أنت تعيّد وسط آلام شعبك والانسانية ولا تنسى ليس فقط لأنك لا تقدر شيئا على عذاب جسدك ونفسك والوطن وستة مليارات من الناس معظمهم فقير ومرمي على هامش التاريخ. ولست أنت ازاء هذا ولكنك في وسطه ان كنت مؤمنا وتحس بما يجري لان هذا الذي يجري انما هو في لحمك وعظامك وأعصابك وعقلك ورؤيتك للكون.
في وسط هذا تقيم العيد وهذا ليس غريبا عما جرى للمسيح لانه انتصر وارتفع الى المجد فيما كانوا يرفعونه على الخشبة. ولم يدرك المجد حسب كتبنا لما أنزل عن الصليب ولكن فيما كانوا يسمّرونه ويطعنونه بحربة ويسقونه خلا ومع الخل يذوق مرارة العالم الجاحد لان العالم كله صلبه ووجد قبولا لصلبه، حبا لم ينقطع منذ تلك الايام. الفصح من حيث هو عبور يسوع الناصري بنفسه وفكره وصلاته وجسده الممزق الى الآب بما يرافق كل ذلك من ضياء وتضميد لجراحنا نحن، الفصح هذا يتم للبشرية المعذبة اذا لطف بها المسيح وحملها على كتفيه وضمها الى قلبه الجريح واستدخلها كيانه ليصعد بها الى أبيه وأبيها وإلهه وإلهها حتى تركن على الرجاء. واذذاك يمسح الله كل دمعة عن عيونها.
فمن الناس من يعرف انه فصحي لانه استدخل هو ايضا آلام السيد وارتفع بها الى وعود حياة أبدية. ومن الناس من لم يقرأ هذا او لم يفهمه او رفضه. ولكن المسيح يجعله فصحيا بحيث انه يتبنى آلامه ويضمها الى آلامه بتعزيات لا تنقطع. وفي وحدة الالم والرجاء ليس أحد قادرا على ان يرسم حدودا بين المسمّين مسيحيين والمسيحيين شيئا آخر او المسمين فقط على عذابات الفقر والمرض والعزلة واليأس.
لفتني فيما كنت أتأمل في سر الفصح قول بولس: «سلّمت اليكم قبل كل شيء ما تسلمته انا ايضا (أي من الشهود) وهو ان المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب (أي تحقيقا للعهد القديم) وانه قبر وقام في اليوم الثالث حسب الكتب وانه ظهر لصفا ثم للاثني عشر.
نحن أمام عقيدة اي نتعامل أولا مع حدث ثم يأتي تفسير الحدث. لذلك كان «إنجيل يهوذا» غير المبني على شهود لا قيمة له. أثار تساؤلات لأنه سمي «انجيلا». نحن نعرف ان ثمة عشرات الكتب المنحولة أي المنسوبة الى الرسل وهم ما كتبوها ولكن هذا كان اسلوب التزوير انك تضع انت مؤلفًا وليجد قرّاء له تنسبه الى شخصية هامة. وهذا امر معروف في كل الاجيال.
# # #
الى الاناجيل المنحولة رسائل منحولة. وهذه منشورة في اللغات الاجنبية. والكنيسة لم تعترف بهذه المصنفات لكونها لا تستند الى مرجعية وما عرفها المسيحيون في القرن الاول وهي مليئة بالاساطير. اما السؤال لماذا لم تعترف بها الكنيسة (وليس فقط ايريناوس) كما يدعي هذا الفيلم الذي شاهدناه فلكونها الى جانب عدم تاريخيتها او ضعف تاريخيتها تحتوي على مضمون عقائدي غريب عن الكنيسة. فالكنيسة الاولى اي الجماعة التي اخذت روح يسوع وروحية الرسل والحلقات الاولى من الشهود اعتمدت اناجيل اربعة فقط. طبعًا لو اردنا ان نبين للقارئ كيف تختلف الاناجيل الاربعة القانونية عن انجيل يعقوب او انجيل العبرانيين او انجيل توما مثلاً وكلها منحول لامكننا ذلك.
الاطروحة التي لخصتها «لوريان لوجور» جعلت المسيح يكلف يهوذا ان يسلمه الى اليهود اذ يقول له المعلم ما معناه اني اريد ان اتخلص من هذا الجسد. اي قارئ للعهد القديم يفهم توًا ان هذا انتحار وان يسوع لا يمكن ان يكون تلفظ بهذا الكلام كما يعرف ان المكيدة ضد الناصري ابتدأت منذ بداءة بشارته وان رؤساء اليهود ما كانوا في حاجة الى ان يشجعهم يسوع على اقتراف هذا الجرم.
# # #
الامر الآخر الذي يرافقنا في هذا العيد هو محبتنا للكنيسة القبطية الشقيقة. انا اعرفها جيدًا منذ خمسين سنة واعرف تقوى شعبها المذهل الذي يقضي ساعات في الكنيسة في الآحاد والاعياد بلا كلل ولا ملل. واعرف النهضة التي قامت بها شبيبتها منذ ستين عامًا وقد اعطت عددًا من الرهبان والاساقفة والقسس كبيرًا. هذه الكنيسة متألمة الآن مع المخلص بعد ان اعتدي على ثلاث كنائس من كنائسها في الاسكندرية.
انا لست اقول ان ثمة ملفًا للكنيسة القبطية لم يفتح بعد. انا مسرور بالمناقشات التي تجري في الاوساط المصرية المسيحية والمسلمة الراقية ومن كل الاشكالية المتعلقة بمشاركة الاقباط في الحياة السياسية وذلك بصرف النظر عن المخاوف التي انتابت مسيحيي مصر عند نجاح الاخوان المسلمين في الانتخابات الاخيرة. ان صعوبة خوضنا هذه المسألة ان الأنباشنوده بابا الاسكندرية للكرازة المرقسية ما شكا اية فئة من المسلمين وما تأفف وما نسب تقصيرًا، الى السلطات ويعتبر المصريين جميعًا مواطنين ويرفض دوما ان يبحث الاجانب في موضوع الاقليات في مصر اذ يأبى اطلاق صفة الاقلية على الأقباط.
قد أفهم ان أي احتجاج من شأنه ان يؤزم الوضع وقد أفهم ان انخراط الاقباط من جديد في احزاب وطنية من شأنه ان يعزز موقعهم الوطني الذي لا شك فيه من حيث الجوهر ولكنه يحتاج الى تفعيل أعظم.
غير اني لا استطيع ان اقتنع بأن مسألة حرق كنائس تحل بمجرد قول المحقق ان هذا الذي قام بهذا العمل وقتل قبطيًا مصاب بخلل نفساني. سيصدر حكم المحكمة وننتظره. وللمحكمة ان تقول اذا كانت قوى الامن مسترخية (وما قلت إنها متواطئة). وفي هذا مسؤولية.
غير ان ما لم يبحث فيه هو اذا كان هذا القاتل يجتمع الى مجموعات تكفيرية (تكفير النصارى والمسلمين المعتدلين) وهي ليست قليلة في مصر. هل مصر العزيزة خالية من كتل تشحن الناس بتعليم عدائي عن المسيحية؟ هذا هو الملف الحقيقي الذي يجب ان تفتحه لا السلطات فقط ولكن النخب المثقفة. لم يبق كافيًا في خطب التودد بين الازهر والرئاسات الروحية القبطية ان يقول كل فريق حسنًا عن الآخر وان يأتي بآيات القربى والحب ولا يعالج النفوس كما هي.
واذا كانت عامة المسلمين لا تعرف شيئًا عن المسيحية فعامة الاقباط لا تعرف شيئًا عن الاسلام والقربى الفكرية التي نعيشها في لبنان ظاهرة خاصة بلبنان. ولكن هذا لا يعفي المسؤولين في الدولة ان يطلعا على الادبيات ووسائل الاعلام المتعلقة بالدين الآخر وان يعمل المثقفون على وجود أدب رفيع يجمل صورة الآخر في مصادره وفي كل ما يحلو فيه.
عودًا الى القاتل، ربما لم يحرضه أحد. لب المشكلة هو التحريض الكامن في نفس هذا الرجل من وراء ما سمع وقرأ اي من وراء التعبئة الفكرية والانفعالية. حرية البغض هي مصدر حرية القتل.
غدًا سيعيد الاقباط الفصح ويغفرون كما فعل معلمهم. ان يقووا روحيًا بلا طائفية لا تعرفها مصر وان يخدموا كثيرًا كل الشعب المصري هو فصحهم المقيم. الاقباط ليسوا مشكلة مصر. المسيحيون ليسوا مشكلة العالم العربي. القليل عدده يبتغي كرامته وحقه في التعبير. هل يريد العرب ان يدخلوا حقًا في التعددية وتاليًا ان يجعلوا انفسهم تحت كل سؤال؟ اذ ذاك يكون رقيهم.
Continue reading