شهوة المال / السبت في 31 كانون الثاني ٢٠٠٤
يصعب على المرء ان يكتب ضد الشهوة للمال عندما يكون شعبنا فقيرا. يبدو، اذ ذاك، ذلك ذما للأغنياء. أقولها توا ليس المسيح عدوا للأغنياء من حيث هم كذلك. فبعضهم قد ورث وكان مال بعض ثمرة عمل حلال. ان يسوع الناصري همه ان تكون حرا مما اقتنيت كما هاجسه ان تكون حرا من جمالك ان كنت جميلا او من ذكائك اذا كنت ذكيا او من سلطتك لو كنت ذا سلطة. الإنجيل يكسر القيود وكل ما ذكرنا مرشح ان يستعبدك وبولس يقول: “انما دعيتم الى الحرية فلا تجعلوا الحرية فرصة للجسد” اي لمكانة دنيوية لديكم او لظهور يتحكم فيكم. الغني في العربية من اعتد بغناه فاستغنى عن الله اذ يكون قد استغنى عن المحبة وهي القدرة الإلهية الوحيدة فينا التي تجعلنا ملتصقين بالبشر التصاق أخوّة وتجعلنا معترفين ببنوتنا لله. سندي في ذلك مثل الغني الجاهل الذي أخصبت كورته فعظمت غلاله ثم قال: أهدم أهرائي وأبني اكبر منها، فأخزن فيها جميع قمحي وارزاقي وأقول لنفسي: استريحي وكلي. فقال له الله: يا غبي، في هذه الليلة تسترد نفسك منك، فلمن يكون ما اعددته؟ فكهذا يكون مصير من يكنز لنفسه ولا يقتني عند الله” (لوقا 12: 21-31). يبين هذا المثل ان يسوع لم يشجب البناء الجديد الذي كان لا مهرب منه ولكنه ذم خضوع هذا الغني لشهوة التنعم وما استتبعته من الاستغناء عن الله. تحول المعبود وظهرت عبودية جديدة في النفس.
الا يكون المال ما انت تابعه، الا يصبح مشتهى قلبك يصير الرب وحده من تسير اليه يعبر عنه بصورة بليغة هذا المقطع من متى: “لا تكنزوا لأنفسكم كنوزا في الأرض، حيث يفسد السوس والعث، وينقب السارقون فيسرقون، بل اكنزوا لأنفسكم كنوزا في السماء… فحيث يكون كنزك يكون قلبك” (6: 9-12). المعنى الواضح الا يكون للإنسان كنزان، ان يقتصر على الكنز السماوي، ان يكون حبه فوق. لم يشجب السيد جمع المال فهذا مفيد في الاقتصاد الحر اذ يتعرض الإنسان لنكسات او أخطار تتعلق بتغير سعر العملة وبهبوط اقتصادي رهيب. السؤال هو ما هذا الشيء الذي تتوق أنت اليه. يلي هذا المقطع ما يوضحه: “ما من احد يستطيع ان يعمل لسيدين، لأنه اما ان يبغض احدهما ويحب الآخر، واما ان يلزم احدهما ويزدري الآخر. لا تستطيعون ان تعملوا لله وللمال” (متى 6: 42). لك ان تحصل مالا بعملك ولكنه لن يكون مخدومك. الأمر صريح. لا تستطيع ان تنقل مالك الى قلبك. اذ ذاك لا يسوده الله القائل في الوصية الاولى الى موسى: انا إلهك… لا يكن لك إله سواي”. غير ان عبادة الغني للإله الواحد الأحد أمر عسير عبر عنه المعلم بقوله: “لأن يمر الجمل من ثقب الابرة أيسر من ان يدخل الغني ملكوت السموات” (متى 19: 42). هي آية تحذير وتنبيه شديد الى الإغراء المحيط بكل من ملك شيئا من متاع الدنيا ولكنه ليس تعجيزا بدليل قول المعلم المبارك بعد ان سأله تلاميذه “من تراه يقدر ان يخلص؟” فأجاب: “اما الناس فهذا يعجرهم، واما الله فإنه على كل شيء قدير”. لم يقل يسوع تصرف انت بمالك كما يحلو لك. لم يدخل على كلامه السابق سهولة ولكنه عنى ما سوف يوصي به مرارا انك بالعطاء تنجي نفسك من التمسك بما انت مالك.
الى هذا جاء فكر آبائنا. قال يوحنا الذهبي الفم: “اذا احببت ان تكون صديق المسيح تكره المال وشهوته لأنها تحول اليها فكر من أحب وتسلبه الحب الحلو جدا ليسوع”. البخيل يذبح نفسه للمال فقد رأى بولس ان “الطمع عبادة اوثان” (كولوسي 3: 5). انه صنم في النفس.
ازاء هذا الخطر بدا تعليم آبائنا الذين قالوا باختصار ان المال أمانة من الله. هو ليس لك، انك عليه موتَمن. فالمال من حيث استعماله والاستمتاع به “ليس لأحد من جهة الملك” (سمعان اللاهوتي الحديث). ذلك ان المال يرتب علاقة بالآخر. “فما فاض عنك تجعل نفسك مالكا له وهو ليس لك” (القديس غريغوريوس النيصصي). من هذه الزاوية ما لا تحتاج انت اليه تسرقه من الآخرين. ويستند ذلك الى كون الخالق وزع اموال هذه الدنيا مشاركة على البشر ليتمتعوا بها على التساوي. فإن يستحوذ بعض على رزق اكثر من سواهم لم يكن في البدء وجاء نتيجة للخطيئة الاولى وازداد بقوة الرغائب. وعلى هذا اوضح باسيليوس الكبير انه “عليك ان تستعمل المال كوكيل لا كمتمتع”. فالمال يجب ان نتقاسمه بإنصاف. فالذي يكدس المال لمتعته الشخصية فقط يحفظه بصورة انانية ويضرب الغاية التي من اجلها وجد اي التقاسم. الأخ الآخر منسي ومنبوذ في حين انه شريك.
هذه الشهوة شبيهة بالشراهة فهي لا تقف عند حد ولهذا كانت السمنة. والغنى الفاحش الذي ليس عند صاحبه حس بالآخرين نهم داخلي لا يقف هو ايضا عند حد. في هذا يقول لي بسطاء الناس: أليس الثري يأكل كالفقير ويلبس مثله وجوابي لهم انه لا يرتضي بالطعام العادي لأنه يريد ان يتلذذ ويعيش في قصر او اكثر ويسافر كثيرا ويضطر ان يقتني ما ليس له حد. غير اني وجدت بعد إمعان فكر ان البسطاء ليسوا على خطأ كبير. فأنا افهم ان يكون لدى الرجل متع كثيرة بسبب من الارتياح الكبير الذي يريد نفسه عليه ومع هذا يزين لي ان عند بعض من الاثرياء فحشا كبيرا. انهم ينفقون على أعراس بنيهم مبالغ لا تتصورونها. انه عادي ومألوف ان يبذلوا عدة مئات من ألوف الدولارت اليوم وهذا كان من الممكن ان ينقضي باحتشام. اظن ان الاحتشام هو المفقود.
غير انه موجود عند أثرياء كبار هنا وثمة. اعرف الكثير عن هذا الثري او ذاك في اوربا من الذين يحيون في تواضع ولا تصدمك رؤية الغنى المنفلش اذا زرتهم في قصورهم. وتبقى اموالهم في دوائر استثمارهم الصناعي ويوزعون منها الكثير الكثير. قال لي مرة صديق كبير كان ثريا عائشا في الغربة: “كلما حصلت على مبلغ من المال كبير اوزع منه مقدارا كبيرا حتى لا يستعبدني”.
الشهوة، كل الشهوة ضارة فاتكة لأن من طبيعتها ان تشتعل وتلهب صاحبها. انها لطاغية اذ لا تحتمل الشبع. فاذا قويت تقود الى قلق الخسارة. كيف نحافظ على ما اقتنيناه، ذلك يكون الهاجس وذاك يكون الاضطراب. الى هذا شعور الحزن اننا لم نكسب ما كنا نشتهيه او اننا لسنا مليئين بالقدر الذي رغبنا فيه. وفي هذا يقول القديس يوحنا كاتب سلم الفضائل: “كما ان البحر لا يخلو من موج لا يخلو البخيل من الحزن”. وعلى الرغبة في المتعة لا يرى الثري الفاحش انه يتمتع كثيرا. الشره لا يحس انه اكل ما يكفيه او انه حصل على الطبق الذي اشتهاه. ليس للاشتهاء ايا كان من حد.
الحكيم من اذا رأى الى ما عنده يعرف انه قد يفنى. المتعلق بما في الدنيا يحس به انه القيمة المطلقة التي لا تعلوها قيمة. وفي هذا يقول الذهبي الفم: “وكثير من الناس يحكم خطأ في شؤون هذه الدنيا فيقعون في اليأس. هكذا المجانين يخافون مما لا يخيف، يخشون امورا كثيرا ما لم تكن موجودة ويهربون امام الظلال. مثلهم من خشي خسارة الفضة”. هذا نوع من الهذيان. هكذا ايضا يفكر باسيليوس اذ يقول: “لا ترى غير الذهب، تتخيله في كل مكان. مهووسة به احلامك ويهيمن عليك في النهار”. ان تكون اقوى من غيرك أليس هذا ان تكره غيرك؟
الا ان هناك حالة واحدة يباح فيها الفرح بالكسب. هو ان تطلب الى الله مالا لأن الفقراء حولك في كل حين وليس عندك ما توآسيهم به. اما اذا سررت لمجرد الكسب فوق حاجتك الحقيقية اي اذا تعلقت بالازدياد فهذه رغبة مؤذية. ان يكون الآخرون همك ومركزك قد يقودك الى ان تتمنى الحصول على ما تسد به حاجاتهم. ان تسعى الى الازدياد بلا حدود لا يعني الا انك عرفت نفسك محور الوجود لاسيما ان “محبة الفضة” كما -تقول كتب الصلاة عندنا- تغذي فيك شهوة التسلط التي هي قمة الرذائل. اما الغنى الفاحش جدا فليس غاية الشهوة. الشهوة الكبرى ان تبسط نفسك على الناس ليحيطوا بك كما تحيط النجوم بالقمر. الانتفاخ الكبير ليس بالمال ولكن بالسلطة التي يأتي بها. الفقراء او الأغنياء الصغار يكرهون الأغنياء الكبار ويعبدونهم بآن اذ تسكرهم إنجازات لم يستطيعوا هم ان يحققوها.
لا يكافح هذا المرض الفتاك اذا حل فيك الا ان تجدد ايمانك بأن الله وحده يكفيك. ولكن اكثر الناس يتكلمون على إيمانهم ولا يريدون ان يتدخل الرب بشؤونهم. يلتمسونه معطي صحة لهم ولكن ليس حاكما بما يملكون. ان يعود الإيمان اليك هو ان تعتبر ربك سيدا على ما في قلبك اي ضاربا شهواتك المؤذية. واذ ذاك يوحي اليك انك ائتمنت على متاع الدنيا لتجعل المحتاجين شركاء فيه. هذا يعني انك لست محسنا بموقف فوقي ولكنك راد للمحتاج ما هو اصلا حق له عليك اذ لا تستطيع ان تخلص نفسك ما لم تصل الى هذه القناعة انك وكيل الله على ملك هو له. عندنا عبارة شعبية مغلوطة ان الله أنعم على فلان وفلان. انا لست متأكدا ان هذا كلام صحيح اذ لا اعرف مصدر ثروتك. اعرف شيئا واحدا ان الله يمن عليك بنعمته لقاء ما تعطيه اي بما يقل من ثروتك. المحتاج الذي انت تعطيه هو الذي يمن عليك بما يأخذه منك في حركة الحب التي لك نحوه. “ان العطاء مغبوط اكثر من الأخذ” (اعمال الرسل 20: 53). لأنك ان اعطيت تحب. وقد يأخذ منك من لا يحبك. هذا شأنه. ولكن ان انت اعطيت يكون الله محبك. ولذا قال: “بدّد، اعطى المساكين فيدوم بره الى الأبد”. (مزمور 112: 9). لا يحيا هذا القول الا من فهم قول السيد: “مجانا أخذتم مجانا أعطوا” (متى 8: 10). فلا يكون لك بعطائك مجد باطل ولا تنتظر شكورا ولا نفوذا ولا تعلم يسارك ما فعلت يمينك” (متى 6: 3) اذ ذاك فقط يحسب لك الله ذلك برا. وتعطي صاحب الحاجة القريب او البعيد، من كان على ديانتك ومن لم يكن عليها. في هذا فقط تكون على مثال الله “لأنه يطلع شمسه على الأشرار والأخيار، وينزل المطر على الأبرار والفجار” (متى 5: 54). اذ ذاك الفقير يشفيك مما كان فيك داء. المحتاج الذي تبذل له مالك بحب كان طبيك.
Continue reading