فلسطين الدعوة أكبر من الأرض. يذهلني فيها أنّها لا تسكن دار الخوف، أنّ رجاءها أعظم من واقعها. أفهم أن تكون مشدودة بين مرارة الوعود وضياء التطلّعات حتّى يعمّ الفهم الدنيا وتنصف فتصبح القدس محكّ الصدق. وقد تعظم صحوتها ببركات الدم المراق وكيف يهدي العالمين. إن لم ننظر إلى فلسطين حدثًا روحيًّا كبيرًا نبقى أسرى مشاعر من هذه الدنيا. أنا هذا لا يكفيني ولا أتجنّد له. أنا مع هؤلاء القوم في مظلوميّتهم ومع القدس في نورها. دم الظالم ليس فيه شهادة. أنا مع فلسطين حتّى تسمو وأرتفع بها. وما التفاف أبنائها إلاَّ نداء إذا سمعت إليه يزكّيني في إنسانيّتي ويجعلني أكثر نباهة وأشدّ إحساسًا في كلّ مساعيَّ. وإذا تبرّر إنساني الداخليّ بالقدس أنظر إلى لبنان مقدسيّ الدعوة أي مطرحًا سماويًّا استلهامًا ففعلاً إنسانيًّا يتفجّر ضياء.
فلسطين ترعى عهد الحبّ بعذابها وتحيا حرّة به وحرّة منه، مرشّحة للقيامة في هذا الدهر، مختارة بالحبّ الذي ينزل عليها. ولذا، بمعنى، كانت فوق السياسة. لذلك لست أنت مختارًا بين حبّك إيّاها وعدمه. أنت مبارك بها. هذا حوار المرئيّ وغير المرئيّ الذي تكون فيه المحسوسيّة مرآة اللامحسوسيّة واللحظة طفرة إلى الأبد. هذا وحده يعيدك من الهروب. لذلك كانت المقادس الفلسطينيّة رياضة قلوبنا.
الذين يموتون معًا هم دائمًا واحد. وما أعرفه من متابعتي التحرّك الفلسطينيّ منذ 1936 هو أنّ الذين ناضلوا معًا صاروا معًا في حلم الأجيال اللاحقة. هذا أنشأ وطنيّة واحدة عندهم، ولم ينكشف فيها انغلاق طائفيّ، وقدروا على خطاب عربيّ حضاريّ أرادوه بمشاركة اليهود لمّا عاد النضال مع الثورة في أواسط الستّينات. ثمّ خاب الأمل من كيان واحد. ولعلّ اللغة القوميّة هناك تتجاوز ثنائيّة المسيحيّين والمسلمين التي نحكيها في لبنان. لغة نكهتها علمانيّة بمعنى أنّ التوق باقٍ إلى وجود وطنيّ جامع. وعند حلول السلام لا بدّ من أن يواجه الفكر الفلسطينيّ إشكاليّة العلاقة بين الوعي القوميّ والصحوة الإسلاميّة، وهي إشكاليّة مطروحة منذ بضع سنوات على مطارح البحث في محافل بيروت.
# # #
هذا التلاقي المسيحيّ – الإسلاميّ مرموز إليه في القدس لكونها كانت قبل احتلالها موطن الجماعتين الكبيرتين. ولا تزال من زاوية الأماكن المقدّسة كذلك. ليس في المدينة العظيمة أيّ أثر يهوديّ يذكر ما عدا بعض الحجارة التي تسمّى حائط المبكى. وحتّى اليوم لم ينبش أثر من هيكل أورشليم، لأنّ الهيكل الثاني أحرقته كلّيًّا الجيوش الرومانيّة السنة الـ70 ولم يبقَ منه حجر على حجر كما تنبّأ له المسيح.
أقول هذا ليس من أجل الحديث التاريخيّ ولكن لأوضح أنّ هذه الثلاثيّة اليهوديّة – المسيحيّة – الإسلاميّة ليس لها تجسيد يذكر حتّى اليوم إذا اعتبرنا المدينة داخل السور. وهي الوجود التاريخيّ الذي ألصقت به، بالإسمنت المسلّح، هذه الأبنية اليهوديّة البشعة جدًّا لتعلو التاريخ وتدفع إلى الكلام العالميّ على وجود ثلاثيّ الجماعات. فإنّ القول المصطنع في الديبلوماسيّة العالميّة كان القصد منه في مرحلة أولى أن يساوي مجتمعيًّا بين هذه الطوائف وفي مرحلة ثانية أن يؤسّس لها حقوقًا متعادلة في المدينة.
تأتي عندئذٍ المرحلة الثالثة من التأمّل لنقول إذا كانت الجماعات الثلاث واقفة معًا في القدس فليتولّ اليهود أو يتولّ المسلمون (وللمناسبة العرب يصبحون المسلمين فقط وهذا يروق الأميركان طبعًا لأن المسيحيين في فلسطين محسوبون على العروبة ولا يطلبون شيئًا لأنفسهم). وإذا كانوا لا يتكلّمون – وأكثرهم غير كاثوليكيّ – يبقى الفاتيكان لسان حالهم لكونه طرفًا قادرًا على المخاطبة الواحدة، ولأنّ المسلمين يريدون دولة مسيحيّة لا يمكن أن تكون إلاَّ الفاتيكان إزاء الدول الإسلاميّة. إنّ منطق الأماكن المقدّسة الذي أتت به الروح الصليبيّة والردّ على هذه الروح هو الذي قادنا إلى الثلاثيّة المذهبيّة. تُكرَّسُ الثلاثيّة في الحضور البشريّ والآثار، ونحن اثنان في الحضور البشريّ قبل التجمّع الصهيونيّ الذي شوّه القدس، واثنان في المجال الأثريّ. فالكلام على الجماعات الثلاث معًا هو من باب الواقع السكّانيّ الحاليّ فقط ومن باب استعمال حقوق الإنسان ولكن ليس له علاقة بالعمق.
# # #
على مستوى المعاني يختلف المسيحيّون والمسلمون في تقدير اليهوديّة. المسلمون يعتبرونها دينًا سماويًّا. في السياق القرآنيّ وعلم الكلام هذا الكلام مفهوم لأنّ اليهوديّة في الفهم القرآني هي التوراة وهي عند المسلمين كلام منزل. ولكن إذا رأى المسلمون إلى الكتب الأخرى اللاحقة للتوراة كالتلمود وغيره قد لا يصرّون على قولهم إنّ اليهوديّة دين سماويّ.
قلت هذا لأنّ الموقف «الترحيبيّ» باليهود ومسالمتهم مهيّأ له في اللاهوت الإسلاميّ. أن يقبل المسلمون اليهود على أساس حقوق الإنسان هذا ما أقوله أنا أيضًا. ولكن أن يرحّبوا بهم على أساس الوحدة الإبراهيميّة أي كونهم ينتمون إلى جذع روحيّ واحد فهذا عندي لا أساس له لأنّ لكلّ منا قراءته لإبراهيم. فليس له وجه واحد أو موقع واحد أو معنى واحد في الديانات الثلاث.
المشكلة عويصة ودقيقة بين الفكر المسيحيّ التراثيّ والموقف المسيحيّ الغربيّ طوال القرن العشرين ولا سيّما بعد «المحرقة» واستضافة أميركا اليهود المطرودين من ألمانيا النازيّة. ليس المجال هنا لأناقش الفكر الغربيّ حول أفهوم شعب الله. هل اليهود لا يزالون شعب الله أم إِنّ هذا هو إسرائيل الجديد أعني الكنيسة.
هل هناك اختيار للعبرانيّين أم إِنّ المختار الوحيد هو يسوع المسيح ومن صاروا إليه. هل اليهود «شعب الوعود والبركات» وعلى المسيحيّين أن يتقبّلوهم بهذه الصفة؟ هذه تأمّلات دخلت فعليًّا في سياسة الولايات المتّحدة وجاءت من القراءة الظاهريّة والحرفيّة للعهد القديم.
ربّما اضطرّ الفكر الغربيّ اليوم إلى أن يوفّق بين هذا اللاهوت السيّئ وواقع الظلم الحالِّ في الشعب الفلسطينيّ. أنا لا أدعو إلى أن نجتمع مسيحيّين ومسلمين على عداء لليهود. هذه عندي عنصريّة توقعنا في هذا الذي وقع فيه هتلر وجعلنا نرث نتائجه. لولا هتلر لما دعمت أميركا والاتّحاد السوفياتيّ الكيان الصهيونيّ هذا الدعم الكبير السنة الـ1948. أيّ استدعاء لشعور عدائيّ للشعب اليهوديّ يحلّ بنا أذى كبيرًا. كما أنّ أيّ التماس قربى روحيّة على أساس دين سماويّ (الإسلام) أو قربى روحيّة في وحدة الشعب المختار (المسيحيّة الغربيّة) يشوّه المسيرة.
ما من خطاب يحيي فلسطين في أذهان العالم المتحضّر إلاَّ كونها مقهورة وكونها في مقهوريّتها معطّلة للسلام آجلاً أم عاجلاً. كنت دائمًا أتمنّى أن يخرج اليهود من غباوتهم ليفهموا أنّ محاصرة الحاضر الفلسطينيّ خير خدمة لتفجّر المستقبل الفلسطينيّ.
هل يزيد العرب شيئًا على الخطاب الحضاريّ الفلسطينيّ في العالم ما عدا الحماسة ومشاركة الاخوة في المجال العمليّ. قلنا إنّه أوّلاً في نطاق النفط ولو افتقر العرب؟ أعتقد أنّ الخطاب الفلسطينيّ لن ينجح ما لم يكن وطنيًّا أي قائمًا على وحدة فلسطين بالتساوي الحقّ بين أبنائها، الأمر الذي يجعله قوميًّا بصورة سليمة أي بصورة لا تجرح وحدة الداخل.
لا مانع من استنفار العالم الإسلاميّ (لكن كلّ شيء متوقّف على اللهجة وفحوى الخطاب). ولكن بالقوّة ذاتها ينبغي استنفار العالم المسيحيّ المتحسّس للعدالة. لقد لمست تعاطفًا عظيمًا وفلسطين في مجالات غربيّة ما كانت كبيرة التحسّس لقضايانا سابقًا. ولكن ضمن مخاطبتنا للغربيّين بمن فيهم العلمانيّون اختبرنا نحن أنّ تحويل الأنظار إلى وجود مسيحيّين في فلسطين أتى عنصرًا مفيدًا للقضيّة. وهذا أمر ليس فيه إثارة لأحد. المهمّ أن يبقى العدل محور التخاطب. بعد ذلك، وفي صبر كبير، أترجّى حلول البهاء.
Continue reading