ولا تنتظر ردا. وقد يأتي من قلب شكور. هي تعطي لأنها نعمة من الله المجاني العطاء وتمارس مجانيته في خلقه. المحب فقير الى المحبة التي يبذلها لا الى المحبوبية التي قد تعود اليه وقد لا تعوده.

الضعف الروحي في العتاب انه ينقصه الغفران. من امثال ذلك ان كنت مريضا ولم يعدني صديق ان أقول له لماذا لم أرك في مرضي. ما تطلبه المحبة ان أعذر فقد لا يعرف الصديق بمرضي او يكون مسافرا ولم يستطع العيادة او كان شيء يعطّل نفسه. هناك اشياء وأشياء تحول دون تعبيرنا عن المودّة. المودّة ليست دينا. انت تشكر ان تدفقت عليك لأنها منّة من الله على صديقك. خذ القسط الذي يستطيع عطاءه لأنك، اذ ذاك، تكون قمت بشكر لله المعطي في الحقيقة وحده. اشكر له انه لم يدعك في الصحراء في هذا القليل الذي آتاك صديقك. دائما كن في حالة شكر لأنك فقير.

ما وجدت فقيرًا يعاتب اذ يظن ان ليس له حق على آخر. من حسب نفسه لا شيء. لا يفرض على الآخر شيئًا. المصلّي لا يعاتب ربّه لإيمانه بأن الله يوزّع مواهبه على أصحاب الحاجة ولا يبخل.

#   #

#

من يحق له اللوم وحده هو الله لأن هذا الغني عنك هو في حقيقته الفقير اليك. الرب جائع اليك او عطشان لأنه عند خلقك تاق اليك وانت لا تعلم الا اذا تربّيت على معرفة انه يحبّك ولعلّ كل تدبير الخلاص كما نسميه في المسيحية أعني صليب المسيح هو ان يدبّرك على معرفة محبته او هذا هو الاستنتاج من التعبير. لومه انك لا تميت خطيئتك ليس فقط لأنها جرح لجلالته ولكن لأنها تؤذيك وكل ما يريده من حنانه ان تعرف محبوبيته عندك.

اللائم وحده هو الله لأن كل شيء له، لأنك له. واذا طلبك فليرحمك او يجبلك من جديد اذ يرى انك خدشت خلقه. يلومك من اجل نفسك، اكراما لنفسك حين انت لا تعاتب الآخر من اجل ذاته ولكن من اجل ذاتك. الخالق الذي هو المركز جعلك مركزا ليخلقك كل يوم خلقا جديدا وانت تظن انه لا يعرفك مركزا له وحيدا.

كشف الله نفسه لك بالوحي لتعرف حاجتك اليه وتاليا ان تسلم بحقه عليك ومنه حقه بلومك. كل مشكلتك انك لا تفهم حتى تتوب اذ التوبة تشفيك من العمى الروحي حتي ترى فيبطل لومك الله وتدخل معه في تلك الموآنسة التي ترفع العتب والموآنسة هي تلك المجاورة التي تجعلكما كأنكما واحد.

فقط اذا وصلت الى محو اللوم الإلهي عنك تقبل عتاب صديقك بتواضع وتدعو له حتى يراك ولا يرى انك لم تفتقده. واذا بقي على عتاب تغفر فيرى وجه الله مرتسما عليك فتؤتيه الهدى.

كل موضوع الفضائل ان تخرج من نفسك والا تطلبها لها الا نعمة الله. واذا قبلت ما يعطيك الانسان فلاعتبار عطائه منّة له من أجلك. لا حسن في الإنسان الا منزلا عليه. كل جلال وحق وطهر فينا ان هو الا إطلالات من فوق حتى يرتفع. كل الناسوت فيك قائم ليتقبل نفحات الله. لذلك ليس لك شيء من هذه الدنيا. كل ما فيها ملك الله ودعوتك ان تكون على هذا الملك أمينا.

#   #

#

ان ترفع العتاب عنك لا تؤتاه الا اذا أبيت الطمع بالناس ليس الطمع فقط بالمال. أشرس الطمع استغلال البشر بالشراهة العاطفية وهي شبق ان تكون محبوبا. ليس شيء في كتبنا يقول اطلب ان يحبك الناس. الوحي يقول أن أحبب. يقول الله لإبراهيم ان اخرج من أرضك ومن بيت أبيك وكأنه كان يقول له ان اخرج من نفسك واذهب الى كل نفس لتخدمها فهذه كلها لي او تصير لي ان تحررت من انقباضها. الرسول هو الذي يذهب بالكلمة التي تسلّم له ليقولها وحدها اذ ليس في الانسان الحق الا ما استودعه الله فيه.

تقول صلاة السحر صباح الأحد في العبادة البيزنطية: «لنخرج ايها المؤمنون الى القيامة». اذا توسعنا في المعنى هذه لها ان تعني لنخرج بعد ان ننال قيامتنا من الانطواء او الانغلاق لنكون خداما للآخرين ولا نسعى الى ان نلفتهم الينا لأننا نحن في رعاية الله كاملة وتكفينا حياة. واذا رعانا الآخرون فنزداد حبا لهم ونفهم انهم رسل الحب الينا وانهم طريقنا الى القيامة.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الأرض الجديدة / السبت 3 كانون الأول 2011

هل المهنة غايتها الإرتزاق؟ انها وسيلة اليه اذ لا بد ان نعيش. ولكن الرزق يأتي من اية مهنة. اذًا هناك موضوع اختيارها وقد يكون الانسان في حيرة من ذلك. فكل المهن تدر. هناك اذًا ذوق لهذه الحرفة او تلك. هناك عنصر غير عنصر المال. هناك العمل في مضمار يلازم دواخلنا اي هناك حماسة كيان وشعور بضرورة الانتاج بأدوات معينة وأذواق مختلفة. الى المال طريقة الخلق وإحقاق الذات واقتناع الانسان ان شيئا ما يدعوه الى سلوك طريقه التي هي بعض من نفسه. المهنة امتداد للذات كما اللغة التي نستعمل او اللباس الذي ترتديه.

لذلك كانت الحاجة الابداع او ما نحسبه كذلك. بمعنى انه قد يأتي ضعيفا ولكنه مساهمتنا من حيث ان ثمة دفعا داخليا يجعلك تحس انه موجود في العمل الذي تقدمه، انك تطل بما تنتج وتأخذ مما تنتج شيئا من وجود.

لفتني منذ سنوات ان الطعام الذي تقدمه امرأة افضل نهائيا من ذاك الذي تنتجه اخرى مع ان المواد الموضوعة هي اياها. ما هو هذا الفارق بينهما.

هناك خلق ما، ابتداع ما، شخصية مودعة في الطعام او اعداده. هكذا الأمتعة في البيت. كيف أتت هذه بمهارة وتلك بما دُرس. المجتمع الاقتصاي فيه كثير من المبدعين الا في تلك الصناعات الضخمة حيث لا مكانة كبرى للذاتية في الانتاج.

في الابداع تمجيد لله الخالق، نوع من الامتداد لخالقيته او من مشاركته كما يمكن ان يعبر عن نفسه اللاهوت المسيحي. هناك جماعية بيننا وبين الله ترفع المواد التي ننتجها الى مستوى أعلى من كون ناسوتنا مسها. ان لم يكن الأمر كذلك بكون هناك عزل بين الناسوت واللاهوت وتكون الأرض ليست السماء غايتها او كأن ثمة مبتدأ مقطوع عن الخبر او ألفا لا تنتظر ياءها او كأن هناك خلقا وجد ليرى.

لذلك كان في النهاية الاقتصاد لاهوتا. ان لم يكن كذلك لا يكون الله مرجع كل شيء. هل رُمي الانسان في الأرض لينتج ام ليسبح اي ليسبح فيما هو ينتج.

الى هذا غالبا ما تكون عاملا مع الآخرين. هذا ليس فقط في الصناعات الكبرى ولكن في معمل للنجارة بسيط. واذا كان احساس بالجماعية يتصور مجتمع روحي وليس فقط مجتمعا سياسيا جافا يقوم على التراكم لا على التعاون. المجتمع الروحي بمعنى سري كيان واحد او كائن واحد، عضوي، يعقل واحدا على تعدديته. هذه ليست التشرذم. التشرذم خطيئة وهو ضد المشاركة والتدخل الصميمي بين الكائنات.

#   #

#

مما ينقذ هذه الانسانية ان المال لا يدخل كل الميادين ولا تتلطخ تاليا. طوبى لذلك الانسان الذي لا يحسب للمال حسابا او لا يقتني منه الا القليل. عند ذاك، هو حر ولا يضطر الى الكذب. عندما سأل سقراط حاكموه من يثبت لنا انك تقول الحقيقة. قال: انا فقير. مات كبير في الرسامين وهو فان غوغ معوزا. هذا لم يمنع جمال أعماله. الكبار، الكبار في كل مجالات الفن كثيرا ما يجاورون العدم الاقتصادي. المبدع اذًا حر.

القديسون كلهم كانوا فقراء ويسعون الى الاقامة في الفقر ليقتنوا الثروة الوحيدة التي هي الله، هذا الذي يستغنوا به عن كل شيء. هؤلاء وحدهم ما كان لهم هم ما يأكلون وما يشربون وما يأويهم او يكسيهم. اللاشيء كان عندهم شرطا لاقتناء الروح القدس حسب عبارة القديس سيرافيم ساروف. هذا الفقر كان ضمانة وصولهم.

هذا التجرد شرط لحراثة الأرض التي أمرنا الله بها عند التكوين. جعلها ملكا بشرط الشغل وهكذا يكون الانسان على صورة ربه. «انا أعمل حتى الآن وأبي يعمل» ( يوحنا 5: 17).

غاية العمل الانسان وليس الانتاج من اجل نفسه. غاية العمل نمو الانسان في الفضيلة. ليس بنايات فكر او حجر. هذه ترافق التطور الانساني الذي يحتاج الى تعقيدات كثيرة ليكون. تبدو الأمور وكأننا نسعى الي حضارة اي الى طبقات فكرية ومادية قائمة من اجل جمالها والحقيقة ان المبتغى من كل بنائنا للحضارات فرح الانسان بالملائكية التي له ان يصل اليها وان يقوم بهذا الحضارات صورة عن الحياة الإلهية التي ترعانا من فوق.

العمل كان في الفردوس قبل سقوط آدم والدنيا الحالية فردوس مستعاد او كذا يرجى ان تكون. غير ان هذا لا يتحقق الا اذا سعى كل منا الى ما يكمل وجوده بما ينزل عليه من فوق فتتحد السماويات التي في قلوبنا بالتراب الذي يؤلفنا وفي نهاية النهايات لا يبقى فينا غير الضياء الإلهي.

اذا استثنينا الذين يتبعون منهجا نسكيا خاصا لا يبقى لنا سوى العمل الذي يجعلنا نفكر وبه نخدم هذا اذا ابتغيناه طريقا الى الفضيلة التي هي وحدها نورنا.

ضمن العمل نصير قديسين والقداسة في السعي الدؤوب  الذي لا كلل فيه ولا سأم. في المجتمعات الحديثة يدور البحث حول الإنتاج حتى يأكل الأغنياء وبلدانهم اي حتى يظلّوا راسخين في الأرض وكأنهم استقلّوا عن السماء. وليمت الفقراء وتمّت بلدانهم. لم يخطئ آباؤنا لما قالوا: كل الخطايا تبدأ بالشراهة لأنها هي التي تثبت جسدك وتعلنه من حيث انه مستقل عن اجساد القديسين.

نحن في حاجة الى بناء فلسفة جديدة اساسا للاقتصاد السياسي الذي يكشف لنا انسانا جديدا اي نحن في حاجة الى إعادة الاقتصاد الى الله وداخل الإنسان الى فضائله والفضيلة الكبرى المحبة التي لولاها لما كانت الأرض وما كانت السماء.

انت تتوب ولكن ضمن عملك اذا وجدت وسيلة لتصير انسانا جديدا عاملا صلاحا. هل أتى زمان الكنيسة – العروس؟

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

وجه الله / السبت 26 تشرين الثاني 2011

لا تعرف وجه الله الا مرتسما على وجه بشر. ولا تعرف نفسك ما لم ترَ وجه الآخر جميلا اي اذا أقمت تساويا حقيقيا بينك وبينه. أنت تأتي منه اذا عرفت انه غير قبيح. وليس لك ان لم توقن يقينا دينيا ان الله محا عنه كل بشاعة. ومحو البشاعات لا يأتي من الانسان بل من النعمة اي انه ينزل عليك وتنشأ نسابة بينك وبين ربك بمعنى انك تمسي منسوبا الى الله ولكونه يرى نفسه فيك يجعل نفسه منسوبا اليك اذ يضم ذاته اليك فيقوى انضمامك اليه.

جمالك لا يأتيك من خارجك اذ يلصقه الله بك فتصير ما انت مدعو أن تصيره واذا أدركت كثيرا من البهاء تصير الطريق الطبيعي الى رؤية الناس ربك عليك.

انعكاس النور الالهي عليك مستحيل ان نظرت عيناك الى غير الله واعتبرنا امامك كيانا مستقلا عن الله. الله مكشوف في الطبيعة وهي رداؤه ولك ان تقرأه فيها فتعلو اليه بهذه القراءة ولكن مركز الطبيعة الانسان وبالدرجة الأولى تسمو به الى الرب.

اجل يتجلى الله في الطبيعة ولكن اسمى تجلياته الانسان. ويمده الله ببهائه مجانا فان الله غني عنه والانسان يستمد منه وحده غناه من حيث انه المصدر  واذا أغدق من محبته على واحد منا تسري الى آخر ولكنها ليست منا. المحبة منقولة من الله الى من شاء ويعينه بها حتى اذا بني حقيقة عليها تأخذ طريقها الى من تشاء. الانسان ناقل المحبة الالهية بعد ان تكون عملت فيه وكوّنته بمعنى انها ليست كلمة تقال او يدعى اليها ولكنها حياة عيشت حتى اذا لمسه احد فيك يقول: «هذا هو تغيير يمين العليّ».

ان لم تصر انسانا جديدا عاملا حقا تبقى مجرد متكلّم  بالمحبة وليس متغيرا بها. اذا صار الرب مثالك اي غدوت كيانا متحولا اليه تكون على مثاله ومن استنار يصبح الها اي مبتدئا  الآن بالألوهية، متخذا صفات الله وفي حالة تواصل معه. عندك اذًا اقصاء لكل ادعاء الألوهة وكل اله كاذب اي عليك التطهر باستمرار لكي تتقبل من العلى ما يشاؤه الله لك رجاء ان تعطى ما أخذت واذا رأيت الى الوجوه المستنيرة تلحظ ضياء واحدًا اي الها واحدًا له التجلي نفسه في ذا وذاك.

وحدانية الله تنكشف في وحدة تجلياته فاذا انت شبيه بأخيك مع محافظة كل واحد  على شخصيته ونوعية تجلي الله فيها. القداسة لا تذيب احدا بأحد. الموحد هو الله وارتساماته على الوجوه مختلفة. وهذا الاختلاف يسمح لنا بالقول بشركة القديسين. المشاركة تفترض تنوعا وتعددا بمظاهر القداسة وأفعالها فهذا له رتبة كنسية وذلك لا رتبة له وهذا راهب وذاك رب عائلة وهذا شهيد والآخر لا يهدر دمه. ظواهر القداسة تختلف وجوهرها واحد ولكنها مجتمعة بوحدانية التقديس لكونها مجتمعة بوحدانية الرب معطي القداسة.

#   #

#

لا تعني القداسة الكمال الروحي الكامل. هذا التنزه ملازم الله وحده. ولكن القداسة تعني ان تريدها. تعني اذا ان تسعى الى امحائك امام الله وعلى طريق الجهاد ان ترى نفسك لا شيء. ويعني هذا ان تعرف نفسك خاطئا، مكسورا الى ان يرحمك الله بالتوبة. والتوبة تعني الاعتراف لنفسك بوجه وان تصبو الى وجه الله وحده. عندئذ فقط يضع لك وجها جديدا يلتقي الوجوه الشبيهة بالملكوت.

غير ان الشيطان اذا وسوس للانسان ان يشوه وجهه لأنه ضجر من الله لا يبقى فيه نور. ينهدم كيانه او على الأقل يتهاوى. كل منا معرض لهذا السقوط وليس من تأمين على الفضيلة. انها نتيجة تعب يومي ووعي لهشاشتنا ووقاية الله لنا. عليك ان تلتمس العون الالهي في كل حين، كل لحظة عند هجوم الاغراء عليك لكي لا تهرول الى الجحيم وهي التي تحرقنا في هذه الدنيا وفي الدنيا الآتية.

قد يطل وجه الله علبك ليمحو القباحات التي حلّت فيك. هذا شأن محبته التي تجعلك في الشكر. وقد يعود الجمال فجأة ولا يتدرج. تتعلّم الكثير من الخطيئة. تربيك، تبكيك، توجعك. لا تنس علمها ولا تربيتها. خف كثيرا من النكسات بلا رعب لأن الثقة بربك اقوى من الارتعاب. انت في دلال. انت محضون أبوته حتى يستردك اليه وترقد في رحمته.

من أهمية رجوعك اليه ان يفيد الإخوة من توبتك فاذا استحلوك تجذبهم الى بهاء الوجه الذي كان لك لما كان ربك يفتقدك وتعودون معا الى شركة القداسة وتصيرون جسد المسيح.

اذ ذاك، تعرف طراوة ما كنت تحلم بها وكأنك اختُطفت الى السماء وكل ما فيك يتغنى حتى تسمع يوما صوت الملائكة يعزفون حول العرش وتتساءل ما سمعت من أين للملائك ان يرنّموا للرب ترنيمة جديدة.

كل الملائكية هذه ممكن حدوثها على الأرض وأنت تقوم بأعمالك كلها وبالخدمة. السماويات ليست مكانا. هي عمق الوجود فيك او عمقك انت في الوجود والأعماق هي الله الذي يحييك ويحييك اذا رآك مكونا برؤيته. وعند اكتمال رضائه لا تنتظر شيئا آخر اذ ليس من شيء يزاد على هذا الرضاء.

#   #

#

عنيت بالكلام على العالم ان الله، معنا وفينا وفي الكون، هذا لا يفيد انه مختلط اذ نكون قد وقعنا في الحلولية. انه متمايز عن الوجود ويعلوه ولكنه مبثوث وبلا بث هو غائب. لذلك كان أمرنا معه هو رؤيته في قواه كما يقول الأرثوذكس والتماسه فينا. وان تراه فيك وفي الكون تكون قبلته وان رأيته منحلا في الوجود المادي او النفسي تكون قد أنكرته خالقا.

مسألة الخالق انه دائما فوق ودائما تحت. وان لم تقبله منك والى جنباتك لا يكون قد خلق شيئا. الخالقية تستتبع المخلوقية اي انها حركة من الرب اليك دائمة ونظرك اليه باستمرار. الخالقية لا تنتهي. لم يضع ربك شيئا ليرميه. انه يرعاه والا تزول عنه الحياة. كل ما هو عقل وروح ونفس وجسم قائم بالعناية الإلهية التي هي عبارة تعني ديمومة الخلق او ديمومة الحضن الإلهي للمخلوقات.

بينك وبين ربك مواجهة ومعناها في اللغة ان يكون وجهك الى وجهه ليصنع وجهك. واذا اقتربت اليه حتى ما يشبه اللصوق يسمى هذا اتحادا بلا حلولية. يلبسك وتلبسه حتى يصح كلام بولس: «من التصق بالرب صار روحا واحدا معه». (1كورنثوس 6: 17).

هنا تبطل فلسفة الكلام ويبدأ الذوق.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الشجاعة / السبت 19 تشرين الثاني 2011

العلاقة البشرية علاقة شجاعة او علاقة خوف. اما علاقة الشجاعة فتأتي من ايمان الانسان بقوته او حقه. غير ان الايمان بالحق لا يقودنا دائما الى الجبه ولو قادنا الى الشهادة التي لا تحتاج دوما قوة بشرية بل يقينا يقول لك المؤمن ان الله الذي فيك يدافع عنك ولو قاد هذا الدفاع الى هدر دمك.

ولك ان تكون شجاعا لثقتك بأن رأيك مستقيم وتدعمه امام اي مخلوق بشري منفردًا او امام جماعة خطيبا او كاتبا. هذا ما يسمى عند العرب الشجاعة الأدبية. غير انك تتخوف احيانا من المجابهة ولو كنت متيقنا كل التيقن انك في جانب الحق.

بولس الرسول قال في رسالته الى أهل رومية: «كونوا رجالاً تقووا» وحثّ قبله المعلّم في طرق مختلفة على الشهادة امام الملوك والولاة وفي المحاكم والواضح ان حياته كانت صدامية من بدء بشارته حتى موته. والتلاميذ نلمس شحاعتهم امام اليهود وامام الأمم ومعظمهم استشهد ومن بعدهم أقبل الى الموت ملايين المؤمنين خلال ثلاثة قرون وكأن لهم ألفة مع النار او الزيت المغلي او الأسود لأنهم كانوا ينتظرون شيئا أفضل. كانت الحياة عندهم حياة مع المسيح وهذه السبيل اليها احيانا كثيرة الاستغناء عن هذه الحياة الدنيوية.

كيف تحب الانسان وتخشى منه أحيانا؟ هذا يعني انك تتوقع ان ينفصل عنك والا تظل عليك رعاية الحب. تفقد، عند ذاك، رعاية المحبوبية. تبقى وحدك وعند المقابلة التي فيها تبادل حجج ترى انك لا تستطيع مقابلة تعرف ان تحتج بها خوفا من فقدان الصداقة وتبقى منعزلا حتى يدبّر الله أمرك بعد أن أوكلته أمرك.

في هذه الحالة خوفك انت تحت التأويل. أنت غير قادر او غير عارف ويفسّرون خوفك الى عدم يقين عندك او يرصفونك في مصف الضعفاء مع أن الله ملك وتعرف ذلك وهم لا يعرفون ولكن الله لا يزعم ازعامًا. انه يوحي وحيا وهم لا يعلرفون.

#    #

#

ومع أن المحبة تطرح الخوف خارجًا على ما يقول يوحنا في رسالته الأولى الجامعة لا يحس الخائف المحب انه يستطيع المقاومة واحيانا يخسر قضيته في السجال او بعضها. يحصل هذا كثيرا في مجتمعات تتكل كثيرا على الكيد.

المأساة في ذلك ان الصالحين يشتمهم أهل الكيد او يدوسونهم وتربح الخطيئة ولكنها تربح ظاهرًا الى ان ينجلي الحق يوما بنعمة الرب.

كن أنت مع الضعفاء وبخاصة مع المستضعفين وهؤلاء ذوو قلوب نقية وعقول راجحة في أحوال كثيرة وأهل الظلم زاهقون تحت وطأة الرب الذي يدوسهم في حكمته لأنهم يريدون ان يسترضوه ولا يرضى ويبدو المستضعفون اسيادا في ملكوته وحسبهم هذا الرضاء.

#   #

#

يبقى السؤال كيف نزيد مساكين الأرض قوة حتى يغالبوا الشر في هذا العالم وحتى يبدو ملكوت الله بدوا ولا يختفي. هنا يأتينا قول المخلص: «كونوا حكماء كالحيات وودعاء كالحمام» صعوبة العيش ان بعض الناس حيات وبعضهم حمائم. كيف نقود الأشرار الى الوداعة وكيف نربي الودعاء على شيء من معرفة الأفخاخ التي ينصبها البعض حتى يزول أثرها. اذا كان الرسول قال: «المحبة تصدق كل شيء» هل عنى انك انت تظن كل من بادرك بالكلام انسانا سليما؟ لا أظن ذلك لأن بولس نعرف انه كان ذا تدبير رعائي في هذه المدينة وتدبير آخر في مدينة أخرى ويعرف كيف يواجه والي فلسطين مستخدما الحجة من القانون الروماني. «المحبة تصدق كل شيء» لا بد ان تعني انها قادرة احيانا على الاقتناع بأن الكاذب يمكن ان يصدق فتصدقه. وفظاعتنا احيانا ان نظلم انسانا صادقا. هذا جرح له ويكون قد اقتبله ربه بين التائبين وانت لم تقتنع. هل يندم على صلاحه وتكون انت رصفته من جديد بين الخاطئين.

تعلّم الشجاعة بالتماسها من ربك فان الخوف قد جاءك من التربية، من العقد التي ترابطت في كيانك ولم تستطع بقواك الطبيعيّة ان تتخلّص منها وتحس اذا ما تقدمت في الخبرة الروحية انه ينزل عليك قوة من العلاء. انت لا تستطيع ان تجعل لك سلاحا الا كلمة الله واللطف.

والكثيرون يعتبرون اللطف ضعفا لأنهم يقيسونه بالقسوة التي تكسبهم سلطة ويحسبون ان السلطة تجعلهم عظماء. حذار ان تقع في شهوة الظلم لتحس نفسك قويا. هذا ليس فيه شيء. أحبب من خاصمك وهذا يتضمن موآزرته لاصلاح نفسه.

تعلّم كيف تجمع بين اللطف وشدة القول ان كان عندك قول لأنك مسؤول عن ان يكبر مجادلك في الرب. لا هم ان تربح السجال او تخسره. المهم أن تأخذ بيد الآخر لتقربه الى ربك.

ولكن هناك من عرفوا ان يدافعوا عن انفسهم وهناك من لا يعرف ان يتكلّم ويعرف نفسه مظلوما. عليه ان ينتبه الا ينضم الى حزب القساة ولكن ان يكسب الشدّة مع المرونة التي هو عليها واذا بقي عيا وهذا ليس بعيب يصبح الله لسان حاله في هذه الدنيا او الدنيا الآتية. هذا حسبه الله.

نحن استلمنا من القديسين ان هناك تروضًا على الفضائل وتدرجا ما لم ينقلك الرب بأعجوبة من عنده الى ذروة الذرى. ولكن تدرب على هذه القوة الروحية التي بها تعلو فيك الشجاعة لتقدر ان تكون شبيهًا بالحية في حكمتها وبالحمامة في وداعتها فيسترك ربّك بستر جناحيه.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

مسيحية والمؤسسات / السبت 12 تشرين الثاني 2011

عاشت الكنيسة في بلدان فقيرة بلا مؤسسة واحدة وفق ما قاله اللاهوتي الروسي العظيم سرجيوس بولغاكوف: «الكنيسة ليست مؤسسة، هي حياة في الروح القدس». وكأنه أراد أن يقول ان المؤسسات التربوية وغيرها لا تنشئ مؤمنين بالضرورة. كبار الملحدين في الغرب وربما هنا درسوا عند رهبان متخصصين بالتدريس. يقولون لي: هناك جو ايماني بالمبدأ وهذا من شأنه ان يشدك الى الايمان. هذا صحيح ولكن ثمة مدارس علمانية تشدك الى الايمان ايضا وقد قرأت مؤخرا ان معظم الكهنة الموارنة في احدى الأبرشيات او في كلها متخرّجون من المدارس الرسمية الخالية من التعليم الديني.

خوفي من المؤسسات ان تحس الكنيسة انها قوية بها في حين انها قوية بالقداسة. في القرن الثالث في الأردن كانت الكنيسة تسمى كنيسة الخيام اي ان الجماعة لم تكن ذات بيوت وتتبدى كسكان الخيام والأسقف نفسه كان ذات خيمة والقداس يقام في خيمة وليس من دليل على ان من يرتادون الكاتدرائيات الكبرى أعظم تقوى من البدو. كان الفيلسوف الدانمركي كيركيغور يقول: مهما علا سور الدير فللخطيئة سبيلها اليه. قد يساعدك الحجر على الحياة الروحية ولكن ليس هذا مؤكدا. قد يؤطرك الرهبان والقسس والمطارنة وتبقى ضمن الإطار وتظل قليل الإحساس الروحي. الحياة الروحية ليست شركة تأمين. هي تنسكب عليك من فوق او لا تنسكب. لك ان تكون لها ولك ان تكون قالب ثلج.

المسألة هي أين تضع الأولية ومن اين تنتظر الشفاء. انت تحيا مع الرب وبه او فيه وله او ليس لك شيء من المؤسسات. انا أعرف التماعا روحيا عند ناس رعاهم كهنة دراستهم كانت ضعيفة واعرف فتورا روحيا عند من كان مرشدهم عظيما. عندي كنيسة فقيرة جدا تحنّ على اعضائها الفقراء. «يا عبد كل شيء قلب». ونحن الذين علينا مسحة من القدوس ما جئنا من كنائس غنية ويعطينا الرب حسب سؤل قلوبنا.

#   #

#

الأشياء كلها تجري وكأن الكنيسة لا تعتقد ان القداسة بحد نفسها فاعلة وانها في حاجة الى ما يسندها. كل شيء يدلّ هي ان الكنيسة تريد لغة العالم وأساليب العالم وانها بديلة الدولة واذا كانت هذه ضعيفة او غائبة وبدل من ان تقيم الدولة في نظامها وشرعيتها تجعل نفسها دولة او لابسة لباس الدولة.

ما لا يفهمه القيّمون على الكنيسة ان المسيح جاء ليغيّر العالم ولغة العالم. عندما كان منتصبا امام بيلاطس قال لهذا: «لم يكن لك عليّ من سلطان لو لم يُعطَ لك من فوق». السماء هي التي تسمح لك ان تقتلني وان بدوت اني خاضع لحكمك ففي الحقيقة انا خاضع للآب. ان لم نقل نحن قول المسيح نكون قائلين قول الدنيا ونكون مستعيرين لوسائلها ومستقوين بما تستقوي هي به ومستضعفين كلامها الأصلي وهو وحده الأصيل والا تكون تعلمنت بمعنى انها استعارت لغة العالم وآمنت بفاعليته ولم تؤمن بفاعليتها وتكون قد رمت بلغتها لتظهر انها ذكية وأفعل من مسيحها.

لقد جاء يسوع الناصري ليغيّر لغة التاريخ بعد ان غيّر التاريخ، لأنه يؤمن باللغة التي هو نحتها وبطل ان يعتمد لسان هذا العالم. السوأل الوحيد الذي نحن أمامه هو هذا: هل جاءنا المسيح بلغة جديدة هي تجدد الأذن التي تسمعها والقلب الذي تنسكب فيه ام جاء يسوع بلغة خشبيّة؟ هل من قرأ الانجيل ليفهم ان ألفاظه ومعانيه ليست من التي رصفت ككل رصف وان موسيقاها الداخلية غير موسيقى الطرب الذي يحرك شهواتنا.

اذا كان المسيح قائما فيك وعاملا بك وسائرا اليك فأنت مبدع ولست اتكلم على شاعرية كلامك ولكن على شاعرية كيانك الذي يهزّك ويهزّ العالم. عند ذاك، لك ان تصلي مع البداة وتتبع الأسقف البدوي لتأخذ الجسد والكأس وتستغني عن كل جمال مصنوع ألصق بك او وضعوه فيك. انت تخشى عندئذ، ان تكون قد خنت واستعرت غير بهاء يسوع الناصري وغير كلامه وغير فرادته.

هو تجسد في لحكمك وعظامك وبلغة مباشرة تبنى كيانك لكي يعيرك كيانه ولو للحظات لتتجلى. انت انسان جديد ان لمست هدب ثوبه وانت حي ولا يرعاك شيء غير هذا اللمس.

#   #

#

ينبغي ان تقرر العراء الكامل من دنياك ليفتح الله لك باب سمائه ويعطيك حلّة النور من داخل. الذين لم تتغيّر لغتهم يظلون يرونك عاريا ولا يسمعون لغتك الجديدة وتبقى أسطع منهم جميعا لأنك تكون تسربلت سربال النور وهم لابسون خرقا عتيقة لا تستر منهم شيئا لأنها تتمزق فترة بعد فترة.

لا تغيّر لغة الرب بكلام مسطح. ان فعلت يأتي يوم تنسى انت نفسك لغة الخلاص وتظن انك تشدد كنيسة المسيح بما استعرته لها من دنياك. اذا خسرت موهبة التمييز تكون قد خسرت كل شيء. ميّز واستقل عن كلمات هذا العالم وهيكلياته لتجعلك السماء بناء جديدا يغري العقل والقلب معا ويرى الناس انك ايقونة المسيح. الايقونة مصنوعة بإلهام من فوق. الزينة شيء آخر. المهم الا تؤمن بالزينة ولا ما يأتي به خيال الناس.

المسيحية جاءت بالروح القدس. خذه الى كيانك الداخلي فيأتي كيانك من فوق.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

القتل / السبت 5 تشرين الثاني 2011

في البدء كان القتل إذ قتل قايين أخاه هابيل بعد ان طرد الله آدم وحواء من جنّة عدن. إذا جعلتَ نفسك خارج الرعاية الإلهية يمكن أن تبيد أخاك الذي الله يرعاه كأنك تقتل الله نفسه. وقتل قايين أخاه حسدًا إذ قبِل الرب قربان هابيل وإلى قربان قايين لم ينظر فاغتاظ قايين حقًّا من الله اي انفصل عنه وتاليًا انفصل عن أخيه. وحصل انهما كانا في الحقل وليس في جنّة عدن فقتل أخاه.

ثم جاءت الوصية بموسى: «لا تقتل» إذ لم تسلّم اليك حياة الآخرين. هذه تذهب فقط الى من أعطاها وتدخل في رحمته.

ان انتزاع الحياة فيه استكبار او هو آتٍ من الاستكبار. والاستكبار هو التأليه إذ الله له أن يبيد. كل معصية تأليه للذات والقاتل هو المبيد الأعظم إذ يحسب ان من هو مزمع على قتله ليس له حق في الوجود. هو يعيدك الى العدم او هكذا يظن وبعد هذا يحس انه أعاد هو نفسه الى عدم ويزداد شعوره بعد هذا يومًا فيومًا وكثيرا ما ييأس من توبته.

إلغاء الآخر هو الشعور بأن انسانا يجب ان يعود الى العدم بسفك دمه لأن وجوده لا يطاق. ذلك ان حياته تأكيد لكيان له مزعج حتى الاختناق. ان لم تخنق العدو تختنق. الوضع الداخلي للقاتل عبّر عنه القرآن بقول: «من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا» (المائدة 32).

القتل في النفس يحدث. المبتغى إذًا ان تحب عدوك لأنك اذا استبقيته في الوجود تكون أنت وإيّاه ممجدين للرب وتنبسط السماء في قلبك وفي قلبه. ولك أن تفهم قول القرآن: «والفتنة أشدّ من القتل» لا بالمعنى المأثوروحسب ولكن بما هو أعمق ان ما يريده الرب منك ان تحرر قلبك من فتنته لأنه هو محرك يدك الى الجرم. وتفسيري هذا يلتقي بما جاء في إنجيل متى: «قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل. ومن قتل يكون مستوجب الحكم. واما انا فأقول لكم كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم» (5: 21 و22). في اللاهوت الروحي عند آبائنا ان الغضب هو الشهوة التي تلد خطيئة القتل او الضرب وكل نوع من أنواع العنف وتاليا ان المسعى الروحي ان تستأصل الشهوة لئلا تتحول الى المعصية. والنفس الحرة من الغضب هي النفس الهادئة وهذا المنحى في تهذبه (اي اذا نحا نحو المبدأ) هو مذهب الهدوئيين الذين أبادوا كل شهوة في أعماق نفوسهم وصار الله وحده يسودها.

إلحاح الجريمة ثقيل جدا. حكى لي صحافي كبير في النهار انه تعرّف الى قنّاص من زمن الحرب قال له: «اني كل يوم أفيق في الليل وأرى الذين قتلتهم بوجوههم وألبستهم وهذا يقلقني جدا». كانت هذه عودة الرجل الى ضميره بعد ما حاول فريقه العسكري ان يطفئ فيه الضمير. تذكر القتل قد يلازم صاحبه عشرات من السنين او طوال حياته.

مع ذلك هذا هو الخروف الذي ضلّ في الجبال ويبقى أخا لنا وعلينا رعاية نفسه المجروحة ليفسح لربه مجال زرع كلمته فيها. وقد يكون هذا قاتلا كبيرا ومع ذلك للطراوة ان تعود اليه وتجعله حملا وديعا. التوبة عمل الله في النفس فاذا انفتحت له بالبكاء يمسح الله عن عينيها كل دمعة. بعض من قديسينا كانوا من أكبر العصاة وأخذهم ربهم برأفته وحنانه ولم يتبق فيهم الا ذكره.

استخلص من هذا ان علينا ان نربي أنفسنا على الغفران وهذا يستنزل رحمة الله علينا وقوته ويضع حدا لجموح الصرع فينا. التحول الكبير ممكن بعطف العلي مهما توغلنا بالمعاصي لأن القلب البشري حبيب الله والنفس قادرة ان تقول: «ذوقوا وانظروا ما أطيب الرب» (مزمور 33: 8). واذا بلغنا العشق الإلهي بعد إثم لا ينكره الرب الى الأبد. من عظمة الرب ان ذاكرته تتفرغ من ذكر المعاصي. هل هذا هو غفرانه؟

# #

#

كان هذا كلاما في القتل الفردي. ما الكلام في قتل الجماعات بعضها بعضا؟ ما الحروب؟ ما من شك ان هناك بلدانا تبغض الاخرى او كان هذا عميما قبل الحرب العالمية الثانية ثم رأينا شعوبا بات من شبه المستحيل ان تتقاتل الآن. هناك ترويض ممكن.

هناك شعوب عرفت التحارب بما بدا سببا دينيا. أجل، يستعار الله من أجل القتل. على منطقة الجندي الألماني في عهد هتلر كان مكتوبا «الله معنا» واعتقدت شعوب ان الله يفوضها بقتل شعوب وان القتلة عسكر الله ومن هذا القبيل لم يخطئ كارل ماركس بقوله: «الدين أفيون الشعوب». هو شاهد القتل باسم الله واستمرار الفقر باسمه او قبول الفقر باسمه. هل اذا ذُبح فريق باسم الله يحزن الفريق الآخر؟ ملاحظتي ان هذا قليل جدا وكأن الذين لم يحزنوا شاركوا في القتل. متى نتصالح ونغفر الخطأ للخاطئين؟ ليس أحد منا وكيلا لله في سفك الدم. وكل تفسير او تأويل يتضمن معنى كهذا يكون من الشرير. ألا يستطيع المؤمنون في كل دين ان يدعوا بعضهم بعضا الى ميثاق سلام يجعل القتل في سبيل الله بدعة او كفرا؟

الى هذا أمن غير المعقول تغيير ايديولوجية الشعوب فتصبح ان الجيش دفاعي فقط اذا اعتدي عليه؟ اذا سمح لي ان اهذي أفلا اقول لماذا لا يمنع انتاج السلاح اطلاقا؟ يبدو ان المعامل في حالة الخطر تتحول بسرعة الى إنتاج آلات الموت. لماذا تخاف الشعوب؟ الى هذا لا أفهم كيف تقبل الولايات المتحدة اقتناء كل فرد من افرادها السلاح. ماذا يعمل اذا غضب الانسان وتشنج.

يعطى المواطن أداة القتل لم يحاسَب اذا قتل. كيف يتكلون على فضيلته؟ طبعا لا يمكنك ان تشفي الانسان من الغضب ومن امكان إبادته للإنسان الآخر الا اذا نزلت عليه نعمة الله. الغضوب جارح من داخله. لماذا اذا ادوات الموت؟ لماذا يجب ان نموت بغير أمر الله؟

افهم ان قول الملائكة عند مولد المسيح: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام» تعني ان الطاعة لله هي سبب السلام. أليس للأديان والدول ان تعمل شيئا ليتحقق شيء من هذا ان لم يتحقق كله؟ تلك كانت الغاية من تأسيس هيئة الأمم. هل نحتاج الى اتفاق سياسي علمي لنبلغ المحبة ام نسعى بالتطهر الذاتي لنزرع التراحم بين الأفراد والشعوب؟

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

النميمة / السبت 29تشرين الأول2011

اذا اردت الا تواجه نفسك اي حقيقة وجودك يصير لسانك سيفا على الاخرين لتقتلهم فيك اذ انت عاجز عن إبادة خطاياك او لا تراها لئلا تخيفك وتبقى مضطجعا على ذاتك التافهة. عندما يصير كل الكلام في السياسة مسيطرا على السياسة الخارجية اي طعنا ببلد آخر هذا يعني ان الزخم الجمعي في البلد المثرثر دليل الفراغ فيه والانتفاخ هو الفراغ. الآخر، اذ ذاك، جريحك او قتيلك اذ لا ترى نفسك ذا جروح او قريبا من التلاشي. انت لا تقدر ان تعترف لأن الاعتراف هو الكشف والكشف بدء التداوي او كله وهو اليقين ان الآخر طبيب لك او انك ناتج من فحصه ونصحه.

الثرثرة هي القوقعة اي هذا الانطواء على الفراغ. لا تستطيع ان تتحمّل الفراغ فتهرب منه لتدمير الآخر غير مدرك انك تدمّر نفسك. انك تبدأ تدميرها اذا أحسست ان الآخر اذا أحبك تكتشف ذاتك الحقيقية وتحبها اذا رغبت في إصلاحها بالمشاركة وهي نظرة الناس اليها بحب. تنوجد انت فقط اذا أحببت وانحنى عليك من أحب ربه. لعلّ الغاية الوحيدة لله في خلقه مسيرة المحبة فيه. فيها فقط يتجلّى الله والمحبة اقتفاء الكلمة الذي من البدء كان.

اما اذا انطويت فلا بد لك من حديث يأتيك من الفساد والشر فيك وقد أغراك الهوى ونعني به جذور الخطيئة. اوساخ تعرف انت طبيعتها او لا تعرف ولكنك تنزعها من عمقك ونتيجتها الأذى ولو لم ترده صراحة وعمدا. ولكن لا بد من الأقذار ان تخرج لتقبع في نفس اخرى ما لم ترفضها هذه النفس لكونها طاهرة. فلا يصيب السهم دائما فتؤذي النميمة صاحبها فقط.

#   #

#

الاخلاقيون يميزون بين الافتراء والنميمة. لم أجد في القرآن سوى افترى، وفي معظم الآيات هو الافتراء على الله كذبا او هو التكذيب بآياته ام سمى القرآن اعداءَ المسلمين مفترين من أمثال ذلك: «ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب» (سورة المائدة، الآية 103)، «ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون» (النحل، 116).

الكذب خوف عند فاعله وتجريح للآخر. هذا هو الافتراء ولكنك قد تقول عن الآخر امرا واقعا لا كذب فيه اما لأنك ثرثار او لقصد التجريح. تقول مثلا: هذا سرق وفي هذا تتحدث عن أمر حصل. هذا ما يسميه علماء الأخلاق نميمة ويقولون افتراء اذا لم يحصل سوء وانت اخترعته.

اي كشف لعورات الناس يسيء اليهم اساءة كبيرة لأن هذا يدعو من له مصلحة بهذا الى ان يمزقهم تمزيقا وقد تلازمهم نميمتك طوال حياتهم. هذا يصح كثيرا اذا تناولت عفة النساء بطعن. يصدّق الناس هذا بسرعة ولا يسعون الى تدقيق في الأمر. وقد ينتقل الحديث من لسان الى لسان ويدمر عائلة او عائلات وانت مدعو الى ان تكون عن آثام الناس صامتا والصمت ينجّيك دائما من الإفصاح الرذيل. الصمت مراقبة للنفس عظيمة اذ كثيرا ما تخلو هكذا في حقيقة ربها لأنها تكون منشغلة بالتوبة. اما الثرثار فلا يعرف التوبة.

قد تجعلك اجتماعيات سامعا لكل شيء. هذا ترميه في بئر الصمت ولا تترك لنفسك مجالا للتأمل في معاصي الناس خشية ان تقع فيها. آباؤنا حذرونا من ان نتذكر خطيئاتنا الماضية بعد ان تبنا عنها خوفا من ان تغرينا بها ثانية. انت تتأمل في الفضائل وجمالها علها تجذبك اليها ولا تتأمل في الفاسدات لئلا تحلم بها او باقترافها.

#   #

#

اقرأ هذا: «اللسان نار، وهو بين أعضاء الجسد عالم من الشرور ينجّس الجسد بكامله ويحرق مجرى الطبيعة كلها بنار هي من نار جهنم. ويمكن للإنسان ان يسيطر على الوحوش والطيور والزحافات والاسماك، واما اللسان فلا يمكن لإنسان ان يسيطر عليه… وهذا يجب ان لا يكون، يا اخوتي» (يعقوب 3: 5-13). اذا كان الرسول يرى الصعوبة في عفة اللسان ويطلب الينا مع ذلك العفة فهذا يعني انها ممكنة ان التمسناها من الله.

الله لا يريد منك إلا نقاوتك اذا كانت قوية فيك تصبح ينبوعا لنقاوة الآخرين. كل منا يريد ان يكون محبوبا. لذلك يتقلص ويحزن ان انت افتريت عليه. كذلك يحزن ان نقلت عن لسانه ما أسره لك شخصيا. خذ هذه القاعدة ان تعتبر ان ما يقوله احد لك كثيرا ما لا يريد او يجرؤ الى قوله لسواك. كل ما نسمعه اعتبره سر كما يقول المسيحيون. اما اذا أدركت ان إشاعة حديث بلغك ينفع الناس ويقويهم في الحق فأشعْهُ على الا تكشف حديثا ائتمنت عليه وما أراد صاحبه ان تذيعه.

«المجالس في الأمانات» قاعدة سلوكية عندنا. لذلك كان الصمت اولى وأنفع في معظم الحالات. هنا استعفاف يبنيك ويبني الآخرين. ليس كل ما تعرفه مشاع. معظم الأشياء ملك لأصحابها ولمن ائتمنوهم، فتقيّد بهذا حفظا لطهارتك وحفاظا على سلامة الآخرين وصيتهم.

كل انسان سره له وقد تسمح له الصداقة ان يخبر عنه اذا تأكد ان ما يقوله ليس فقط لا يؤذي ولكنه نافع. تحصّن بالصمت يجعلك مبلغا بصمتك. انه لا يحتاج دائما الى كلماتك لينقل الخير الذي اختزنته. الانسانية شركة محبة والمحبة تحتاج الى شهود يحيون انفسهم بالوصايا الإلهية ويحيون الناس بعطفهم ولطفهم ومعاضدتهم في الخدمة. هؤلاء كان الله بهم رحيما.

Continue reading