Monthly Archives

September 2010

2010, مقالات, نشرة رعيتي

يوحنا الحبيب/ الأحد 26 أيلول 2010 / العدد 39

في عيد انتقال القديس يوحنا الإنجيليّ، تقرأ الكنيسة المقدسة علينا هذا المقطع الذي يتحدّث عن مشهد المصلوب والواقفين عند الصليب بادئا من ذكر ثلاث نساء، مريم أُم يسوع وأُختها مريم زوجة كلاوبا ومريم المجدلية. إذا قارنّا هذا مع مرقس ومتى، نفهم أن مريم المجدلية ومريم أُمّ يعقوب ويوسي وسالومة أُمّ ابني زبدى. وفي إنجيل مرقس يقول الكتاب «أُخَر كثيرات اللواتي صعدن معه الى أورشليم».

أما تسمية مريم أُم يعقوب ويوسي أُخت والدة الإله فتعني نسيبتها، وهذا كثير في الأدب العبريّ وفي الإنجيل. إلا أن إنجيل يوحنا المعتمد اليوم للقراءة فهمتمّ فقط بوالدة الإله والتلميذ الذي كان يسوع يحبّه. وهذا حسب كل التقليد هو يوحنا الإنجيليّ نفسه. يتوجّه السيد الى أُمه قائلا لها «يا امرأة هوذا ابنُكِ». استعمال يسوع لعبارة «يا امرأة» ورد في عرس قانا الجليل. وهذا عندهم كلام عاديّ وليس فيه أي تقليل من الاحترام. ثم يقول الكتاب ان هذا التلميذ أخذها الى خاصته أي آواها عنده.

في هذا التأمل يجب أن نتجاوز شخص يوحنا الى تسميته لنفسه «التلميذ الذي كان يحبّه» والمذكور بهذه الصفة في غير موضع من الكتاب. فإذا تجاوزنا شخصه ابتداءًا من ظاهر النص، أقول ان يسوع جعل مريم أُمّا لكلّ تلميذ حبيب أي لكل مؤمن. إيضاحا لهذا الكلام أقول بلا تأويل إن لمريم أُمومة تجاه كل واحد منا، وكلمة يسوع هذه على الصليب تكفي لنُكرّم والدة الإله.

لا أحد يستطيع أن يعرف على وجه الدقّة ماذا تعني أمومة مريم لكل مؤمن. على الأقل، تعني أن لها صلة رقّة وحنان وشفاعة واحتضان لكل منّا، وأنه لا يسوغ لنا أن نتجاهلها في صلاتنا، وهذا يؤكد ما قالته لنسيبتها أليصابات أُم القديس يوحنا المعمدان: «ها منذ الآن تُطوّبني سائر الأجيال». تُطوّبني تعني اعترافنا بأنها تتمتّع بالطوبى السماوية أي برؤية الله الكاملة.

ونحن لا نقول هذا إلا عن الشهداء الذين لا يفرّقهم شيء عن المسيح. بقية القديسين نقول عنهم انهم في الملكوت يشفعون طبعا بنا، ولكنهم ليسوا على كمال الرؤية.

القراءة الإنجيلية ركّزت مع ذلك على يوحنا الإنجيليّ، وسمّت موته انتقالاً كما سّمت رقاد والدة الإله انتقالا. في كنيستنا هو أول شخص نُسمّيه لاهوتيا فنقول «يوحنا اللاهوتي» اذ لم يكتب احد من الانجيليين عن أُلوهية المسيح كما كتب هو.

نُسمّي اثنين آخرَين لاهوتيَين فقط وهما غريغوريوس النزيانزيّ وسمعان اللاهوتي الحديث، والواضح أنه يُحلّق كما لم يُحلّق سواه.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الضعاف / السبت 25 أيلول 2010

دخلت منذ أيام كنيسة فرأيت خادمها مقوّس الساقين وقد أقبلت عليه الشيخوخة فأتعبني المشهد. هذا ليس من الفائقي البشرية كما يلتمسهم نيتشه. بأي معيار هو ناقص؟ لماذا المتقوّم الأعضاء بات نموذجا؟ ماذا تعني لنا الإنسانية المستقيمة على مستوى الجسد؟ لماذا الإنسان المتلألئ العقل افضل من الغبي؟ كل ما في الأمر ان الأذكياء يقضون الحاجات التي يتطلبها العقل اي عندهم أدوات أنجع في مستواها ممن ساءت أدواتهم ولكنهم قادرون على الإنتاج في صعيد آخر ليس أدنى من صعيد الفكر ولعله أعلى اذا اتخذنا الإنسان في قرباه من الإنسان الآخر وجدانيا او عمقا او حبا.



لا يقدر أحدنا ان يعطي في كل المجالات. ان تكون في آن مفتول العضلات، جذاب العينين، حاد الفهم، مفيض العاطفة، ثريا، هذا يعني للناس انك دنوت من الكمال. ينقصك، اذ ذاك، شيء واحد ان تكون محبا. وان كنت كذلك على نحو عظيم لا يهم عظماء الحياة الروحية شيء من قوتك البدنية وما اليها ومن ثروتك. كل هذا عندهم «باطل وقبض الريح«.



وان كنت مبصرا وضعيف البصيرة هذا ينفع بعضا لأن البصر هو الإحساس الأهم. والناس كلّهم حساسون للأحاسيس وقد لا يعيشون على مستوى يفوقها. انهم من هذا العالم وكفاهم. هناك مثقفون يعيشون الفكر ولكن الفكر ايضا من هذا العالم. انهم لم يعرفوا يوما ان القلب اهم من العقل ان لم يكن هذا في إحياء القلب.


واذا تأملنا في أمر الحسناء فهذه غالبا ما ظنّت أن الحُسْن قيمة وانه يُغنيها عن أشياء كثيرة. تهتز لها البلاد ان دخلت مباراة ملكة الجمال. تحسب ان هذا ذو قيمة في حد نفسه يمكن إضافتها الى قيمة العقل التي يمكن إضافتها الى الأخلاق ودليل ذلك ان لكل مجال من هذه المجالات علامة في المباراة.


هل خطر على بال حسناء ان المرأة القبيحة، الكثيرة القبح، قد تكون ذات بهاء وجلال ليست الحسناء عليهما وان أسياد الحياة الروحية حساسون للجمال الروحي الذي قد تكون عليه القبيحة وان الجمال العظيم قد يكون باطلا وقبض الريح وليس فيه ذهول بحيث ان سوء الأخلاق يلغيه إلغاء كاملا؟


لا مقارنة ممكنة بين العظمة الروحية وعظمة الجسد، بين ثروة وفقر اذ كثيرا ما يكون الفقير اعلى شأنا من الغني. وما من مقارنة ممكنة بين الذكي والغبي فقد يكون الغبي أعظم شأنا في مقاييس الروح من الذكي. ليس من سُلّم قيم الا اذا اتفقنا على القيم.


# #

#

معظم الناس يشكرون لله صحتهم. في مفهوم الإنجيل انها هبة اذ كان يسوع يعيدها لمن فقدها ويذهب الى أبعد من هذا اذ يقول بأسلوب او بآخر ان الشفاء من علامات اقتراب الملكوت. غير ان الناصري كان يوجّه من نجا من مرض الى التوبة اي يقرّبه مما كان يفوقه وما كان أتباعه يسكرون بالأصحاء. العامّة عندنا تقول: «صحتك بالدني»، وما سمعت احدا يقول: «توبتك بالدني». هذا المعطى البيولوجي موروث الحضارة الكنعانية عندنا وتجده في أثينا وروما وفي كل أصقاع المعمورة. وهذا ما يقدره المصابون بالأمراض المزمنة او المصابون بأوجاع دائمة. وأفهم كثيرا ان يأمل السقماء بمجيء يوم لا يتعاطون فيه الأدوية لكونهم ملّوها وملّوا استعبادها لهم.


كل الإنسانية في نطاق المرض وليس سلامة كاملة عند اي مخلوق بشري. ولئن تقنا جميعا الى السلامة فهي ليست بالضرورة الهناء فأنت، ضرورة، في عصاب او في خلل نفسي كبير وهنا يأتي جسدك عاجزا عن منحك الفرح. انت اذًا مكسور الجسم او معطوب النفس وتوقك الى سلامة لن تأتي كاملة ويدعوك الأطباء الى التأقلم اي ان تعيش كما قيّض لك ان تعيش.



لك ان ترجو ولك ان تربي نفسك على معايشة السقماء. الصحة والمرض كلاهما حالة في الحياة. وانت، مريضا او مصابا بأوجاع تُلازمك، كاملُ الوجود الإنساني وكاملُ السلامة الروحية إن طلبت ان تنزل عليك مائدة من السماء. وقد يكون المريض في وضع تذمّر او تأفّف او ضجر او رفض لله اي يكون قد خسر من قيمته الإنسانية مع انه قادر على الشكر لأنه لا يعرف الحكمة في ابتلائه. يسمح الله بالبلى ولا يسبّبه. انه للمريض ظرف حكمة وتقديس نفس واعتلاء روح. المقارنة بين السليم والمريض متعذّرة كليا.


# #

#

يقلقني جدا هذا الفصام القائم عند ناس يعتقدون أنفسهم مؤمنين بين إيمانهم وإعجابهم بالمال والجمال وصحة الأبدان. أفهم انخطافهم الى الفكر النيّر العظيم وقليلا ما كانوا مثقفين. الذكاء المفرط شيء يُسكرهم ولو كان صاحبه عاديا جدا على مستوى الأخلاق. يزكّون سوء أعمالهم بقولهم: «نحن لسنا قديسين» ويريدون بذلك انهم لا يبغون ان يصيروا قديسين. هم يعرفون موقف الدين من المال والسلطة والقوة ولكنهم يفصلون بين العبادات التي يمارسون وحفظ الوصايا الإلهية. يحافظون بلا حدة، بلا لهب، بلا تضحية كبيرة. إن أردت أن أُغالي لقلت ان دينهم لا يكلّفهم سوى الطقوس. هذا اذا مارسوا. الى هذا تراهم واقعين في حزن لا يوصف عند فراق عزيز اي انهم لا يزالون على الديانة الكنعانية التي منها البكاء على تمّوز. وبسبب من شغف الكنعانيين والفينيقيين بالحياة الدنيا، الكثرة من شعبنا لا تزال على هذا الشغف وكأنهم لا يؤمنون بالقيامة. المسيحيون منهم يتلون في الكنيسة: «وأترجى قيامة الموتى والحياة في الدهر الآتي» ولكن أدب المآتم لا يدلّ على انهم يؤمنون بهذا الكلام.


الخوف من المرض ومن الفقر ومن الموت شيء واحد. الفرح عندنا ليس الفرح بالكلمة الإلهية ولكن بالأعراس. الغلوّ في الأشياء المترفة، الغنى والضجة والإنفاق الرهيب على حفلات الأعراس كلها خارجة على قدسية الزواج وعلى الصلاة فيه. رأيت بعض العرسان يصلّون أثناء الإكليل ويتابعون الكلمات الإلهية ولكني قلّما وجدت الحاضرين مأخوذين بالكلمة.


بضعة ايام بعد مولدي مرّ جدي بأمي ورأى أمتعة مهيأة لترسل على الشاحنة الى الجبل فقال لأمي والدها: «ان هذا الصبي غير معمّد فكيف تأخذينه في هذه الحال الى الضيعة؟». قالت سأعمّده في تشرين اي بعد رجوعنا من المصيف. قال لها أخشى عليه من اختلال صحته هناك. عندئذ أحضر الكاهن فعمّدني بين الفراش الملفوف بالسجاجيد والكراسي والطناجر قبل حملي الى المصيف. كان جدي اذًا يهتم للبركة الإلهية لا الى الاصطياف.


هناك أشياء في دنياك خاضعة لكلمة الله وهي القيمة الوحيدة عند المؤمن الحقيقي. ليس من سلّم قيم. هناك فقط ما يراه ربك قيمة.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

أحيا في المسيح/ الأحد 19 أيلول 2010 / العدد 38

قيامة المسيح لم تكن لبولس حدثًا مضى نتعلّم منه انما كان واقعا فاعلا في النفس مستمرا في المؤمنين. كانت هي قيامتهم العامة ولكنها هي امتداد في حياة المؤمن. وهذا التغيير الروحي الدائم في حياة المؤمن هو الذي ينقلنا من ناموس موسى الى الحياة الجديدة.

في هذا يقول الرسول: «إني بالناموس مُتّ بالناموس لكي أحيا لله». أراد أن المسيحي اذا لم يتبع فرائض الناموس الطقسية اذ لا يُبرّر بها يتبع شريعة المحبة فيُصلب مع المسيح. هذا مكرّر في مواضع اخرى في الرسائل. اذا انصلبت أي صلبت كل أهوائي فأحيا مع المسيح الذي قام من بين الأموات.

غير أنه يسعى الى تعبير آخر فيقول: «لا أنا بل المسيح يحيا فيّ». الرسول يُبيد الأنا، فذاتُه ليست هو، ولكنها المسيح. هذا يعني إطفاء الشهوات كليا، انعدام الرغبات المؤذية، اندماج المؤمن بالمسيح اندماجا كليا.

أخيرا يقول «ما لي من الحياة في الجسد أنا أحياه في إيمان ابن الله الذي أَحبّني وبذل نفسه عني». أي في تطهري من الأنا المنكمشة، المنغلقة تبقى فيّ حياة نازلة عليّ من السماء. هذه هي إيماني بابن الله الذي أحبني. هنا المرة الوحيدة التي لا يقول: «أَحبّنا» بالجمع او ما هو بهذا المعنى. انا شخصيا هدف خلاصه. انا هو الذي من أجله نزل الرب يسوع الى العالم «وبذل نفسه عني».

هذا هو سرّ الصليب الذي تكلّم عنه بولس مرات كثيرة. صلْبُ المخلّص وقيامته وإنجيله هي عنده شيء واحد. غير أن هذا كله ينصبّ في الإنسان فهو مصلوب وقائم وحامل كلمة الله وهو مهلك نفسه بالجهاد كما يقول إنجيل اليوم وذلك من أجل إعلاء كلمة الله ونشرها. ولا يستطيع إنسان أن يحملها ما لم يقبل صلب نفسه لينال على الأرض قيامة روحية في التنقية من العيوب والآثام. النفس في هذه القراءة الإنجيلية أي الذات هي أفضل من الكون كله. ولذلك لا تقدر أن تبيعها بشيء من هذه الدنيا.

المال واللذة والنفوذ والسلطة كل هذه لا تساوي النفس البشرية الحرّة من المعاصي والقادرة بخوف الله أن تتحكّم بشؤون الدنيا بطهارة وتواضع وبلا تسلّط على احد.

غير أن سلطان الإنسان على نفسه لا يحصل المرء عليه بمجرد عمل الإرادة وإصرارها على أمور الإنسان، ولكن السلطان المسيحي في عمل الإنسان يأتي من سلطان الله عليه. بتقبّلنا الله نذهب الى الناس والى الأشياء لتكون العلاقة ليس فقط سليمة ولكن نافعة لنا وللآخرين.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

علم الدين / السبت 18 أيلول 2010

في النهاية كل دين كتاب والمعابد هي لمعرفة هذا الكتاب وتنقيحه او تجويده والألحان كُتبت من اجل كلمات. والصلوات تأتي مقابلة لكلماته او التقاء بها ومدّا شعبيا لها. الصلاة وسيلة إعلام بهذا الكتاب. العمارة نفسها، بطريقة او بأخرى، حيث آيات مكتوبة او أيقونات موضوعة هي تجاوب جميل مع هذا الكتاب. والأديان التي تستعمل الرموز كثيرا مثل المسيحية لا تخرج عن النص ولكن تقدّمه بطريقة أخرى.


اجل النصوص المقدسة يتدارسها المؤمنون جميعا على قدر استيعابهم الفعلي وذلك في بيوتهم. هي جاءت من اجل معرفة الله وفكره وصفاته وأعماله، ومن عرف الله يعرف نفسه والآخرين. ولكن نصوص الصلوات عميقة وتحتاج الى إعداد لاهوتيين او علماء كلام ووعاظا. يحتاج المؤمن الى معرفتها بمعانيها المقصودة والمعاني التي ولدت في التاريخ لأن الكتابة الملهمة فاعلة. من هنا أن عندك مناهج التفسير والاطلاع على تاريخ التفسير وتاريخ الإسلام او تاريخ الكنيسة ودراسة العقيدة والعبادات وأصولها والسيرة. هي مجموعة علوم مترابطة، متناسقة، متكاملة.


وفي هذه الرؤية لا بد للمسؤلين المفوّضين بالتعليم أن يعرفوا كل هذا على أعلى مستوى ممكن، وإلا تكون كلمة الله قد ذهبت سدى ويبقى الناس على جهالتهم اي يبقى إلههم محجوبا عن عقولهم ولو مسّ قلوبهم.


عند هذه النقطة أتكلّم عن المسيحية بخاصة. هي تسمّي الإيمان مستقيما في الشرق والغرب، والإيمان ينتقل بالسمع «كيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به. وكيف يسمعون بلا كارز» (رومية 10: 14).


المضمون الإيماني لا يصل اليك اذا لم يبشّرك احد. وكيف يبشرك المبشر إن لم يدرس؟ لذلك قالت قوانيننا القديمة ان الموعظة واجبة في كل خدمة إلهية (صلاة سَحَر او غروب او قداس او إكليل او جنازة إلخ). هذا الأمر يدل على أن العبادة بلا موعظة توضحها لا تبلُغ العقل. ولذلك عندنا منذ القرن الرابع تعليم عن العمادة وعن القداس الإلهي. قد تبلُغك المعاني الإلهي الكثيرة بالطقوس، ولكن الطقوس لا تُغني عن الشرح والتفسير، وإلا لما أمر الآباء القديسون بالوعظ في كل صلاة.


# #

#


وإن كانت تعني وحدها لما سُمّي الكاهن عند رسامته خادما للكلمة. الكاهن العيّ، الأخرس غير موجود في رؤية مرجعياتنا القديمة. المؤسف حقا أننا في عصور غير متأخرة انتخبنا رجالا للكهنوت لا يعرفون شيئا من التفسير او أي علم من علوم اللاهوت واكتفينا بإعدادهم لإمامة الصلاة. وهنا أعترف أن الكثير من المؤمنين اتصلوا بربّهم عن طريق هؤلاء الناقصة معارفهم. ولكنها مغامرة كبيرة أن نتّكل فقط على حنان الله ورأفته بعباده ولا نتّكل كثيرا على معرفتنا بالنصوص. أنت لا تُقامر بشؤون الله. هذا ليس توقيرا له. هذا اتكال على صدفة المعرفة. والدين لا يقوم على الصدفة. دائما أقول لمن أرعاهم: هبوا أن سائحا أجنبيا جاء الى قريتكم شغوفا بالعقيدة التي انتم عليها وهو مريد أن يزداد علما بها، لمن تقودونه. هو يتوقع أن تذهبوا به الى الكاهن فإن كان أُميّا او شبه أُميّ كيف يحترم هذا الأجنبي ديانتكم؟


مرة طلبت إحدى الرعايا الى القديس يوحنا الذهبي الفم أن يقيم احد الناس كاهنا لهم فسأل الوفد: ما صفات هذا الإنسان؟ قالوا إنه لتقي. فأجابهم قديسنا هذه فضيلة أتوقّعها من كل المؤمنين. أمّا من تقدّمونه للخدمة الروحية فينبغي الى التقوى أن يكون عارفا بما تُعلّمه المسيحية.


لا يمكن تاليا أن يكون طالب اللاهوت مجرّد إنسان ورع اذا تخرّج. هذا أمر مفروض فيه لأنه بلا ورع يُعثر الرعية. ولكن الورع اذا جذب الى الله بعضا فلا يجذب الكل. الكلمة حظنا الرئيس للانجذاب الى الله.


لا يُطلب الى إمام الأُمّة أن يصنع عجائب فالأعجوبة تُحرّك ولكن ليس في كل حين. وسيلة الرب الأساسية ليست المعجزة ولكن الكلمة.


# #

#

واذا طلبنا المعرفة من القساوسة فبالحري نطلبها من الأساقفة لأنهم المولجون الكبار بالتعليم بل مراجعه. بتعبير بسيط لا بد للأسقف من أن يؤخذ من كبار الأكاديميين لأنه هو الذي يوزّع المعرفة العليا على من لم يستطع أن يحصّلها. والمناقشات الكنسية في مجمع الأساقفة كثيرا ما تدور حول مواضيع لاهوتية ولا تنحصر في بحث أمور إدارية بحتة كالمال والأوقاف. لا يستطيع أسقف في مجمعه إن طُرح عليه سؤال أن يقول دعوني أراجع مكتبتي لأجيبكم عن أسئلتكم. ماذا كان يعمل بمئات او ألوف من الكتب في مكتبته؟


ليس الأسقف زعيما لملّة. هو مسؤول عن تكوين أُمّة الله بالتعليم. أحيانا أبسط النقاش يدور حول اوضاع الرعاية والأوقاف وما اليها. وهذا يتطلّب منك موقفا لاهوتيا. لا فصل عندنا بين اللاهوت وتنظيم أحوال الرعية.


واذا كانت شؤون الكنيسة تأتي بالشورى بين القادة الروحيين فهذا يعني أن كُلاّ منهم واقف على ما هو مشترك بين العارفين. المعرفة وحدها تؤمّن الهدوء والوئام والمحبة بين المشاركين في الرئاسة الروحية التي وظيفتها الوحيدة خدمة المؤمنين. وإن لم تتوفّر المعرفة ينساق الرؤساء الى مهاترات او خصومات سرعان ما تتحول الى خلافات شخصية والى شغف السلطة او المال او السياسة التي لها أربابها عند العلمانيين الذين كنا نسمّيهم عواما منذ بضعة عقود.


العلم القليل يولّد العجرفة والانصراف عن الأمور الجديّة في تسيير سفينة المسيح في عالم مضطرب. وهذا العالم يثير دائما أسئلة صعبة لا يواجهها المسؤول بلغة خشبيّة وحديث يليق بالأطفال.


لا تستطيع أن تبقى الكنيسة غير مطّلعة على هواجس البشر في دنيا مليئة بالفكر. لماذا يجب أن يبقى الفكر الديني وحده ركيكا؟ الكنيسة، اذ ذاك، بيئة الجهل. والجهل يبيع المسيح ويخونه.


لم أفهم مرة أن سعة العلم دعوة الى إهمال التقوى.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

صليب المسيح/ الأحد 12 أيلول 2010 / العدد 37

قلت في غير موضع ان بولس لما قال، هنا وثمة، «انطروا ما أعظم الأحرف التي كتبتُها إليكم بيدي» كان قد أخذ القلم، وهو قصبة، من يد الكاتب، اذ كان بولس يُملي ربما لأنه كان ضعيف النظر. فأخذ القلم وكتب بحروف كبيرة يراها، وكل حرف في اليونانية منفصل عن الآخر.

ما موضوع هذا المقطع؟ هناك فئة في الكنيسة كانت تريد أن تُلزم الوثنيين المهتدين الى أن يختتنوا وأن يتبعوا شرائع موسى الطقسيّة. وهذا مخالف لقرار مجمع أورشليم الذي لم يُخضع الوثنيين المهتدين أن يعبُروا بالديانة اليهودية إذا اعتنقوا المسيحية.

كان اذًا في غلاطية مَن لم يحترم قرار المجمع الرسولي. شجب بولس من نُسمّيهم المسيحيين المتهوّدين، وشجب افتخارهم بالختان اذ قال: «حاشى لي أن أفتخر إلا بصليب ربّنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وانا صُلبت للعالم». وكأنه يقول ان فرائض الشريعة هي من هذا العالم، فإذا هي صُلبت (أو ماتت) فأنا حيّ.

وتتصاعد لهجة الرسول ليقول: «ليس الختان شيئا ولا القلف» (او الغرلة في ترجمة أُخرى) بل الخليقة الجديدة التي تحصل فينا بالعماد.المعمودية هي انعكاس موت المسيح فينا وقيامته.فما لنا وللختان الذي كان علامة العهد بين الله وإبراهيم.اما علامة العهد الجديد فينا فهي دم المسيح واستتباعا المعمودية حتى يصل الرسول الى القول: «كل الذين يسلكون بحسب هذا القانون فعليهم سلامٌ ورحمةٌ وعلى اسرائيلِ (بكسر اللام) الله».

التفسير الشائع لعبارة «إسرائيلِ الله» هو أنها الكنيسة التي تتضمّن إسرائيل القديم الذي اهتدى والوثنيين الذين انضمّوا بالعماد.

يتعب بولس من هذه الحالة ويقول: «فلا يجلبْ علَيّ أحدٌ أتعابا في ما بعد فإني حاملٌ في جسدي سماتِ الرب يسوع».

هذه السمات او العلامات في جسدي هي الآلام التي تكبّدها بولس من اليهود والوثنيين.«جلدني اليهود خمس مراتٍ أربعين جلدة الا واحدة. ضُربتُ بالعصيّ ثلاث مرات، رُجمتُ مرة واحدة، انكسرت بي السفينة ثلاث مرات. قضيتُ ليلة ونهارا في عرض البحر» (2كورنثوس 11: 24 و25).

هذا كان عنده انعكاس صَلْب المسيح في جسده ما يعني أن هذه الآلام تُبطل استمرار تطبيقنا لناموس موسى في وجهه الشرعي.

في هذا الأحد الذي قبل عيد ارتفاع الصليب نستعدّ للعيد بإعجابنا بأوجاع الرسل والقديسين وبمعرفتنا، كما يقول إنجيل اليوم، أن الله «هكذا أحبّ العالم حتى بذل ابنه الوحيد».

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

المجموعات الدينية ولبنان / السبت ١١ أيلول ٢٠١٠

الكثير من هذا المقال افتراضيّ ولكن قد يكون الافتراض فيه متصلا ببعض الواقع. انا لست من القائلين ان كل مشكلة لبنان تختزل في النظام الطائفيّ ولن أتطرّق الى الجانب الطائفي إلا من حيث هو تركيبة تقوم عليها قراءتي للبلد.

                      هذا بلد صنعه سياسيا البطريرك يوسف الحويك بسبب من الأهمية الكبرى لطائفته في ذلك العهد وشمول لبنان فيها كائنة ما كانت الأدبيات الوطنيّة آنذاك. في الفلسفة السياسيّة صنعه ميشال شيحا الذي لم يكن مارونيا وأقامه على الطوائف حفاظا على المسيحيين في البحر الإسلامي. إلا أن المسلمين كانوا عروبيين وأنصار الوحدة السورية بآن. ثم بعد انقضاء عقد على إنشاء دولة لبنان صارت الوحدة السورية قضية قوميّة-فلسفيّة قامت سوسيولوجيّا على عدد هائل من المسيحيين.

                      أخذ المسلمون يتلبننون بعد حوادث ١٩٥٨ حتى انتهى تلبنُنهم مع الطائف. لقد اختلّ التوازن الذي رآه شيحا لصالح المسلمين ولم يبقَ سبب بعد تضاؤل الحركة العربية بموت عبد الناصر لعدم انضمام المسلمين الصادق الى لبنان ولا سيما أن شرائح كبرى منهم عظمت ثرواتها وبطلت الدعوة الاشتراكية العربيّة أن تستهويها.

                      نعيش الآن في بلد لا خلاف على هويّته الوطنيّة ولا حول حدوده ولا شوق حقيقيا الى تجزئته او الى إدارته بصورة تهدّده بالتجزئة. غير أن هذا البلد في محيط إقليميّ لكل بلد فيه مواقف من لبنان او على الأقل أحاسيس ذات فاعلية وكذلك شاء أَم أبى هو حجر في لعبة الأمم.

                      استنادا الى فلسفة كيسنجر في الحفاظ على الأقاليم كما هي مرتّبة وكما هو مرتّب كل بلد تنتفي فكرة ضمّ لبنان الى مساحة أكبر. اولًا سوريا ليست في هذا السعي أيّا كان رأيها في ذاتية لبنان الوطنيّة او أصالته التاريخيّة. إسرائيل طامعة وهذا في نصوصها التأسيسيّة، ولكنها طامعة ايضا وفق هذه النصوص بما هو أبعد من لبنان. غير أن الواقع السياسي Realpolitik لا يتعدى طمعها بالمياه والنفط. بمعنى آخر لا أتوقع، في نهاية المطاف السياسي أن يتجاوز الكيان الصهيوني معاهدة السلام المرتقبة. فتلاقي الفكر الدولي والتحرك الإقليمي يجعلاني أعتقد أن حدودنا محفوظة في الموقف الإقليميّ منّا والموقف الدوليّ.

#                                         #

#

                      هذا يتلاقى واستقلال سوريا الكامل في نظر الدول. غير أن قراءة الولايات المتحدة لمجموعة دول الشرق الأدنى هي أنه يجب ان تبقى سوريا دولة قوية بالنسبة الى لبنان والأردن وفلسطين المحررة مع تمسّك أميركا بأن تبقى إسرائيل الدولة الأولى على كل صعيد. ذلك أنه لا بد من دولة قادرة نسبيا أن تقف في وجه إسرائيل حتى بعد معاهدة السلام.

                      وحتى تبقى سوريا دولة تُواجه إسرائيل لا بد لها أن تمارس نوعا من رعاية لبنان وهذا أسلوب غير اسلوب الوصاية. فإذا مورست هذه الرعاية بلين ومودّة (الندّية من هذا المنظار غير واردة) ترى السياسة الدولية تحركا لبنانيا مدركا لرعاية الشام. هل يمارس في فلسطين الآتية والأردن رعاية ما لطرفٍ ما لست أَعلم.

                      أما الداخل اللبناني فكيف تتحرك فيه القوى السياسيّة المرتبطة بالطوائف؟ أظن أن عامل التوازن الرئيس سيكون لأهل السنّة والجماعة لأن الموهبة السنّية موهبة هدوء لطالما بُنيت على التجارة والقربى لدول سنّية تريد الاستقرار للبنان او هكذا تبدو تركيا حتى الآن. وما يدعم هذه الرؤية أن أهل السنّة والجماعة هم الذين ارتضوا المناصفة في مجلس النواب ويلحّون على بقائه والسلم الأهلي ضروري لتبوّء لهم واضح.

                      واذا جئنا الى الشيعة فليسوا يضعون تحت السؤال المناصفة البرلمانية، وما يبدو منهم أنهم سالكون مسالك الديموقراطية بمعنى أنهم لا يريدون أخذ الحكم عنوة ولكن عددهم يفرض نفسه فإنهم الطائفة الأولى ولو لم يتجاوزوا السنّة الا بعدد قليل.

                      والشيعة عندهم نوعيّة فكرية لا يجهلها أحد وهي ليست دون أية نوعية أخرى أي انهم في بضعة عقود قليلة أدركوا أعلى درجات العلم ومقامهم في المهن الحرة ومؤسساتهم التكنولوجيّة راقية بامتياز. وفي المدى المنظور ليس ما يشير الى إمكان زرع الفتنة بين المذاهب الإسلامية.

                      كل ما قرأته ضد المقاومة الإسلامية لم يُقنعني حتى الآن. أن تُضمّ الى الجيش أمر مستحيل. يبدو لي أن الشيعة غير مقتنعين بأن الدولة اللبنانية صائرة الى دولة مدنيّة في المدى المنظور. وقوّتهم العسكرية مرتبطة بإيمانهم الديني. وحماستهم في القتال مرتكزة على صوفية الجهاد ضد العدو، إذا خسروها يخسرون حدّة قتاليّتهم. وقد برهنوا في حرب تموز أنهم قادرون أن يُرعبوا إسرائيل. إن تغيير تنظيمهم يرميهم في المجهول ما يُعطي الصهاينة قدرة أن يدوسوا لبنان. ليس للبنان الرسمي أية إمكانية وحده أن يقف ضد اجتياح للعدو.

#                                      #

#

                      يبقى هنا التساؤل عمّا اذا كان السلم بيننا وبين إسرائيل ممكن مع وجود المقاومة. هذا مستحيل اذا بقيت المقاومة بعد تحرير الأرض اللبنانية.

                      الى هذا  المارونية السياسية لم تمت لأنها تُلازم الإثنية المارونية وتاريخها ولم تُنتجها الحرب في لبنان. وليس من شيء يمكن تسميته المسيحية السياسيّة لأن الأرثوذكسيين الذين ليسوا إثنيّة لم يواجهوا الإسلام السياسي اذ ليسوا هم كثافة سياسيّة وعاونوا الحكم الإسلامي القائم في عهوده المتعاقبة. عندهم اذًا مسلك كنسيّ او روحي تجاه الإسلام ومعايشة للمسلمين بلا كيانية مجتمعية لذاتهم ومع أمل ما في العصر الحديث أن يصبحوا مع المسلمين أمّة واحدة كما جاء في دستور المدينة الذي وضعه الرسول.

                      ليس همّنا أن تتّفق الزعامات المارونية بل سؤالنا هو على اي شيء يتّفقون. هل يريدون أن يستمرّوا إثنية تُواجه الشعوب الأخرى وفق تعبير سركيس نعوم أَم يذوبون في مجتمع لبناني مدنيّ ويكملون طريقهم الى الله ككنيسة تجد نفسها في مشرق مسيحيّ ويزداد تشريقا في وجوده الكنسي وتصوّفه السرياني أي يتحرر من منحاه اللاتيني ليعود الى أصوله الشرقية. هذا هو شرط اندماجه بالمسلمين كما أرى.

                      المارونية السياسية قائمة في القلوب ولكن ضعفت فاعليتها وغادرها أكثر المسيحيين غير الموارنة الذين كان بعضهم منها في الحرب. الموارنة في حاجة الى أطروحة أهم وأعمق من المارونية السياسيّة أسمّيها أطروحة التشريق اي التجذّر مع المسيحيين الآخرين في كل مدى الشرق مع المحافظة على لبنانية لا يحتاجون الى أن يتعلّموها من أحد. لهم ميراثهم وتطلّعاتهم. السؤال كيف توفيقها مع تطلّعات الآخرين. شهادتهم لا يقدرون أن يؤدوها إلا مع كل مسيحيي لبنان والمنطقة. كيف نكون معا مسيحيين في قوة روحية عظيمة هي شرط خدمتنا لكل أهل الوطن دون أن نبني مسيحية سياسية جامعة؟

                      للموارنة ولسواهم من المسيحيين نكهة الإنجيل. هذا ما نستطيع معا أن نقدّمه، وهذا ما ينتظره المسلمون الصالحون. لا يستطيع أحد ان يفهم لبنان بلا مسيحية قوية، نضرة، خادمة.

                      كان في هذه السطور تأملات فيها افتراضات وقراءة تستطيب كل مكوّنات لبنان العظيم في رؤية.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

آلام بولس وقيامة المسيحيين/ الأحد 5 أيلول 2010 / العدد 36

بولس رأى في هذا المقطع أن الله الذي أمر عند الخلق ظهور النور هو إيّاه الذي أَشرق عليه عند اهتدائه حيث شاهد النور على وجه المسيح القائم من بين الأموات. بعد هذا يتكلّم عن المؤمنين الذين يُشرق نورُ المسيح في قلوبهم. الإشراق الذي ناله هو يبدو له حسيًّا وقد ملأ كل حياته.

يُشرق المسيحُ على بولس ليعطي المؤمنين معرفة مجد الله الذي نزل عليه على طريق دمشق. بولس كان يفكّر أن كل ما استلمه من يسوع مفيد لخدمته الرسولية.

ولكن حتى لا يستكبر قال: «لنا هذا الكنز بآنيةٍ خزفية» ليوحي أننا ضعاف من جهة، ومن جهة أُخرى ليشدد أن ما نرثه من الله.

بعد هذا يشير بولس الى أزمات صعبة لم تجعله في إحباط. ما حصل له في آسيا (تركيا الحالية) يدلّ على أخطار مميتة. مع أنه متضايق في كل شيء لم يكن ينحصر، ومع أنه مُتحيّر لم يكن ييأس، ومع أنه مضطهَد لكنه لم يكن مخذولا، ومع أنه مطروح لم يهلك، وكل هذا عائد الى أنّه حامل في جسده إماتة الرب يسوع. في كل هذه المضايقات بقي بولس على الرجاء.

هذا عائد الى أنّه متّحد بالّرب يسوع دائمًا وفي خدمته كل يوم. المجد يأتي فقط الى الذين يتألّمون. موت يسوع ينعكس على الذين يصبرون. إنهم يتخلّصون من كل الضيقات لتظهر فيهم حياة المسيح. ألم وقيامة عَرفهما السيد ويعرفهما أحباؤه. وذهبت محبّة بولس للمسيحيين إلى أن الموت الذي يذوقه هو يصير حياة للمؤمنين. ذلك أن للرسول «روح الإيمان»، وبنى هذا على قول العهد القديم: «آمنتُ ولذلك تكلّمت». ويؤكّد هذا بقوله: «نحن أيضًا نؤمن ولذلك نتكلّم». نتكلّم برغم كل الضيقات «عالمين أن الذي أقام الرب يسوع سيُقيمنا نحن أيضًا بيسوع». موت السيد وقيامته ينعكسان منذ هذا الوجود في المؤمنين. القيامة في حياة المؤمنين الآن هي فاعلة ليكملوا الخدمة. هنا بولس لا يتكلّم على القيامة الأخيرة ولكن القيامة بالصبر اليوم. هذا معنى قوله: «ننتصب معكم». دائمًا المؤمنون همّه إذ يقول: «لأن كل شيء هو من أجلكم»، وهو أيضًا يخدم من أجلهم «لكي تتكاثر النعمة بِشُكر الأكثرين».

إنّ تكاثُر المؤمنين يزيد الشكر لله، وبهذا يسطع مجد الله.

بولس هو في حركتين: الأولى قبوله لكل الضيقات لمجد الله، والثانية إظهار مجد الله في المؤمنين. دائمًا الرسول واحد مع الكنائس التي أسسها. المهمّ عنده أن تبقى قوية وفي حالة شكر مهما حلّ في الرسول من آلام. بولس دائمًا ينسى نفسه لكي يتمجّد المسيح في المؤمنين وينمُوا هم فيه.

ما أعظم هذا الرجل الذي ينسى دائمًا نفسه فيحبّ الإخوة الذين كسبهم للإيمان، فإذا تقووا يعظم المسيح، ولا يذكر الرسول عظمته هو. المهم عنده أن تصبح الكنيسة عظيمة بعظمة المسيح لأنها هي وجهه المُطلّ على العالم فتبقى الرسالة أي لا يبقى المسيح محجوبًا. المسيح معشوق بولس ويُترجِم عشقه له بتأسيس كنائس جديدة.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

تأمل في الأعمار / السبت 4 أيلول 2010

هل يسوغ لطاعن في السن أن يتأمل في كل مراحل حياته أو حياة الآخرين وهو لا يعيش إلا بالذكرى والذكرى فيها استخدام العقل في وقت تأمله أي إنك لا تستطيع أن تحياه الآن ولا أن تحييه فإن ماضيك فاتك والأعمار ليست منقطعة بعضها عن بعض لقد تداخلت فيك وأنت لست حزينا ومع ذلك لا يقدر الشيخ أن يدفن كل ماضيه لأنه ليس مجرد شرائح زمنية. هنا سر الإنسان أنه واحد.


وهناك من لا يعيش كل أعماره بالكثافة الواحدة فقد يكون مبتور الطفولة او قافزا فوق شبابه وقد لا تأتيه شيخوخته متعبة فلا يستطيع ان يقول مع الشاعر: «سئمت تكاليف الحياة» فيظل متوئبا في زمن ينتظر فيه الموت. مع ذلك لا بد من جمع كل المراحل في خطاب واحد. وهذا ما سوف أحاوله لمنفعتي وربما لمنفعة بعض.


راقبت الطفولة منذ بضع من سنين وأفادتني المراقبة لأن تذكر الطفولة الحقيقي غاب عني كثيرا اذ لا اعرف خيطا موصولا بين آخر طفولتي وشبابي والكهولة. فجاءت مراقبتي الحالية بديلة عن ذاكرة غائبة . وفي احتسابي ان من يسمى الراشد لا قدرة له ان يفكر في رشده بالأطفال الذين ليسوا قاصرين اذ لهم رشد خاص بهم. لهم لغتهم وعلاقتهم بالكون وصلة حقيقية بالله كما يحلو له ان يلهمهم والكلمات التي يستعملون هي كلماتك ولكن لها مدلول عندك فيه حدس فقط ولكنك لا تقدر ان تستعمل ازاءه آلتك العقلية الحالية. ان لهم مقولات تختفي وراء كلماتهم. لذلك انت في تنقيب عنهم لأنهم لا ينسخون الفاظك انت ولو قالوها.


عندما تقول لي طفلة في الخامسة من عمرها لا تدرس في مدرسة دينية وذلك بفرنسية بليغة حرفيا: «الأطباء يعالجون المرضى ويسوع يشفيهم بحكمته ومحبته» لا اجد عندي منهجا عقليا حتى افهم هذا القول. في فحصنا لفكر هذه الطفلة لا أجد إمكانا لاستعمالها لفظة «حكمة» ولو فهمت استعمالها لكلمة محبة. ثم كيف تفرق بين معالجة الأطباء للمرضى وشفاء المسيح لهم والكثر من الراشدين لا يعرفون هذا الفرق؟ هل أتت هذه الطفلة بمعجزة لا تقع تحت الفحص العقلي؟


أترابها الذين لم يبلغوا هذا المبلغ مع انهم لم يصلوا هذه الذروة عندهم لسانهم احيانا لا افهمه وعندهم ايضا علاقة بالله تختلف عن علاقتنا نحن به.


# #
#

حادثة اخرى تركت فيّ غموضا كليا. أتى اليّ بطفلة أبوها كانت في الثامنة. حدثتني هي في الفيزياء والخيمياء والفلك. بمفردات علمية دقيقة كما عرفناها نحن في الرابعة عشرة او الخامسة عشرة من عمرنا. هذه افهم ان ذويها كلموها بالعلوم والتقطت المعاني كلها في سن مبكرة جدا، ولكن طفلة الخامسة التي ذكرت لم تسمع شيئا مثل هذا في عائلتها ولا مدرستها. هل لنا دخول معقول الى دنيا الأطفال اذا تجاوزوا الحديث المألوف عن لعبهم وطعامهم ومألوف الحياة البيتية.


اذا عبرت من هذه الحال الى حال الشباب من نافل القول ان عندهم جموحا وآمالا وكثيرا مما نعتبره اعتدادا بالنفس حتى العنفوان وعقدا موروثة من الطفولة الأولى واكتشافا للجنس الآخر بما يتضمّن هذا من شاعرية تذهب بهم احيانا حتى اللهب كما تلحظ احيانا قدرة علمية كبيرة وتوقا الى المعرفة الواسعة.


هذه سن كاملة بذاتها يبقى فيها احيانا اثر من الطفولة عاشوها منتقصة. وقد تبقى الطفولة والشباب حتى آخر الحياةبشيء من الابتسار فتأتيك الكهولة صبا مخفيا محضونا. واحيانا كثيرة يطل رشد كبير على سن الشباب وكأن الأعمار لا تتابع بصورة منطقية او لا تراصف فيها.


يقال هنا وثمة ان الإنسان لا ينضج فكريا الا اذا بلغ الأربعين. اذا كان الأمر كذلك كيف تفسر ان هناك من انتهت عبقريّتهم الشعرية وهم في العشرين. ويقال ان التدين العظيم مرتبط بسن متقدمة نسبيا وقد لاحظنا ان الحماسة الدينية حتى التصوف بادية على شبان كثيرين وان هؤلاء لم يعرفوا الجهالة الخلقية في هذه الحقبة او قاموا بدعوة روحية لاهبة قصر عنها المسنون. هل كان داود النبي يتكلّم عن قلة من الناس لما قال: «خطايا شبابي وجهلي لا تذكر». واضح في رؤيتي اجيالا كثيرة ان محبة الله لا علاقة لها بمرحلة من مراحل العمر والا كيف بلغت تيريزا الطفل يسوع قداسة لا شك فيها وقد توفيت وهي في الخامسة والعشرين؟ هنا يبدو لي ان الله ينير من يشاء ويسطع بقوة فائقة حيث يشاء.


# #
#

الكهولة سن محببة اليّ مع انها في بداءتها تحمل إحباطا كبيرا وهذا ما سماه صاحب المزامير «شيطان نصف النهار». غير انها تحمل صبرا جميلا بعد ذهاب الإحباط. هي سن الحضن للشباب والرأفة بالكل والسماحة الكثيرة ربما بسبب من الهشاشة التي يتعرض لها الكهول او الإحساس ببدء الانهيار او التخاذل امام صعوبات الوجود التي تأتيك من كل صوب. هنا يخطر على البال قول الشاعر: «تعب كلها الحياة». لعلّ عظمة هذه المرحلة انك تمحص دينك فيها وتفتش عن العقلانية فيه. قد لا تفهم العقيدة فهما عميقا ولكنك تسلم لله ربما لأنك لمست تفه الجسد والمال والسلطة وانك لا تنتظر الكثير من الشيخوخة المقبلة.


ولكن ما من شك على وجه العموم ان الطاقات تتجلى في هذه الحقبة وان الكلمة تصبح اكثر نضجا واتزانا لأن الاعتزاز الشبابي كثيرا ما يضعف. غير ان شيئا لا يمنع الكهول من ان يقتربوا من الرب اقترابا كبيرا وان كانت الشهوة لم تنطفئ وليس للشهوة عمر.


الشيخوخة ليس لها بداءة ولا لها انتهاء. جسديا هناك اتعاب كثيرة قد نستسلم لها حتى ما يقارب اليأس وتستمر بعض خصال الكهولة كالسماحة التي تعاش احيانا كتسوية مع ضعف اهل الحقبات السابقة. يغريك القول ان الناس هم هكذا وغالبا ما سيظلون وانك غير نافع لكثرة لا شيء يدل على انها تائبة اليوم او غدا.


واذا بقي عقلك صافيا كليا لا يعوزك الإبداع العقلي. العقل وحده لا سن له واذا كان هو مقر إلهام اساسي فلا يعتري الشيخ حزن بالضرورة. غير ان رتابة الناس وأقوالهم ومناهجهم وعاداتهم من شأنها ان تدفع الحس الى المحافظة على ما ألفه الشيخ في هذه الحياة بلا رغبة جامحة الى التغيير. وفي هذا خطر كبير . كيف يغلب الشيخ جسده المتهاوي وكل جسد يتهاوى؟ كيف يمنع تخلف الصحة في جسده ونفسه لئلا يخسر اندفاعه؟ كيف يبقى حيا في جدة روحه فيستأثر الله في يوم حكمته به ليظل ايقونته للأجيال اللاحقة؟


كيف يبقى الله حيا في كل حقبات حياتنا هذا هو السؤال.

Continue reading