Monthly Archives

September 2011

2011, مقالات, نشرة رعيتي

نُور المسيح / الأحد 25 أيلول 2011 / العدد 39

«نور المسيح مضيء للجميع»، هذه العبارة التي نقولها في القداس السابق تقديسه تملأ بدايات هذا المقطع الذي يستهلّ فيه بولس كلامه، وهو بلا ريب يشير الى نور السيد الذي ظهر له في طريقه الى دمشق ليُلقي القبض على المسيحيين. الذي صار له أن يشرق من الظلمة التي كان فيها الرسول نور ينيرنا على وجه يسوع المسيح. بعد التجسد الإلهي صرنا نرى نور الله على وجه يسوع الذي هو الطريق الوحيد اليه.

ومع أن الرسول يرى جلال مجد الله، بقي يرى الضعف البشري، فقال «لنا هذا الكنز في آنية خزفية ليكون فضلُ القوة لله لا منا». «كل موهبة كاملة منحدرة من أبي الأنوار». هذه الخزفيّة التي نحن عليها تجعلنا «متضايقين في كل شيء» ولكن بسبب من النعمة نحن غير منحصرين. النعمة تُحرّرنا من خزفيّتنا، من معطوبيّتنا. كذلك نحن متحيّرون نتماوج بين ما هو لله وما هو لغير الله، ولكنا «غير يائسين»، «مضطهَدين ولكن غير مخذولين». الاضطهاد هو الوضع الذي قال عنه يسوع انه ينتظرنا. لماذا الاضطهاد؟ لأن أهل الظلمة لا يقبلون النور، لأن الأشرار يوبّخهم الأخيار طبيعيّا دون أن يتكلّموا. «حاملين في الجسد كل حينٍ إماتةَ الرب يسوع». آلامه ترتسم في أجسادنا بالاضطهاد وفي نفوسنا. واذا احتملنا الموت تظهر حياة يسوع فينا. هذا الذي حصل للسيد، أي الموت والقيامة، يرتسم في وجودنا نحن. فإن تعذّبنا يأتينا السلام. وإن متنا موت الخطيئة نتوب.

ثم يؤكّد فكرته هذه مرة أُخرى «نُسلّم الى الموت من أجل يسوع لتظهر حياةُ يسوع أيضا في أجسادنا». دائما عند بولس ثنائية الموت من أجل المسيح والحياة في المسيح. هذا هو الإيمان. هنا يذكر بولس ما جاء في المزامير: «آمنتُ لذلك تكلّمتّ». الشهادة بالكلمة، البشارة ثمرة الإيمان. واذا شهدنا وتكلّمنا يكون يسوع قد زرع حياته فينا لأنها هي التي تتكلّم. وفي الأخير سيُقيمنا الآب كما أقام مسيحه من بين الأموات. ونحن نقوم من أجلكم. هذه هي شركة القديسين. نقوم معا لنحيا معا في ملكوت الله. انتظارا لهذا تتكاثر النعمة التي تهيّء قيامتنا. وتتكاثر النعمة بشكر الأكثرين. وقمّة الشكر هي في القداس الإلهي الذي تزداد فيه النعمة لمحبة الله.

بولس متّجه دائمًا الى الله بنور المسيح وبقوّة النعمة. هذا كثيرًا ما كلّفنا اضطهادا ومضايقات يوميّة وأتعابًا كثيرة. لا قيامة بلا صليب. ولكن لك أن تقبل الصليب برضاءٍ مُشاركا آلام السيد فتنال محبة الله وتُوزّعها على الإخوة بالمحبة وترفع عنهم الضيق بتوجيههم الى الصبر واحتمال المشقّات.

في وسط المصاعب ترى نورَ المسيح على وجوههم. نحن الذن نؤمن بيسوع قاماتٌ من نور. إنْ كنّا فعلا له فليس فينا إلا النور. يسقط التراب عنّا. تتلاشى الصعوبات اذ تحلّ محلّها التعزية. كل ضرر ومشقّة وحزن في النهاية تقودنا الى المسيح يسوع، الى حنانه ورقّته ودفئه فلا يبقى فينا سواه، ونصير إياه، ويصير إيانا بالحب الذي يسكُبه علينا.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

السيد اردوغان هل يقرأ؟ / السبت 24 أيلول 2011

في الخطاب الذي ألقاه رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان على وزراء الخارجية العرب في القاهرة أقف عند جملتين منه اولاها ان «تركيا والعرب يشتركون في العقيدة والثقافة والقيم». العقيدة، بلا منازع، هي الاسلام. هنا كلام يتضمن ان دولته لا يرى وجود اثني عشر مليون مسيحي عربي على الأقل وهؤلاء لا ينتظرون من اجنبي تحديد هويتهم القومية. في ما يختص بالثقافة اللغة التي كان لها أثر كبير في الأناضول هي اللغة الفارسية. بعد محمد الفاتح صارت القسطنطينية قطب جذب للشعراء العرب والفرس حتى تأصل التركي البسيط. ولكن بعامة لم يبقَ من تأثير عربي غير مختلط بالأثر الفارسي حول القرن الخامس عشر والسادس عشر.

بظهور التنظيمات في القرن التاسع عشر اتجهت تركيا ادبيا نحو الغرب. ثم مع حرب الاستقلال وإعلان الجمهورية التركية السنة الـ 1923 تصلّب الشعور التركي حتى جاء ناظم حكمت الثوري (1902-1963) ثم اتسع الأفق بدءًا بالسنة 1939 بالترجمات والاتجاه نحو الفكر المجتمعي والسياسي. ما هو حي الآن في الأدب لا علاقة له بالعروبة. اما القيم التي يشير اليها السيد اردوغان على انها مشتركة بيننا وبينهم فمنها القديم والحديث فما من شك ان القديم غير ضاغط علينا واننا تواقون الى الحداثة وذائقون اوربا بعمق في حين ان الأتراك متعلقون بالعتيق بشدة واوربا عندهم أمل بالانصهار السياسي بها استكمالا للحلف الأطلسي الذي يجمعهما ويجعل تركيا قوية في دنيا العرب على رجاء عثمانية ما العرب فيها حليف صغير لا شريك كبير.

اما الأكثر مخافة مما سبق فقول السيد اردوغان: «كان في التاريخ التركي شاب قام بإنهاء حضارة سوداء وتدشين حضارة جديدة عريقة عندما فتح اسطنبول وهو محمد الفاتح». انا لا اناقش عراقة الحضارة التركية وعظمتها. ولكن ابدأ بسؤال للسيد اردوغان لا ينبغي ان يصدمه وهو هل قرأ الحضارة البيزنطية التي يسميها سوداء. الأتراك عسكر اقوياء استطاعوا مع موآمرة الأساطيل الغربية التي كانت تربض هناك ان يغلبوا اعظم فكر حضاري السنة الـ1453. ولكن كيف يريد السيد اردوغان ان يقنعنا ان الحضارة المتكاملة العناصر والخلاقة والسامية روحيا حتى السماء كانت سوداء. كيف لا يرى ان نهضة اوربا ما اخذت تظهر الا بهجرة العقول البيزنطية الى الغرب الذي اقتبس منهم العقل الاغريقي وانشأ الفكر الحديث؟

#   #

#

الحضارة البيزنطية اهم ما فيها الثقافة. عرفت الخط مكتوبا باليونانية واللاتينية في اعمال المؤرخين القدامى ورسائل في الزراعة والفن العسكري، في الطب والطب البيطري، في تأويل الأحلام، كل هذا الف مكتبة كبيرة. اليها كانت مكتبة البطريركية المسكونية التي كانت تحوي أعمال المجامع وكتب الاباء. الى هذا مكتبات خاصة. هنا وهناك كتب طقوسية. ندرة الكتب نابعة من كونها غالية.الوصول الى الكتاب يسهل في العائلات الغنية. المدرسة الابتدائية يشرف عليها الأسقف، يتعلّم الولد فيها القراءة والكتابة والحساب. الكتاب الرئيس هو المزامير. في المدرسة علم الجمّل حيث لكل حرف قيمته في الرقم كما في العالم العربي. الترتيل متقن في المدارس.

كل الأولاد كانوا يتبعون المدارس الوسطى. تعلم الناس كل ما في الحضارة القديمة: هوميروس، الهندسة، البلاغة، الرياضيات. كانت الفلسفة تتضمن اللاهوت والرياضيات، الموسيقى، علم الفلك، الطبيعيات. في القرن الثالث عشر ظهر في الترجمة اعمال لاتينية وفارسية وعربية. أخذ القوم عن اللاتينية مفردات الحياة الإدارية وعن العربية تلك المتعلقة بالنسيج. كانت الكنيسة متعلقة باللغة القديمة. عرفت القسطنطينية غير مؤسسة جامعية، ثم كان للبطريركية تعليم جامعي.

#   #

#

المعرفة العالية كان لا بد ان تتضمن تفسير الكتاب المقدس وبعد تحديد العقيدة ظهرت المفردات اللاهوتية. لقد اثر النسك والتصوف في التعليم وتركزت العقيدة على كتب يوحنا الدمشقي. الصوفيون الكبار كانوا سمعان اللاهوتي الحديث وغريغوريوس بالاماس ونيقولاوس كبازيلاس. هنا تظهر سير القديسين. الكتب الطقوسية وضعت بين القرن الرابع والقرن الخامس عشر وعليها يعيش الارثوذكسيون حتى اليوم. جزء اساسي من الثقافة البيزنطية ان تعرف استعمال كتب العبادات لا سيما حسب الأعياد والمواسم.

ثم تأتي الأعمال الأدبية الموضوعة بلغة العلماء. وتعالج التاريخ والجغرافية والفن العسكري والبلاغة والقصة، والفلسفة والألسنية وقواعد اللغة.

التاريخ يبدأ من بدء الخليقة وينتهي عند زمن الكاتب. الى هذا الفلسفة اليونانية التي أظهرت اباء الكنيسة. وقد استعار الفكر المسيحي مصطلحات الفلسفة لينتقل ورأى انه يكمل الفكر القديم بالوحي. غير انها بقيت مستقرة في جوهرها. استعملت أساليب مختلفة في بناء اللاهوت غير ان عدد الفلاسفة الأصيلين كان قليلا ولكن كثر العالمون بالآداب اليونانية الكلاسيكية والنقاد وعلماء اللغة وبرز شعراء مسرحيات.

لعل اجمل ما كتب الشعر الديني. كل ما يسمى في الصلوات القنداق والقانون شعر. الى هذا عرفت بيزنطية الشعر الشعبي والقصة بالفصحى وبالعامية. كذلك عرف علماء رياضيات وفيزياء وبصريات.

عرف البيزنطيون علم الحيوان من الناحية التطبيقية وعلم النبات التطبيقي اي استعمال النبات في الطب والصيدلة. اخذوا الخيمياء عن سترابون وطبقوها في المعادن والصبغة والأدوية والزجاج.

على الصعيد الطبي في التنظيم الصحي. أسست مستشفيات وصار للأطباء تعليم نظامي وعززت مواردهم. اشتهروا في علم العين: بولس من ايجينا كان دارس الجراحة والتوليد وأثر في الطب العربي. ميخائيل بسيلوس وضع قاموسا في الأمراض. خصصوا كتبا في طب الأسنان والتمعوا في البيطرة وفي طعام الحيوان. الصيدلة كانت عندهم جزءًا من تعليم الطب وأخذوا في الصيدلة شيئا من العرب والفرس.

#   #

#

عظمت الخطابة وسيلة للدعوة السياسية او الدينية. ومن الخطابة الوعظ الذي اشتهر فيه يوحنا الذهبي الفم في القرن الرابع ومطلع الخامس في أنطاكية والقسطنطينية ولدينا مواعظه في اللغة اليونانية مترجمة الى معظم اللغات الأوربية وبعضها الى العربية.

ظهرت الأيقونة الخشبية او الجدارية في الامبراطورية ولا سيما لتعليم الأميين. منذ القرن الرابع بدأ الرسم كما الفسيفساء. اقدم الفسيفساء (العذراء، القديس جاورجيوس) في سالونيك. القليل حفظ في ايا صوفيا وبقيت ايقونات كشف عنها من عهد أتاتورك. القليل في قبرص والأكثر في رافينا (ايطاليا). وبسبب غلاء الفسيفساء استعيض عنها بالرسم الجداري الذي عرف كثيرا في ما هو الآن المشرق العربي وهو في حالة التجدد اليوم في كل انحاء سوريا ولبنان. كذلك زينت المخطوطات بالتصاوير ولا سيما كتب الأناجيل. وارتبطت الصور بصناعة الصياغة والتطريز.

انتبهت الكنيسة الى ضرورة الأيقونة في المجمع المسكوني السابع وحددت تكريمها تحديدا عقديا في السنة الـ787 ملأت الكنائس والبيوت في الدنيا الارثوذكسية وكان بادئ التنظير لها القديس يوحنا الدمشقي الذي عاش راهبا في فلسطين وتبنت الكنيسة رأيه في الأيقونة وهو القائل ان التجسد الإلهي يفرضها. ان روحانية الايقونة في كل بيت ارثوذكسي في العالم الى جانب استلهامها في الكنائس كان من العوامل التي حفظت الايمان.

كل البيزنطيين، كما يؤكد المؤرخون، كانوا مؤمنين. اذا وجدوا راهبا في الطريق يطلبون بركته. في هذا الجو لك ان تفهم اهتمامهم بالمرضى والفقراء.

لقد ظلم بعض الأباطرة ولكن بعضهم تركوا الملك ودخلوا الديورات رهبانا. كان هذا المجتمع على خطاياه يريد ان يدشن في الأرض ملكوت الله في لاستقامة الرأي وطهارة السيرة. علامتها البكاء على الخطايا واللطف والتسامح والسلام والتعاطف والزهد بالمال والتقشف. هذه كلها مجتمعة بكلمة واحدة هي محبة الرب.

الأمر كله ان يهتدي الانسان من الامور الخارجية الى الامور الداخلية. بكلام آخر كل المؤمنين في وسط هذه الحضارة كان نهجهم صوفيا، بحيث تقيم في سر الله ولا تعلم حواسك شيئا مما تأخذ من إلهك وتصلي دعاء الرب يسوع في داخل قلبك مرددا اسمه مئات المرات في اليوم او ألوفا حتى تنطفئ الكلمات ويصبح قلبك كلمة.

من عرف العبادات البيزنطية التي تكونت اصلا من بلادنا يرى فيها غنى لا يتجاوزه غنى آخر. كل صلاة من الصباح الى الغروب الى نصف الليل تحمل هذه القناعة التي نعبر عنها يوم الفصح بقولنا: «المسيح قام من بين الأموات» انت في القداس ترجو الله بعد ان يأتيك جسد الرب ودمه ان يجعلك في «كمال ملكوت السموات»، متحررا من المحاكمة في اليوم الأخير ومن الدينونة. كل هذه الصلوات الكثيفة، العميقة، البلورية وجسدك ساجد او منتصب ونفسك بلورية نابعة من الكتاب الإلهي او هي نظم له لتصبح شعرا إلهيا مع الجماعة.

اذا قرأ السيد اردوغان كل هذا هل يقدر ان يقول ان كل هذا البهاء الذي وصفناه ما قدر لنا هو حضارة سوداء؟ انت لست معذورا ان قرأتنا وفهمتنا خطأ. انت لست معذورًا ان رأيت النور ظلاما. أجدادك اقتحموا المدينة التي كانت تعرف انها وحدها آنذاك مقر الحضارة في العالم. انصف ما كان قبلك جميلا واقرأ لأنك مسؤول.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

الصليب / الأحد 18 أيلول 2011 /العدد 38

الصليب شجرة الحياة اذ أتمّ عليها يسوع غلبته للموت. غير أن وصولك الى هذه الحياة يتطلب منك جهدًا كبيرًا طوال حياتك على الأرض، وهذا ما عبّر عنه مرقس الإنجيلي في قراءة اليوم: «من أراد أن يتبعني فليكفُر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني». من أراد ان يتبعني تعني أن لك أن تمشي وراء السيد وكلماته، ولك أن ترفض هذه المسيرة. ولكن إن أردت أن تتبعه، تكفر بنفسك ونزواتك وتتخلّى عن شهواتك وتتوب. بلا هذا كله لست على طريق الصليب. لا يبقى لك مِن أنا منغلقة على نفسك، متمسّكة بذاتها.

ثم انت تعرف أن في دنياك صلبانًا كبيرة يجب أن تُصلَب عليها. لك مشاكل في عائلتك أحيانًا. الرجل قد يكون صليبًا لامرأته أو المرأة صليبًا لزوجها. ولك أحيانًا صليب في حياتك المهنيّة وحياتك الوطنيّة. او فيك امراض او تشنّجات. هنا يقول الرب يسوع: «من أراد أن يُخلّص نفسه يُهلكها». أن تُخلّص نفسك من الخطيئة يفترض تعبا كثيرًا ونضالا يوميًا. ليس من يوم واحد في حياتك لا تُواجه إغراء الخطيئة وجاذبيتها.

هذه الأشياء الفاسدة التي تُواجهها يجب ألاّ تدخل الى نفسك، وإذا دخلتْ وجب عليك أن تطردها. لذا قال المخلّص بعد هذا: «مَن أَهلكَ نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يُخلّصها». ان كنتَ مرتبطًا بيسوع وحده تقدر أن تُهلك نفسك، ويعني هنا خطاياك وشهواتك.

ويصل ربّنا بنا الى الذروة عندما يقول: «ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه؟». ماذا ينفع أن تكسب مالا كثيرًا او نفوذًا كبيرًا ووجاهة، واستمتعتَ بكل الملذّات ولم تجعل مكانًا في قلبك لله؟ هنا يستعمل العالم بمعنى فساد العالم. أنت مدعوّ أن تختار بين ربحك لله وربحك للعالم.

في هذه الحرب الروحية التي تقودها على الشر الآتي إليك او الذي دخل إليك، يجب أن تُدرك أنك تخصّ المسيح، واذا كنت من خاصّته تكون قد بدأت الدخول الى الملكوت على هذه الأرض إذ «ملكوت الله في داخلكم». أنت تُجاهر أنك للمسيح إذا طَلب أحد الناس أن تكشف هويتك. تُجاهر بإيمانك بيسوع وبأن كل فكرك مرتكز عليه.

التعزية التي أعطاها يسوع أحباءه في هذا الخطاب هو أن بعضًا منهم لا يموتون حتى «يروا ملكوت الله قد أتى بقوة». يسوع بشّر بملكوت الله، وهذا الملكوت حلّ بمجيئه لأن تعليمه هو بدء إدخالنا الملكوت وعجائبه ايضًا. ولكن عندما قال: «ملكوت الله سوف يأتي بقوة» قصد موته وقيامته. عندئذٍ تتأسّس الكنيسة وينزل الروح القدس على التلاميذ، وإذا اقتبل الناس المعمودية تكثُر الكنيسة وتعطي جسد المسيح ودمه أي يمتدّ ملكوت الله في النفوس. الكنيسة هي مدخل الى الملكوت بالإنجيل والأسرار المقدسة. ينمو ملكوت الله في الكنيسة ويكتمل في السماء حيث نُعاين الله وجهًا لوجه.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الإيمان / السبت 17 أيلول 2011

نبدأ باللغة. الإيمان هو التصديق. هو الأمن اي نقيض الخوف. وهو الثقة. ومنه المأمن اي موضع الأمن. وهو الأمانة. لغةً وحسب لسان العرب تبدو لفظة الإيمان أقرب الى القلب. عند الإمام الغزالي وفي المسيحية هو نور قذفه الله في الصدر اي ان الله مصدره والانسان يتلقاه ويستجيب له بطاعة التقوى والسلوك. ليس تاليا تحركا عقليا ولو لعب العقل دورا في التلقي. ولكن العقل ليس منشئ الإيمان ولو حاولت فلسفة القرون الوسطى الوصول الى ما تسميه البراهين عن وجود الله.

ممكن الإقرار بوجود الخالق عقليا ولكن التثبت العقلي لا يقودك الى الحركة نحو الله بالقلب ولا الى معاشرة الله بما تسميه بعض الفلسفات اختباره او ذوقه. اذا كان الإيمان يقيمك كيانيا في كل وجودك لا يكون فقط إفرازا منطقيا. كان لي صديق في مرحلة إلحاد قال لي انه لا يقبل الا بما يمليه عليه عقله. أجبته ان كان عقلك كل وجودك كيف اخترت زوجتك؟ ما أمرك عقلك بحبها ولو ساهم جزئيا في ذلك. هل أملى عليك عقلك ان سيمفونيات بيتهوفن اجمل ما في الموسيقى؟ في التصرف البشري لا احد يسلك وكأن العقل وحده يحركه.

في المسيحية الايمان هو بالله وحده. لذا يقول دستور الإيمان: «اؤمن بإله واحد». ويضيف: «وبرب واحد يسوع المسيح». لأن الربوبية هي الألوهية. لا يؤمن المسيحيون بمريم، يكرمونها. لا يؤمنون ايمانا بالقديسين ولو استشفعوهم. لا يؤمنون ايمانا بأنبياء العهد القديم. يؤمنون بكتبهم لاعتبارها بعضا من الوحي.

ليس من العقيدة ان تؤمن بأية معجزة حصلت بعد معجزات المسيح. الناس أحرار ان يصدقوا الظهورات المنسوبة الى القديسين او لا يصدقوا. احرار ان يقتنعوا بعجائب هذه الايقونة او الا يقتنعوا. كل ما هو مخلوق لا يدخل في نطاق الإيمان. هذه المرأة او تلك تتقبل رسائل من السماء أمر ممكن ولكنك لست ملزما تصديقه. الهرولة الى مواضع العجائب تصديقها او نفيها لك. لماذا نحتاج الى معجزات ليقوى ايماننا بالله؟ «الله كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه». واذا كان من ترعاه ضعيف الايمان تعيده الى الكتاب الإلهي. من لا يؤمن بما أتى فيه لن يقنعه اي ظهور لاحق.

ان ثمة ديانة شعبية تكثر فيها الخرافات، عاطفية، انفعالية، تكثر فيها الهلوسة كثيرا ويضغط انصارها عليك لتصدق وانت تكفيك قيامة المخلص وحضوره في إنجيله والقرابين.

#   #

#

المؤمنون الأقوياء، القائلون في اعماقهم ان الله كل شيء لهم قلة عزيزة. كل من اتكل على ماله او صحته ليس متكلا على الرب ولا يلتقيه في مسيرة الحياة. الناس تتراكم في ذاكرتها تصورات دينية وكلمات دينية التقطوها من بيئتهم يحسبونها فكرا إلهيا فيهم وهي ليست بشيء. ديانة يركبونها لأنفسهم يظنون انها تحميهم من المرض او العوز وقد تكون احيانا تلفيقا يفسد به ما أتاه من عبادات صحيحة. الدين خطر جدا ان لم ينقه الله بنعمته كل حين. من لم يوحد نفسه بالله وبحبه تنزل عليه الوثنية دون ان يعلم. هكذا تكون عندنا جماهير كثيرة. هذا النوع من الديانة المبتلة بالخرافة كثيرة الانتشار.

لا يقي الله آليا من الديانة الركيكة من علت به المقامات. الجلباب الأسود يبقى قماشا ان لم تغير حامله يد العلي. ليس ما يضمن القداسة في الكاهن لمجرد انه صاحب دور فكثيرا ما يختلط الدور بحب السلطة او بشغف المال والمستلم رئاسة ليس متحررا بالضرورة من شهواته ولكونه يعمل في المقدسات قد يحسب انه وصل اليها وقد يصح هنا قول في الانكليزية: «كل سلطة تفسد والسطلة المطلقة تفسد مطلقا» حتى يرانا الله عراة في القبور. الإيمان ليس مضمونا عند كل المقامات. لذلك كان الرهبان الأقدمون يهربون من القسوسية الى البراري.

المقامات مدرسة الكيد او يمكن ان تكون. وكانت العرب على حق عندما قالت: «طالب الولاية لا يولى». والمشكلة ان الأبرياء لا يعرفون اهل الكيد ولا اهل المكر وكأن الله لا ينقذ الصالحين الا بموت الأشرار والمشكلة انه لا يحق لك ان تنتظر موتهم لأنه في حكمة الله وهي غير مكشوفة لك.

حسبك وجه ربك وان تتعزى به وان تعرف انه يقود الكنيسة بروحه القدوس وانه مكتوب عليك الصبر حتى يأخذك ربك اليه لتنضم الى محافل الأبرار.

اسهر اذًا على نفسك حتى لا تقع في الكيد والمكر اذ قد ندرك وقتا يصير فيه الأطهار نفرا قليلا. هذا ما رآه يسوع حاصلا في آخر الأزمنة. في الانحدار العام تقف على صليبك حتى تخرج منك آخر قطرة دم.

#   #

#

يطرح عليّ الأذكياء سؤالا حول العلاقة بين الإيمان والمعرفة لأنهم بادئون بالعقل واهل الايمان بادئون باليقين وكأن الاجتماع بينهم عسير. كيف نحفظ نحن المؤمنين الله وهو الحفيظ؟ يقول القديس كيرلس الاسكندري: «من الضروري ان تؤمن لتستطيع ان تفهم… المعرفة تتبع الإيمان». ثم جاء بعد كيرلس اوغسطين المغبوط ليقول: «نؤمن لنعقل ولا نعقل لنؤمن». بمآثرك الطيبة في الإيمان تنمو في المعرفة. وتدقيقا لما روينا يقول الذهبي الفم. «بالإيمان نصل الى المعرفة في شؤون الله. الإيمان معيار المعرفة والإيمان هو الذي يقود العقل الى المعرفة».

الإيمان ليس قضية براهين منطقية. يأتي من الثقة بالرب. ويقول كاسيانوس البار: «يقيني حتى اؤمن ان أعرف من هو الذي تكلّم». دع جانبا الأدلة. اجل، يجب ان نعقل عقليا بمقدار ما وهب الله ايماننا.

#   #

#

اذا نظرت الى الناس جميعا ورأيتهم يتساقطون كالحشرات في ما يعملون ويخربون اوضاعهم واوضاع الناس افهم ان لا إله لهم ويغطون إلحادهم تغطية. «نفسي حزينة حتى الموت» لكون المؤمنين باتوا قلة. ولكنا نعلم ان الإنسانية مخلّصة على الرجاء واننا مدعوون الى تجديد اخوّتنا بالروح القدس حتى ينهي الرب الأزمنة الرديئة في فصح مقيم.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

عيد ارتفاع الصليب / الأحد 11 أيلول 2011 / العدد 37

هذا العيد مرتبط بحادثتين أُولاهما اكتشافُ القديسة هيلانة الصليب تحت تراب الجلجلة فيما كانت في فلسطين تبني الكنائس. اما الحادثة الثانية فهي أن عود الصليب كان موضوعًا في كنيسة القيامة وسرقه الفرس الذين كانوا قد احتلوا اورشليم في السنة 628، وبعد أن انتصر عليهم الامبراطور البيزنطي هرقل أعاد الصليب الى المدينة المقدسة، فرفعه البطريرك أمام المؤمنين.

من هنا عبارة ارتفاع او رفع الصليب. وفي يوم العيد يصير طواف قبل القداس اذ يوضع صليب صغير على صينيّة فيها زهور، ويوضع على طاولة امام الهيكل، ويرفعه الكاهن فوق رأسه وينزل به الى الأرض أثناء ترتيل «يا رب ارحم» خمس مئة مرة، فيعطي الكاهن زهرة لمن قبّل الصليب الكريم.

في كنيستنا لا يوجد صليب بغير مصلوب مرسوم عليه او منحوت موضوع عليه فيصبح، عند ذاك، أيقونة. السجود هو اذًا لصورة المصلوب على رجاء القيامة.

إيماننا كله مرتكز على صلْب المسيح وقيامته. وهذا الصلب نحتفل به بمناسبات مختلفة خارج الأسبوع العظيم منها هذه المناسبة. بلا موت المسيح ليس عندنا رجاء. وإذا المسيح لم يمُت ولم يقُم ليس لنا قيامة ولا أساس لإيماننا. المحبة التي بشّر بها المسيح ظهرت بنوع خاصّ على الصليب وتجلّت بالقيامة. المحبة ليست فقط تعليمًا. هي واقع الصلب وواقع نهوض المسيح من بين الأموات. هذا نُعبّر عنه بوضع الصليب في عنق الولد المعمَّد ليفهم طوال حياته أنه دُفن مع المسيح وأنه سيقوم على رجاء الحياة الأبدية.

هذا العيد يجدّد دعوتنا الى أن نسلك حياة جديدة، أن نصبح خلائق جديدة بالروح القدس. الصليب رمز لهذه الحقيقة التي كشفها لنا المُخلّص والتي نسعى أن نختبرها بذوق كل جمالات المسيح إذا أردنا التغلّب على شهواتنا. بمقدار انعتاقنا منها نكون قد أعلنّا أننا نتبع المسيح القائم من بين الأموات.

الحياة الجديدة تعني التوبة التي هي الرجوع الى وجه يسوع وترك مُغريات الدنيا. «من أراد أن يتبعني فليكفُر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني». تُقرّر انت أوّلا أن تمشي وراء المسيح، وأن تتحمّل كل شيء بصبر، وفي الوقت نفسه أن تحبّ الإخوة ليراكُم الناس أنكم أحرار من الخطيئة وقياميّون.

أجل أنت متألم ككل البشر، والمسيح حمل آلامكم. كل يوم سوف تعاني وقد تقلق كثيرًا، وإنْ أَردت الفرح فهو الذي يعطيك إياه يسوع اذا سلّمته قلبك ليسكن فيه. هذا يعني أن تتخذ الصليب رفيقًا لك لتتحمّل هذا الوجود وتسير به الى فوق.

ولكن قيام الوجود معك ورَفْعَه الى المسيح يتطلّب منك الجهاد لمعرفة كلمة الله التي في الإنجيل. إقرأه كل يوم وتأمله ليرى الرب أن وجهك صار نيّرًا وأنك سائر الى حياة جديدة. وإلى جانب معرفتك للإنجيل اختبارك للصلاة اليومية الى جانب مشاركتك في القداس الإلهي كل أحد.

لا حياة لك إلا بحديثك مع الله صباح مساء ليكون فيك الشعور بالله ورحمته وجلاله واحتضانه إياك.

تجديد حياتك الروحية هو الذي يكفل لك القوّة لحَمْل الصليب فالسير الى القيامة.

إشارة الصليب على وجهك وصدرك تَمّمْها بوعيِ أهميةِ الصليب والتصاقك به بهذه الإشارة حتى تعرف أنك سماويّ.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

عيد الصليب / السبت 10 أيلول 2011

في الرابع عشر من ايلول تعيّد الكنائس لارتفاع الصليب. وغني عن القول ان المسيحيين لا يعبدون خشبة الصليب ولا يضعون في الكنائس الصليب الا اذا صار ايقونة اي رسم عليه المسيح. فكل ذكر للصليب في العبادات يعيدنا الى الذي مات عليه. لماذا هذا العيد؟ الأعياد المسيحية فئتان: الأعياد الفكرية مثل الميلاد والفصح والأعياد التي هي تذكارات لحوادث تاريخية يضاف اليها الفكر اللاهوتي.

ما سميناه عيد ارتفاع الصليب يؤرخ لحادثة اولى هي اكتشاف صليب المخلص مطمورًا تحت تراب الجلجلة حيث مات واكتشفته القديسة هيلانة ام الامبراطور قسطنطين التي بنت كنيسة القيامة وكنيسة المهد. وضع عود الصليب في كنيسة القيامة حتى 4 أيار 614 فسرقه الفرس في تلك الفترة بعد احتلالهم اورشليم (القدس). في الـ628. بعد ان انتصر الامبراطور البيزنطي هرقل على الفرس اعاد هذا الامبراطور الى المدينة المقدسة فرفعت الكنيسة هذا العود امام المؤمنين وابتدأ العيد. وجزئ الصليب اجزاء صغيرة جدا ووزع على المؤمنين في كل الدنيا بمعنى انه الآن مجرد ذخائر عند ألوف مؤلفة من المسيحيين.

الجانب الطقوسي لهذا العيد غاية في الجمال في الكنيسة الأرثوذكسية اذ يرفع الكاهن قبيل القداس الصليب فوق رأسه وينزل به الى أرض الكنيسة وذلك خمس مرات وسط ترتيل مطول وبعد ان يقبل المؤمن الصليب يدفع الكاهن اليه زهرة كانت تحيط بالصليب عندما كان يحمل في الطواف ليؤتى به الى المائدة التي يتم عليها التكريم.

كل المسيحيين على درجات مختلفة من الأبهة والبهاء الطقوسي يعبرون عن ايمانهم ليس فقط بالكلمات والانشاد ولكن بالرموز ايضا بحيث ساغ القول ان القداس الشرقي بنوع خاص مسرح ديني فيه انواع من الفنون المختلفة وسجدات وركعات وحركات كإشارة الصليب على الوجه والصدر وفي العبادات ايضا ماء وخبز وخمر وزيت وزهور واكاليل للعرسان وزيت وتراب على الجثمان وثياب تختلف ألوانها حسب المواسم وثياب خاصة بكل رتبة وايقونات وتصوير جداري لشعور المؤمنين انهم يمجدون الله في نفوسهم وأجسادهم معا وذلك بسبب ايمانهم بقيامة الأجساد.

هناك ملموسية ضرورية لك معرفتها لتفهم المسيحية كما تجسدت في الألفية الأولى -وكل ما نتممه اليوم- قائم وتام في الألفية الأولى. تفهم الناس كما يفهمون هم انفسهم.

#   #

#

لك ان تقبل موت المسيح ولك الا تقبله ولن اناقشك. ولكن ان اردت ان تعاشر المسيحيين لك ان تفهم عمق ايمانهم بالمصلوب. لن تفهم ذرة واحدة من ايمانهم وبالتالي لا تستطيع ان تودهم ودا كبيرا ما لم تدرك سرهم اي ما يحركهم في العمق وتبقى حرا بتصديق حادثة الصلب او عدم تصديقها. كل حرارة الحب في المسيحية أتت اليهم فقط من صلب المخلص. كل صلاتهم وطهارة بعضهم وانجازاتهم الفكرية في الشرق والغرب، كل ادائهم الشهادة بملايين من الشهداء جيلا بعد جيل، كل تقشف عندهم ونسك، كل غفران، وسلام في النفس ومحبات تبذل حتى الموت نازلة عليهم من المصلوب. لولاه لكانت المسيحية مذهبا من مذاهب اليهود.

انجيلهم ليس فيه سوى هذا الحدث كائنا ما كان صوغ الأناجيل اسلوبا ولغة، الأناجيل تبدو بسيطة ولكن مضمونها اللاهوتي غاية في التركيب. انها قائمة على جدلية موت المسيح وقيامته. اي تجليه الثنائي وسيادته على القلوب.

هذا الصلب هو الذي جعل المسيحية ايمانا بشخص يدعى يسوع الناصري وليست اساسا تصديقا بكتب. الناصري لم يكتب حرفا وأتباعه يومنون به لأنه مات ثم قام ودونت الأناجيل بعد موته بضع عشرات من السنين (الانجيل الرابع بعد السنة التسعين). فقبل نصها كان هذا الايمان الواحد قائما وكانت دماء الشهداء تهدر لا بسبب كتب ولكن بسبب الحب لهذا الشخص.

هذا صار الكاهن العظيم بآلامه واتخذ خطايا البشر على نفسه لكي تزول عنهم بالحياة الجديدة التي يعطيهم اياها بدخوله مملكة الموت ونزوله الى الجحيم اي الى قاع اللعنة التي لحقت بمن ماتوا قبله وبعده. ذلك ان «اجرة الخطيئة هي الموت» الذي صار موت ابن الانسان.

هذه الأوجاع التي تحمّلها هي أوجاع الناس جميعا، هي معاصيهم. اخذها في ذاته لكي ينجيهم منها. «دفنا معه بالمعمودية للموت (اي لنصير الى موته) حتى كما أقيم المسيح من بين الأموات نسلك نحن ايضا في جدة الحياة».

ولكن قبل ان تنال الحياة الأبدية حالتك حالة الإنسان الساقط والمتألم معا. اي انك انت ايضا مصلوب ولا تنجو من اي صليب وضع علي عاتقك الا بصليبه هو فتقوم منذ الحياة التي أنت فيها الى حياته لتصبح خليقة جديدة. انت لا تخترع الألم. هو يأتي من هذا العالم الذي هو تحت الشرير. يقلقك ويوجعك حتى تتساقط قيامة المسيح عليك بالتوبة وهي رجوعك بكل جوارحك الى وجهه وهذا هو الايمان الكامل تحياه على الرجاء وفي محبة ليسوع يغدق بها عليك فتصير اليه كائنا فصحيا.

«من أراد ان يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» المسيح لا يلقي عليك صليبا. تؤتاه من ظروف وجودك علي الأرض. وان حملته تصير انسانا سماويا. لذلك كان عيد ارتفاع الصليب مسيرة لك دائمة. كل يوم مثقل وكل يوم ترفع عنك القيامة أثقالك.

من هذا المنظار كان هذا العيد ممتدا فيك كل يوم. هل الصبيان الذين يشعلون النار عشية ذلك اليوم يعرفون انهم مدعوون ليحملوا بها النور الى العالم فيصيرون قياميين؟ هل كان ذلك تبيانا لهويتهم؟

ما عيد ارتفاع الصليب الا قصة حب، أعظم قصة حب في التاريخ لأنها كتبت بالدم. هي زواج المخلص مع الإنسانية جمعاء. حبيبته ليست حصرا طوائف المسيحيين. هي الانسانية المطهرة من كل أطراف الدنيا. هذه هي جسده اي كيانه المعمد بماء او المعمّد بالروح. الذين يؤمنون بيسوع يؤمنون بالمحبة والناس كلهم احباؤهم لأن الناس جميعا يأتون من المسيح بطريقة او بأخرى وهو حاملهم بدمه الى أبيه وروحه حتى يكون الله الكل في الكل.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

إنجيل بولس/ الأحد 4 أيلول 2011 / العدد 36

عندما يتحدّث بولس عن إنجيله يقصد تعليمه وبشارته ولا يقصد الأناجيل الأربعة. مهما يكن من أمر، لما كان الرسول يبشر ويكتب رسائله لم يكن اي إنجيل قد دُوّن. ويقول ان الناس يخلُصون بإنجيله اي انه يحتوي على أساس ما علّمه السيد وما عمله. وهو يشرح في مطلع الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس وفي مواضع أخرى أن الإنجيل هو البشارة بموت السيد وقيامته، وكل كلام آخر يقود الى الصلب والقيامة او يأتي منهما.

قوله «سَلّمتُكم ما تسلّمتُه»، غالبا لا يقصد أنه تسلّم من الرب مباشرة المعلومات المتعلّقة بموته وقيامته، او أنه يتكلّم عن التقليد الذي ورثه من الرسل بعد أن عاد من بلاد العرب الى اورشليم. لا بد أنه أخذ الوقائع الأساسية من حنانيا رئيس الجماعة المسيحية في دمشق قبل أن يعمده حنانيا بعد ظهور الرب له فيما كان ذاهبا الى دمشق لاضطهاد المسيحيين.

البشارة في هذا الفصل المنشور هنا ثلاث كلمات: المسيح مات وقبر وقام. عبارة «على ما في الكتب» ليست إشارة الى الأناجيل الأربعة، ولكنها تعني وفق ما جاء في كتب الأنبياء.

ظهور الرب لصفا وهو بطرس غير مذكور في الإنجيل صراحة، ولكنّ تلميذي عمواس ينسبان الى التلاميذ قولهم ان الرب ظهر لسمعان (لوقا 24: 34). ثم يوحنا الإنجيلي يقول ان السيد تراءى لسمعان في الجليل (21: 7). ربما يشير بولس الى هذا. أما الظهور لـ500 أخٍ في الجليل فلا بد أن يعني جمهورا من المؤمنين بيسوع.

اما الظهور ليعقوب فوارد في الإنجيل المنحول المعروف بإنجيل يعقوب. وعندما يقول انه ظهر للاثني عشر فلا يعني بالضرورة أنهم كانوا جمعا واحدًا في مرة واحدة.

تراءى لي انا ايضًا كأنه للسِقْط اي الولد المبكرة ولادته وانه يعتبر نفسه كآخر الكل لكونه اضطهد كنيسة الله بإفراط (أعمال 3: 3، وغلاطية 1: 13 وفيليبي 3: 6). إلا أنه خلصته النعمة التي انسكبت عليه كما انسكبت على الذين قبله. غير أن تواضع الرسول لم يمنعه من أن يحس أنه عمل أكثر منهم جميعًا في البشارة (2كورنثوس 11: 23). غير أن قناعته كانت أن عمله آت من النعمة.

المقابلة التي قام بها بينه وبين الرسل ذكَرها هنا لمّا كتب هذه الرسالة اي عشرين سنة بعد القيامة. اما بعد هذا التاريخ فقد جاهدوا هم كثيرا واستشهد الكثيرون منهم، وعندنا رسائل بطرس ويعقوب ويوحنا ويهوذا غير الإسخريوطي والأناجيل. ومهما كان أمر المقارنة فعمق بولس يبقى جذّابا لنا الى هذا اليوم، والكثيرون من آبائنا القديسين استمدّوا فكرهم من فكره ورسائله هي التي تقرأ معظم أيام السنة. ورؤيتنا للمسيح وطبيعته ومحبته وأفعاله يجب أن تكون لها أبعاد الرؤية التي لبولس لنحبّ يسوع حبا كبيرا.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

المحبة كإكليل وفحوى / السبت 3 أيلول 2011

قال باسكال العظيم ما معناه ان «للإنسان ثلاث مراتب: مرتبة الجسد ومرتبة العقل ومرتبة المحبة» وانا اواجه كل هذه المراتب باستقلالها وبتواصلها قبل موتي حتى تغلب الواحدة الأخرى ويقبضني الله بما يرضيه.

اما مرتبة الجسد ففيها هذا البدن مع جماله وضعفاته، مع ما يخبئ من تعقيدات وبما يعظم فيه ويهبط، بما يفرح ويولم الى ان يوارى الثرى على رجاء القيامة ان كنا مؤمنين. انه ركيزة، مجرد ركيزة لعقل يتوهج او يغيب. ويريد باسكال بكلمة جسد ما يملك في هذه الدنيا من منازلها، من ترهاتها ومسرات على مستواها وما في هاتين اليدين من فناء وحب فناء يبدو للأكثرين وجودا وما هو بوجود ولكن فيه سلوى وانبساط والبسط هو هذه الأشياء التي نتمدد فيها وتلهينا وتحجب عنا ما هو أعظم منها لأن الأعظم أصعب منالا اذ يتطلب جهدا كبيرا يبعد عنا شبح الموت. يذكرني هذا بما قاله بولس: «آخر عدو يبطل هو الموت». لا بد اذًا ان نتسلى. الكارثة اذا بقينا عند هذه التسليات ان نشاهد أنفسنا في فراغ مخيف يشبه اللاشيء حتى ندرك مرتبة العقل التي هي الإحاطة بالكون. الكون بالنسبة الينا معارف. هي حسرة الا تعرف كل شيء ولكن لا بد ان تجهل الكثير مما يفيدك في حياتك ولا سيما امور صحتك. وجد في الماضي من عرف كل شيء أمثال الغزالي وليوناردو دافينشي ولكن الموسوعية زالت في عصرنا. لذلك كان المتعلّم متعلما نسبيا والجهل عميم في بلدان كثيرة وشبه قارات هذه هو واقعنا ان العقل قوة للحياة العملية ولا يرشدك كثيرا الى الفكر الذي يعطيك الفرح. كيف لا يتحرك وجودك كله ان عرفت ان كاهنا مارونيا كان حافظا لمئة ألف بيت. كيف لا تشتهي ان تكون فيك كل الأحاسيس التي كانت تحيي هذا الرجل اذا كنت قادرا فقط على حفظ عشرة ابيات من الشعر. لا يعيش اذا في ذهنك الشعراء الذين كتبوا عندنا منذ امرئ القيس.

أليس ذهني مبتورا انا كاتب هذه الأسطر الذي غابت عنه كل العلوم الرياضية وكل العلوم الطبيعية وكان جاهلا بالكلية كل الثقافة الالكترونية وانتمي تاليا الى حضارة منقرضة. محتوى ذهني اذًا قليل.

العقل اذًا مجرد قدرة وليس فحوى. وليس عندك متسع من الوقت لتعرف كل شيء. الإنسان مجموعة فراغات.

كان معنا في أحد أديرتنا راهب روماني يتقن عدة لغات عصرية الى جانب اللغات القديمة منها السنسكريتية ويعرف كل العلوم العصرية ويستشهد بالشعر باللغات الأصلية كما يستشهد بالعهد الجديد باليونانية. وكنت أجلس عند قدميه ساعات في النهار الواحد لأتعلم ما أريد معرفته. لم أعرف احدا في ذكائه في كل العالم الأرثوذكسي. وهذا هو العقل.

#   #

#

عرفت القرون الوسطى اشكالية العلاقة بين الدين والعقل او بين النقل والعقل وذلك في الاسلام والكثلكة (توما الاكويني) واليهودية. ومن قرأ نصوص هذه الديانات الثلاث يلاحظ ان الاشكالية واحدة وهي التوفيق بين الوحي والعقل. كان ارسطو المعلم الأول غير المنازع في التيار الديني في هذه المذاهب.

الكنيسة الشرقية البيزنطية لم تعرف هذه الاشكالية ربما لعدم سيادة ارسطو عليها ومن جهة اخرى علم باسيليوس الكبير ان الطبيعة تعرفها بالعقل وان الإيمان يأتينا بالوحي وكأن باسيليوس يؤكد مصدرين للمعرفة وتاليا لا يرى مشكلة العلاقة بين العقل والوحي.

الى هذا ترى الكنيسة الأرثوذكسية ان العقل وقع ككل مكونات الإنسان في المعطوبية التي نتجت عما نسميه الخطيئة الجدية (أي خطيئة الجدين الأولين آدم وحواء) فلم يلغَ العقل ولكنه اهتز. الى هذا ايضا تقيم هذه الكنيسة علاقة بين العقل والقلب فنقول ان العقل ينزل الى القلب ثم يصعد متطهرا. العقل اذًا اداة لمعرفة هذا العالم.

ليس من خفض في الشرق المسيحي لمنزلة العقل ولكن سكر فيه ومحوه يعني عاطفية لا يراقبها شيء. والله معروف بالايمان الناتج عن لقاء العقل والقلب متلاقين بالنعمة الإلهية.

#   #

#

بدأ باسكال حياته الفكرية منذ طفولته ومر بعد هذا بالتكنولوجية وكان كاتبا مسيحيا كبيرا ولا سيما في كتابه «الأفكار» قبل ان يتوفى في التاسعة والثلاثين من العمر. و«الأفكار» مركز على معرفته للمسيح. فكان لا مفر له ان يجعل المحبة اعلى مرتبة في الكيان البشري. قال احد آبائنا ان يوحنا الإنجيلي عندما قال في رسالته الأولى الجامعة «الله محبة» لم يرد بها صفة من صفات الله ولكن الله في ذاته.

لعله من المفيد ان اروي لكم حديثا جمعني والمغفور له المفتي نديم الجسر في مجلس عزاء. بادرني بالقول انتم موحدون فشكرته ثم أردف ولكنكم فلاسفة. ولما أحسست بأنه يلمح الى ايماننا بالثالوث الأقدس اجبته: لا، لسنا فلاسفة. نحن عشاق الله ثم فسرت ان في الثالوث وحدانية تجمع بين الآب والابن والروح القدس وهذه الوحدانية هي المحبة.

نحن لا نفرق بين المحبة التي هي الله وتلك النازلة علينا اي انها ساكنة فينا. اظن ان هذا ما قصده باسكال لما قال ان المرتبة العليا في الوجود هي المحبة. وهذه تذهب بك الى الموت في سبيل الآخر ولا تأتي من مرتبة الجسد ولا من مرتبة العقل انت فيها تبقى ذاتك ولكنك تصبح مسكوبا حتى اماتة الأنا المنغلقة تصير واحدا مع الآخر بلا حلولية.

هذه المحبة هي لنا منه منذ الأزل وتبقى الى الأبد اذ يأخذنا الله اليه او فيه سرمدا. نصبحها وتصبحنا ولا تبقى الا وحدها في الملكوت.

غير انها لا تحل فينا الا بعد تطهر كبير ونسك شديد وعند ذاك، تتصور فينا وفي اهل السماء وجميعهم وحدة كاملة. انها لا تقوم مقام العقل ولكنها ترفعه اليها. لا تفنيه في ما له من ذاتية ولكنها تسموه وتنقيه بحيث يخسر كل اعوجاج له وكل اهتزاز ويصير بدوره أداة لرؤية الله.

فقط في هذه الرؤية يسيطر العقل على اشياء الدنيا كما تسيطر هي عليه. واذا صار الناس واحدا بالمحبة في اليوم الأخير يصير الله الكل في الكل اذ ينكشف الله فيهم محبة في طبيعته وعمله. بمعنى انه لا يبقى فيهم سواه فيعرفون انه مخلصهم لا أثر فيهم الا تنازله الكامل اليه ويجعلهم كالمسيح جالسين عن يمينه على العرش. المحبة لا تصير اكليلا لنا الا بعد ان كانت هي فحوانا.

Continue reading