Monthly Archives

August 2006

2006, مقالات, نشرة رعيتي

شيء عن المال / الأحد 27 آب 2006 / العدد 35

وددت أن أتأمّل في رسالة اليوم (1كورنثوس 9: 2-12) حيث يدور الكلام عن حق بولس الرسول أن يأكل من لبن القطيع ويدعم ذلك من العهد القديم ويتوسّع مع أنّه في الواقع كما قال في موضع آخر ما كان يتقاضى من أيّة رعيّة أجرًا.

ليست رغبتي اليوم أن أبين لكم حق الكاهن عليكم من الكتاب المقدس وانتم تعرفون ان خادم الهيكل يعيش من الهيكل ولو كان عليه ان يتقشف. إنه لقد ارتضى التقشّف منذ اعتناقه الكهنوت. أنا أتكلم فقط من زاوية المحبّة البنويّة ولا أتكلّم على راتب يكفي أو لا يكفي. في أي وضع يعيشه الإنسان أفي الكنيسة كان أو خارج الكنيسة، لا يأتي التعبير عن المحبّة الا بالعطاء، غير أنّ كلامي اليوم ليس لتنظيم معيشة الكاهن ولكن لأقول انك تعطي الكاهن أجرا لخدمة قام بها. الجميل في العلاقة أحيانا الا تعطي لقاء أجر.

في ما يتعلّق بدعم الأبرشيّة أذكّركم بأنّي منذ سنوات أرجو الرعايا رجاء الإعطاء ولم أفرض شيئًا على إحداها. ولكن حاجات الأبرشيّة لا تزال كبيرة وليس لأزعج أحدا أقول إننا بتنا الآن في وضع مالي مقلق أرجو أن أتمكّن في الفترة الآتية أن أواجهه. أرجو ان يُلهم الله المؤمنين أفرادا ان يتبرّعوا لنستطيع تحمّل نفقات الإدارة فقط.

نافع لبنياننا الروحي أن يكون كل خادم للمسيح فقيرا. غير أنّ هناك حاجات الإخوة الذين أنا مسؤول عنهم لا أريد ان أزعجكم بهذه الأمور. ما أود فقط أن أقوله ان كلّ مشاركة بالإحساس بنا يسعفكم أنتم روحيًا.

ما أود أن أضيفه هو أنكم معا كنيسة المسيح. أنتم لستم حصرًا في هذه القرية أو تلك كنيسته. أنتم إذا كنتم مع الإخوة في كل مكان أبرشيّة، وهي كلمة يونانيّة تعني الإقامة معا. أنتم وحدة كاملة ليس في بلدتكم، ولكنكم تشكّلون الوحدة مع الآخرين.

أيضا أود أن أذكّركم أن المطران يشرف على المال الذي أودعتموه المصارف وله الحق في قانون الدولة والقانون الكنسي ان يحرّكه كما يشاء، ولكنّه لم يفعل هذه مرّة واحدة منذ 36 سنة أي المدّة التي خدم فيها هذه الأبرشيّة. ما يسرّني أو يزيدني سرورا ان تعمّ الثقة بيني وبين متولّي الأوقاف المحليّة.

أحب أن أذكّر أعضاء مجالس الرعايا انهم وكلاء المطران أو وكلاء الكنيسة المقدّسة كما نقول في عباداتنا. مع ذلك تصرفتُ تجاههم وكأنهم أصلاء أو أصحاب الأمر. هذه ليست بشكوى ولكنه حَسَنٌ أن يعرف كلّ منا مكانته وان يتصرّف بموجب هذه المكانة.

أذكروا ما قاله بولس في هذه الرسالة: «إنْ كنا نحن قد زرعنا لكم الروحيّات أفيكون عظيما أن نحصد منكم الجسديّات؟». والروحيات تعني من قِبَل المطران والكاهن سهرًا عليكم وصلوات من أجلكم ووعظًا وإرشادا وافتقادا ودرسا متواصلاً عند الكهنة الواعظين. وهذا يستغرق وقتًا ويستنزف صحة. ما قيمة العطايا الماديّة مقابل ذلك الا إذا كنتم في العوز؟

إلى هذا أرجو رجاء حارًا في المسيح ان تهتمّوا بالمحتاجين بينكم حتى لا يأتوا إلى هنا كما يفعل بعض لينالوا منا إحسانا بتنا غير قادرين عليه. أحصوا الفقراء عندكم وتبنّوا قضاياهم.

تطالبون بكهنة أكفّاء، متعلّمين. وهذا ما نحاول القيام به. ولكن هذا يكلّفنا مبلغا طائلا كل سنة ندفعه للبلمند لتربية من سيخدمونكم بعد تخرّجهم.

أردت فقط أن تفهموا هذا الكلام حثّا لبنوّتكم لتحسّ بالحاجات الكبرى لهذه الأبرشيّة وليس بحاجاتي الخاصة. انتم تسدونها مشكورين عندما تدعونني لخدمة روحيّة. أقول هذا لخلاص نفوسكم واستحضار بركات الله عليكم.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

لبنان الوطن الواحد / السبت 26 آب 2006

بعد أن حل السلام او السلام المرجو لا بد أن يقرأ لبنان نفسه على ضوء ما تتمنّاه إرادة الوحدة. صعوبة هذه الأمنية أن بلدنا كثيف الحس التاريخي وكأنّ كل جماعة منا سجينة حس يرقى الى الشرق القديم ويعبر بالديانتين القائمتين عندنا وبمذابهما. في بلدان العالم الذي عرف عصر التنوير منذ القرن الثامن عشر انتشر العقل الذي يسوس هذه الدنيا وانحسر الوحي الالهي في علاقته بشؤون السياسة فقبع في ضمير الفرد وتفاعل القوم في حيّز الوطن ببشريّتهم.

هذا التكثف التاريخي فيه قهر شديد ولو لم يخلُ من جمالات. وهذا ما اعطى النظام الطائفي عندنا الذي لا يستطيع ان يواجه ثقل الازمة العابرة كما لا يستطيع ان يرجو المستقبلات. غير ان زوال الماضي من الهيكلية الطوائفية لأمر صعب. ومن شأن هذه الهيكليّة ان تنهار اذا دخلنا الحداثة بتقدّمنا العلمي الكبير في كل مجالات الوجود المشترك ولا سيما في حياة اقتصادية متطوّرة وظهور دولة متقدّمة ومحصّنة داخليّا ودوليا. لست أظن ان احدا لديه وصفة جاهزة لنتحرر من انتمائنا الى العالم الثالث وتقبلنا للتنوّر العقلي الذي من شأنه ان يجعلنا – كدولة- نسلك سلوك الأمم العاقلة في شؤونا العامة.

غير أن هذا لا يأتي بقرار او لا تكفيه قناعة عقلية لأن الشهوات الكامنة تخلّ بالعقل ولكنه يأتي بالهدى النازل علينا من فوق اذ لا يفرض انضمامنا الى الحكم المدني الذي نتمنّاه ان نكون عميقي الروحانية الدينيّة ولكنه يفرض روحانية حارة ذات طبيعة انسانيّة مسكوب عليها هدى ما. لذلك لا يكفيني قول الأكثرين: ولاؤنا ليس للطائفة، لكن للوطن. اي ان عصبيّتنا لا ينبغي للطائفة بمعناها الكتلوي السياسي ولكنها عصبيّة للوطن الذي شاء ربك ان يحتضن جماعات مختلفة “لتعارفوا” اي انها متنوّعة على غير خلاف ومفتوحة احداها على الأخرى بحب بحيث ترى ولا تكتفي برؤية التنوّع الذي يكمن فيه صراع.

غير ان الجمع بين التنوّع والاختلاف يفرض ان يتركّز المؤمنون جميعا على الحب وربما ان يبرزوا من تراثهم ما يكشفه وما يقويه. وهنا دور للعلماء او للروحانيين الذين اخلصوا لله فلا نبقى أسرى الحرف بل نصبح عبيدا للروح. لماذا استدعيت العلماء وأهل الروح؟ ذلك أنّ عندنا جميعا دينا شعبيّا، تبسيطيّا، اسطوريّا، نفحته من الأعصاب نقرأ به أهل الدين الآخر ومسالكهم التاريخيّة وننتقل بالخيال الى أزمنة القهر ونعتبرها كأنها حاضرة ولعلّها كذلك عند الكثيرين.

# #

#

بسبب من هذا أرى نفسي في سهرات مسيحيين أبسط حقيقة الاسلام وأدعو الى قراءته الحسنة، ذلك أنه أعظم من المسلمين. وكذلك أعرف أن هذا او ذاك من أصدقائي المسلمين ينقّحون في أوساطهم الصورة المشوهة عن العقيدة المسيحيّة ويطمئنون الى أنّها أعظم قدرا وأعمق من تصرّفات المسيحيين. غير ان المشوار طويل جدا ويفترض تنزّها كبيرا وطهارة عليا. وهنا يأتي دور الكلمة الحلال ولست أريد بذلك الحوار العلمي الذي له مكانته ولكني أريد هذا التخاطب ضمن كل ديانة ومذهب لمعرفة الهدى الذي يقدر الله ان ينزله على عباده هنا وثمّة.

الى هذا أعود الى قاعدة بسيطة تمس السياسة اذا شئنا الا تتباعد القلوب وهي ان ترفض اية طائفة علوها السياسي او تمنطقها على أساس العدد او على اساس الخوف. ذلك ان العدد والخوف لا عقلانيّة فيهما. الأصل في عمق العقل وكيفيّته وفعله وومضات القلب عند الأفراد. وأريد بذلك اولية العقل المستنير بالروح والأدب والطراوة. وهذه كلها تجعل في العقل صفاء وقوة بحيث ينفتح على العقول الأخرى طلبا لشفافيّة قادرة ان تطيع العقول الأخرى لنخطو أخويا الى الأمام. وهذا يصح انه لم يكن أحدنا مشدودا الى ايديولوجيّة ترسخ فيه بشكل نهائي.

قد لا أشاطرك الفلسفة التي تكمن وراء ايديولوجيتك ولكن لا بد لنا ان نتقابس الرؤى الساطعة من قلوب إلهيّة ومن تحليل حر ولاسيما الفهم المرتكز على وقائع جلية.

طبعا الألم يجعلك أكثر حدّة ومع ذلك فالتلاقي ممكن بين الناس حتى التناضح. صحيح ان هذا البلد تكال فيه التهم كل يوم. ولكن الاتهام هو الى حد بعيد آتٍ من جهل الواقع ومن جهل الأوجاع التي يكابدها الآخر ومن التاريخ القاسي او الذي نقسيه عندما نقرأه على ضوء الحاضر المؤلم.

# #

#

واذا أشرت الى التفاهم فلست حاصره بين مذاهب الدين الواحد فليست القضيّة ان يتلاقى السنّة والشيعة وحسب ولست مخوّلا لألقي عليهم درسًا وأعرف الفارق الديني بينهم. غير أنّ المواقف لا تأتي فقط من فوارق في العقيدة ولكن من فوارق في التاريخ اي في السياسة. غير أن الحياة الروحيّة من جهة والجانب الإنساني في الجماعتين ومحبة الوطن الجامع من شأنها جميعا أن تنقح ما كان خطأ في المجتمعيّات الطائفية لتوصل كل واحد الى كرامته وازدهاره استهدافا للمساواة. “فذكر انك مذكر. لست عليهم بمسيطر” (الغاشية 21 و22). والمساواة هي للخدمة المتبادلة والرقي الثقافي للجميع.

ولست أريد بذلك ان تبادل الخدمة هو بين هاتين الطائفتين الكريمتين لأننا جميعا نتقابس. فالحياة جعلت المسيحي في نشأته يتعامل والسنّي والشيعي. غير أنّ النمو الوطني المشترك يجعلنا في تقارب مع الجميع. فالمسيحي اللبناني يذوق الاسلام بمقدار وقد يقوده هذا الذوق الى الفهم اي الى التقدير الروحي بحيث حق القول ان الخيّرين منا متلاحمون وقد يكون البسطاء أمتن تلاحمًا من أهل الفكر.

بإكمال هذا التأمّل لا بد من المسيحيين ان يتقاربوا في الحقل الوطني كما تقاربوا كثيرا في الحقل الكنسي منذ عقدين او ثلاثة بحيث لا يطغى العدد او الحس التاريخي المرتهن لالتزام لهم واحد لا بمعنى تكتّل طائفي جامع ولكن بالمعنى الذي أراده السيّد وهو أن نكون خدامًا لا مخدومين على صورة ابن الانسان. المسيحية فيها هذه القدرة الرهيبة ان تحرر الانسان من مخافة التاريخ ووطأته اذا اقتنع المسيحيون ان رسالتهم الّا يهجروا لبنان. انت لا يمكنك ان تصطنع تاريخا جديدًا بأعجوبة.

انا لست أدعو الى ظهور قيادات مسيحية تستقطب الكل. أنا أنتمي الى كنيسة لم تعرف في لبنان مرة قيادة سياسيّة لها موحدة لأننا تربينا في هذه الكنيسة على الحريّة تأسيسًا على لاهوتنا. وأدبياتنا كثيرا ما جاء فيها اننا لسنا بطائفة بالمعنى الدستوري اللبناني. مهما يكن من أمر نذوق بقيّة المسيحيين بسبب وحدتنا في المسيح السيّد.

ونحن نعلم ان تقلّصنا العددي مهما بلغ لا يعني شيئا من حيث تأثير “البقيّة الباقية” على مستوى الروح والعقل والولاء اللبناني الكامل. وفي هذا لن ننشئ تراصا مسيحيا بالمعنى السياسي. اذا فهم المسيحيون قول المعلّم: “الكلام الذي أكلّمكم به روح وحياة” لايقيمون وزنا لشيء آخر. يصنعون، اذ ذاك، مع الآخرين لبنانًا جديدا.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

التسوّل السياسي / الأحد 20 آب 2006 / العدد 34

سياسة كل شعب لنفسه تقوم على العدالة للناس جميعا بلا تفريق بين طوائفه وألوانه إن وُجدت. والعدالة نتيجتها السلام بين الناس وحسن العيش والتعاون والتكافل وردم الهوة بين الفقير والغني ما أمكن التنظيم الاجتماعي ذلك. لذلك جاء في المزامير:” العدل والسلام تلاقيا”.

هذه السياسة عمل الجميع في مجتمع راقٍ يتشارك كل المواطنين في قيادته ويسدون للدولة النصيحة ويضغطون عليها لتسير في الاستقامة وخدمة المواطن. ذلك أن كلًّا منا راعٍ لإخوته وان الدولة بما فيها من ناس معرّضة للتقصير او الجهل او الانحياز. وهذا ما اصطلح الفلاسفة على تسميته ديمقراطية. هذا هو حكم الشعب للشعب ولكن على هدى الله وكلامه حتى يطمئن المواطن للمواطن ويحيا بأعظم قدر ممكن من الراحة على هذه الأرض فيما هو يجاهد روحيا.

الأمر أكثر تعقيدًا في علاقات الدول بسبب مطامع الدول الكبرى بالصغرى أو القوية بالمستضعفة فيأتي استغـلال هـذه الـدولة لتلك في التعامل التجـاري أو تحل الحرب التي غايتها الاستغلال والتوسع وابتلاع الكبير للصغير كما تعمل الحيتان بالسمك الصغير.

لذلك يقاوم الصغير الكبير بالوسائل المتاحة له ليدفع عن نفسه جشع الكبار وطغيانهم. وربما بقي هذا الوضع إلى الأبد لأن الأمم بحكامها أي بخطاياهم ولأن المنافع الاقتصادية تلعب في الحروب دورا كبيرا. ولا فرق عند المهاجم ان يُميت ما تيسّر له من الناس ويدمّر ويحرق ليسيطر. وقد يكون له تعاطف مع دول أخرى تسانده ويتبادل وإياها النفوذ والمصالح الاقتصادية.

إزاء هذه القاعدة التاريخية تشكّلت هيئة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الأولى ووضعت شرعة مقدمتها أخلاقية وقالت إن الاستيلاء على البلدان الأخرى ممنوع وانه لا يُكافأ المغتصب وتُرد الأراضي المغتصَبة لأصحابها. وكانت هذه الشرعة مستَلهَمة ببعض جوانبها من الإنجيل حتى تسود عدالة الله علاقات الدول فتصبح بدورها عادلة.

مع ذلك لم يتقيّد كثير من الدول بهذه الدعوة وحصلت حروب إقليمية لا تحصى بين الدول الصغيرة في أفريقيا وآسيا وهذا الشرق الأدنى ومنه لبنان الذي يُدمَر الآن ويُحـرق ويُقتل بنـوه والغايـة تدميـره وتشـريده وأذاه.

هذه النشرة ليست لبحث في السياسة التي يجب أن ينتهجها بلدنا ليعيش في سلام. هذا يفترض أن نكون أقوياء على طريقة هذا العالم وبوسائل العالم وهذا يفترض صداقات لنا مخلصة لا نطلب منها التحيّز وندعوها إلى العدل ومنع الموت من أن يحل بنا. وهذا ليس فيه تسوّل ولكن هذا هو حق الإنسان على الإنسان وحق لبنان على كل الشعوب القديرة بسبب مشاركة الشعوب بعضها بعضا لأن الإنسان أخو الإنسان ولأن الدول القادرة لم توجد لنفسها ولكنها وُجدت لموآزرة الدول الأخرى ما استطاعت.

حق الإنسان على الإنسان الآخر أن يؤمّن له السلام لأن السلام إطار الحياة الكريمة فلا يبقى فريسة الخوف وفريسـة الجوع والقهـر. والمسيح “رئيس السلام” كما يقول اشعياء وكما نرتل في الصوم الكبير. اجل هناك السـلام الداخـلي الذي هو الحريـة من الخطيئة وهذا هو الأعظم. ولكن هناك أيضًا سلام الشعوب بالمعنى السياسي الذي هو وضعنا الطبيعي على هذه الأرض قبل أن نرث الملكوت.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

لقطات ورؤى / السبت 19 آب 2006

الإثنين الماضي عرّجت على كاهن عاليه في طريقي إلى بحمدون لأداء صلاة الغروب لعيد السيدة وعند دخولي دارة الكنيسة رأيت ابنة الكاهن برفقة طفلة محجّبة لا يزيد عمرها عن العاشرة. صافحت ابنة الكاهن ولما نظرت إلى الابنة الجنوبيّة وضعت يدي على صدري وفعلت هي كذلك. ولما خرجت من بيت الكاهن لأكمل طريقي إلى بحمدون رأيت كل طفلة من هاتين راكبة دراجة. فهمت توّا أن هاتين صورة عن شعبنا الواحد وأننا نمشي معًا على طرق الوجود وقد يكون لنا منعطفات فكرية مختلفة يمليها علينا بالضرورة التزام ديني. في اللحظة التي فيها اكتب يبدو سلوك كل منا مرتبطًا بقراءته لإسرائيل أي بمعرفة قراءتها لنا أو عدم هذه المعرفة. أنت مع الصد للعدوان أو لست مع الصدّ. أنت مع الصد بأيّة وسيلة لأن مبتغاه أن يلغيك وأنت مع المهادنة لاعتقادك انك إذا تهاونت مع إسرائيل يرتب لك السيد جورج بوش مكانة في الشرق الأوسط الجديد فتتوهّم إسرائيل إن تهاون لبنان إلى الأبد لأن بعضه تاجر مثلها أو متغربن مثلها وأنت في هذا أبله كليّا لأنك لا تشاء أن تفهم انك إلى الأبد غوي (اي من الأمم) في اللاهوت اليهودي الذي من أنصاره مَن يؤمن ومن أنصاره من لا يؤمن. وأنت أبله لأنك لا تعلم أن اللاهوت إذا سقط يصبح سياسة والسياسة تصبح حربا.

وأنت عندما تتكلّم جديّا عن نزع سلاح حزب الله يتعمّق غباؤك أولا لأن الدولة عاجزة عن تسلّمه أو عن استعماله وان الدولة كانت تعرف أنها لن تتصدّى يوما لانعدام الطيران عندها وللتفاوت الرهيب بين جيشها وجيش العدو ولمعرفتها بأن العديدين يرضون بدولة غير محصّنة ويتشرّفون لفظيّا بالاستقلال والسيادة لعلمهم بعجزنا. أنت إما تبتغي دولة انت قادر على حمايتها واذا كنت عاجزا عن ذلك فتتوقّع أن تندرج بمشروع الشرق الأوسط الجديد يصير فيه بلدك منتجعًا للعرب ومعهم أصدقاء وصديقات من يهود وفلسطينيين. وهذا شرق أوسط جديد تبشّر به المسيحية المتصهينة التي يدين بها الفريق الذي حوّل جورج بوش وهي معتقد يعني حقيقة الامبريالية الأميركية القديمة الجديدة التي أداتها إسرائيل، وهذه صيغة تعني عيش كيانات متلاقية بالتجارة الدولية وطرق مواصلات ومعلوماتية متطوّرة في إطار العولمة التي وان بيّنت دراسات غسان سلامة على أنها مشروع أميركي تكون مقاولته في هذه المنطقة إسرائيل. الخيار هو ليس بين حزب الله واختفاء قوته القتالية. القضيّة في الأخير هي كيف تفهم نشيد مريم من إنجيل لوقا “حط (أي الله) المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين”. هل أنت نصير الأقوياء أو نصير المستضعفين.

***

مشكلتنا ليست كما طرحها بعض في حرب 1975 أي لبنان نريد. نريد وطنًا نهائيًا موحدًا لا وصي عليه – وحجتي على بعض أنهم لم يقولوها- ولو ارتبط بدول كثيرة بلا إتباع ولا تذييل. كيف يعاش هذا، ما ترجمته العسكرية؟ لا نستطيع أن نتكل كليا على الأمم المتحدة التي يزيد ضعفها وتقل فاعليتها ولا يؤمن المفكرون السياسيّون الأميركيون بفائدتها إذ يؤمنون بأن العالم إمبراطوريتهم ولا حاجة إلى إمبراطورية جديدة هي للدول مجتمعة ومتآزرة. ثقوا بأني لا أكره أميركا ولكني أؤمن بالتواضع في السياسة نفسها وأؤمن بقوة الفقراء على تجاوز عقدهم وخوفهم ليصبحوا أعزة في الأرض.

بكلام أبسط، أوجدوا لنا صيغة للبنان قوي أو ضعيف يصونه الغير أي يحبه الغير فأفهم أن تجرّدوا البلد من كل سلاح شرعيًا كان أو غير شرعي إذ أقرأ دائمًا أن الجيش اللبناني هو للاستعمال الداخلي وقد سمعنا من أعلى مقام في الدولة انه لا يصح تموضعه على الحدود لئلا يحمي العدو. أنا لست خبيرًا عسكريًا لأناقش هذا الموقف ولكنه اعتراف واضح بأننا لا نقدر أن نقف عند الحروب وأننا قوة لنحمي الأمن الداخلي. ولكن القول أن جيشنا لا ينفع على الحدود يعني أن إسرائيل تنفع على الحدود أي أننا ارض مستباحة من منطلق البحث في الجيوش وان لنا ثقة بإسرائيل مغرومة بنا حتى لا تشتهي مهاجمتنا.

ودليل غرامها بنا انها دمرت 15000 منزلا وقتلت ألف إنسان ثلثهم أطفال وان حربها غايتها ما صرح به رئيس حكومتها أولمرت انها تريد إرجاعنا عشرين سنة إلى الوراء. هدفه في إرجاعنا إلى الوراء إذا كان يريد التطبيع والتعاون. هذا لا استطيع فهمه إلا أن الغاية منه سوى الحقد الواضح انه يريد إخضاعنا لبلده واستدراجنا إلى مشروع للشرق الأوسط الجديد نكون فيه غير فاعلين.

يتحدثون عن انقسام في لبنان بعد هذه الحرب. هذا قائم اليوم ليس بين طائفة وطائفة ولكنه بين أهل الإذعان وأهل الرفض. أهل الرفض لا يدّعون أنهم منقذو لبنان ولكنهم يساهمون في ذلك بصورة فعالة. أهل الإذعان يذهبون إلى أن الحل هو في يد الدولة وأنا قرأت هذا في كتب الحقوق لما كنت أتعاطاها. السؤال الحقيقي هو هل في يد دولتنا قدرة أو وسائل أو هل تقبل منها الولايات المتحدة لجم إسرائيل وكل الأدلة التي بين أيدينا تدل على أن هذه الحرب لم تقررها إسرائيل بلا بركة أميركا لحسابات لها خاصة قد تتجاوز بلدنا حتى تحقق مشاريع الشرق الأوسط يطيع الناس جميعا الامبريالية المتجددة.

***

أما بعد فتحرك قلبي صباح الثلاثاء لما رأيت صورة أرتال السيارات تعود. يريدون جنوبهم بانتظار إعادة تعميره. ندائي اليوم إلى شباب لبنان إذا شرع أهلنا بالبناء أن ينزلوا إليهم ويقوموا معهم بالعونة التي كنا نمارسها في الجبل فينظمون مخيمات عمل وينقلون الحجارة أو مواد البناء ويعمل كل منهم حسب طاقاته ولا نبقى هكذا قابعين في موضوع السلاح. إذا لطف أهل الجنوب وقبلونا بحب نسكن الخيام ونعمل بأيدينا فيحس أهلنا هناك وفي الضاحية أننا واحد معهم واحد وان هذا البلد اخذ يكتشف انه واحد في الحب فيسير من الحب إلى القدرة.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

رسالة اليوم (1كورنثوس 3: 9-17)/ الأحد 13 آب 2006/ العدد 33

عقيدة الخلاص في كنيستنا إننا، حسبما قال بولس في هذه الرسالة، إننا عاملون مع الله أي أن الخلاص هو تلاقي قوة الله وقوة الإنسان الذي يطيع الله “لأنكم بدوني (أي بدون المسيح) لا تستطيعون أن تعملوا شيئا”.

ثم استعمل بولس صورتين عن عمل الله: الأولى أنكم حرث الله أي انه هو الزارع النعمة فيكم، والثاني أنكم بناء الله. وهذا ما قاله بولس في موضع آخر: أنتم هيكل الله، ولكنه قال ايضا في هذا السياق “المسيح نفسه حجر الزاوية”، والصورة تعني، حسب فن العمارة في بلادنا، انه حجر الفلق بحيث يقام اولا في بناء العقد قفص خشب يوضع في رأسه حجر ترصف من حواليه كل حجارة البناء بلا اسمنت وتتساند الحجارة فيما بينها لأن حجر الزاوية او الفلق هو ساندها.

ولا يقع حجر واحد بسبب التماسك فيما بينها الذي تستمده من الحجر الفوقي.

هكـذا نحـن المؤمنين متماســكـون بالمحبـة ولكن بقوة هذا الذي أحبنا وجمعنا بعضنا الى بعض. ثم يؤكد بولس ايضاحا ان احدا لا يستطيع ان يضع اساسا غير الموضوع وهو يسوع المسيح. وهذا يعني طاعة لإنجيله.

واخيرا يقول الرسول ان احدا يبني اما ذهبا او فضة الى آخر قوله. ولكن قيمة هذا الذي بنيناه سيظهره الله في اليوم الأخير” لأنه يعلن بالنار” والنار هي النار الممحِصة للمعادن. وهذا يفهمه من تعاطى الصياغة اذ يضع الصائغ قطعة تحتوي معادن كثيرة وفي النار تفرز المعادن ويصير الذهب وحده سبيكة فينفصل المعدن الثمين عن المعادن الأخرى.

“ومن احترق عمله فسيخسر وسيخلص هو كمن يمر في النار” اي يخلص بصعوبة. سيخلص بسبب من رحمة الله ولا يخلص احد الا بها.

ويبقى بولس على صورة البناء التي استعارها ليتكلم عنا ليقول:” اما تعلمون انكم هيكل الله وان روح الله ساكن فيكم”. والمعنى ان الروح القدس هو الذي يجعلكم هيكل الله وهي الكنيسة المتكونة دائما بالروح القدس.

وأخيرا يقول: “من يفسد هيكل الله يفسده الله لأن هيكل الله مقدس وهو أنتم”.

هنا يستعمل بولس صورة الهيكل ليقول شيئين: كل منكم هو هيكل الله وهذا تفسدونه بالخطيئة. وكل خطيئة من اي نوع كانت تشوّه الانسان وتلطخه ولايستطيع ان يعود هيكلا لله الا بالتوبة التي تحرره من شهواته كلها ليستعيد الجمال الأول الذي خلق عليه فيراه الله جميلا كما خلقه وكما افتداه المسيح بدمه. هذا هو الشيء الاول.

ثم يقول: “ان هيكل الله مقدس وهو انتم”. ربما أراد هنا انكم هيكل الله مجتمعين اي بكونكم كنيسة وكأنه يقول ان من أخطأ انما يشوّه الكنيسة فكلما أخطأ المسيحيون لا تظهر الكنيسة عروسا للمسيح. ويبتعد الغرباء عن الكنيسة لأن المسيحيين لم يبقوا على المسـتـوى المطلـوب منهم. وكـذلك قـد يبتعـد المسيحيـون انفسهم عن الكنيسـة اذ لا يـرون فيـها ناسـا صالحـين كثيرين ولا يحسون انها مكان الخلاص. الخطيئة تؤذي الجماعة. فمن ارتكب معصية تحسب على الجماعة كلها ويشك الناس في ان الكنيسة تهذّب أولادها. الخطيئة ليست ضد الفرد وحدها ولكنها ضد الجماعة وضد الله بالدرجة الأولى.

عبرة هذه الرسالة ان مرتكزنا هو المسيح واننا مدعوون ان نبني انفسنا والآخرين عليه حتى لا يعثر أحد وتظهر الكنيسة جميلة جدًا.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

المقاومة ولبنان الآتي / السبت 12 آب 2006

أخيرًا اتخذت الحكومة قرار إرسال الجيش الى الحدود عند انسحاب جيش العدو، فيما أكتب هذه الأسطر لم يصدر بعد قرار مجلس الأمن يأمر جيش العدو بالجلاء على وضوح شرعة الأمم المتحدة بإنهاء كل احتلال.

هذا والمقاومة باقية اذا لم تتسلم القوة الدولية مزارع شبعا. وحديثي اليوم عن المقاومة الاسلامية وفلسفة استقلالها عن الجيش. وما يدعم رؤيتي هذه البطولات التي أظهرتها المقاومة وتقنيتها العظيمة وحجم ترسانتها وتحرك أظهر لنا ان استخبارات العدو لم تكن بشيء كما افتضحت اسطورة تفوقه العظيم.

سؤال أول يطرح نفسه لماذا لا تنضم المقاومة الى الجيش. جوابي البديهي انها في ذلك تكون قد وضعت حدًا لحرب العصابات وان الجيش لن يقوى بها لو انضمّت اليه لأن لبنان سيخسر الفائدة العظيمة من وجود حرب عصابات. أي نكون قد خسرنا قوة عظيمة باسلوبها وروح نضالها وما كسب الجيش قوة إضافيّة. لقد ثبت ان لبنان لا يستطيع صد عدو دائم لنا اذا تخلينا عن حرب الأنصار. وكونه عدوًا دائمًا من رموزه ان اسرائيل هي الدولة الوحيدة في العالم التي لا يعيّن لها دستورها حدودًا نحن متروكون اذًا لحسن أخلاقها وهذا يحتاج الى إثبات.

السؤال الثاني لماذا مقاومة إسلامية. هذا متعلّق بالأيديولوجية التي تُلهم المقاومين. هؤلاء مجاهدون في سبيل الله كما هم يعتقدون. والجمهور الذي يحيط بهم أو هم محوره يعتقد ذلك أيضًا ما عدا فئة من مذهبهم. ثم من يمنع اللبنانيين غير الشيعيين ان يقاتلوا في سبيل الوطن وليس في سبيل الله؟ ان لم نقبل القوة الدولية ان تبقى الى الأبد فمسألة الدفاع عن الوطن مفتوحة، ذلك ما لم نجد نحن والعرب والدول صيغة عسكرية للدفاع عن لبنان. ان العرب لا يريدون ان يخرجوا جيوشهم معنا ولا سيما ان بعضا منهم حليف الاميركيين وان بعضًا له تبادل ديبلوماسي مع اسرائيل. العرب لن ينوجدوا على ساحتنا عند الاعتداء وتقتصر جهودهم على دعمنا الديبلوماسي وهذا في أفضل حال.

قبل توقيع سوريا ثم توقيعنا معاهدة سلم مع اسرائيل فهي مهددتنا ولن تهدد سوريا فإن سوريا لم تهددها ولا أحد في العالم يهدد سوريا. فإذا قبلتم بقيام حرب عصابات عند اقتحام اسرائيل بلدنا يحق لهذه المقاومة ان تقوى كما تعرف. لذلك أقول إن نزع السلاح عن حزب الله لا معنى له ما لم نضمن سلامنا. لا يكفي ان نقول إن تحرير مزارع شبعا ينزع عن الحزب ذريعة التمسك بسلاحه.

السياسيون اللبنانيون أو بعضهم يقولون هذه ميليشيا والسلاح سلاح الدولة. هذا يصح نظريًا ولكنه تأكيد حقوقي لا يأخذ الواقع في الاعتبار. أعطونا مع اسرائيل سلامًا مضمونًا دوليًا نطمئن اليه وهو ان الدول ستأتينا بسرعة البرق لترد عنا احتمال هجوم في أي ظرف. وهذا لا يؤكده أحد نصًا حتى الآن.

مع ذلك ما الحقيقة المبدئية في علاقة الجيش بالمقاومة؟ في المبدأ ان كل المقاومات التي ظهرت في أوروبا كانت متصلة بالجيش مع استقلالها العملاني. بكلام آخر ان المقاومة ليس لها قرار سياسي بمبادرة في القتال. عندئذ يثبت ان لا علاقة لها بسياسة اقليمية. هناك تناقض في رؤية كل الشعوب المتحضرة ان يكون الفريق الواحد صاحب قرار سياسي وقرار عسكري. فالحكام هم أهل السلم والحرب. لذلك كان كليمنصو يقول: الحرب هي بهذا المقدار هامة انك لا تستطيع تسليمها الى العسكر (وأراد ذلك ان العسكر لا قرار لهم في بدئها ولا نهايتها). ولكن كل هذا بحث مرجأ الى طاولة الحوار.

#  #

#

الواضح عندنا وفي الحزب انه لا يسعى الى تحرير القدس فإن سوريا وإيران ليستا مستعدتين لذلك ولأن تحرير القدس يتطلّب جيوشا وليس حزب الله جيشًا ولا يحلم عرب اليوم ان كانوا متأمركين ومؤسرلين بتحرير القدس. الى هذا ليس عند الولايات المتحدة رغبة في اقتحام ايران لأنها اذا قصّر حلفاؤها الإفغان في بلادهم عن الاستيلاء على كل البلد واذا لم تتمكن أميركا من نشر سلمها في العراق ولن تتمكن فإيران الأقوى من أفغانستان والعراق بعدد سكانها وعديد جيشها وتكوين جغرافيتها ستكون مقبرة للأميركيين. ومشكلة السلاح النووي ستطول وليس لحزب الله دور في حل مشكلة ايران مع الاميركيين.

أنا عندي مشكلة مع ايديولوجية حزب الله وليس لي في التوضيح الذي أتيت به مشكلة مع المقاومة . وهذا يعني –ما بقي الحزب وسيبقى طويلاً- اننا بعد الحرب وحلول السلام الحقيقي في البلد سيواجه اللبنانيون هذه الأيديولوجية كما يواجهون كل الايديولوجيات.

ما لا بد من قبوله اليوم هو ان أحدًا في العالم لا يقنعني ان خطف جنديين اسرائيليين كان سبب حرب معدة من زمان. الواقع الذي لا يناقش ان اسرائيل هي التي دمرت بلدنا وقتلت ضحايانا وجرحت مَنْ جرحت. نحن مع المقاومة لنضمّد جميعا جروحًا هي في الواقع جروح عدد من اللبنانيين كبير وهم من كل الأطياف والفئات. لذلك ليس من معنى استراتيجي للقائلين ان حزب الله زجنا في الحرب.

لا أحد ينكر اذًا انه لا يسوغ ان تكون دولة في دولة والمبدأ يصح تطبيقه إن صارت دولتنا دولة محصنة. ولكن ان تلغي المقاومة نفسها الآن على رجاء قيام دولة قوية يعني ان تلغي قوة فاعلة برهنت عن تفوّق عسكري كبير في انتظار نشوء دولة ليس فيها كل مقوّمات الحماية. انت لا تقارن واقعًا بحلم. ازاء عدو لا تثق به والمتكرّر عداؤه تحتاج الى اختراع حماية للبنان دائمة.

هناك طبعًا مشكلة السلم مع اسرائيل. هذه تخص العرب جميعًا لأننا لا نريد ان نبيع الفلسطينيين لليهود وليس لنا وجود أمام الله والتاريخ ان لم نحافظ على كرامة الفلسطينيين. لعل أهم ما انجزه حزب الله انه أول فريق عربي صمد أمام اسرائيل وان قادتها اكدوا انهم لا يستطيعون القضاء عليه كليًا. مَنْ كان عنده اداة تخويف مثل هذه أيرميها جانبًا لحلمه ان جيشنا سيتصدّى؟ وهل يكون مطمئنًا لحسن النيات عند اسرائيل تجاه لبنان؟ لو كانت لها هذه النيات لماذا فعلت ما فعلت؟

معنى ذلك ان ما يوحّد الشعب اللبناني شيئان: أولهما الغضب على اسرائيل «ليطمئنّ قلبي» وتزول اسباب الغضب برعاية دولية للبنان متحركة ورادعة لعدونا التاريخي وثانيهما ان نؤمن ان اسرائيل ليست عدوة للشيعة وحدهم ولا ضاربة للجنوب وحده. انها لغباوة ان نظن ان عداء اسرائيل لنا ناتج من تحرش الشيعة باسرائيل. هذا اذا تحرشوا.

وهل هي خطيئة ان تكون لقوم بيننا حماسة لا تتوافر عند الآخرين بالقدر نفسه؟ هذه حماسة الفقراء الذين يؤثرون الموت على حياة منقوصة الكرامة. الشيعة ظلمهم التاريخ وهم قلة في دار الاسلام وما حكموا حتى لا استفظع مصائب أخرى حلت بهم بقوة الفاتحين من ديانتهم وغير ديانتهم.

ماذا لك على فاجعيتهم أو كربلائيتهم؟ هذا تراثهم وهذا شعورهم. هل تظن ان أحدًا في هذه البلاد ليس له كربلائيته؟ ولكنا نصمت من أجل الوحدة الانسانية والوحدة اللبنانية لنتعايش في فلسفة حكم مدني كما سماه المغفور له الإمام محمد مهدي شمس الدين. وهذا كان موقف السيد موسى الصدر بهذا التعبير او بآخر ولعل تعلّق الشيعة بالعدالة يقرّبهم من الإلحاح على عدالة يقرّ بها كل لبناني للبناني الآخر.

لن أناقش الحركة الإحيائية في الإسلام كما يسميها الدكتور رضوان السيد. أرجو ان تكون الاحيائية سحابة صيف تزول أمام غرب يكون أشد إصغاء. الى انين المستضعفين. كنت أعرف شيئًا عن غطرسة الغرب ولكن بعدما طالعت كتاب غسان سلامة: «عندما تعيد أميركا صنع العالم» بالفرنسية وفهمت رفض اميركا للقانون الدولي واستعمالها «الصيف والشتاء على سقف واحد» والتعدي على حريات الشعوب ودعم الديكتاتوريات في العالم أدركت ان مشوارنا مع يهود فلسطين طويل. عندما فهمت ذلك اقتنعت بأن لبنان عليه ان يفتش عن اسباب لديمومته أقوى من التي يستعملها الآن.

واذا صح استدلالي في هذه الأسطر، لم يبق من سبب لخلافات طائفيّة. ليس صحيحًا ان احدًا منا لا يحب لبنان وان صح ان كل من تعاطى السياسة له صداقات هنا وهناك. هذا من طبيعة التكوين التاريخي لبلد أجمعنا على انه نهائي. ليس المجال هنا للتحدث عن تنظيم داخلي آخر للبلد فقد قلنا جميعًا باللامركزية. ولكن اسمحوا لي انا الارثوذكسي ألا أعيش حصرًا مع مسيحيين آخرين في منطقة واحدة. المسيح لا يريد وطنًا مسيحيًا وقد قالها. أنا من الساحل السني وألفت الإخوة الموحّدين في الجبل، أحببت طلابي الشيعة في الجامعة اللبنانية بعدما ذقت ذكاءهم. يريد أحد كبار المحللين السياسيين ان يسمّينا شعوبا ولكنا تلاقينا في هذا البلد الطيب، الحالم، الوديع ونصرّ على ان نبقى معًا ولكن في وعي كامل لأعدائنا وخصومنا والأصدقاء حتى لا يقع الظلم على لبنان كما يقول حبقوق النبي والله موفّقنا الى ما فيه رضاه.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

التجلّي والآلام/ الأحد 6 آب 2006 / العدد 32

روايات التجلّي في متى ومرقس ولوقا متشابهة جدا. تجلّى يسوع أمام التلاميذ الثلاثة الذين اصطحبهم الى الجبل. أضاء وجه السيّد كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور. المهم في هذا الحدث أن الإنجيليين لا يتكلّمون عن نور سقط عليه من الشمس فتأثيرها واحد على كل الناس. عقيدتنا الأرثوذكسيّة تقول إن هذا النور خرج من داخل يسوع، من كيانه على جسده وثيابه. اي إنه النور الإلهي غير المخلوق الذي ينزل على القديسين في هذه الأرض ويشعّ عليهم من الله اذا غلبوا أهواءهم وصاروا الى الصفاء الكامل او الى الهدوء لأن مصادر الشهوة التي في الإنسان إن انقطعت عنه يدخل في سكينة الله ويصير من الهدوئيين.

الشيء الثاني الذي أراد الإنجيل تبيانه ان موسى وإيليا تراءيا له على الجبل. هذان النبيّان اقتربا من الله كثيرا ولكنهما لم يشاهداه وفق قول الكتاب: “الله لم يرَه أحد قط. الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خبّر” (يوحنا 1: 18). الآن على جبل التجلّي رأى النبيّان وجه الله على وجه يسوع. شاهدا الإله متجسّدا.

دخل موسى وايليا سحابة المجد التي كانت تحيط بالمعلّم. مرقس ولوقا ينفردان بالقول ان النبيين دخلا سحابة المجد التي كانت تظلّل المسيح. غير أن لوقا ينفرد عن الجميع بقوله ان موسى وايليا “تكلما عن خروجه الذي كان عتيدا ان يكمله في اورشليم”. وكلمة خروج هنا تعني الآلام. تكلّم موسى وايليا ليس عن المجد الذي كانا فيه مع السيّد المبارك ولكن عن الآلام التي هي مجده الحقيقي. هذا يقوله انجيل يوحنا مرارا حيث ساعة المجد تعني ساعة الصلب.

نجيء من هذا لنقول في الظرف العصيب الذي يعيشه بلدنا انه ينبغي ان نفهم آلام المواطنين جميعا ولا سيما الفقراء والمهجّرين يستطيعون ان يحولوها اذا كانوا مؤمنين الى تجلّيات بالروح. اذ الحزن عند المؤمن يتحوّل فرحا لأنه بالمسيح يغلب الانسان أحزانه ويتحرّر من وطأة فقره.

ومَن تهجّر من بلدته او قريته انما يهاجر الى الله لأن الله سكنانا بعد ان حلّ الابن في بشريّتنا وصار هو فقيرا. ففي بدء مسيرته على الأرض تهجّر يسوع مع مريم ويوسف عندما قرر هيرودس قتل الأطفال في بيت لحم وضواحيها. وفي حالات الضيق التي عاناها، او لمّا كان يعتزل تلاميذه، كان – في انسانيته المباركة – يصلّي الى الآب. هجرة عن الناس الى وجه الآب.

وكان يسوع غريبا في قومه. ألسنا نرتل يوم الجمعة العظيم: “أعطني هذا الغريب”. المهم دائما في حالة العزلة والقمع والاضطهاد والحرب التي لا يعرف احد متى تنتهي ان نطلب نزول النور الإلهي علينا وانسكاب النعمة في قلوبنا حتى ننظر الى وجه الله فلا نسكن الى وجه آخر وقد لا يكون قد بقي لنا مسكن على الأرض او نكون فقدنا عزيزا.

فاذا عيّدنا اليوم للتجلّي فلنتذكّر الفقراء والذين غيّبهم القهر عن منازلهم او دمرت منازلهم ليحسّوا بفقرهم الى الله وهم اليوم في كل مكان من لبنان في موآساة المحبين افـرادا كانوا ام مـؤسسات. الى اية فئة او دين انتموا هم يبيتون في المسيح الذي يحمل أوجاعهم حتى يقصّر الرب الزمان الرديء ونحيا في الرضا.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

قانا / السبت 5 آب 2006

قبل بضعٍ من سنين زرت قانا والدليل الذي كان معي رافقني إلى قبور الشهداء الذين قتلتهم إسرائيل في الحادثة المعروفة. قبور مرصوفة الواحد إلى الآخر لتشهد على الظلم وعلى صمت الشعوب. هذه المرة رأيت صور الأطفال يحملهم مسعفو الصليب الأحمر. رأيتهم مقتولين في طراوتهم وما قيل أين دفنوا وهل تسلّمهم ذووهم الذين قُتل بعض منهم ما في ذلك ريب. لأن إسرائيل الجافة لها عداوة مع الطراوة ومع أن تنمو الحياة عند من تسميهم الأمم.

الذين يذكرون المسيح عند امتحانهم يعودون إليه في هذا الطور أو ذاك من مسيرته على الأرض. لا بد ان يعرف قارئي ان الكتاب يقول الشيء القليل عن طفولة يسوع التي أحب أن أقرأها في لوقا القائل عن السيد في طفولته: “وكان الصبي ينمو ويتقوّى بالروح ممتلئا حكمة وكانت نعمة الله عليه” (40:2).

أطفال قانا منعتهم إسرائيل “أن ينموا وان يتقووا بالروح لأنهم من الأمم (غوييم بالعبرية) وسيان ان يحيوا وان يموتوا لأنهم ليسوا من أبناء الموعد. كفى أن ينمو أبناء اليهود وان يتقووا بدنا وعقلا ويتعلموا في الجامعة العبرية في أورشليم ـ القدس أو غيرها ويتروّضوا على السلاح يذبحون به من يعرقل فتوحاتهم.

أنت تحب البراعم لشوقك إلى الورود وتخشى عليها الاستئصال لحبك اكتمالها. كل منا يبكي على البراعم إذا قُصفت. إسرائيل لا تبكي إلا على إسرائيل حتى تبقى شاهدة لإلهها الذي في بدء تاريخها كان إله قبيلة، وكان يقهر الآلهة الأخرى. خسارة لأي إله أن يموت أطفال لبنان. وهؤلاء ليس لهم تقنيات يرتقون بها ولن يكون لهم طائرات في بلدهم الصغير.هؤلاء كل وجودهم التصاق بأرض فقيرة. ألم يقل شاعر عبري في العراق قديما: “يا ابنة بابل الصائرة الى الدمار / طوبى لمن يجازيك على ما جازيتنا به / طوبى لمن يمسك أطفالك / ويضرب بهم الصخرة” (مزمور 137: 8 و9).

بعد هذه الحرب اللعينة من يعلّم اليهود أن يحبوا أطفال الأمم كما يحبون أطفالهم؟ من يكرر لهم قول الناصري: “دعوا الأولاد يأتون إليّ ولا تمنعوهم لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات”؟

***

مشكلتنا الكبرى مع الذين اعتدوا علينا ليست فقط سلام لبنان لسنا نعرف متى يحل أو إذا يحلّ. مشكلتهم مع أنفسهم هي القضية. والقضية هي هل يُلهمهم الله يوما على رغم تراث حقد لهم أن يؤمنوا بالطفولة وان يعاملوا البشر جميعا بطراوة؟ أنا لا أنكر على احد منهم محبته لأولاده. هذا شيء من الحشا. ولست أنكر على اليهودي خارج إسرائيل أو غير مؤسرل فكريّا أن يحب أولاد الناس. ولكن ماذا إذا غرست هذه الدولة العسكرية قناعة ان الطفل العربي سوف ينمو وانه يحمل طاقة جندي فتخشاه وتتعامل وإياه على أساس هذه الخشية على طريقة الحرب الاستباقية التي تبناها جورج بوش الابن؟ في هذا المنطق القائم عند بعض من المحافظين الجدد في أميركا القتل الاستباقي للأطفال معقول كثيرًا. وإذا كانت الحرب الاستباقية تحتاج إلى الكذب كما حصل في العراق ففي إبادة الأولاد الغرباء هي تحتاج إلى حقد.

نحن نحب الأفراد اليهود وفق تراثنا وان اختلفنا في تقدير لاهوتهم. إلى هذا ليس للإسلام قضية مع اليهودية ولو كانت له مشكلة مع اليهود في حياة الرسول. ولكن بعامة لم يحظَ اليهود بحرية كتلك التي حظوا بها في دار الإسلام ونحن المسنين نذكر الحرية البالغة التي كانوا يتمتعون بها في مصر والمغرب. ولكن بيننا وبينهم اليوم قانا وهذه مشكلة لا تحل بسهولة إن لم يتوبوا عنها صراحة أي إن لم يعترفوا إن أولادهم وأولادنا سواسية. وكان خيرا لهم ان يخسروا معارك من أن يقتلوا طفلا واحدا في الجنوب. قال هنري برغسون ما مفاده: انه إن قيل لي نقتل طفلا لتنجو الأرض أقول فلتخرب الأرض وينجو الطفل.

لا يمكن لأمة أن تتعسكر كلها كهذه التي تدمرنا الآن ويبقى فيها رقة. لها أن تبني مصانع وتنتج أسلحة ويبقى قلبها ملطخا تداعبه الشياطين. في التراث العبري ليس الأولاد الغرباء وحدهم مقصيين عن المعاملة الحسنة ولكن البالغين أيضًا ليس عليهم رحمة. فقد جاء في سفر تثنية الاشتراع:” وإذا تقدمت إلى مدينة لتقاتلها، فادعها أولاً إلى السلم، فإذا أجابتك بالسلم وفتحت لك أبوابها، فكل الذي فيها يكون لك تحت السخرة ويخدمك. وان لم تسالمك، بل حاربتك فحاصرتها، وأسلمها الرب إلى يدك، فاضرب كل ذكر بحد السيف. وأمَّا النساء والأطفال والبهائم وجميع ما في المدينة من غنيمة، فاغتنمها لنفسك… هكذا تصنع بجميع المدن البعيدة منك جدا والتي ليست من مدن تلك الأمم هنا. وأمَّا مدن تلك الشعوب التي يعطيك الرب إلهك إيَّاها ميراثا، فلا تستبق منها نسمة بل حرمهم تحريما”(20: 10-17).

كذلك في سفر يشوع بن نون: “استولوا على المدينة. وحرموا كل ما في المدينة من الرجل وحتى المرأة، ومن الشاب حتى الشيخ، حتى البقر والغنم والحمير، فقتلوهم بحد السيف” (6: 20 و21).

من كان شعب هذه فلسفته ونفذتها في فلسطين عصابة الإيرغون وشترن عصر الانتداب البريطاني يحتاج إلى تبشير أي إلى التنكر للصهيونية تنكرا كاملا وإلاَّ كانت الوداعة عنده مشجوبة والرحمة مرفوضة. كل تحركه العسكري تكون فعلته في قانا هي النموذج.

أمام جريمة قانا لا بد من معاقبة مرتكبيها أي لا مفر من لجنة دولية تحقق في مسؤولية إسرائيل لأن المجزرة كانت ضد حقوق الإنسان وإغفال العقاب يفسح في المجال للمرتكب أن يقوم بمجازر أخرى متى حلا له ذلك. “ولكم في القصاص حياة”. الجرحى وأهل الضحايا لهم ألاَّ يصبحوا فريسة الحقد ولكن يجب شفاء الحاقدين بإدانتهم عسى يتوبون.

بعد هذا -وليس قبل هذا- يأتي السلام الذي لا يشفي وحده القلوب الجريحة. اللبنانيون الذين ذاقوا ما لم يذقه العرب في هذه الآونة آخر من وقع السلام ليأمنوا أنفسهم المرة تلو المرة فظائع القصف والدمار والموت. كيف يقوم البلد ولا تتكرر الفاجعة يفترض ان نصبح في هذا البلد مجتمعا موحّدا لا انقسام فيه حتى لا تقع أية مدينة أو قرية في ما وقعت فيه قانا، حتى لا تموت الطفولة في القلوب. وهذا يتطلّب حسّا عالميا وإحساس الدول بوجود لبنان، هذا البلد الجميل الوديع الذي لا يطلب شيئا إلا أن يجتنب اعتداءات متكررة. إنها لمصيبة على العالم كله إن صرنا بلدا كله مدمّر.

يجب أن يزول فخر إسرائيل حتى لا يحترق بلدنا. لن تجد إسرائيل راحة إن بكينا بكاء الليل كما قال إرمياء. ينبغي ألا يسير أطفالنا مسبيّين ويتامى. ارفعْ يا رب غضبك عن ديارنا وعزّنا بتعزيات روحك فلا يبتلعنا أحد. اشفقْ علينا يا الله، إله خلاصنا.”انطرح على الأرض الفتى والشيخ”. لا تسمحْ يا رب بأن تُهشّم عظام شبابنا والأطفال. مراحمك يا رب لا تنتهي. إحفظْ لنا الكرامة التي بها نحيا لأننا محبوك.”حل بنا الرعب والهلاك والدمار والتحطم” (مراثي ارمياء). “الأطفال طلبوا خبزا ولم يكن من يكسره لهم”. لا تقطع عنا أغانينا فهذا بلد الفرح. لا تصرف وجهك عنا في أيام الضيق هذه. لا تنسنا ربّ وعوّض علينا كل ما خسرناه ونحن نؤمن انك القيامة والحياة. لا تنبذنا إلى النهاية ولا تغضب. تعال يا رب، تعال وتعهّد الأحباء الذين احترقوا في قانا والجنوب والضاحية وأهل كل بقعة منكوبة وأعدْ إلينا طفولتنا واعتبرنا بالتوبة إليك أبرياء كأبناء قانا الحبيبة.

Continue reading