1963, مقالات

نعمةُ الفقر / الأحد 16 حزيران 1963

استوقفَتْني جملةُ البابا يوحنّا «أشكرُ اللهَ على نعمةِ الفقر» كما استوقفتَ غيري. إنَّ هذا الأسقفَ الكبير أدركَ ذروةَ ما في المسيحيَّةِ منْ حبٍّ لمَّا قالَها، ولا سيّما أنَّ الأساقفةَ ليسوا مرتبطِين، حتّى الآن، بنذرِ العفَّة الذي يأخذُ به الرهبان. ثمّ الفاتيكان غنيٌّ جدًّا. هو دولةٌ مساحتُها قصرٌ، وقلبُها متحف وجنَّات غنَّاء. ولكن، يهمُّنا منْ كلمةِ الراحل المغبوط حقيقتها الأبديّة التي أشار إليها، جزئيًّا، جبران حايك الخميس الفائت. صحّ أنّ الفقر هو الغنى الروحيّ والزهد في لذائذِ العيش، ومن هذا القبيل هو نصيب المؤمنِ الساعي، في وسط العالم، إلى محجَّةِ الملكوت. ألاَّ يكونَ لنا تعلُّقٌ بشيء، ألاَّ يأسرنا مخلوق لنكونَ فقراءَ الى الله وحده، هذا هو عمقُ الفقر.

ولكنَّ الوسائلَ إلى هذا العمق مختلفة. بعضُنا يكفيهِ هذا التجرُّد الذهنيّ عن المقتنى وهذا الإعراض حتّى التَّرف. ولكن، هناك مَن يمتهنُ الفقرَ، إذا صحَّ التعبير، من يلتزم به واقعيًّا، من يختارُهُ نهجًا للاستقلال الداخليّ والتطهُّر. كان هذا سبيل الزهَّاد في الإسلام وما يزال منهجًا من مناهجِ الحياة في الهند وفي المسيحيَّة. وفي هذا كان له أستاذان فرنسيس الأسّيزيّ في الغرب ونيل من برّيَّة سورا في روسيا. ونادى كلاهما بأنْ يكونَ الدير غير مالك البتّة. ومَثلَ هذان ذروة الحياة الروحيَّة في كنيستَيهما.

ولكن، لا يكفي أن تبقى في الدين قلَّةٌ عزيزة لا تقتني إن كانتِ المؤسَّسة كلُّها غنيَّة. فإنَّ الملك يعني، في ما يعنيه، أنّ الطائفةَ الدينيَّة تشاركُ في هذا التفاوت لكونها إلى جانب الملاَّكِين الكبار. من أجل ذلك سارعتْ بعضُ السلطات الروحيَّة، في غير هذا البلد، إلى توزيع بعض الأملاك على الفلاَّحِين.

ثمّ التوكُّل الكاملُ على الأوقاف يعني أننّا نحيا من مال الموتى وأنّ الأحياء، إذًا، لا يتعهَّدون القضيَّة الدينيَّة بالمقدار الذي يسهم بها الراحلون. إنَّ مَن يدفع من جيبِهِ من أجل المذهب الذي ينتمي إليه لا يدفع له منْ روحِهِ.

وأهمُّ منْ كلِّ هذا، إنَّ تراكمَ الأموال يُنشئ تضخّمًا في إدارتِها واهتمامًا بها كبيرًا. والإنسانُ يصرفُ نشاطه في ساعاتٍ معيَّنة منَ النهار. فلا وقتَهَ ولا دماغه ولا قلبه تتّسع لهموم أسمى. وهكذا تنحرفُ المؤسَّسة الدينيَّة إلى الزمنيَّات والخمول.

من أهمِّ ما جاء في مجمع الفاتيكان أنَّ أسقفًا زنجيًّا طلبَ فرضَ الفقر على الأساقفة. لو جنَّتْ الرئاسةُ الروحيَّة في طائفةٍ ما وأخذتْ بهذا الاقتراح، لآمنَ النَّاسُ أن هَيبةَ الدين ناتجة فقط من القداسة.

Continue reading