الكثير من هذا المقال افتراضيّ ولكن قد يكون الافتراض فيه متصلا ببعض الواقع. انا لست من القائلين ان كل مشكلة لبنان تختزل في النظام الطائفيّ ولن أتطرّق الى الجانب الطائفي إلا من حيث هو تركيبة تقوم عليها قراءتي للبلد.
هذا بلد صنعه سياسيا البطريرك يوسف الحويك بسبب من الأهمية الكبرى لطائفته في ذلك العهد وشمول لبنان فيها كائنة ما كانت الأدبيات الوطنيّة آنذاك. في الفلسفة السياسيّة صنعه ميشال شيحا الذي لم يكن مارونيا وأقامه على الطوائف حفاظا على المسيحيين في البحر الإسلامي. إلا أن المسلمين كانوا عروبيين وأنصار الوحدة السورية بآن. ثم بعد انقضاء عقد على إنشاء دولة لبنان صارت الوحدة السورية قضية قوميّة-فلسفيّة قامت سوسيولوجيّا على عدد هائل من المسيحيين.
أخذ المسلمون يتلبننون بعد حوادث ١٩٥٨ حتى انتهى تلبنُنهم مع الطائف. لقد اختلّ التوازن الذي رآه شيحا لصالح المسلمين ولم يبقَ سبب بعد تضاؤل الحركة العربية بموت عبد الناصر لعدم انضمام المسلمين الصادق الى لبنان ولا سيما أن شرائح كبرى منهم عظمت ثرواتها وبطلت الدعوة الاشتراكية العربيّة أن تستهويها.
نعيش الآن في بلد لا خلاف على هويّته الوطنيّة ولا حول حدوده ولا شوق حقيقيا الى تجزئته او الى إدارته بصورة تهدّده بالتجزئة. غير أن هذا البلد في محيط إقليميّ لكل بلد فيه مواقف من لبنان او على الأقل أحاسيس ذات فاعلية وكذلك شاء أَم أبى هو حجر في لعبة الأمم.
استنادا الى فلسفة كيسنجر في الحفاظ على الأقاليم كما هي مرتّبة وكما هو مرتّب كل بلد تنتفي فكرة ضمّ لبنان الى مساحة أكبر. اولًا سوريا ليست في هذا السعي أيّا كان رأيها في ذاتية لبنان الوطنيّة او أصالته التاريخيّة. إسرائيل طامعة وهذا في نصوصها التأسيسيّة، ولكنها طامعة ايضا وفق هذه النصوص بما هو أبعد من لبنان. غير أن الواقع السياسي Realpolitik لا يتعدى طمعها بالمياه والنفط. بمعنى آخر لا أتوقع، في نهاية المطاف السياسي أن يتجاوز الكيان الصهيوني معاهدة السلام المرتقبة. فتلاقي الفكر الدولي والتحرك الإقليمي يجعلاني أعتقد أن حدودنا محفوظة في الموقف الإقليميّ منّا والموقف الدوليّ.
# #
#
هذا يتلاقى واستقلال سوريا الكامل في نظر الدول. غير أن قراءة الولايات المتحدة لمجموعة دول الشرق الأدنى هي أنه يجب ان تبقى سوريا دولة قوية بالنسبة الى لبنان والأردن وفلسطين المحررة مع تمسّك أميركا بأن تبقى إسرائيل الدولة الأولى على كل صعيد. ذلك أنه لا بد من دولة قادرة نسبيا أن تقف في وجه إسرائيل حتى بعد معاهدة السلام.
وحتى تبقى سوريا دولة تُواجه إسرائيل لا بد لها أن تمارس نوعا من رعاية لبنان وهذا أسلوب غير اسلوب الوصاية. فإذا مورست هذه الرعاية بلين ومودّة (الندّية من هذا المنظار غير واردة) ترى السياسة الدولية تحركا لبنانيا مدركا لرعاية الشام. هل يمارس في فلسطين الآتية والأردن رعاية ما لطرفٍ ما لست أَعلم.
أما الداخل اللبناني فكيف تتحرك فيه القوى السياسيّة المرتبطة بالطوائف؟ أظن أن عامل التوازن الرئيس سيكون لأهل السنّة والجماعة لأن الموهبة السنّية موهبة هدوء لطالما بُنيت على التجارة والقربى لدول سنّية تريد الاستقرار للبنان او هكذا تبدو تركيا حتى الآن. وما يدعم هذه الرؤية أن أهل السنّة والجماعة هم الذين ارتضوا المناصفة في مجلس النواب ويلحّون على بقائه والسلم الأهلي ضروري لتبوّء لهم واضح.
واذا جئنا الى الشيعة فليسوا يضعون تحت السؤال المناصفة البرلمانية، وما يبدو منهم أنهم سالكون مسالك الديموقراطية بمعنى أنهم لا يريدون أخذ الحكم عنوة ولكن عددهم يفرض نفسه فإنهم الطائفة الأولى ولو لم يتجاوزوا السنّة الا بعدد قليل.
والشيعة عندهم نوعيّة فكرية لا يجهلها أحد وهي ليست دون أية نوعية أخرى أي انهم في بضعة عقود قليلة أدركوا أعلى درجات العلم ومقامهم في المهن الحرة ومؤسساتهم التكنولوجيّة راقية بامتياز. وفي المدى المنظور ليس ما يشير الى إمكان زرع الفتنة بين المذاهب الإسلامية.
كل ما قرأته ضد المقاومة الإسلامية لم يُقنعني حتى الآن. أن تُضمّ الى الجيش أمر مستحيل. يبدو لي أن الشيعة غير مقتنعين بأن الدولة اللبنانية صائرة الى دولة مدنيّة في المدى المنظور. وقوّتهم العسكرية مرتبطة بإيمانهم الديني. وحماستهم في القتال مرتكزة على صوفية الجهاد ضد العدو، إذا خسروها يخسرون حدّة قتاليّتهم. وقد برهنوا في حرب تموز أنهم قادرون أن يُرعبوا إسرائيل. إن تغيير تنظيمهم يرميهم في المجهول ما يُعطي الصهاينة قدرة أن يدوسوا لبنان. ليس للبنان الرسمي أية إمكانية وحده أن يقف ضد اجتياح للعدو.
# #
#
يبقى هنا التساؤل عمّا اذا كان السلم بيننا وبين إسرائيل ممكن مع وجود المقاومة. هذا مستحيل اذا بقيت المقاومة بعد تحرير الأرض اللبنانية.
الى هذا المارونية السياسية لم تمت لأنها تُلازم الإثنية المارونية وتاريخها ولم تُنتجها الحرب في لبنان. وليس من شيء يمكن تسميته المسيحية السياسيّة لأن الأرثوذكسيين الذين ليسوا إثنيّة لم يواجهوا الإسلام السياسي اذ ليسوا هم كثافة سياسيّة وعاونوا الحكم الإسلامي القائم في عهوده المتعاقبة. عندهم اذًا مسلك كنسيّ او روحي تجاه الإسلام ومعايشة للمسلمين بلا كيانية مجتمعية لذاتهم ومع أمل ما في العصر الحديث أن يصبحوا مع المسلمين أمّة واحدة كما جاء في دستور المدينة الذي وضعه الرسول.
ليس همّنا أن تتّفق الزعامات المارونية بل سؤالنا هو على اي شيء يتّفقون. هل يريدون أن يستمرّوا إثنية تُواجه الشعوب الأخرى وفق تعبير سركيس نعوم أَم يذوبون في مجتمع لبناني مدنيّ ويكملون طريقهم الى الله ككنيسة تجد نفسها في مشرق مسيحيّ ويزداد تشريقا في وجوده الكنسي وتصوّفه السرياني أي يتحرر من منحاه اللاتيني ليعود الى أصوله الشرقية. هذا هو شرط اندماجه بالمسلمين كما أرى.
المارونية السياسية قائمة في القلوب ولكن ضعفت فاعليتها وغادرها أكثر المسيحيين غير الموارنة الذين كان بعضهم منها في الحرب. الموارنة في حاجة الى أطروحة أهم وأعمق من المارونية السياسيّة أسمّيها أطروحة التشريق اي التجذّر مع المسيحيين الآخرين في كل مدى الشرق مع المحافظة على لبنانية لا يحتاجون الى أن يتعلّموها من أحد. لهم ميراثهم وتطلّعاتهم. السؤال كيف توفيقها مع تطلّعات الآخرين. شهادتهم لا يقدرون أن يؤدوها إلا مع كل مسيحيي لبنان والمنطقة. كيف نكون معا مسيحيين في قوة روحية عظيمة هي شرط خدمتنا لكل أهل الوطن دون أن نبني مسيحية سياسية جامعة؟
للموارنة ولسواهم من المسيحيين نكهة الإنجيل. هذا ما نستطيع معا أن نقدّمه، وهذا ما ينتظره المسلمون الصالحون. لا يستطيع أحد ان يفهم لبنان بلا مسيحية قوية، نضرة، خادمة.
كان في هذه السطور تأملات فيها افتراضات وقراءة تستطيب كل مكوّنات لبنان العظيم في رؤية.
Continue reading