Monthly Archives

October 2000

2000, مقالات, نشرة رعيتي

أولادكم والمدارس/ 29 تشرين الاول 2000/العدد 44

اذا درس اولادكم عند المساء فهم في رعايتكم العلمية بقدر ما تستطيعون ان تواكبوا مناهجهم الجديدة. والكثيرون منكم قادرون على المتابعة لأنكم تريدون لهم فهما وبنيان شخصية ومستقبلا مرتكزا على المعرفة. وذكاء اولادكم وجهدهم فرح ولستم غائبين عن اولادكم في السهرات. وحضوركم في البيت جزء من تربيتكم لهم.

          غير ان التحصيل العلمي لقاءه دفع الأقساط على رغم الضائقة الحاضرة اذا ارسلتم بنيكم وبناتكم الى مدرسة خاصة. ذلك انكم لماّ اخترتم مدرسة خاصة اخذتم علما بالأقساط وتعهدتم دفعها. وكانت المدرسة الرسمية خيارا لكم آخر. ولكنكم فكرتم وقررتم المدرسة الخاصة. وما كان في سلوككم خفة.

          واذا تقاضت المدرسة قسطا منكم فليس لتربح ولكن لتقوم عما يتوجب عليها من نفقات وأهمها رواتب المعلمين بحيث اذا تخلفتم عن الدفع او دفعتم جزئيا يكون هذا عجزا في المدرسة وليس من يدفع عنكم. ولا اعرف رعية  تساهم في ايفاء ديون الأهل.

          اذكر هنا بنوع خاص مدرستينا: القديس انطونيوس–فرن الشباك والقديس جاورجيوس–بصاليم. لقد ارسلتم الينا اولادكم لإيمانكم بأن المستوى التعليمي والتربوي رفيع عندنا. ولقد بلغتكم النتائج الباهرة هنا وهناك. ولست مادحا مؤسساتنا فالمديح يأتي منكم ومن الخبراء الغرباء عنا الذين زارونا. نقدّم حسومات ولكن لا يمكن ان نتجاوز حدا معقولا لئلا تقع الأبرشية في عجز والأبرشية عندها ابواب إنفاق كثيرة تقع على عاتقنا وحدنا ولاسيما باب إخوتنا الفقراء. المدارس تقع تاليا على عاتق الأهل وحدهم. والفقراء يستهلكون نصف ميزانيتنا. هؤلاء ان لم تنظر اليهم كنيستهم لا يرعاهم احد.

          نحتاج الى محسنين. والميسورون موجودون بينكم. ونحن نقوم بسعي للتعرف اليهم. غير ان المساهمة الكبرى تقع على ذوي الطلاب. هناك اولية  الى جانب الطعام والكساء والسكن وهي اولية اولادكم. الضعيف ماليا منكم اذا اصر على المدرسة الخاصة والمدرسة الارثوذكسية لأنه يريد مبادئ يدعوه ربه الى التقشف، هذا الانسان لا يحق له ان ينفق شيئا على ملذاته قبل ان يوفي الفلس الأخير من قسط ولده المدرسي. فلا يبكِ ولا يستبكِ على ابواب الإدارة عندنا.

          اذا احببتم استمرار مدارسنا فقوموا بكل تضحية ممكنة في سبيل اطفالكم وشبانكم، هذا اذا اردتم فعليا ان تبنوهم على قواعد الإيمان والأخلاق من جهة وعلى قواعد العلم من جهة اخرى. لا نستطيع شيئا حقيقيا في سبيلكم ما لم تتحسسوا بنا وباوضاعنا. لن تكمل مدارسنا رسالتها ما لم تريدوا انتم ذلك. وبذلكم الأقساط المترتبة هو الدليل البليغ على انكم تريدوننا ان نحضن اولادكم معكم.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

القدس / 22 تشرين الاول 2000/ العدد 43

من زاوية مسيحية، روحية كيف ننظر إلى قضية القدس؟ اجل لها اهمية كبرى لأن السيد قضى حياته على الأرض هناك وصُلب فيها وقام. ولكن ما أولى المسيحيون الاوائل اهمية لها قبل القرن الرابع حيث اخذ المؤمنون يقصدونها من كل صوب، وتنظمت في المدينة ثم حولها في دير مار سابا العبادات المسيحية كلها، وفي القرن الخامس اعتُبرت اورشليم البطريركية الخامسة بعد روما والقسطنطينية والاسكندرية وانطاكية.

          إلاّ ان الأهمية القصوى ليست للحجر ولكن للبشر. انهم هم مقدَّسون اكثر من الأراضي المقدسة. فالمسيحيون هناك صاروا بسبب الهجرة قليلين. كانوا حوالي 75000 قبل الحرب، وأمسوا الآن عشرة آلاف او اكثر بقليل بسبب الضغوط التي تمارَس عليهم والقوانين الظالمة التي تفرّق بينهم وبين اليهود. بيت لحم المجاورة التي كانت مدينةً معظم سكانها مسيحيون، صار هؤلاء فيها قلة. أمانينا الا تضعف الكنيسة هناك عددا لتبقى شهادتنا حية وكنائسنا مفتوحة. ومن الصعوبات التي يعانيها الارثوذكسيون ان الرئاسة الروحية هناك أجنبية (يونانية) غير قادرة على القيام بالوعظ باللغة العربية وهي صادمة للرعية وجارحة لها لأن البطريركية تبيع الكثير من اراضي الوقف لليهود او تؤجرها إجارة طويلة. وما يغري الارثوذكسيين بترك كنيستهم ان السلطات الروحية الأخرى (الأنكليكانية منها واللاتينية) صارت كلها عربية.

          الأهم من الأماكن المقدسة الشعب المقدس الذي تقوم عليه حملة شرسة من الحكومة الاسرائيلية. أكتبُ هذه السطور ومنذ قليل رأيت على الشاشة قصف رام الله وغزة، ولست اعلم كيف تكون عليه الحالة عند وصولكم «رعيتي». نرجو ألاّ يباد الشعب الفلسطيني ولا سيما انه أعزل وليس عنده سلاح يقاوم به. ويموت الأطفال ويسقط الجرحى بالمئات ولا يتحرك العالم. ظلم رهيب يحل بالإنسان، وليس من يرفع الظلم.

          اكتب اليكم على رجاء التهدئة والسلام الذي في ظله تنمو الشعوب. نحن طلاب سلام ولكنا ايضا طلاب عدل. ذلك ان القهر قنبلة موقوتة. نحن المؤمنين بيسوع نطلب السلام لكل البشر العائشين على ارض فلسطين. ولكن العدل وحده يحفظه. العدل يعني ان تتجمع الأرض الفلسطينية ولا تكون جزرا متفرقة، وأن تَحْكم هذه الأرض دولةٌ لكي يعيش هذا الشعب بكرامة.

          كذلك يقتضي العدل ان يعود اللاجئون الى بلداتهم وقراهم هذه التي ولدوا فيها وأحبوها وعلّموا اولادهم حبها. هذا جزء من الحل العادل. لا يجوز ان يبقى هذا الشعب مشتتا.

          والعدل –كما القوانين الدولية– يقضي ان تعود القدس إلى اهلها. لا يجوز للاغتصاب والاحتلال ان يدوم. لا يجوز ان تكبّ 4 ملايين انسان خارج بلادهم.

          بهذه الشروط الثلاثة تنكشف لنا اهمية البشر، وتعود القدس رمزا للعالم المسيحي فنحج اليها للتبرك. مدينة المسيح لا يجوز ان يملكها شعب يكره يسوع ولا يعترف به. المسلمون لهم طريقتهم في تكريم المسيح ويذكرونه في كتابهم وعاشوا معنا خلال قرون فصارت المدينة المقدسة مرتعا لأهل هاتين الديانتين. ليس من الطبيعي ألاّ يصلّي المسلمون في مساجدهم ولا ان يصلي المسيحيون في كنائسهم. كذلك لا يكفي تأمين حرية الوصول إلى الأماكن المقدسة. المسيحيون والمسلمون يحبون –وهذا حقهم– ان يسكنوا حول معابدهم. القدس بمعنى الحجر والبشر هي مطلب عدل لنا.

Continue reading
2000, جريدة النهار, مقالات

فلسطين الأبديّة / السبت 21 تشرين الأول 2000

فلسطين الدعوة أكبر من الأرض. يذهلني فيها أنّها لا تسكن دار الخوف، أنّ رجاءها أعظم من واقعها. أفهم أن تكون مشدودة بين مرارة الوعود وضياء التطلّعات حتّى يعمّ الفهم الدنيا وتنصف فتصبح القدس محكّ الصدق. وقد تعظم صحوتها ببركات الدم المراق وكيف يهدي العالمين. إن لم ننظر إلى فلسطين حدثًا روحيًّا كبيرًا نبقى أسرى مشاعر من هذه الدنيا. أنا هذا لا يكفيني ولا أتجنّد له. أنا مع هؤلاء القوم في مظلوميّتهم ومع القدس في نورها. دم الظالم ليس فيه شهادة. أنا مع فلسطين حتّى تسمو وأرتفع بها. وما التفاف أبنائها إلاَّ نداء إذا سمعت إليه يزكّيني في إنسانيّتي ويجعلني أكثر نباهة وأشدّ إحساسًا في كلّ مساعيَّ. وإذا تبرّر إنساني الداخليّ بالقدس أنظر إلى لبنان مقدسيّ الدعوة أي مطرحًا سماويًّا استلهامًا ففعلاً إنسانيًّا يتفجّر ضياء.

فلسطين ترعى عهد الحبّ بعذابها وتحيا حرّة به وحرّة منه، مرشّحة للقيامة في هذا الدهر، مختارة بالحبّ الذي ينزل عليها. ولذا، بمعنى، كانت فوق السياسة. لذلك لست أنت مختارًا بين حبّك إيّاها وعدمه. أنت مبارك بها. هذا حوار المرئيّ وغير المرئيّ الذي تكون فيه المحسوسيّة مرآة اللامحسوسيّة واللحظة طفرة إلى الأبد. هذا وحده يعيدك من الهروب. لذلك كانت المقادس الفلسطينيّة رياضة قلوبنا.

الذين يموتون معًا هم دائمًا واحد. وما أعرفه من متابعتي التحرّك الفلسطينيّ منذ 1936 هو أنّ الذين ناضلوا معًا صاروا معًا في حلم الأجيال اللاحقة. هذا أنشأ وطنيّة واحدة عندهم، ولم ينكشف فيها انغلاق طائفيّ، وقدروا على خطاب عربيّ حضاريّ أرادوه بمشاركة اليهود لمّا عاد النضال مع الثورة في أواسط الستّينات. ثمّ خاب الأمل من كيان واحد. ولعلّ اللغة القوميّة هناك تتجاوز ثنائيّة المسيحيّين والمسلمين التي نحكيها في لبنان. لغة نكهتها علمانيّة بمعنى أنّ التوق باقٍ إلى وجود وطنيّ جامع. وعند حلول السلام لا بدّ من أن يواجه الفكر الفلسطينيّ إشكاليّة العلاقة بين الوعي القوميّ والصحوة الإسلاميّة، وهي إشكاليّة مطروحة منذ بضع سنوات على مطارح البحث في محافل بيروت.

#   #   #

هذا التلاقي المسيحيّ – الإسلاميّ مرموز إليه في القدس لكونها كانت قبل احتلالها موطن الجماعتين الكبيرتين. ولا تزال من زاوية الأماكن المقدّسة كذلك. ليس في المدينة العظيمة أيّ أثر يهوديّ يذكر ما عدا بعض الحجارة التي تسمّى حائط المبكى. وحتّى اليوم لم ينبش أثر من هيكل أورشليم، لأنّ الهيكل الثاني أحرقته كلّيًّا الجيوش الرومانيّة السنة الـ70 ولم يبقَ منه حجر على حجر كما تنبّأ له المسيح.

أقول هذا ليس من أجل الحديث التاريخيّ ولكن لأوضح أنّ هذه الثلاثيّة اليهوديّة – المسيحيّة – الإسلاميّة ليس لها تجسيد يذكر حتّى اليوم إذا اعتبرنا المدينة داخل السور. وهي الوجود التاريخيّ الذي ألصقت به، بالإسمنت المسلّح، هذه الأبنية اليهوديّة البشعة جدًّا لتعلو التاريخ وتدفع إلى الكلام العالميّ على وجود ثلاثيّ الجماعات. فإنّ القول المصطنع في الديبلوماسيّة العالميّة كان القصد منه في مرحلة أولى أن يساوي مجتمعيًّا بين هذه الطوائف وفي مرحلة ثانية أن يؤسّس لها حقوقًا متعادلة في المدينة.

تأتي عندئذٍ المرحلة الثالثة من التأمّل لنقول إذا كانت الجماعات الثلاث واقفة معًا في القدس فليتولّ اليهود أو يتولّ المسلمون (وللمناسبة العرب يصبحون المسلمين فقط وهذا يروق الأميركان طبعًا لأن المسيحيين في فلسطين محسوبون على العروبة ولا يطلبون شيئًا لأنفسهم). وإذا كانوا لا يتكلّمون – وأكثرهم غير كاثوليكيّ – يبقى الفاتيكان لسان حالهم لكونه طرفًا قادرًا على المخاطبة الواحدة، ولأنّ المسلمين يريدون دولة مسيحيّة لا يمكن أن تكون إلاَّ الفاتيكان إزاء الدول الإسلاميّة. إنّ منطق الأماكن المقدّسة الذي أتت به الروح الصليبيّة والردّ على هذه الروح هو الذي قادنا إلى الثلاثيّة المذهبيّة. تُكرَّسُ الثلاثيّة في الحضور البشريّ والآثار، ونحن اثنان في الحضور البشريّ قبل التجمّع الصهيونيّ الذي شوّه القدس، واثنان في المجال الأثريّ. فالكلام على الجماعات الثلاث معًا هو من باب الواقع السكّانيّ الحاليّ فقط ومن باب استعمال حقوق الإنسان ولكن ليس له علاقة بالعمق.

#   #   #

على مستوى المعاني يختلف المسيحيّون والمسلمون في تقدير اليهوديّة. المسلمون يعتبرونها دينًا سماويًّا. في السياق القرآنيّ وعلم الكلام هذا الكلام مفهوم لأنّ اليهوديّة في الفهم القرآني هي التوراة وهي عند المسلمين كلام منزل. ولكن إذا رأى المسلمون إلى الكتب الأخرى اللاحقة للتوراة كالتلمود وغيره قد لا يصرّون على قولهم إنّ اليهوديّة دين سماويّ.

قلت هذا لأنّ الموقف «الترحيبيّ» باليهود ومسالمتهم مهيّأ له في اللاهوت الإسلاميّ. أن يقبل المسلمون اليهود على أساس حقوق الإنسان هذا ما أقوله أنا أيضًا. ولكن أن يرحّبوا بهم على أساس الوحدة الإبراهيميّة أي كونهم ينتمون إلى جذع روحيّ واحد فهذا عندي لا أساس له لأنّ لكلّ منا قراءته لإبراهيم. فليس له وجه واحد أو موقع واحد أو معنى واحد في الديانات الثلاث.

المشكلة عويصة ودقيقة بين الفكر المسيحيّ التراثيّ والموقف المسيحيّ الغربيّ طوال القرن العشرين ولا سيّما بعد «المحرقة» واستضافة أميركا اليهود المطرودين من ألمانيا النازيّة. ليس المجال هنا لأناقش الفكر الغربيّ حول أفهوم شعب الله. هل اليهود لا يزالون شعب الله أم إِنّ هذا هو إسرائيل الجديد أعني الكنيسة.

هل هناك اختيار للعبرانيّين أم إِنّ المختار الوحيد هو يسوع المسيح ومن صاروا إليه. هل اليهود «شعب الوعود والبركات» وعلى المسيحيّين أن يتقبّلوهم بهذه الصفة؟ هذه تأمّلات دخلت فعليًّا في سياسة الولايات المتّحدة وجاءت من القراءة الظاهريّة والحرفيّة للعهد القديم.

ربّما اضطرّ الفكر الغربيّ اليوم إلى أن يوفّق بين هذا اللاهوت السيّئ وواقع الظلم الحالِّ في الشعب الفلسطينيّ. أنا لا أدعو إلى أن نجتمع مسيحيّين ومسلمين على عداء لليهود. هذه عندي عنصريّة توقعنا في هذا الذي وقع فيه هتلر وجعلنا نرث نتائجه. لولا هتلر لما دعمت أميركا والاتّحاد السوفياتيّ الكيان الصهيونيّ هذا الدعم الكبير السنة الـ1948. أيّ استدعاء لشعور عدائيّ للشعب اليهوديّ يحلّ بنا أذى كبيرًا. كما أنّ أيّ التماس قربى روحيّة على أساس دين سماويّ (الإسلام) أو قربى روحيّة في وحدة الشعب المختار (المسيحيّة الغربيّة) يشوّه المسيرة.

ما من خطاب يحيي فلسطين في أذهان العالم المتحضّر إلاَّ كونها مقهورة وكونها في مقهوريّتها معطّلة للسلام آجلاً أم عاجلاً. كنت دائمًا أتمنّى أن يخرج اليهود من غباوتهم ليفهموا أنّ محاصرة الحاضر الفلسطينيّ خير خدمة لتفجّر المستقبل الفلسطينيّ.

هل يزيد العرب شيئًا على الخطاب الحضاريّ الفلسطينيّ في العالم ما عدا الحماسة ومشاركة الاخوة في المجال العمليّ. قلنا إنّه أوّلاً في نطاق النفط ولو افتقر العرب؟ أعتقد أنّ الخطاب الفلسطينيّ لن ينجح ما لم يكن وطنيًّا أي قائمًا على وحدة فلسطين بالتساوي الحقّ بين أبنائها، الأمر الذي يجعله قوميًّا بصورة سليمة أي بصورة لا تجرح وحدة الداخل.

لا مانع من استنفار العالم الإسلاميّ (لكن كلّ شيء متوقّف على اللهجة وفحوى الخطاب). ولكن بالقوّة ذاتها ينبغي استنفار العالم المسيحيّ المتحسّس للعدالة. لقد لمست تعاطفًا عظيمًا وفلسطين في مجالات غربيّة ما كانت كبيرة التحسّس لقضايانا سابقًا. ولكن ضمن مخاطبتنا للغربيّين بمن فيهم العلمانيّون اختبرنا نحن أنّ تحويل الأنظار إلى وجود مسيحيّين في فلسطين أتى عنصرًا مفيدًا للقضيّة. وهذا أمر ليس فيه إثارة لأحد. المهمّ أن يبقى العدل محور التخاطب. بعد ذلك، وفي صبر كبير، أترجّى حلول البهاء.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

مَثَلُ الزارع/ 15 تشرين الأول 2000/ العدد 42

كان يسوع يحكي حكايات إلى جانب وعظه المكشوف تُسمّى الأمثال. يفهمها الذين استناروا بالرب، ولا يفهمها غليظو القلوب. من هذه الحكايات مَثَلُ الزارع (لوقا 8: 5-16). في الشرق كان الفلاّح يحمل القمح حملا يزرعه في ارض صغيرة فيها شوك أو حولها شوك وفيها حجارة أو حولها. وكان يرمي القمح بقوّة ذراعه فيقع احيانا على الحجر أو الشوك، أو يقع بعض منه على الطريق قبل وصول الفلاّح إلى أرضه.

          هذه حالة البشر مع الزرع الإلهي الذي هو كلمة الله. والزارع هنا هو المسيح أو هو إنجيله. وقد يأخذ الإنسان الكلمة من الكتاب العظيم أو الكتب المسكوبة في عباداتنا.

          يَفترض لوقا أن كل الناس يسمعون الكلمة. لم يتكلم يسوع على الذين لم تصل الكلمة اليهم. المولود مسيحيا عنده فرصة ان يسمع أو هكذا تمشي الأمور مبدئيا. لوقا يصوّر لنا فئة من الشعب تسمع -هؤلاء هم الذين على الطريق- ولكن الشيطان ينزع الكلمة من قلوبهم حتى لا يؤمنوا فيُشفوا. أولئك يسمعون قليلا من الله وكثيرا من همسات الخطيئة تداعبهم فتغريهم ولا يبقى فيهم حنين اليه. يضجرون منها، تزعجهم لأنهم لا يريدون ان يلتزموها خشية أن تُغيّر حياتهم. الكثيرون منا هم هكذا. كل المتباعدين عن الكنيسة قائمون في أوضاع اختاروا لأنفسهم ويَتعذّر عليهم ان يجدوا فرصة لاستماع الكلمة، وهؤلاء يحسبون أنهم صالحون، معجبون بأنفسهم، قادرون أن يعيشوا بلا إله.

          اما الذين هم على الصخر فهم في مرتبة أعلى لأنهم يَقبلون الكلمة بفرح. يؤمنون إلى حين. هم الموسميّون من المسيحيين الذين لا يتابعون صلاتهم كل يوم وصبيحة الأحد. تُطلّ عليهم الكلمة، ولكونهم غير متأصلين فيها يسقطون في ساعة التجربة. ليس فيهم مخزون روحيّ يصدّ الإغراء عنهم فتصل الكلمة إلى سطح نفوسهم ولقاء الرب هو في الأعماق. وتُحسّ عند حديثهم اليك أن السيد اذا زارهم لا يسرعون إلى التقاطه ليسكن فيهم.

          والذي سقط في الشوك «يختنقون بهموم هذه الحياة وغناها وملذّاتها». هؤلاء اختاروا ان يكون مسكنهم الحقيقيّ هذه الدنيا بما فيها من جاذبية وسِحْر. والملذات والمال اشياء خلاّبة، ولم تكن الكلمة فيهم هي الخلابة. الدنيا تدخل إلى عيونهم وآذانهم وأجسادهم. الدنيا ملأت كيانهم فلا يبقى محلّ فيهم لله. يألفونها ويستطيبونها ويشعرون ان ما فيها يبعث فيهم الطمأنينة والانتعاش، ولا يعرفون ان كل هذا مؤقت وهَشّ أو ذابل. وعلى رغم الخيبات التي تأتيهم من الملذّة، يغرفون منها ويذهبون من متعة إلى متعة لإحساسهم بأنها هي تُنقذهم من الضجر ومن العوز.

          «وأما الذي سقط على الأرض الجيّدة فهُم الذين يَسمعون الكلمة فيحفظونها في قلب جيّد ويُثمرون بالصبر». ولِعِلْم السيد أنّ السماع لا يكفينا لنَخْلُص، قال: «طوبى للذين يَسمعون كلمة الله ويحفظونها». وقال الإنجيل عن والدة الإله انها تُردّد كلمةَ الله في قلبها. انت اذًا تُعاشر الكلمة لتبدو لك أطيب مِن اللذة، لتصبح هي فرحك.

          غير ان الإنسان مجرَّب بعودة الخطايا اليه. لذلك قال الرب عن الصالحين انهم «يُثمرون بالصبر». فالبقاء مع يسوع يتطلب جهادا متواصلا، مقاومة للفكر السيء الذي يهجم علينا كل حين. واذا عَرف المؤمن الجيّد أن الجبابرة يسقطون، يتسلّح بالصبر الذي هو مُلازَمة للسيد. يريدنا أن نواصل الحرب الروحية فنحن في حاجة إلى هذه الحرب حتى آخر رمق. ولا يَنقضي يوم علينا بلا جهاد. وقد نُحسّ الجهاد صليبًا، ولكننا نعرف انه بعد الصليب تأتينا القيامة.

Continue reading
2000, جريدة النهار, مقالات

القدس والمجد / السبت 14 تشرين الأول 2000

من كلّ المشاهد الفلسطينيّة لا شيء حرّكني مثل انتفاضة الحجارة منذ تفجّرها حتى عودتها اليوم. يدهشني أنّ فتيانًا عزَّلًا (ما فعل هذه الحصى؟) يقولون لا لعسكر. هذا الرفض كان عندي قّمة في بلاغة الصدّ، قمّة في الشهادة كما نفهمها إنجيليًّا. في خطّها وأفصح كان عندي موت هذا الطفل الربيعيّ محمّد الدرّة الذي قلت عنه في موعظتي الأحد الفائت: «نحن مع محمّد الدرّة حبًّا واسترحامًا». في الليلة التي تلت القدّاس تابعت ياسر عبد ربّه في برنامج «حوار العمر». خلال ثلاث ساعات استطاع أن يتكلّم على آلام شعبه بلا حقد. المقاومة الفلسطينيّة صارت عند بعض أو عند كثيرين تراث حبّ.

يجرحك الظلم، وهل من حاجة إلى تبيانه بعد هذا القهر الممارس على شعب كامل على مدى الأراضي المقدّسة؟ والظلم الأكبر في رعاية القهر ورعاية استمراره على رغم صرخات الأنبياء. كانوا دائمًا يتساءلون كيف تصبح أورشليم قاتلة. كيف لا يقرأ يهود اليوم التنديد المستمرّ في تراثهم بالقتل. «ويل للقائلين للشرّ خيرًا وللخير شرًّا، الجاعلين الظلمة نورًا والنور ظلمة» (إشعياء 5: 20). هذه فاجعة في شعب موحِّد مثلنا دعي إلى العدل والدينيّون فيه قتلة. يستنفرون البشر جميعًا إذا حلّت فيهم الفواجع ولا يقلقون إذا هم أحلّوا الفاجعة في الآخرين. هذه مأساة في العالم الدينيّ الذي إليه ينتمون، ولا يقرأ أحد المأساة في هذا النطاق. حقّ لإرمياء أن يقول: «من يشفق عليك يا أورشليم ومن يرثي لك ومن يميل ليسأل عن سلامتك. إنّك رفضتني فمددت يدي عليك وأتلفتك» (15: 5-6). هذا التوبيخ القديم لماذا لا يستعمله أحد في الغرب المسيحيّ بوجه إسرائيل الحاضر الذي يبقى الولد المدلّل. قلناها في هذا المنطق منذ 52 سنة وكرّرناها مع الأجيال علّهم يسمعون، ولكنّهم صمّوا آذانهم وانحازوا وكأنّهم يضطرّونك إلى الدم.

#   #   #

وأريق الدم في مقام السجود والأرواح التي زهقت هناك صارت هي المسجد إذ قامت للأجساد «بركعتين في العشق لا يصحّ فيهما الوضوء إلاّ بالدم». ونزل المجد على الأقصى. وأسرى الله بنا إليه روحيًّا ومن الشهادة تعرج أنت إلى السماء. بأيّ معنى تكون القدس طريقًا إلى السماء؟ كلام غاية في التعقيد. في بعض الأدب الدينيّ إنّ القدس وسط العالم. هذا طبعًا صورة يراد بها أنّ القدس في الجسد الكونيّ بمثابة القلب وأنّك أنت إذًا معها بتّ في الرؤيا، في عالم المعاني، وكأنّ الإنسان في حاجة إلى مرئيّ ليدرك غير المرئيّ. من هذا القبيل هي مصبّ الأشواق (الإسراء في قراءتنا) ومنطلق الأشواق (المعراج في قراءتنا). الذي كتب في سبي بابل: «إنْ أَنْسَكِ يا أورشليم فلتنسني يميني» لم يكن طالبًا وطنه فحسب، ولكنّه كان يطلب الحضرة الإلهيّة في الهيكل. ثمّ صارت المدينة المقدّسة صورة عن أورشليم السماويّة الهابطة من فوق كمدينة الله.

بهذه الروحيّة ذاتها كانت السيّدة رابعة العدويّة لا تبغي الحجّ إلى البيت بل إلى ربّ البيت. لا يطلب أحد الحجارة في الأماكن المقدّسة ولكنّه يطلب إيقونة. والتماسًا لما هو فوق لم يهتمّ المسيحيون الأوائل بأورشليم وكانوا قد غادروها قبل سقوطها بأيدي الرومان السنة السبعين. مخلّصهم بات في السماء. وهنا قبره فارغ. وتمثّل بطريركيّة أورشليم منذ القرن الخامس المركز الخامس في ترتيب الكراسي. أن يكون المسيح قَدَّسَ الأرض شيء لا يعني الكثير للمسيحيّين فإنّ كتابه والقرابين التي هي حضوره أهمّ من تراب القدس.

في العمق وعلى رغم الجانب التاريخيّ الذي ترتبط به القدس في كلّ ديانة، إلاّ أنّ الجامع الحقيقيّ بين أهل التوحيد جميعًا أنّ المدينة تتخطّى ذاتها إلى الله. ولكن قبل إدراك وجهه أنت مع الرموز، والخلاف على هذا المستوى أو ما هو دونه أي السياسة. فإذا سيّست الرموز تقول الدولة العبريّة هناك حضور فلسطينيّ فوق الأرض (الحرم القدسيّ) وسيادة إسرائيليّة تحت الأرض (الهيكل الثاني، مع أنّ هذا ليس مؤكّدًا أثريًّا). باصطناع الانتقال من الرمز الدينيّ إلى المطامع كلّ شيء مباح حتّى السخرية.

هناك، إذًا، تلاقٍ بين الأديان حول القدس إذا ابتغينا المعنى، وتنافر إن ابتغينا الرموز.

غير أنّ الخطوة الفكريّة التي قام بها بعض اللاهوتيّين المسيحيّين العرب منذ الستّينات أنّنا انتقلنا من رؤية الحجر إلى رؤية البشر. هذا التضادّ عبّر عنه بهذا اللفظ للمرّة الأولى البطريرك الياس الرابع في مؤتمر القمّة الإسلاميّ في لاهور وكان على رأس وفد جمع الأرثوذكسيّين والموارنة. في إحساس أوّل تنتقل من الأماكن المقدّسة إلى اللامكان، إلى وجه ربّك، وفي حركة ثانية من الإحساس والفكر تهبط من وجه الله الكريم إلى الوجوه المتعايشة في المدينة التي تمسي في حقيقتها مقدّسة بالعدل الذي يحقّ لهم على الشعوب.

#   #   #

وحدة فلسطين، بصرف النظر عن السجالات التاريخيّة حول الأحقّيّة في الوجود لهذا أو ذاك على هذه البقعة أو تلك، كانت هي صميم العدالة لليهود والعرب لو تخلّى اليهود عن الفكرة الصهيونيّة. ولكنّا ذهبنا إلى مدريد، إلى أوسلو، ووحدة فلسطين أرجأها الدم.

السياسة كلّها تسوية، ولكن ثمّة تسويات غير معقولة ليس فقط لكونها مذلّة ولكن لكونها غير قابلة الحياة. ما هو ضمن السياسيّ المعقول اليوم بانتظار المرتجى، هو أوّلاً – فلسطين مصغّرة في الضفّة والقطاع وقدس شرقيّة كاملة السيادة ومترابطة أجزاؤها، ثانيًا – أرض بلا مستوطنات، ثالثًا – عودة اللاجئين إلى بلداتهم وقراهم. والبقيّة تفصيل.

هذا يضطرّ الطرفين إلى العودة إلى طاولة التفاوض إن لم تتجاوز الأزمة الحاضرة كلّ هذا التأمّل، إذا لم تجنّ الدولة العبريّة إلى منتهى جنونها وإذا لم يذهب أحبّاؤنا في فلسطين إلى كامل بطولاتهم.

بانتظار ذلك ينتظر العرب مؤتمر القمّة. أنا لم أفهم لماذا تأخّر تاريخه. كيف يتفرّجون على المذابح وتبقى لهم أعصاب؟ قدرنا أنّ شهرزاد تنتظر الحكي دائمًا، والعروبة تحبّ الإنشاء وتعتقد أنّ كلامها فعل. أقلّ ما يمكن العرب الذين تبادلوا السفارات وإسرائيل أن يجمّدوا الفعل الديبلوماسيّ.

هذا بدء لفعل عربيّ غايته القصوى أن تتوسّط أميركا بإنصاف بين إسرائيل والعرب. والمؤسف أنّ اللاعب العربيّ لا يمكن أن يبقى إلى الأبد ألعبانًا ليظنّ أنّه يستطيع أن يقاوم إسرائيل من غير أن يوجع أميركا. هذا السيرك العربيّ لا يمكن أن ينقذ فلسطين. هناك أمر يوجع الولايات المتحدة وهو النفط. أن تبقى مستغلّة النفط العربيّ بلا حدود ولا حساب، أن تبقى مرتاحة إلى الواقع العربيّ والإنشاء العربيّ ضدّها، يعني أنّها في صميم الحياة العربيّة وأنّها لم تقطع حبل السرّة بينها وبين إسرائيل. صمود الأمّة العربيّة مجتمعة أمام الطغيان الأميركيّ لا حقيقة له إن لم نسخّر النفط للقضيّة الفلسطينيّة. على العرب أن يبحثوا هم في آليّة تحدّ من مطامع الأميركيّين في الثروة العربيّة. أمّا الكلام على إرسال جيوش أو متطوّعين لمناصرة الفلسطينيّين (من أين؟) فهو مجرّد أغنية تغنّى.

الفلسطينيّون لا يموت عربيّ من أجلهم. اليوم شرف العرب لا ينقذه إلاَّ الشابّ الفلسطينيّ في القدس والناصرة وغزّة وما إليها. لا أعرف آليّة هذا الخلاص، ولكن ما أعرفه أنّه يفيض من القلوب الفلسطينيّة الباسلة التي حالفت الحياة.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

بين الأرثوذكسية والكثلكة/ 8 تشرين الاول 2000 / العدد 41

يحزنني ان انقل إليكم ان العلاقات بين كنيستنا والكنيسة الكاثولكية تمر الآن في مأزق أو صارت متجمدة على مستوى اللجنة الدولية المختلطة للحوار بين الكنيستين. هذه اجتمعت بين 9 و 19 تموز قرب مدينة بالتيمور في الولايات المتحدة، وحضر 46 مندوبًا من مختلف انحاء العالم (الخوري ميشال نجم من أبرشية نيويورك كان يمثل الكرسي الأنطاكي). موضوع الاجتماع كان يدور حول فحص الحركة الاتحادية (مع رومية) من زاوية اللاهوت الكنسي والقانون. الا ان هذا اللقاء فشل كليا ولم يتوصل المجتمعون إلى اتفاق اذ ظل الأرثوذكسيون ينكرون ان هناك أساسا لاهوتيا لوجود الكاثوليك ذوي الطقس البيزنطي.

بحثت مواضيع عميقة ذات طابع لاهوتي وقانوني يتعلق بالكاثوليك المنحدرين من أصل أرثوذكسي وبنشاطهم. لذلك لم يصدر تصريح مشترك عن الاجتماع كما في السابق وسيكتفي الأعضاء برفع تقارير إلى كنائسهم حول إمكانية تجاوز الصعوبات التي تعترض الحوار. مع ذلك عبّرت اللجنة المشتركة عن أملها في متابعة التأمل والحوار عسى يتبين ما من شأنه إعادة الشركة بين الكنيستين. إلى المناقشات حضر المندوبون معا صلوات أقيمت في الكنيسة اللاتينية والكنيسة الأرثوذكسية اليونانية في بالتيمور.

مسألة الحوار على هذا المستوى العالي تعقدت منذ سنة 1990 بسبب من ظهور جديد للكاثوليك الشرقيين في أوكرانيا الغربية ورومانيا (بعد ان كان الحكم الشيوعي قد أغلق كنائسهم). كذلك تحسس الأرثوذكسيون الروس ان الكثلكة تمارس في روسيا –عن طريق مرسَلين لاتين– اقتناصا. آخر وثيقة حول هذا الموضوع ظهرت في لقاء اللجنة العالمية في البلمند المنعقد في تموز 1993. في البلمند رُفض أسلوب الانضمام إلى رومية كمنهج للوحدة. هناك طريقة أخرى لاتحاد الشرق والغرب. وكانت الوثيقة قالت بمفهوم الكنائس الشقيقة. غير ان بعض الكنائس ولاسيما كنيسة اليونان وكنيسة الروم الكاثوليك في رومانيا رفضتا مفهوم الكنائس الشقيقة. وأخيرا أصدر مجمع تعليم الإيمان في الفاتيكان في 30 حزيران الماضي بتوقيع رئيسه الكردينال جوزيف راتسنكر وموافقة البابا قرارا برفض هذا المفهوم.

على رغم هذا المأزق عبّر المندوبون الأرثوذكسيون عن رغبتهم في استمرار الحوار. شعوري الشخصي ان وثيقة البلمند كافية ولم تكن في حاجة إلى إكمالها بوثيقة أخرى. وكان واضحا لدينا ان كل إضافة أو تعديل على نص البلمند من شأنه ان يعقّد موضوع الكاثوليك الشرقيين. لقد أعطتنا رومية في البلمند أكثر مما كنا نتوقع وهو اعترافها بأن انشاءها الكنائس الشرقية التابعة لها كان خطأ تاريخيا وخطأ عقائديا. ونحن لم نوافق على شرعية هذه الكنائس ولكن اكتفينا باحترام وجودها وحريتها. وهي قانونيا جزء من كنيسة رومية. ومن هذه الزاوية نتعامل مع الأسرار التي تتم فيها.

من الطبيعي، في نظرة إلى محادثات كنائس، ان يرى كل طرف منا إلى هذه الكنائس على انها تطرح إشكالية واحدة. تؤخذ ككتلة مع انها اداريا ليست كذلك. تؤخذ كظاهرة واحدة في أوربا الشرقية أو امتداداتها في المهاجر. الا ان بعضا من هذه الكنائس لم يبق ممارسا الاقتناص بشكل ملحوظ أو مباشر، وبعضا يحيا شعورا أخويا تجاهنا.

من الواضح ان هناك حاجزا ليس فقط نفسيا بسبب ظهور هذه الكنائس. وشعوري ان اليقظة من قبلنا والروح المسكونية التي دخلت هنا وهناك من شأنهما ان توقفا الاقتناص. وقد أثبتت النهضة الروحية عندنا وعندهم اننا –في بعض البلدان كما هنا– يمكن ان نتعاون في الإنتاج اللاهوتي العلمي وربما في تعابير أخرى بلا مشاركة اسرارية.

هناك أمور أخرى بعضها عتيق وبعضها جديد وسّعت الخرق بيننا. الاجتماع الرسمي الآتي لن يكون قبل سنتين. كيف نكمل السعي المشترك بعد ظهور هذه العقبة في بالتيمور؟ الله وحده يعلم. اياه نرجو ان يذلّل الحواجز.

Continue reading
2000, مقالات, نشرة رعيتي

الرحمة / الأحد الأوّل تشرين الأول 2000/ العدد 40

أوّل ما نقرأه في إنجيل اليوم (لوقا 6: 31-36) دعوة من يسوع إلينا أن نعامل الغير مثلما نريد أن يعاملونا. الغير موجود على طريق حياتي. هذا هو الذي كلّفني الله به. صرتُ أنا مغذّيه إن جاع ومكلّمه إذا أحس بالعزلة. أفتقده في كل حاجاته. أنا أبادر إلى كل ما يعود عليه بالخير, ولستُ أنتظر ان يسألني شيئا.

أحبه ولا أنتظر منه شكرا. لا أشترط فيه خصلة من الخصال لأخدمه. وقد لا يكون هذا نسيبي أو صديقي. المحبة ليست قائمة على تبادل المشاعر. أنا أحب من جهتي, وقد لا يردّ على المحبة. أنا أحبه وأخدمه طاعة للمسيح.

وكثيرا ما أُقرضه مالا ولا أرجو أن أستوفيه. المحبة المسيحية ليست تعاقدا. إنها تعطى من طرف واحد. تعطى لأي إنسان يحتاج إليها. وإذا عرفنا ذلك نفهم قول السيد: «أَحبوا أعدائكم». إذا عاداني إنسان، يؤذي نفسه ويحزنها. إن طلب إليّ السيد أن أنقذه من هذا العداء، أنا أعالج نفسه. ولكوني عرفت انه واقع في البغض أو الحقد أو الحسد أو النميمة، أصير طبيبه. تعيّنت طبيبا له لأني عرفت أنا مرضه. أفكر بنجاته ولا أفكر بالجرح الذي أحدثه فيّ. وإذا جافيته أو كرهته ينخفض مستوى إنسانيتي, أصبح قزما, أدخل في لعبته. وإذا عرفنا أن المحبة غير مشروطة، يهون عليّ آنذاك أن أفهم: «أحبوا أعداءكم». فكما ينعم الله على غير الشاكرين والأشرار, أوزّع أنا نفسي على من أحبني ومن أبغضني على السواء. قلبي متّسع للدنيا, لذا اختتم الإنجيل هذا الفصل بقوله: «فكونوا رحماء كما أن أباكم هو رحيم».

فكما أن الرب يعامل جميع الناس بالحسنى والنعمة والرأفة والأبوة، أكون أنا كذلك. يتّسع صدره لكل أبنائه الصالحين منهم والسيئين. كل فئة من الناس يستعمل الله معها أسلوبا ليوصلها إليه. ربُّ البيت يحب الولد الطيّب والولد المشاكس, الشرير. له مع كلٍّ من أولاده أسلوب. نحن أيضا، إن عاملْنا الناس جميعا بالعطف الواحد، لنا ان نتدبر حياتنا مع الناس بأساليب مختلفة، والغاية تبقى ان نكشف لهم في سلوكنا الحنان الإلهي.

الإنسان فيه قسوة وفيه أذى وفيه استغلال وحبّ السيطرة. فيه كل الأفاعي. هذا يجب أن تحبه علّك تقتل الأفاعي. لا يفنى الشر الا بالخير والمسامحة وعمل البنيان. السلبية لا يقضي عليها إلا الإيجابية. وأعلى من الإيجابية المبادرة في الخدمة. أن تكون أنت غاسل أرجل, هذه هي رسالتك. هكذا فعل يسوع.

العلاقة الإنسانية ليست تعاقدًا ثنائيًا تقوم على هذا التفاهم أني أُعطيك إن أنت أعطيتني. هي علاقة ثالوثية ناظمُ العقدِ فيها هو الله. «الله أحبّنا أولاً» وهو الذي يحبّنا خلال عمرنا على الأرض، ووحده يتلقّانا عند موتنا واليوم الأخير. أنا أرحمك لأني تعلّمت أخلاق الرحمة من الرب حاضني. وإذا نظرنا إلى الناس بعيني الله، نراهم على رغم خطاياهم أحبة له.

في هذه الأرض ينبغي ان نكون مستعدين للتعامل مع الكل. ومن حالتهم نرتقي بهم أو نسعى. هذا موجع للإنسان الحساس وموجع للطاهر الذي يصدمه غير الطاهرين. غير ان الرب جعل كل إنسان مؤمن حارسا لأخيه، وان لم يقبل هذا التفويض وترك غيره بلا رحمة يكون قد سلّمه إلى الموت.

Continue reading