Monthly Archives

January 2004

2004, جريدة النهار, مقالات

شهوة المال / السبت في 31 كانون الثاني ٢٠٠٤

يصعب على المرء ان يكتب ضد الشهوة للمال عندما يكون شعبنا فقيرا. يبدو، اذ ذاك، ذلك ذما للأغنياء. أقولها توا ليس المسيح عدوا للأغنياء من حيث هم كذلك. فبعضهم قد ورث وكان مال بعض ثمرة عمل حلال. ان يسوع الناصري همه ان تكون حرا مما اقتنيت كما هاجسه ان تكون حرا من جمالك ان كنت جميلا او من ذكائك اذا كنت ذكيا او من سلطتك لو كنت ذا سلطة. الإنجيل يكسر القيود وكل ما ذكرنا مرشح ان يستعبدك وبولس يقول: “انما دعيتم الى الحرية فلا تجعلوا الحرية فرصة للجسد” اي لمكانة دنيوية لديكم او لظهور يتحكم فيكم. الغني في العربية من اعتد بغناه فاستغنى عن الله اذ يكون قد استغنى عن المحبة وهي القدرة الإلهية الوحيدة فينا التي تجعلنا ملتصقين بالبشر التصاق أخوّة وتجعلنا معترفين ببنوتنا لله. سندي في ذلك مثل الغني الجاهل الذي أخصبت كورته فعظمت غلاله ثم قال: أهدم أهرائي وأبني اكبر منها، فأخزن فيها جميع قمحي وارزاقي وأقول لنفسي: استريحي وكلي. فقال له الله: يا غبي، في هذه الليلة تسترد نفسك منك، فلمن يكون ما اعددته؟ فكهذا يكون مصير من يكنز لنفسه ولا يقتني عند الله” (لوقا 12: 21-31). يبين هذا المثل ان يسوع لم يشجب البناء الجديد الذي كان لا مهرب منه ولكنه ذم خضوع هذا الغني لشهوة التنعم وما استتبعته من الاستغناء عن الله. تحول المعبود وظهرت عبودية جديدة في النفس.

الا يكون المال ما انت تابعه، الا يصبح مشتهى قلبك يصير الرب وحده من تسير اليه يعبر عنه بصورة بليغة هذا المقطع من متى: “لا تكنزوا لأنفسكم كنوزا في الأرض، حيث يفسد السوس والعث، وينقب السارقون فيسرقون، بل اكنزوا لأنفسكم كنوزا في السماء… فحيث يكون كنزك يكون قلبك” (6: 9-12). المعنى الواضح الا يكون للإنسان كنزان، ان يقتصر على الكنز السماوي، ان يكون حبه فوق. لم يشجب السيد جمع المال فهذا مفيد في الاقتصاد الحر اذ يتعرض الإنسان لنكسات او أخطار تتعلق بتغير سعر العملة وبهبوط اقتصادي رهيب. السؤال هو ما هذا الشيء الذي تتوق أنت اليه. يلي هذا المقطع ما يوضحه: “ما من احد يستطيع ان يعمل لسيدين، لأنه اما ان يبغض احدهما ويحب الآخر، واما ان يلزم احدهما ويزدري الآخر. لا تستطيعون ان تعملوا لله وللمال” (متى 6: 42). لك ان تحصل مالا بعملك ولكنه لن يكون مخدومك. الأمر صريح. لا تستطيع ان تنقل مالك الى قلبك. اذ ذاك لا يسوده الله القائل في الوصية الاولى الى موسى: انا إلهك… لا يكن لك إله سواي”. غير ان عبادة الغني للإله الواحد الأحد أمر عسير عبر عنه المعلم بقوله: “لأن يمر الجمل من ثقب الابرة أيسر من ان يدخل الغني ملكوت السموات” (متى 19: 42). هي آية تحذير وتنبيه شديد الى الإغراء المحيط بكل من ملك شيئا من متاع الدنيا ولكنه ليس تعجيزا بدليل قول المعلم المبارك بعد ان سأله تلاميذه “من تراه يقدر ان يخلص؟” فأجاب: “اما الناس فهذا يعجرهم، واما الله فإنه على كل شيء قدير”. لم يقل يسوع تصرف انت بمالك كما يحلو لك. لم يدخل على كلامه السابق سهولة ولكنه عنى ما سوف يوصي به مرارا انك بالعطاء تنجي نفسك من التمسك بما انت مالك.

الى هذا جاء فكر آبائنا. قال يوحنا الذهبي الفم: “اذا احببت ان تكون صديق المسيح تكره المال وشهوته لأنها تحول اليها فكر من أحب وتسلبه الحب الحلو جدا ليسوع”. البخيل يذبح نفسه للمال فقد رأى بولس ان “الطمع عبادة اوثان” (كولوسي 3: 5). انه صنم في النفس.

ازاء هذا الخطر بدا تعليم آبائنا الذين قالوا باختصار ان المال أمانة من الله. هو ليس لك، انك عليه موتَمن. فالمال من حيث استعماله والاستمتاع به “ليس لأحد من جهة الملك” (سمعان اللاهوتي الحديث). ذلك ان المال يرتب علاقة بالآخر. “فما فاض عنك تجعل نفسك مالكا له وهو ليس لك” (القديس غريغوريوس النيصصي). من هذه الزاوية ما لا تحتاج انت اليه تسرقه من الآخرين. ويستند ذلك الى كون الخالق وزع اموال هذه الدنيا مشاركة على البشر ليتمتعوا بها على التساوي. فإن يستحوذ بعض على رزق اكثر من سواهم لم يكن في البدء وجاء نتيجة للخطيئة الاولى وازداد بقوة الرغائب. وعلى هذا اوضح باسيليوس الكبير انه “عليك ان تستعمل المال كوكيل لا كمتمتع”. فالمال يجب ان نتقاسمه بإنصاف. فالذي يكدس المال لمتعته الشخصية فقط يحفظه بصورة انانية ويضرب الغاية التي من اجلها وجد اي التقاسم. الأخ الآخر منسي ومنبوذ في حين انه شريك.

هذه الشهوة شبيهة بالشراهة فهي لا تقف عند حد ولهذا كانت السمنة. والغنى الفاحش الذي ليس عند صاحبه حس بالآخرين نهم داخلي لا يقف هو ايضا عند حد. في هذا يقول لي بسطاء الناس: أليس الثري يأكل كالفقير ويلبس مثله وجوابي لهم انه لا يرتضي بالطعام العادي لأنه يريد ان يتلذذ  ويعيش في قصر او اكثر ويسافر كثيرا ويضطر ان يقتني ما ليس له حد. غير اني وجدت بعد إمعان فكر ان البسطاء ليسوا على خطأ كبير. فأنا افهم ان يكون لدى الرجل متع كثيرة بسبب من الارتياح الكبير الذي يريد نفسه عليه ومع هذا يزين لي ان عند بعض من الاثرياء فحشا كبيرا. انهم ينفقون على أعراس بنيهم مبالغ لا تتصورونها. انه عادي ومألوف ان يبذلوا عدة مئات من ألوف الدولارت اليوم وهذا كان من الممكن ان ينقضي باحتشام. اظن ان الاحتشام هو المفقود.

غير انه موجود عند أثرياء كبار هنا وثمة. اعرف الكثير عن هذا الثري او ذاك في اوربا من الذين يحيون في تواضع ولا تصدمك رؤية الغنى المنفلش اذا زرتهم في قصورهم. وتبقى اموالهم في دوائر استثمارهم الصناعي ويوزعون منها الكثير الكثير. قال لي مرة صديق كبير كان ثريا عائشا في الغربة: “كلما حصلت على مبلغ من المال كبير اوزع منه مقدارا كبيرا حتى لا يستعبدني”.

الشهوة، كل الشهوة ضارة فاتكة لأن من طبيعتها ان تشتعل وتلهب صاحبها. انها لطاغية اذ لا تحتمل الشبع. فاذا قويت تقود الى قلق الخسارة. كيف نحافظ على ما اقتنيناه، ذلك يكون الهاجس وذاك يكون الاضطراب. الى هذا شعور الحزن اننا لم نكسب ما كنا نشتهيه او اننا لسنا مليئين بالقدر الذي رغبنا فيه. وفي هذا يقول القديس يوحنا كاتب سلم الفضائل: “كما ان البحر لا يخلو من موج لا يخلو البخيل من الحزن”. وعلى الرغبة في المتعة لا يرى الثري الفاحش انه يتمتع كثيرا. الشره لا يحس انه اكل ما يكفيه او انه حصل على الطبق الذي اشتهاه. ليس للاشتهاء ايا كان من حد.

الحكيم من اذا رأى الى ما عنده يعرف انه قد يفنى. المتعلق بما في الدنيا يحس به انه القيمة المطلقة التي لا تعلوها قيمة. وفي هذا يقول الذهبي الفم: “وكثير من الناس يحكم خطأ في شؤون هذه الدنيا فيقعون في اليأس. هكذا المجانين يخافون مما لا يخيف، يخشون امورا كثيرا ما لم تكن موجودة ويهربون امام الظلال. مثلهم من خشي خسارة الفضة”. هذا نوع من الهذيان. هكذا ايضا يفكر باسيليوس اذ يقول: “لا ترى غير الذهب، تتخيله في كل مكان. مهووسة به احلامك ويهيمن عليك في النهار”. ان تكون اقوى من غيرك أليس هذا ان تكره غيرك؟

الا ان هناك حالة واحدة يباح فيها الفرح بالكسب. هو ان تطلب الى الله مالا لأن الفقراء حولك في كل حين وليس عندك ما توآسيهم به. اما اذا سررت لمجرد الكسب فوق حاجتك الحقيقية اي اذا تعلقت بالازدياد فهذه رغبة مؤذية. ان يكون الآخرون همك ومركزك قد يقودك الى ان تتمنى الحصول على ما تسد به حاجاتهم. ان تسعى الى الازدياد بلا حدود لا يعني الا انك عرفت نفسك محور الوجود لاسيما ان “محبة الفضة” كما -تقول كتب الصلاة عندنا- تغذي فيك شهوة التسلط التي هي قمة الرذائل. اما الغنى الفاحش جدا فليس غاية الشهوة. الشهوة الكبرى ان تبسط نفسك على الناس ليحيطوا بك كما تحيط النجوم بالقمر. الانتفاخ الكبير ليس بالمال ولكن بالسلطة التي يأتي بها. الفقراء او الأغنياء الصغار يكرهون الأغنياء الكبار ويعبدونهم بآن اذ تسكرهم إنجازات لم يستطيعوا هم ان يحققوها.

لا يكافح هذا المرض الفتاك اذا حل فيك الا ان تجدد ايمانك بأن الله وحده يكفيك. ولكن اكثر الناس يتكلمون على إيمانهم ولا يريدون ان يتدخل الرب بشؤونهم. يلتمسونه معطي صحة لهم ولكن ليس حاكما بما يملكون. ان يعود الإيمان اليك هو ان تعتبر ربك سيدا على ما في قلبك اي ضاربا شهواتك المؤذية. واذ ذاك يوحي اليك انك ائتمنت على متاع الدنيا لتجعل المحتاجين شركاء فيه. هذا يعني انك لست محسنا بموقف فوقي ولكنك راد للمحتاج ما هو اصلا حق له عليك اذ لا تستطيع ان تخلص نفسك ما لم تصل الى هذه القناعة انك وكيل الله على ملك هو له. عندنا عبارة شعبية مغلوطة ان الله أنعم على فلان وفلان. انا لست متأكدا ان هذا كلام صحيح اذ لا اعرف مصدر ثروتك. اعرف شيئا واحدا ان الله يمن عليك بنعمته لقاء ما تعطيه اي بما يقل من ثروتك. المحتاج الذي انت تعطيه هو الذي يمن عليك بما يأخذه منك في حركة الحب التي لك نحوه. “ان العطاء مغبوط اكثر من الأخذ” (اعمال الرسل 20: 53). لأنك ان اعطيت تحب. وقد يأخذ منك من لا يحبك. هذا شأنه. ولكن ان انت اعطيت يكون الله محبك. ولذا قال: “بدّد، اعطى المساكين فيدوم بره الى الأبد”. (مزمور 112: 9). لا يحيا هذا القول الا من فهم قول السيد: “مجانا أخذتم مجانا أعطوا” (متى 8: 10). فلا يكون لك بعطائك مجد باطل ولا تنتظر شكورا ولا نفوذا ولا تعلم يسارك ما فعلت يمينك” (متى 6: 3) اذ ذاك فقط يحسب لك الله ذلك برا. وتعطي صاحب الحاجة القريب او البعيد، من كان على ديانتك ومن لم يكن عليها. في هذا فقط تكون على مثال الله “لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل المطر على الأبرار والفجار” (متى 5: 54). اذ ذاك الفقير يشفيك مما كان فيك داء. المحتاج الذي تبذل له مالك بحب كان طبيك.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

الجدل الديني/ الأحد 25 كانون الثاني 2004 / العدد 4

الجدل الديني صعب لأن العارفين الحقيقيين للدين قلة والمدعوون للمعرفة كثيرون. فالعالِم قليلا قد يجد خلافا حيث لا خلاف. فقبل الجدل اقرأ كثيرا لدعم ايمانك بالحجة والا فلازِمِ الصمتَ يحفظك ويحفظ الآخر. ولكن اذا سئلت عن ايمانك فجاوب قدر ما تعرف أو سَلْ عارفا وعد إلى من سألك في ما بعد مزودا.

وتزيد صعوبة المناقشة انها كثيرا ما كانت مقرونة بالانفعال او العصبية. فإن كنت عاجزا عن كظم غضبك لا تقل شيئا لكون الانفعال يؤزم العلاقة بينك وبين من جادلك. الجدل يتطلب الهدوء الكبير وسلامة القلب من كل بغض وسلامته من الجهل. فإن لم تكن قادرا على السلام الداخلي وعفة اللسان، فلا تدخل هذه المغامرة. العفة تقيك التحديات الكبيرة التي فيها التعدي على معتقد الآخر او تجريح من يسائلك.

انت دافع اذا كنت بين مسيحيين عن استقامة الرأي، وأوضح ما نحن نؤمن به بالمراجع المشتركة بيننا اي بالكتاب المقدس والتراث القديم المشترك. فالألفية الاولى واحدة بيننا وبين المسيحيين الغربيين. مثل على ذلك، اذا سألك كاثوليكي: كيف تكون كنيستكم واحدة وليس لها رأس واحد؟ تجيبه: ان الوحدة قد تكون على الشكل البابوي الفردي او تكون على الشكل الجماعي. فنحن رئيس الكنيسة عندنا في الكنيسة المحلية هو الأسقف، والجماعة مع الأسقف فيها كل الكنيسة الجامعة. والأساقفة هم معا في المجمع المقدس. والأساقفة في العالم هم معا في مجامعهم ومع بطاركتهم. على المستوى العالمي عندنا وحدة تنسيق وقرارات المجامع، وعندنا التواصل بين الكنائس. اوضح ما نحن عليه ولا تهاجم بابا رومية فهذه وسيلة الضعفاء. ولا يتراءى للكاثوليكي ان هناك نظاما غير نظامه ربما كان الأقدم في الكنيسة، ويكون، اذ ذاك، على الكنيسة الكاثوليكية ان تخطو خطوات نحو الكنيسة غير المنقسمة في نوع من حركة إصلاح او تجديد. تبقى في هذا السلوك اخا للكاثوليكي ومحافظا بآن على صلابة موقفك على رجاء الوحدة.

اما المسلمون فلا تجادلهم انت بدينهم. انهم لو عرفوه لأدركوا انه يدعوهم الى مجادلتنا بالحسنى. قد يطرحون عليك هذا السؤال: هل تؤمن برسالة محمد؟ لا تجب: انا لست اومن. قد يستفظع محاورك هذا الجواب. انت تجيب مثلا ان الله كلمنا الكلام الأخير بيسوع المسيح. وهذا الكلام يكفينا للخلاص وقد دوِّن في العهد الجديد، واختتم العهد الجديد بسفر الرؤيا. اما ما يقوله القرآن عن النصارى وتكفيره إياهم فبحث لا تدخله لأننا نحن لسنا النصارى الذين يتحدث عنهم. نحن مسيحيون وهذا اسمنا الوحيد، ولسنا اذًا معنيين بتكفير النصارى. انت أكد ايمانك بصلب المسيح وقيامته لأن هذا وارد في الإنجيل ومعظم الذين كتبوه شهود عيان للحادثة او عرفوا الذين شاهدوها. هناك اشياء دقيقة يعرفها المسيحيون المختصون بالإسلاميات. سَلْهُم عن هذه الأمور اذا طُلب اليك توضيحها.

الجدل الأصعب هو مع شهود يهوه والمعمدانيين على مختلف فروعهم. ضد شهود يهوه عندنا كتب كافية. ونهيئ فرق عمل لفحص تعاليمهم ودحضها، وكذلك نهيئ دراسة للبدع الإنجيلية المختلفة التي ليست من الكنائس البروتستنتية التقليدية السائدة. هم لا يبحثون عن الحق، وقلما يستسلمون لحجة دامغة. ولهم تفسير ضيّق وحرفي للكتاب المقدس، ونفسيتهم متشددة ومنغلقة. مثل هؤلاء أمرنا بولس الرسول ان نَحْذَرهم ونتجنّبهم. ولكن لا بد لك ان تتحصن ضدهم بالمعرفة.

اية كانت الجهة التي تناقشك، كن وديعا وحازما بآن. ولكن اعرف كثيرا من المعرفة في حلقات المعرفة والكتب الارثوذكسية التي صارت كثيرة.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

الشعوذة، السِحْر…/ الأحد 18 كانون الثاني 2004 / العدد 3

بعض اسئلة بسيطة. هل يستطيع انسان ان يعرف حدثا قبل ان يكون؟ الجواب لا لأن الله حجب هذه الرؤية عن البشر، وقبل ان تكون هي ليست كائنة، وهي قائمة في حرية الذين لهم قدرة عليها، وقد لا تكون في تصميمهم لتعبر من دماغهم الينا. ليس من شيء موجود قبل ان يوجد.

على هذا المبدأ تكون الرقية (الرقوة بالعامية) من باب العرافة. والعرّاف هو المنجّم الذي يدّعي علم الغيب الذي استأثر الله به. على هذا الغرار قراءة فنجان القهوة وكأن الخيوط او الرسوم على الفنجان الحاصلة من حركة الشفتين في الفنجان تدل على شيء. وقد سمّى الكتاب العرافة خطيئة في 1صموئيل 15: 23 وجعلها ارمياء في 14: 14 مرادفة للرؤيا الكاذبة وكذلك حزقيال. وجاء في اعمال الرسل ان بولس أخرج شيطانا من عرّافة (16: 16-18).

كذلك قراءة الأبراج المتفشية في صحف ومنشورات تجعل لك طبعا من الطبائع وتنبئ بأحداث مرتبطة بيوم ولادتك وساعتها ووضع فلكي محدد. قد يكون للنجوم تأثير ما على طبعك، ولكنك انسان حر وليس من قَدَر يحتّم عليك كيف تكون. هناك من حاول في فرنسا في السوربون ان يجعل من التنجيم علما، غير ان اعتقادنا الديني انك لست بآلة وان شيئا ليس محتّما عليك وان لك «حرية ابناء الله» كما يقول بولس الرسول. قراءة خطوط الكف من هذا القبيل، فعُمرك نتيجة الوضع الصحي الذي تكون عليه، وقد يكون هذا مسجَّلا في المورثات او علم الجنات وهو الذي ينبئ باستعدادك لهذا المرض او ذاك ولاسيما السرطان. فهناك تدخل في الجنات وهو علم بات متطورا في السنوات الأخيرة. انت تولد مع برنامج جينيّ، ولا يُنقش شيء من هذا على كفك.

اما قراءة طبعك من خطك فأمر ممكن لأنك إن صُنّفتَ على هذا الطبع اوذاك فقد يؤثّر في كتابتك للحروف والكلمات، ولكن لا يكشف هذا معرفة للمستقبل. ولست اظن ان من يفحص كتابتك يظن شيئا آخر.

وفي المنحى نفسه مناجاة الأرواح، وتُحرّمها الكنيسة تحريما مطلقا، فعندنا انك تخاطب القديسين بالصلاة ولا تتحكم بروح أحد وليس لك سلطان على روح، فالأرواح في سلطان الله وحده. يضاف إلى هذا أن تعاطي هذا الأمر جعله في بلد كالبرازيل دينا قائما بذاته، وجعله هنا وهناك نوعا من السكر او التخدير. مناجاة الأرواح لون من ألوان السِحر لأن السِحر هو عينًا ان تنسب الى نفسك قدرة يستأثر الله بها. جاء في كتاب الله: «لا يوجد فيك من يحرق ابنه او ابنته في النار ولا من يتعاطى عرافة ولا منجّم ولا متكهّن ولا ساحر، ولا من يشعوذ ولا من يستحضر الأشباح او الأرواح ولا من يستشير الموتى، لأن من يصنع ذلك هو قبيحة عند الرب» (تثنية الاشتراع 18: 10-12). ويؤيد العهد الجديد ذلك اذ يرصف سفر الرؤيا القاتلين مع السَحرة وعبّاد الأوثان (21: 8).

الفكرة الأساسية في العهد الجديد ان السِحر هو الاعتقاد بأنك اذا تلَوْتَ بعض الكلمات وقمت ببعض الحركات يحصل تلقائيا ما تريده ان يحصل. هذا يخالف ايماننا بأن الرب وحده بكلمته يغيّر ما في الطبيعة. الصلاة تختلف عن السِحر لكونها رجاء، وهي لا تقدر على شيء الا بنعمة الله. ولا يتقدس عندنا شيء لمجرد ان الكاهن تلا صلاة او قرأ مقطعا من الإنجيل. هو يستدعي الروح القدس على الخبز والخمر فيتحوّلان إلى جسد الرب ودمه بنعمة الروح وليس بمجرد التلاوة. هذا هو الفرق الأساسي بين السِحر والدين.

في هذا المنطق ليس من عين حاسدة قادرة ان تؤذيك، ولذلك كان مخالفة للإيمان ان تُعلّق خرزة زرقاء في عنقك او ان تضع نضوة حصان على باب بيتك لأن مثل هذه الأشياء لا يقيك الأذى. واذا وضعت صليبا في عنقك فإنما هذا شهادة على انك تنتمي إلى يسوع. وليس له بحد نفسه فعل آليّ لأن إشارة الصليب يجب ان تكون مقرونة بالصلاة. ليس من اعجوبة الا بإيمانك بالرب يسوع.

هناك شيء آخر ليس من السِحر ولا الشعوذة، وهو التخاطر télépathie، وهو ان تتناقل الخواطر أو الوجدانيات أو الصور من عقل إلى عقل عن بعد. مثال على ذلك ان امرأة بريطانية رأت او كأنها رأت ان زوجها الضابط في الهند طعنه في ظهره هنديّ بخنجر، وبعد ايام قليلة أخبرتها القيادة العسكرية بحدوث ذلك في الوقت الذي أَحسّت فيه بهذا الأمر. هذه قوى طبيعية تشبه البث التلفيزيوني. بعض الناس عندهم قدرة على التقاط صور من بعيد. كذلك هناك قدرة عند بعض الناس ان يُسقطوا عنقود عنب بمجرد النظر اليه. هذا ليس بمعجزة. ما عدا هذا التخاطر كل تحرّك كهذا الذي وصفناه سابقا سِحر أو شعوذة أو أُكذوبة وكلّه أذى روحي.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

الإنجيل الذي بعد الظهور/ الأحد 11 كانون الثاني 2004 / العدد 2

لعيد الظهور الإلهي اهمية في عباداتنا بحيث تأتي التلاوات الإنجيلية من العيد حتى الـ 13 من الشهر متعلقة بالعيد وكذلك السبت بعد العيد والاحد الذي نحن فيه ما يبين ان هذا العيد هو المحور بعد الفصح.

            يستهل الإنجيل هذا الفصل بقوله ان السيد ترك مدينته الناصرة غالبا لأنه لم يلق فيها شعبية وسكن في مدينة كفرناحوم الواقعة على ضفاف بحيرة طبرية. مؤلفة من خليط من الأعراق وهامة تجاريا، الأمر الذي يسهل وجود مستمعين الى البشارة. ويقول عنها متى انها في جليل الأمم اذ كان فيها وثنيون في الماضي.

            يقتبس متى مقطعا من اشعيا النبي: “ارض زبولون وارض نفتاليم…” وفي هذا إشارة الى هذين السبطين اللذين قطنا تلك الأرض عند توزيعها على قبائل اسرائيل عند فتح ارض كنعان. كلمة “عبر الأردن” المذكورة هنا تعني شرقي الأردن كما كانت مسماة الى ايامنا قبل ضم الضفة الغربية اليها على عهد الملك عبد الله الهاشمي.

            هذا الشعب الجالس في الظلمة وفي بقعة الموت -اذ لم يكن المسيح قد أتاهم- قد ابصر نورا عظيما بمجيء المخلص. ماذا تعمل انت ان أشرق عليك نور بعد ان كنت في العتمة؟ ترى نفسك في فرح اقتباله، ترى نفسك كليا في النور. ماذا كان على اليهود ان يعملوا. قال لهم: “توبوا فقد اقترب ملكوت السماوات”. ما تعني كلمة “توبوا”؟ هي تعني بلا ريب الا يسرق السارق فيما بعد، ويكف القاتل عن القتل، وما الى ذلك من وصايا. ولكنها تعني ما هو اعمق. ففي اللغة التوبة تعني التحول، ان تقتبس فكر الله وتبدل به فكرك اذ الخطايا تنبع من الفكر السيء. فاذا رأيت ان الله هو كل الوجود يأتي ذهنك منه ويمتلئ قلبك من قلبه فلا تسيّرك افكارك ولكن يسيرك فكر الله، ولا تنطق الا بما نطق الله به، ولا تحب الا الأشياء التي الله يحبها. هكذا تتم الوحدة بينك وبين الرب فكأنك وجهه الى الناس وكأنك لسانه وكأن يديك -اي فعلك- يداه. فاذا ادركت هذه الحال تكون تائبا.

            لماذا يجب ان تتوب؟ يجيب متى: “قد اقترب ملكوت السموات”. ملكوت السموات يعني ملكوت الله المستعملة في اماكن اخرى من العهد الجديد. تكلم يسوع كثيرا عن الملكوت بأمثال. هو سيأتي حسبما جاء في الصلاة الربية. “ليأتِ ملكوتك”. ولكن الملكوت حاضر منذ الآن بمجيء الملك. وانت مقبول فيه الآن ان آمنت بيسوع وأحببته. هو يعطيك الملكوت عربونا ويعطيك اياه كاملا في اليوم الأخير. وبين الآن واليوم الأخير تحيا في الكنيسة ويتجلى فيها الملكوت بالكلمة والاسرار الإلهية. فكلما اتجهت الى يسوع بقراءة الكلمة والصلاة وتغذيت من جسده ودمه تتغير من الداخل ان كنت صادقا. كل ما يجري في الكنيسة يرسخك في الملكوت. المهم الا تأتي بشيء يكون حاجزا دون تملك المسيح بقلبك. واذا كان قلبك غير منفتح له فلا تنفعك صلاة ولا عمل خير اذ لا يكون هذا خيرا في الحقيقة. اما اذا انفصلت عن الشر وكل شبه شر وامسكت عن كل كلام باطل ومجد باطل وعن كل كبرياء يضمك المسيح الى صدره ويجعلك من ابناء الملكوت اذ قال بعض آبائنا ان الملكوت هو الروح القدس. بالقداسة  تذوق طعم الملكوت منذ الآن.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

الظهور الإلهي/ الأحد 4 كانون الثاني 2004 / العدد 1

اعتمد يسوع في نهر الأردن فغطته المياه ليصوّر موته ثم صعد من الماء ليصوّر قيامته. وهذا صار كي نصبح شركاءه في الآلام وشركاءه في النصر. ولكونه اقتبل الموت بهذه الصورة الرمزية قال له الآب: “انت ابني الحبيب الذي به سُررتُ”. هو ابنه منذ الأزل اي له جوهره، وكذلك هو حبيبه لأنه ارتضى ان يموت حبا بنا نحن البشر.

         وكما ظهر له أبوه وروحه، يحب الثالوث القدوس ان يظهر علينا لنتمكن من احتمال شقاء هذا العالم وننهض منه على الرجاء. ومن اجل ذلك ننال في المعمودية الصبغة التي نالها هو بدمه. والمعمودية مسيرة مستمرة. فكلما غلبنا الخطيئة واغتسلنا بدموعنا وعدنا اليه بالطاعة تتجدد معموديتنا فينا لأن الروح القدس يجددنا كل يوم ان أردنا التجدد. هذا يتطلب ان نقول للسيد: ها أنذا، ها انا مستعد لطاعتك حسب قوله: “من احبني يحفظ وصاياي”. نتيجة لذلك نحب الإخوة، واذا احسّوا انهم محبوبون تزداد ثقتهم بالرب اذ يعلمون انهم ليسوا متروكين للعزلة والضجر والحزن، ولكن صدور الإخوة تضمّهم واذا رأوا ذلك يفهمون ان صدر يسوع هو الذي يضمهم وانهم باتوا ابناء بالابن الوحيد. ويكفيهم هذا فرحا، وبهذا الفرح تكون السماء قد انعطفت عليهم ورفعتهم اليها.

         وتأتي الحروب ويفتك الفقر بنا ونحس بضعف البلد ويأس الكثيرين، ولكن اذا نزل الرضاء الإلهي علينا نعالج الآخرين باللطف ونخفف عنهم مصائبهم. وتبقى الحروب ويبقى الفقر والمرض، ولكن في وسط كل هذا نعرف ان الله لا يتركنا وانه هو الذي يداوينا وسط هذا الفراغ الذي أُلقينا فيه. فنحن لا نسقط في الجب ولا نترضض لأن يد الرب تنشلنا من وطأة المحنة.

         يسري التاريخ ولا تتغير فيه اشياء كثيرة. قال يسوع: “الفقراء معكم في كل حين”، وكان يمكن ان يقول: “المرض والفقر والخطيئة معكم في كل حين”، ولكني انا رفيقكم في كل محنة ورفيق بكم واحملكم كما يحمل الراعي الخروف المكسور. الخلاص ليس الخلاص من الاوجاع بالضرورة. فهذا لا يحصل عليه كل واحد. ولكن الخلاص خلاص من الخطيئة ومن غضب الله على الخاطئين. وهذا هو المجد او هذا هو السلام. وهكذا نعيش في مملكة الحب التي هي وحدها المملكة الحقيقية في هذا العالم. انها كامنة في القلوب ويسطع نورها على القادرين ان يشاهدوا النور.

         هذه الاستنارة لنا ان نعيشها مع بعض الإخوة الذين يؤمنون بها. هناك دائما في كل مكان تجمعات مستنيرة بالنعمة. هؤلاء هم الرعية. اما الأعمال والمشاريع الظاهرة فلا اهمية لها الا اذا زادتنا قربى من يسوع. دائما كان النور ملْك القلّة. ولكن القلة هي التي تخلّص العالم. الرعية ليست بالإنجازات العمرانية وان كان علينا ان نتابعها ليتعزى الكثيرون. نحن لا نفتخر بالعمران. انه لا شيء ان لم يبعث فينا الفرح ويقربنا الى التقوى.

         والرعية تسطع اذا ازداد قراء الإنجيل فيها وكثر الذين يشتركون في الذبيحة الإلهية والذين يحسنون الى المساكين. الرعية لا فاعلية لها ان لم تركز نشاطها على المحتاجين الذين يحبهم يسوع لأنهم اخوته الصغار وليس لهم عضد سواه. مشروعكم الاول قبل كل بناء ان تبنوا نفوسكم بالعطاء وان يفرح هؤلاء الإخوة. ألم تسمعوا ما قاله الله عن المحسن: “بدد اعطى المساكين فيدوم برّه الى الأبد”؟

         هؤلاء المحبون هم الذين ينزل عليهم الظهور الإلهي. اما ان تنضح بيوتنا بالماء المقدس وما عقدنا النيّة على مشاركة اموالنا، فيبقى الماء ماء ولا يصير نعمة. اما قرأتم: “ان العطاء مغبوط اكثر من الأخذ”؟ انا لا شيء يعزيني مثل ان اسمع ان هذه الرعية كريمة جدا. اعرف، اذ ذاك، انها وفية لمعموديتها.

Continue reading
2004, جريدة النهار, مقالات

الإسلام والعنف / السبت في 3 كانون الثاني 2004

الإسلام من حيث هو ثقافة او حضارة في العروبة. وبعض العروبة منه او فيه. وليس على احد حرج من ذلك. وهكذا تجيء عبارة «العرب والمسلمون» على الأقلام او في وسائل الإعلام معبرة عن واقع حي، فلا مهرب من ان يفكر المسيحيون العرب بشأن الإسلام فإنهم معنيون على مستوى الحياة وعلى مستوى النوعية. واذا أضفنا الى ذلك ان عقلاء المسلمين اليوم يتكلمون على حوار الحضارات فالأولى بالحوار العرب الذين يعيشون في البلدان التي يسودها الإسلام. هذا اذا لم نقل ان المسيحيين المنشغلين في الآداب العربية يعرفون عن الإسلام اكثر مما يعرفون عن المسيحية. هذه الأسطر لن يتقبلها احد ما لم يعتبرنا من اهل البيت.

من هذه الإطلالة اسمح لنفسي ان ارى في العالم الإسلامي هزة كبيرة قد تكون بداءة لتحرك فكري كبير فيه تجعلني احس اننا على طرق الرجاء. ولست اريد بذلك حركة تجديد حسب المصطلح الإسلامي المعروف وليست هي فقط فتحا لباب الاجتهاد الذي يدعو اليه مسلمون كثر. ولكني اتوقع تغييرا في الرؤية الى التراث ولاسيما في ما يتعلق بموضوع الدولة او علاقة الدين والدنيا. فاذا دار في المملكة العربية السعودية حديث عن المشاركة وحرية التعبير وذلك بدءا بالاوساط الرسمية لا نكون امام مجرد سعي لتبديل سياسة بل امام إعادة نظر في الحركة الفقهية التي تستند اليها الأسرة المالكة. ولقد اعترف المراقبون العرب ان العنف الذي كانت له اسباب كثيرة انما هو ثمرة التكفير لبعض من المسلمين وبعامة نتيجة فكر ديني يحتاج الى انفتاح كبير، ذلك لأن السماحة وحرية الرأي الآخر فيهما ما يعزز الإسلام نفسه الذي عرف في ازمنة الحكم العربي القديم ان يكون بعيدا عن الغلو واستبداد السلاطين.

من باب الفلسفة السياسية او من باب علم الكلام تبرز قضية العلاقة بين الإسلام والعنف. جاء في لسان العرب ان السلم هو الإسلام. لم أجد هذا المعنى صريحا الا في سورة البقرة، في الآية 208: «يا ايها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة». واما في لغة العرب بعامة فالسلم هو السلام والسلامة بمعنى التحية وانتفاء الحرب. وعلى وجود هذا الترادف فليس في هذا تخصيص يمنع الحرب والغزوات وفتح الله للبلاد ونصرة للمسلمين ببدر وغير بدر. فمسألة السلاح واستعماله مسألة واردة في بحث العنف على ما يسمى في المصطلح الحديث.

ترتفع أصوات مفكرين مسلمين هنا وفي المغرب يدعون الى الغاء مقولة «دار الحرب» باعتبارها تقابل «دار الإسلام». ذلك انها تعني ان المسلم مستنفر آجلا ام عاجلا لمحاربة الآخرين. هذا لا يمكن ان يعني الا تعطيل احكام الجهاد والاندراج في البلد الذي يتوطنه المسلم والسلطة فيه -اية كانت السلطة- تقرر السلم او الحرب. في السياق نفسه آيات السيف كما نعرفها في سورة التوبة وعند معظم المفسرين انها نسخت: «لا إكراه في الدين». وفي هذا السياق ايضا حكم قتل المرتد.

هل هذا باقٍ الى الأبد وتفعيله الى الأبد او يسكت عنه في حين وينبش في حين؟ اذا أريد تفعيل آيات السيف يعني هذا ان «المشركين» في معظم بلدان آسيا وبعض من افريقيا لهم ان يعرفوا انهم في خطر. ويكون التفريق بين الإسلام وحركات الإحياء الإسلامي كما يعبر عنها اهل الغرب Islam وislamisme لا أساس له في النصوص التأسيسية. اذا كان هناك توثب دائم للقتال تكون عبارة ان الإسلام دين السلام في حاجة الى مزيد من التوضيح. واذا كان بعض الائمة يوسعون مجال الشرك (وهذا تجده كثيرا في وسائل الإعلام المرئي والمسموع) يكون عدد رهيب من الناس مهدَّدين.

هل من يجرؤ ليقول ان كل هذا معطل كليا وان الغزوات الاولى وحروب الفتح قد ولت نهائيا وتبقى بين المسلمين وغيرهم لغة تخاطب. هل يقف مسلم ليقول ان كل خطاب بشري لا يفهم الا بالاستناد الى التاريخ وان لا شيء في العالم يبرر الحرب الدينية ذلك لأن الدين قناعة قلب. انت تسمع من حين الى آخر المسلمين يتكلمون على حقوق الإنسان. أبسط حق للإنسان ان يشهد بما يريد وان يتبع ديانة او لا يتبع ديانة او يعلن تغيير قناعاته. «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» (سورة الكهف، الآية 29). ان حرية الفكر تشمل كل شيء او لا تشمل شيئا.

هل كان من قبيل الصدفة ان أعجب معظم العرب بما فيهم مسيحيون بأسامة بن لادن في الحادي عشر من ايلول وان هذا الشعور مستمر في بعض البلدان؟ ماذا يفسر استمرار بعض من هذا الإعجاب حتى اليوم؟ الا يدغدغ الكثيرين ان الشيخ أسامة ورفيقه أيمن الظواهري يتحدثان بلا انقطاع عن «الصليبيين واليهود والمنافقين»؟ هل الظواهري الذي عاش معظم عمره في مصر مقتنع ان الأقباط من الصليبيين او انهم اقرب الى الأميركان من بعض المسلمين النافذين في القاهرة؟ وهل هو مقتنع مع صديقه الشيخ أسامة انهما قادران على القضاء على اليهود بهذه السهولة وكذلك على الصلبيين من اهل الغرب بترسانتهم النووية وغير النووية؟

انه لحسن جدا ان تكون تفجيرات الرياض والمغرب أقامت مسافة بين العالم الإسلامي والإرهاب. والأحسن ان السلطات السعودية اخذت تعي ان التعليم الديني عندها كما مورس حتى الآن غالى كثيرا في التكفير وانه منبت محتمل لاستئناف هذا الإرهاب في اية بقعة من المعمور. هذا يطرح مسألة وجود السياسة في الإسلام باعتباره دينا ودولة في مصطلح او دينا ودنيا في مصطلح. وهذا يطرح مسألة تجمع المسلمين في امة واحدة بالمعنى السياسي للكلمة بحيث ان الأمر السياسي يأتي بحثا علميا والتزاما لأمة واحدة. كذلك هذا يطرح مشكلة الإقرار بالمواطنة وهذه يقول بها غير عالم مثل محمد سليم العوا وطارق بشري في مصر وفي هذا تصديق على ما قام به مصطفى كمال بالغاء الخلافة في السنة الـ1924 ويؤكد بالتالي ان المسلمين ابناء تاريخهم الحديث ويتأقلمون بكل دولة يعيشون فيها وليس لهم مطمع ان يهبوا هبة واحدة الا للعدل الذي يحميهم ويحمي الناس جميعا. نظريا ليس من عدل للمسلمين وعدل آخر للآخرين. والمهمة واحدة لتثبيت حقوق البشر جميعا كائنا ما كان مذهبهم.

هل تتصورون احدا في العالم يكره تقدم المسلمين في معارج العلم والتكنولوجيا؟ وحدهم الصهاينة يكرهون المسلمين. ولكني لم اعثر على موقف كهذا في اوربا. اجل الكثيرون يطمعون ببلاد المسلمين وقد أكدوا هذا ونحن مع المسلمين ضد الطامعين. المسألة مطروحة على مستوى النفط وغير النفط وتاليا على مستوى تشكيل حكومات ذليلة. ونحن مع انتفاضة المسلمين في كل مكان من اجل الحفاظ على حرياتهم ورقيهم العمراني والعلمي فإن هذا يؤمن الحرية لمن عاش معهم بالقضاء الكامل والنهائي على الذمية وتداعياتها وذكرها.

هل من إمكان لإسلام معتدل؟ هذا مستحيل اذا كان يخفي تسلطا على العالم ويرجئ التنفيذ. انا ارجو ظهور إسلام صاح منخرط بالعقل النقدي وبالذهنية التاريخية التي تقرأ كل نص في إطاره التاريخي. ان تؤمن برسالة محمد ونبؤته وما يستتبع ذلك من صلاة وصوم وزكاة والحج الى البيت بعد اداء الشهادتين فهذا لك ولك فيه حوار راقٍ مع الأديان والحضارات الاخرى. ان تندرج في البلد الذي انت فيها ويكون تاريخه تاريخك فهذا ما يجعل إسلامك دين سلام.

ما كانت هذه السطور الا لحلمي بعالم إسلامي عظيم راقٍ جدا في يشريته وطموح الإنجازات وملتهب بحبه لله ومنطقي في ما يقول ومتعاون مع كل قوى الخير في العالم ومتبن للعقل المستنير بالإيمان ولا يكون الإيمان فيه بديل العقل، عالم همه الطهارة وخدمته للإنسانية كلها، مؤمن بأن العزة هي للناس جميعا اذا باتوا على خلق كريم. انا اشتهي عالما اسلاميا ينبهر البشر جميعا بصلاحه وجلال قيمه، حر من عقدة الأقلوية ومنجذب لوجه الله مرتسما على كل وجه بشري ويتحرك بمقابسة الأنوار انى وجدت ويعرض نفسه بلا إكراه لنعيش معه في طمأنينة وحرية.

Continue reading