Monthly Archives

March 2009

2009, مقالات, نشرة رعيتي

في الايمان والصلاة والصوم/ الاحد 29 آذار 2009/ العدد 13

هذا الشاب الذي يقول الإنجيل إنه كان فيه روح شرير وتظهر عليه علامات داء الصرع، سأل الرب أباه إن كان يؤمن أو كان يستطيع أن يؤمن. أجاب: «اني أؤمن يا سيد فأغِث عدم إيماني» بمعنى ضعف إيماني أو قلّته.

كان يسوع يريد أن يهب هذا الرجل شفاء ابنه تلبية لإيمان الوالد، وفي مواضع كثيرة جعل السيد الإيمان شرطًا للشفاء أو حافزًا للشفاء لكون الإيمان أهم من صحة الجسد. أراد هذا الرجل أن يتقوى إيمانه بنعمة يسوع. كان هذا الوالد يعرف أن أمورًا حياتية كثيرة تُلهي الإنسان عن إيمانه، وكان يعرف أيضًا أن الإيمان عطية الله. بكلام آخر يتشدد الإيمان إذا كافحنا ضعفنا فيه، يتشدد بمحبتنا لله، كما أن الإيمان إذا نزل يدعم المحبة. هناك طريق ذو اتجاهين بين الإيمان والمحبة.

في هذا الإطار قال يسوع لتلاميذه إن هذا الجنس (من الشيطان) لا يمكن أن يخرج إلا بالصلاة والصوم. طبيعة الصلاة أنها تُدخل الله إلى القلب، والقلب المستـنيـر بـالله يـقوى على الوجود كله. الرب إذا حلّ فينا يطرد أعداءه الذين يعشّشون فينا، فلا يبقى مكان إلا لله، فإذا فعلنا في الوجود يكون الله ذاته قد فعل، نصير جسره إلى هذا العالم وإلى قوى الشر التي فيه. المعروف أننا نحاول أمرًا أول هو ان ننقّي القلب ليستقبل الله، وأمرًا ثانيًا ان الرب إذا جاء هو أيضًا يطهّر القلب.

الشيء الآخر ان قوة الصوم فينا تحلّ فينا ثمرةً للصلاة -هي تمكّننا من أن نصوم. والحركة العكسية صحيحة أيضًا وهي أننا إذا كنا في حالة الصيام تحنّ النفس الى الصلاة. فإذا فرّغنا الجسد من الطعام وسلكنا في طريق ضبطه، نكون في حاجة إلى أن نملأ الكيان من شيء غير الطعام، وهذا لا يمكن أن يكون إلا الله. إنه هو الذي يجعل لنفسه مكانًا فينا. وإذا كنا حقًا محصورين بالإمساك وهاجمَنا روح الشر، نفكّر عند التجربة أننا لا نستطيع أن نصبح في تناقض -كيف نخطئ وقد دعونا الرب أن يجعل لنفسه مسكنًا فينا. الصلاة والصوم متشابكان متلاحمان.

وقد فتحت لنا الكنيسة أبوابها لنا في هذا الموسم المبارك لكي نأخذ المعاني الإلهية بترداد صلاة النوم الكبرى مع الجماعة والمشاركة في القداس السابق تقديسه. فهذه الفترة تكثيف للصلاة، فترة وعي ونباهة حتى يزيد شوقنا إلى الله ويدفعنا الشوق إلى مخاطبته. من يقول: إني اشتقت إلى الرب وأريد أن أكلّمه مع كل إخوتي في الكنيسة لأني أرجو أن يكلّمني هو ويهزّ ضميري ويعطيني الفرح على رجاء الفصح.

الفصح «عيد الأعياد وموسم المواسم» لأنه النور الإلهي الذي يرتسم على وجوهنا، ويمكّننا انتصار القيامة من رؤيته.

كل صلاة مفروض انها فصحية بمعنى انها مقتبسة من قوّة موت السيّد وقوّة قيامته. السيّد الظافر هو الذي يبعث بروحه القدوس الى قلوبنا ليشفع بنا. لذلك نستهلّ كلّ خِدَمنا في الكنيسة باستدعاء الروح القدس (أيها الملك السماوي). المصلّي انسان يكشف ان الله موجود في العالم في قديسيه.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الكنيسة والدولة / السبت 28 آذار 2009

هل الكنيسة بنيةً يمكن أن تكون بإزاء الدولة بنية حتى نجمعها بواو العطف للتمييز او للتفريق او المواجهة؟ في العهد الجديد السفر الوحيد الذي يتضمّن حكمًا إلهيًّا في الدولة الرومانية هو سفر الرؤيا. نيرون في هذا الكتاب هو الوحش. في الانجيل هيرودس هو ثعلب. كان هذا رأيا إلهيًا في حاكمين، ولكن في انتشار الإنجيل وفي مواجهة روما الوثنيّة بطرس وبولس يتكلّمان عن الخضوع للسلاطين ولا يتحدثان عن حقوق الكنيسة على الدولة ولا على علاقة عضويّة. هذه العلاقة لم تظهر الا مع قسطنطين في بدايات القرن الرابع وبخاصة مع سلالته. قسطنطين على تنصّره كان يعرف ان الكنيسة شيء آخر لأنها ترعى الأمور الداخليّة اي الروحيّة والأسرار والعقيدة وان الامبراطور «أسقف الأمور الخارجيّة».

كان همّ أباطرة الروم تدبير المملكة وهنا تؤخذ السجالات اللاهوتيّة في عين الاعتبار لأنها كانت تقسم البلاد ويحصل تدخّل الامبراطور لصالح ما كان يعتبره الأرثوذكسيّة ضدّ أهل البدع حتى ظهرت فكرة الـ Synergie  اي التناغم بين الكنيسة والدولة مع مراعاة استقلال كل منهما. الامبراطورية الرومانية الشرقية استمرار روما القديمة. لذلك ترى نفسها شيئا قائما بذاته ولو كان الناس أنفسهم رومانا شرقيين من جهة ومسيحيين ارثوذكسيين من جهة.

اتبعت روسيا هذا المنهاج حتى جاء بطرس الأكبر وأخضع الكنيسة للدولة. والآن بعد سقوط الحكم الشيوعي جاء البطريرك كيرلّس المنتخب جديدًا يتحدّث عن تناغم بين الدولة والكنيسة المستقلتين الواحدة عن الأخرى.

لن أتكلّم على الغرب الذي اتّبع بعامة العلمانيّة على أطيافها المختلفة التي لا تنظر الى انتماء المواطنين الديني ولكنها قد تسند الكنيسة هنا وثمّة خارج فرنسا. غير ان فلسفة التعاون في شرقي أوربا ما كان ممكنا الا لكون المواطنين من لون دينيّ واحد حتى تقوم لغة واحدة بين الكنيسة والدولة. اما اذا كان البلد متعدّد الدين فكيف يتمّ الخطاب بين الدولة والجماعات الدينيّة الأقلوية. اذ ذاك، ليس من خطاب ديني بين الطوائف والحكم، فاذا كان الحكم قائما على دين تبطل بعض مقولات الخطاب الديني بين المجموعات الدينيّة والحكم.

اذ ذاك نعود الى العهد الرسولي حيث لا تُخاطب الكنيسة الدولة بل يخضع كل المؤمنين لها ولو كانت وثنيّة مضطهدة.

هذا في التاريخ. ولكن في المنظار العقدي ليس من مواجهة نظريا بين الكنيسة القائمة في قلب الله والمتّجهة الى الحياة الأبدية والدولة التي تحكم أزمنة الناس او تحكمها أزمنة الناس. كيانان لا رباط بينهما بواو العطف.

اما المؤمن الفرد فينبث منه روح الرب الى الناس المجتمعين في دولة. هذه نفحات نبويّة. اذًا الكنيسة المهيكلة والدولة المهيكلة لا تلتقيان. الأنبياء اي الملهمون بالروح يغيّرون البشر وهؤلاء تنشأ منهم القوانين وينشأ منهم العمل السياسي. واذا كان البلد متعدد الدين تبدو نفحات مختلفة من اهل الأديان متقاربة حينا ومتباعدة أحيانا ويأتي النسيج الوطنيّ متعدّد اللون.

اذًا يستحيل المواجهة بين الحكم وكنيسة المسيح وصلا او انفصالا اذ لا مواجهة في المبدأ وان رأت بعض البلدان ان تتعامل والطوائف مما يجعل العلمانيّة فيها مبتورة او نسبية. مع ذلك يبدو ان فرنسا تظهر فيها ميول للتعامل مع الأديان اذ تحملها إثنيات غريبة الأصل لم يكتمل انصهارها بالمجتمع الفرنسي.

الجواب المسؤول عن العلاقة عند المسيحيين لن يرد الا اذا اعتبرت الكنيسة سائرة الى الحياة الأبديّة فقط فيما أبناؤها يستعملون هذا العالم ويشهدون فيه. والشهادة متروكة لكلّ واحد منهم في تحليله الخاص للوضع السياسيّ في بلده. لغيره من المؤمنين ان يقوم بتحليل آخر فيتّخذ موقفًا عمليًا آخر. التشرذم السياسي عند أبناء الكنيسة ليس فقط واردا ولكنّه سليم روحيا اذ يدلّ على النضج والنضج ثمرته الاختلاف. ولكن ان تسعى القيادة الكنسيّة لجمع أبنائها على غير الإنجيل والعقيدة والتطهّر الداخلي يعني انها نسيت طبيعة المسيحيّة الفريدة التي تحلّق فوق الزائل. الكنيسة قائمة في الزمن وفي هذا هي امتداد لحضور المسيح فيه ولكنها ليست من هذا العالم كما يقول انجيل يوحنا.

ما من شكّ ان الكنيسة تُراقب ما يجري في العالم ولكن بلا اختصاص فإن أعضاءها العاملين في المجتمع ذوو اختصاص. أصحاب الحكم وأصحاب التشريع درسوا السياسة وفروعها علما او يمارسونها كالذين درسوها. اما القيمون على خلاص النفوس فقد درسوا فن خلاص النفوس اذا جاز التعبير وما خلا العلم يأتي كلامهم تجريبيا او تقريبيا اي انهم في هذا لا يواجهون اهل الفن.

في هذا اذًا المرجعيّات الإكليروسيّة لا تعني لي شيئا. عملها قداسة نفسها وتقديس المؤمنين. واذا توغّلت في الخطاب السياسي تكون قد قالت او كأنها قالت انها لا تؤمن بفاعليّة الروح القدس التي هي مؤتمنة لإيصالها لأبنائها. لا تؤمن بفاعليّة الروح وتضيف عليها فاعليّة الخطاب السياسي.

كذلك لا يستطيع من يُسمَون علمانيين (اي غير كهنة) ان يفوّضوا رئيسهم الروحي بعمليّة ليست من الدعوة التي دعاه الله اليها. هذا لا يمنع ان يكون الأسقف او الكاهن ممّن يحملون الروح القدس. هذا ليس من الكهنوت الأسراري. هذا من النبوءة بالمعنى القائم في العهد الجديد اي انه قادر بالنعمة ان يخاطب الملوك والولاة والرؤساء باسم الرب لا باسم طائفته ولا باسم البلد وان يناصر المظلومين والضعفاء من كل دين ومذهب وان يدافع عن استمرار البلد ووحدته لأن هذا من باب المحبّة لكلّ أبناء البلد.

انت تعمل وتعلّم باسم المسيح اي بقوّة الإنجيل لا بقوّة عدد، ولا بالميثولوجيا التاريخيّة. ليس للمسيحيين امتياز في اي بلد ولا ينبغي ان يكون لأنهم بذا يكونون مستعلين وهم غسلة أرجل الفقراء والمستضعفين من كل دين ومذهب. المسيحيون ليسوا طائفة او مجموعة طوائف. هذا من سوسيولوجية لبنان. المسيحيون جسد المسيح فقط وليسوا ركامات التاريخ. ولهذا ليسوا إزاء أحد لأن المسيح ليس إزاء أحد. فاذا لم يكن فيهم قوّة من فوق يهدرون وقتهم وأوقات الآخرين اذا هم فتّشوا عن قوّة تؤتاهم من نسيج هذا العالم. عليهم ان يقرّروا اذا كانوا هم من الإنجيل ام لا. اما بقاؤهم على هذه الأرض فيتدبّرونه بحكمة قد تكون حكمة هذا العالم لأنّ البقاء شرط الشهادة ولكنّ الموت ايضا من الشهادة. المصلوب كان ملكًا وهو مرفوع على الخشبة نازفًا حتى النهاية. انا لا أدعو احدًا الى المصلوبيّة، ولكن القادرين عليها هم شركاء السيّد في خلق عالم جديد.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الصليب/ الاحد 22 آذار 2009 / العدد 12

هذا الأحد رتّبته الكنيسة لنسجد للصليب، والمعنى أن نسجد للمصلوب اذ اختبرت ان بعضا من المؤمنين اذا أدركوا منتصف الصيام يتعبون من الجهاد او يملّونه ويتضجّرون.

لهـذا، يـحمل الكاهـن الصليـب على صيـنيّة محاطـًا بـالريـاحيـن إن وُجـِدت او بـالزهور، ويـضع حـوله ثـلاث شمـوع تـرمز الى الثـالوث المقدّس اذ فداء المسيـح، وان قـام بـه السيـّد في جـسده، الا انـه مشيـئـة الآب والروح القـدس ايـضًا. واذا جـاء المـؤمـن للتـبـرّك بـعد المجـدلة الكبـرى، يـقبّل الصليـب، ويـعطيـه الكـاهـن زهـرة ليـوحـي اليـه انـه بالصليب قد أتى الفرح لكلّ العالم.

وفي القداس نقرأ من مرقس القطعة التي نستهلّها بقول الرب: “من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. المفروض ان كلّ من اقتبل المعمودية يريد ان يتبع السيّد، ولكنّه قد يملّ احيانا او يتراجع عن الجهاد ولا يعاشر المسيح ولا يضعه في قلبه. اذًا هنــاك ارادة متــجـدّدة لاتّـبـاع الـمعـلـّم تساعدها فينا الصلاة وقراءة الكلمة والعمل الصالح.

السيـر وراء يـسوع يـتطلّب منّا أن نـكفر بالنفس اي أن نـبتعد عن كبريـائها وعن التصوّر أننا مركز الوجود. السير وراء المسيح يعني التخلّي عن الرذائل والتـحرّر من العيـوب، وهذا سمّاه يسوع صليبًا لأنه مُتعب كالصليب. ثم يقول: “ويـتبـعني”. الى أين تـوصل طريـق الجهاد؟ الى الجـلجـلة. حيـث نتّحد مع الرب المصلوب.

ثم يقول السيّد: “من أراد أن يخلّص نفسه يُهلكها” بمعنى أنه يفرض على ذاته التعب في اكتساب الفضائل.

أخيرًا يقول السيّد هذا القول العظيم: “ماذا يـنفع الانـسان لو ربـح العالم كلّه وخسر نفسه؟”. اذا جـمع اموالا طائـلة ومنـازل فخمة او صار ذا نفوذ كبـير ومعبود الجماهير، والمسيح ليـس في قـلبه، ماذا يـنـتـفع؟ ويـوضح السيـّد هـذا الكلام بـقوله: “ماذا يـعطي الإنسان فداءً عن نـفسه؟”.

كل عـظمة الأرض ومجدها لا تساوي ذرة من حيـاتـك في المسيح. واذا خـسرت كلّ مجد الدنيا ومـالك، ومات ذووك وأصدقاؤك، وبقيت صديقًا للمسيح، فأنت ملك.

أن تكون مع المسيح هو الّا تستحي به وبكلامه، أن تتبنّى الإنجيل في كلّ ما يقوله، ان تحاول ان تستوحي كلّ سلوكك من الإنجيل، ان تلتصق بكنيسة المسيح. وقد أعطينا خصيصًا موسم الصيام ليقوى عندنا هذا الالتصاق بيسوع.

فاذا تشدّدنا اليوم بالصليب، نكمل المسيرة الى الأسبوع العظيم حيث نلتقي ببهاء المصلوب وقوّة قيامته.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

أحد الصليب / السبت في 21 آذار 2009

غدًا يكون صومنا على وشك الانتصاف ولكون بعض منا يبدو متضجرا من الجهاد تضع امامه الكنيسة صورة الصليب وفق رتبة ملهمة من الأسبوع الذي نسميه العظيم السابق للفصح. نغرس صليبا في وسط رياحين أو أزاهير تحيط به ثلاث شموع للدلالة على ان المسيح شاهده ابوه ذبيحا قبل انشاء العالم اي مهيأ لإعطاء العالمين الحياة بالحب.

يمشي المؤمن الى وسط الكنيسة حيث الصليب منتصب فيقبّله وبعد القبلة يدفع اليه الكاهن ريحانة أو وردة موحيا بذلك ان الجلجلة المرتضاة كانت طريقنا الي الفردوس المستعاد.

ولكن خشية ان يفهم المؤمن ان فرحه يجيئه من يسر كثير وانتعاش رخيص تجيء التلاوة الإنجيلية مستهلة بقول المعلم: «من اراد ان يتبعني فلينكر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني».

من اراد ان يتبعني اذ ليس من سيف مصلت عليك لتسعى الى المسيح او ان تلازمه. فالحرية مملكتك وتذهب منها الى الخلاص أو الهلاك ويسر الله بحريتك وان كان لا يشاءهلاكك. ولكن لا تستطيع ان تكون على صورته هو ان لم تكن على صورة حريته فالله لم يخلق بشرا آلات ليتسلى بحركاتها. الإنسان الحر غير المجبر على شيء هو وحده الذي يذهب الى الله ويكفر به اذا شاء ويلازمه اذا شاء.

«من اراد ان يتبعني فليكفر بنفسه». فليعتبر ان ليس له «أنا» يملكها أو تملكه. اذ ذاك يكون عبدا وقد قال يسوع: «لن ادعوكم عبيدا فيا بعد». في الخطيئة فقط نظام الرق. لقد ألغى الله عبوديتنا له بعد ان اعترف بنا ابناء بحبيبه. انا اعرف خطر البنوة اذ يمكن ان تتحول الى غنج اي الى استرخاء نظام البنوة. مع ذلك كله ارتضى الله علاقة الأبّوة بعد ان رفع غضبه عنا بالحبيب مع كل ما فيها من مغامرة اذ ليس من بديل عن البنوة الا الرق.

ترمي أناك بعد ان قال الرسول: «لست أنا احيا بل المسيح يحيا فيّ». أنت هو في الحب وهو أنت على اختلاف الجوهرين واستقلال الكيانين. لا تسلني عن الكيف فأنا اعرف تمايز الكيانين واعرف اتحادهما بآن واحد.
# #
#
«فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني». هنا يتحدث الإنجيلي عن الصلبان التي تعترضك في مسرى حياتك. الصليب اصلا، في العهد القديم كريه عملا بالآية: «ملعون كل من عُلق على خشبة». المسيحية واقعية اذ تراك مصلوبا، معذبا على مدى الوجود. ليست المسيحية بستان ورود. هي تصير كذلك اذا ارتضيت آلامك اليومية جسدية كانت أم نفسية سبيلا الى رؤية النور. نحن نعاني الألم ولا نقول ان الله قضى به ليمتحنك أو يطهرك. ليس الله مستبدا ولا مزاجيا ولا شرطيا في دولة عربية. أنت ابتداء مما أنت فيه وكما أنت فيه ترمي نفسك في حضن الله ثم على صدره كما فعل يوحنا في العشاء السري وهو يأخذ عنك صليبك كأنه يسمر نفسه عليه وان كان لا يستلذه ولكنك اسكرته بك على ما فيك من شقاء ويريد ان تجالسه لتذوق بهاءه.

انهى السيد دعوته بقوله: «ويتبعني» أي ان يكون فيك فكر المسيح بحيث ترغب في ان تتبعه الى منتهى مسراه الأرضي اي الى الجلجلة. فاذا جثوت على قدميه تأخذ كل وجودك منه.
# #
#
يؤكد يسوع هذه المسيرة بقوله: «ماذا ينفع الانسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه أو ماذا يعطي الانسان فداء عن نفسه». اذا قبلت مصلوبيتك عنيت ان يجردك المخلص من كل ما عندك أو ما تظنه لك أو ما تحسبه فيك. الفراغ الكامل فيك بحيث لا يزينك شيء ولا يفرحك مال أو نفوذ أو سلطة ولا يغريك جمال وبحيث لا تستحيي بفقرك ولا بحدود فكرك أو ضعف ثقافتك وتكون ايضا مستعدا للجوع والهزء والشتائم والقمع وسوء الظن والتصنيف السيء لك الذي مصدره الحسد واذا عيّرك معيرو الله واخذوا عليك ضعفات لست أنت فيها، اذا احتملت كل هذا وأحببت الذل الذي أنت فيه من أجل اخوة يسوع الصغار تكون خاسرا العالم كله ورابحا نفسك في الوجود الحق الذي هو وجود المسيح.

تكون انتقلت من الدهر الحاضر الى الدهر الآتي ولو بقي جسدك هنا. فليس المهم عندهم ان يقتلوك ولكن المهم ان يقهروك ظانين انهم يمحونك، غير عارفين انك ما حيهم.

كل خسارة الإنسان ظنه ان ما في بطنه أو في جيبه يجعل منه انسانا سويا أو يزيد على قيمته شبرا واحدا. كل من اعتقد ان الإنسان يزاد عليه من خارجه أمسى في ضلال مبين. عندما يقول يسوع: «ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه» يكون كمن قال لا شيء يعادل وجودك الداخلي أو فرحك الحقيقي أو الجلال الإلهي الذي انسكب عليك. الخيار هو بين الكيان والكسب. والكيان اذا كونك الله به لا يتسربل بشيء آخر ولا يكسب شيئا آخر عن نفسه.

عجيب هو قول القديسين ان الفقر هو الغنى. لعل هذا هو معنى بولس اذ قال: «يا جميع الذين بالمسيح اصطبغتم المسيح لبستم». ونقول للمعمدين هذا إثر معموديتهم وهم عراة. من يكون هؤلاء المسيحيون الذين يعتقدون ان عليهم حلة ذهبية وهم غير متسربلين بشيء.

من تكلم على الصليب سلبا أو ايجابا يجب ان يفهم هذا القول لئلا يكون خارج الصحن.

نحن هكذا وليس عندنا شيء آخر. فاذا بشرنا بالمسيح مصلوبا نكون مبشرين به قائما من بين الأموات. هذا شيء واحد عندنا عملا بقول يسوع: «الآن قد تمجد ابن الإنسان وتمجد الله فيه» أو بقوله الآخر: «مجدني يا أبت بالمجد الذي كان لي عندك قبل انشاء العالم». ومعنى القولين ان مجدي هو بالحب الذي اظهرته بتطوعي للموت. في اللحظة الاولى من التطوع بت ظافرا. وترائياتي للتلاميذ بعد ذلك ما هي الا اخراج لهذا الظفر وتبليغه والدلالة عليه. ان نخبر بموته كما أمرنا الكتاب على لسان بولس هو ان نعلن قيامته وان نحيا بها احرارا من الموت.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

شفاء يسوع لمفلوج / الأحد 15 آذار 2009 / العدد 11

كفرناحوم في الجليل هي المدينة التي اختار السيّد السكنى فيها بعد ان ترك الناصرة. مرّة كان مجتمعًا الى التلاميذ وأحبائه في أحد البيوت. البيوت الفلسطينيّة طبعًا معظمها صغير، واكتظّ الناس الذين كانوا حول المعلّم. “كان يخاطبهم بالكلمة”. ما عدا صنع العجائب، هذا ما كان الربّ يفعله اذا واجه جمهورا.

كان المسيح يستند الى العهد القديم الذي كان الناس يعرفونه ليصل الى رسالته هو.

أثناء جلوسه في هذا البيت أتى اليه أربعة رجال يحملون مخلّعًا اي مفلوجًا، ولما رأوا أنّهم لم يقدروا أن يصلوا إليه نقبوا السقف الذي كان مبنيًا كسقوف بعض البيوت اللبنانيّة في الجبل. السقف قائم من تراب مرصوص على خشبات متوازية.

غاية النقب ان يُدَلّوا المريض المستلقي على سرير الى الموضع الذي كان يسوع جالسًا فيه.

هـم كانـوا يـنـتظرون أن يشفيه الرب توّا منذ بدء اللقاء، غير أنّه قال: “يا بنيّ، مغفورة لك خطاياك”. اعتبر بعض القائمين هناك أنّ هذا تجديف بمعنى أنّ هذا الرجل يجعل نفسه إلهًا. وتعجّبهم كان في محلّه لأنه لا نبيّ في هذه الأمة ولا معلّم للشريعة كان يغفر الخطايا او يُعلن لإنسان أنّ خطاياه مغفورة.

ردّ يسوع على موقفهم بقوله: “ما الأيسر، أن يـُقال مفغورة لك خـطاياك، أم أن يُقال قمْ واحملْ سريرك وامشِ”. الفـكرة أنّكـم رأيـتم أنتم مرارًا أنّـي اصنع عجائب وأُقيـم المفلوج وغير المفلوج من مرضه، ولكنّ إعلاني الغفران لهذا المريـض شيء جديـد ولا تعرفونه في تراثكم.

ولكي تتأكّدوا صحّة ما قلتُه في الغفران اسمعوا هذا: “إن ابن البشر له سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا”. كأنّه يقول أنا ابن البشر الذي تحدّث عنه دانيال. أغفر لأني جئت من الله وأشفي وقد رأيتم هذا، وهذه القوة تأتيني من فوق.

بعد أن قال يسوع للمريض: “قم واحمل سريرك واذهب الى بيتك” قام فورًا. وخرج المفلوج.

هل نحن نفتش عن يسوع كما فتّش عنه الذيـن كانـوا حاملي المخلّع. هل نـُزيل الحواجز التي تـمنعنا من الاتـصال به كما فعلوا لمّا نـقبوا السقف؟

عنـدما نـكون في الخطيـئة نـسعى إليـه، واذا كنـا في البِـرّ نـسعى إليـه أكثر. ذلـك أن حياتـنا من يـسوع وفي يسوع. واذا ذهبـنا عنـه نضيـّع الوقـت والجـهود. شرط ذهابـنا اليـه أن نـؤمن أنّ الخطيئة فالج اي أنّها تُعرقل سيرنا الى السيّد.

عندما نرى أنفسنا على صدره كما فعل التلميذ الحبيب في العشاء السري نعرف أنّ لنا طمأنينة وسلامًا به.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

تأمل في «شرعة العمل السياسي» / السبت في 14 آذار 2009

هذه الشرعة المنبثقة عن الفكر الماروني الكنسي والمجتمعي-السياسي قد تكون أشمل وثيقة كاثوليكية لبنانية في العصر الحديث. تحمل رؤية عن لبنان ورسالة الى لبنان. أعلنتها ما سمي «اللجنة المشتركة للكنائس في لبنان». ولا بد لي هنا أن أعترف ان ليس عندي علم بهذه اللجنة واللجان تقترح ولا تقرر. وما من شك ان الكنائس ذات قيادات روحية كل منها يلزم ابناءه. والكنيسة لا لجانها تدعونا. الى هنا فعبارة «كنائس لبنان» قد تعني عند المنظمين تلك القائمة جغرافيا على ارض لبنان ولكن ليس لها كيانية لبنانية لكون كل كنيسة قديمة تنعت نفسها بأنطاكية وعندئذ لا مطمع لها ان تنحصر في الهاجس اللبناني.

حضر عدد من الأحبار من عدة كنائس التجمع الشعبي الذي أعلنت فيه الشرعة. هل كان هذا من قبل الحاضرين مرافقة او موافقة؟ هل كانت هناك آلية لاعتماد النص؟ هل سترفع الشرعة الي السلطات الروحية في الكنائس لتتم آلية لما يسمّى في اللاهوت الحديث قبولا. Reception طرحت هذه الأسئلة لأفهم بكل تواضع ويفهم سواي مكانة هذا النص في حياة المؤمنين.

المسيرة التي كمنت وراء النص ان لا هوتيين من الكنيسة المارونية وضعوا من الناحية اللاهوتية نصا كاثوليكيا في الجانب الأول من الشرعة الذي هو الجانب التنظيري، نصا يستند كثيرا الى المصادر الباباوية والمرجعية المارونية ليأتوا بموقف تعليمي يُعرَض على المشاركين من الكنائس غير الكاثوليكية معتبرين أن الكنيسة الكاثوليكية عندها تعليم اجتماعي. أي لم يأتِ هذا الفريق بفرقاء مسيحيين آخرين عندهم في تراثهم القديم تعليم اجتماعي وبعض منهم في تراثهم الحديث بحيث نُسب هذا النص الى لجنة متعددة الأطراف لم تأت بمساهمة ولا تستطيع ان تأتي بمساهمة مستقاة كلها من الفكر الكاثوليكي الحديث. التصرف كان أن هناك من ينشئ وهناك من يقرأ ويبدي رأيه بما وضعه سواه.

منهجيا ما همّ أرباب هذا الفكر هو -حسب عنوان ما أتوا به- ان يضعوا شرعة العمل السياسي في بلدنا وكان لا بد لها من فكر تأسيسي بعد ان قرروا من يكون المؤلفون. ولكن التصاق هذين القسمين لا يفرض نفسه. القسم الثاني اذا لم أغالِ »مطروحة معانيه في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقرويّ والمدنيّ كما يقول الجاحظ وقد عبّر عنها غير فريق الى اي مذهب ذهب، مسلما كان ام مسيحيا اذ لا يخالف احد الديموقراطية والنظام البرلماني والاستقلالية. لكل منا ركن يركن فيه وتمر امامه الطرقات المرمية المعاني عليها ومرمية تاليا عليه المفردات. تصطف حيث تشاء وتقول القول عينه ولكنك تذهب حيث تشاء حيث ينتظرك الأصدقاء الذين اختاروك حليفًا.

الى هذا اذا كانت هذه الكتابة في القسم الأول عملا مسيحيا واضحا وحيا وبناء وصياغة ما دخل المسلمين بها ولا سيما انكم اوضحتم ان هذا عمل نسقت به كل الكنائس فكرها. واتضح فرح المسلمين بكم على ان تطرحوا جانبا ما له علاقة حصرية بالعقيدة. عندئذ يبطل المشروع كله وتنحصرون في الجزء الوطني والسياسي الذي لا يحتاج الى لاهوت. شكرا للمسلمين الذين محضوكم الثقة او بالأقل بينوا رجاءهم على ان يندمجوا بالشرعة وهم لا يريدون طبعا ان يندمجوا باللاهوت. هذا التماهي بينكم وبين المسلمين كان قائما قبل بيانكم وسيبقى على أسس تجمعكم بلا لاهوت، انطلاقا من معطيات الوطن.


# #
#

اول ملاحظة لي هو قول الشرعة ان من اهدافها »ان توفر للشعب اللبناني ثقافة سياسية«. استغربت ان ترغب الكنيسة المارونية في تثقيف كل الشعب اللبناني سياسيا.

الملاحظة الثانية قول الشرعة «بشريعة طبيعية هي بمثابة النور للعقل البشري». هذا ليس بقول مسيحي عام بعد ان نزلت النعمة التي رفعت الطبيعة البشرية الى طبيعة مفتداة بالدم الكريم والتي تراقب العقل من نافذة الوحي. هذا التأكيد المفرط على العقل والطبيعة البشريّة كما هي يعود الى توما الاكويني والى ابن رشد ونحن لا علاقة لنا بهذا التيّار العقلاني الأرسطوي.

من بعد كلام جميل عن رسالة الكنيسة ووظيفة الدولة تأتي الشرعة الى بحث العلاقة بينهما (استقلالية الكيانين احدهما عن الآخر بلا تخالط وتقارب من دون تصارع) حتى تصل الى استقلالية المجتمع المدني وتوفيره للكنيسة «الظروف والشروط اللازمة لتأدية رسالتها». غير ان الشرعة تقول ان الكنيسة لا تقبل «بعلمنة الدولة اذا كانت تعني عقيدة فلسفية تحتوي على مفهوم مادي وملحد للحياة البشرية والمجتمع».

سؤالي لماذا اذا الشرطية بقول النص «اذا كانت تعني عقيدة فلسفية تحتوي على مفهوم مادي وملحد». اذا ذهبنا الى الخبرة الفرنسية وصرفنا النظر عن بعض الفلسفات التي كانت ممهّدة للعلمنة لا نجد في قانون السنة 1905 في فرنسا القاضي بفصل الكنيسة عن الدولة اية اشارة الى مادية او إلحاد. هذا القانون لا يفرض على المواطن إيمانا ولا إلحادا ولا يجيز التعرض الى عقيدة التلاميذ في المدرسة كما لا يتقبل عقيدة ملحدة في التعليم. فاذا وجدنا علمنة لا تحتوي على إلحاد ومادية ماذا يفرقها، اذ ذاك، عن المجتمع المدني؟

ترضى الشرعة بالمجتمع المدني ولا تحدده حتى تصل الى القول بفصل الدين عن الدولة. الفرنسيون ما قالوا هذا. قالوا بفصل الكنيسة (وعنوا بذلك فصل المؤسسة الدينية عن الدولة لا الدين من حيث هو إيمان). ماذا تعني الكنيسة المارونية صاحبة المشروع بفصل الدين عن الدولة وهي رافضة العلمنة؟

يأتي بعد هذا كلام ممتازعلى ممارسة المسيحي للسلطة السياسية وعلى أسس المشاركة الواجبة على المسيحيين في الشأن العام وعلى روح الخدمة والالتزام بقضية السلام ثم يأتي التوضيح لطبيعة العمل السياسي. هناك فقرات عديدة علينا ان نعتمدها جميعا وهي مستوحاة من الكلام الإلهي.

السؤال الذي يطرح نفسه الآن ويتناول كل النص هو كيف يفهم اصحاب الشرعة ان فصل الدين عن الدولة يسمح لهم بكلام سياسي عن لبنان. تساؤلي هو كيف يدخل لبنان كأمة ودولة وكيان في تأمل صادر عن الكنيسة المارونية بعد حديث مطول في الإلهيات. أين فصل الدين عن الدولة؟ هل لأصحاب الشرعة وهم حفظة الإنجيل والقيمون عليه رأي في ما يقوم عليه وطننا هذا؟ كيف نصل الى لبنان من مواقف لاهوتية واضحة وعميقة؟ لماذا للكنيسة المارونيّة من حيث هي كنيسة رأي في الشأن اللبناني؟

في كل حال أصحاب الكلام على لبنان هم أصحاب القول المدني الذي لا علاقة له بمذهب. معالجة الشأن اللبناني اجتماعيا ومدنيا كلام اللبنانيين مجتمعين في كل باب من ابواب العيش الواحد. اذا كان الهدف الأساسي من هذه الورقة مواجهة مشاكل بلدنا فما نفع القسم الأول من الشرعة؟ كل هذا البناء الفلسفي اللاهوتي العظيم لا يبدو لي مفتاحا للبحث عن طبيعة لبنان ومصيره.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الكاهن معلّمًا / الاحد 10 آذار 2009 / العدد 9

الى جانب الوعظ التعليم الذي يتمّ في الكنيسة او خارج الكنيسة. لقد ألفنا في كل الأبرشيات السهرات الإنجيليّة حيث يؤخذ مقطع من الكتاب ليفسّر سواء أكان هذا مقطوعًا من العهد الجديد او كان قراءة موصولة بحيث تأخذ مثلا كل إنجيل من الأناجيل الأربعة وتتابعه أسبوعا بعد اسبوع في هذا الحي او ذاك او في هذه المجموعة من العائلات او تلك. وهذا يحتاج الى استعداد جدي في الكتب التفسيريّة أُصدرت من كاتب أرثوذكسي او كاثوليكي. واليوم في تفسير النصوص ليس من اختلاف كبير بين المذاهب. غير ان السهرة الإنجيليّة تختلف عن صف في معهد اللاهوت بحيث توجّه الحاضرين الى مواقف أخلاقيّة، الى التوبة والى معرفة العبادات وتحثّ الحاضرين على أن يطالعوا الكتاب كلّ يوم في بيوتهم اذ المهم ان يعرف المؤمن العهد الجديد معرفة حقيقيّة ولا يتّكل فقط على المرشد.

المجال الثاني هو تربية الأحداث والأطفال على التعليم المسيحي. فهناك مدارس لا تعليم مسيحيًا فيها او هناك مدارس لا تنتمي الى كنيستنا. لذلك لا بد للراعي ان يـرعى رعيّـته. هـذا لا يـعني ان يـحتـكر الكاهن التعليم بل يقضي واجبه ان يُنشئ مسؤولين ومسؤولات من شبيبة الكنيسة ويدرّبهم على التعليم او يفوّض شبابا يعرف الكاهن انهم تروّضوا على المعرفة في حركة الشبيبة او مؤسسات أخرى.

وهذا يُحوجه ان يعرف كتب التعليم المسيحي المتداوَلة عندنا وان يجعل التلاميذ يقرأونها بحيث يكون التعليم متدرّجًا. واذا عرف الكاهن بكل تواضع انه غير مؤهّل لإعطاء التعليم او التدريب عليه، فليأتِ بأحد شبابنا المتقن التعليم ليتولّاه. تعليم الصغار موهبة ليست معطاة لكل واحد. لا بد في اكثر الأحيان من شخص علماني او شماس متدرّب يتولى المسؤوليّة.

الى هذا لا بدّ من تأسيس مكتبة في الرعايا لإعارة الكتب للمؤمنين. يحتاج هذا الى شيء من التنظيم. وعندنا في الكنيسة الأنطاكيّة ما لا يقلّ عن 400 كتاب بالعربيّة، فيها مواضيع مختلفة، كما عندنا للذين يُتقنون اللغات كتب لعلماء أرثوذكسيين بالفرنسيّة والإنكليزيّة. لم نبقَ فقراء في موضوع الكتاب. نتبنّى اذًا نظام إعارة الكتب. لا يحقّ لأحد أن يبقى جاهلًا. الكتب على مستويات مختلفة. والبسطاء لهم أن يفهموا كما المثقّفون.

الى هذا ايضا عندنا كهنة من كنيستنا يظهرون على شاشة التلفزيون. فتّشوا عنهم وقولوا للمؤمنين. إزاءهم نحافظ على قدرتنا على مناقشتهم.

الشيء الأخير أن عندنا من الكهنة من يُدعى الى إلقاء محاضرات هنا وهناك. المحاضرة غير العظة القصيرة. لها أسلوبها الخاص في الكتابة وتتطلّب استعدادًا كبيرًا في الكتب التي تعالج موضوعها. عظمة فنها انها تبسط معلومات لاهوتيّة او تاريخيّة او طقوسيّة كبيرة ومعرفة للديانات الأخرى. طبعا تقتضي معرفة اللغة الفصحى. ويمكن الكاهن ان يقوم بسلسلة مواضيع لا سيّما في الصيام الكبير ولا تكون عظة ولكن تعليما متناسقًا. له مثلا ان يتحدّث عن الأسرار فيتكلّم مطوّلا عن المعموديّة والمناولة بحيث يتناول سرًا وراء سرّ. كذلك يمكنه مثلا أن يتحدّث عن لاهوت بولس من خلال كلّ رسائله او عن لاهوت يوحنا في إنجيله والرسائل او عن تاريخ الكتابة للعهد الجديد او عن أهم المجامع المـسكونـيـّة تـعليـمًا عـقـائـديّـا متـجنّـبًا التـعـقيد ومتـجنّبًا السطحيّة بآن. وهذا كلام دقيق ومشبع ومطوّل.

للكاهن أن يأخذ موضوعًا واحدًا في الصيام او في يوم من الأسبوع طوال موسم او فترة طويلة من السنة اذا كان عنده مادة يُشبع بها المؤمنين.

وجه الكرازة وأساليبها ومراجعها وإلقاؤها تغني الحياة الروحيّة والفكر اللاهوتي في أيّة رعيّة، فلا يكتفي الكاهن بالموعظة على الإنجيل في كل قداس او خدمة، ولكن يتّخذ كل صناعة الكلمة اذا استطاع. واذا لم يقدر في البدء على إعطاء كل هذه الأنواع من الكلام فليكتفِ اولاً بما يستطيع، وليدرس باستمرار ليتمكّن من كل شيء لأنه خادم الكلمة.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الصوم / الاحد 8 آذار 2009 / العدد 10

لقد نزلت علينا بركات الصوم الذي نرجو أن نتقدّس فيه استعدادًا للفصح المبارك. سنسلك سلوك تقشّف وتعفّف نسيطر بهما على الشهوة ونتنقّى لمتابعة صلوات هذه الفترة الطيّبة التي ألِفَ المؤمنون فيها أن يشتركوا بصلاة النوم الكبرى والقداس السابق تقديسه ما خلا الآحاد التي نقيم فيها قداس باسيليوس الكبير حتى يحلّ علينا الأسبوع العظيم الذي ترتفع فيه تقوانا خدمةً بعد خدمة ولا سيّما في الأيام الثلاثة الأخيرة.

منهج صيامنا من جهة الطعام أنّنا نُمسك عن اللحم ومشتقاته (الألبان والأجبان)، وقد سمحت الكنيسة لقلّة النبات في بعض البلدان الأرثوذكسيّة بأكل ثمار البحر ما عدا السمك. في القديم كنّا نأكل وجبة واحدة من الطعام. اما الآن فرأفةً بالمؤمنين نتناول طعام الغداء وقليلًا من طعام العشاء بعد حضورنا صلاة النوم الكبرى. يبقى على المؤمن إذا لم يشترك فيها أن يتلو صلاته قبل النوم.

روح الصيام ألّا نتعاطى اللّهو ونتحاشى مشاهد في وسائل الإعلام غير لائقة ومؤذية لطهارة العين والأذن وأن نسهر بنوع خاص على نقاوة أولادنا.

لقد أوضحت القوانين الكنسيّة أنّ المريض معفيّ من الصيام. هو يعرف ما يؤذيه والأفضل أن يشاور بذلك أباه الروحي.

ولقد وضعت الكنيسة القداس السابق تقديسه يومَي الأربعاء والجمعة والأيام الأولى مِنَ الأسبوع العظيم المقدس حتى يتناول المؤمنون فيه بين أحد وأحد. وهكذا نصوم مع الصائمين ونصلّي معهم لنسير معًا الى قيامة الرب ونحن مهذّبون بتهذيبه. أنت تأكل وتصلّي كما تشاء الكنيسة المقدّسة أن تفعل.

الجانب الآخر من زمن الصوم أن تقوم بالإحسان حسب استطاعتك ولا يبقى المحتاجون من إخوتك بدون رحمتك. هكذا نعضد بعضنا بعضًا بمحبة المسيح لنا لنستحق أن ننتصب معًا، أمام الرب القائم من الموت.

الصوم، إن لم تعشه بكل جوانبه وكل معانيه واكتفيت بعدم الزفر، يكون مجرّد حمية ولا ينفعك روحيًا. نحن لسنا نطبّب أنفسنا جسديًا ولو كان الإمساك نافعًا صحيًا. نحن نرمّم النفس إذا شاخت بالخطايا. نطهّر الروح من كل أدرانها ونتدرّب على الفضيلة ونكتسب بالصلوات المختلفة مواهب من الله وتحسّنًا يبقى معنا ونجمع حواسنا وأفكارنا الى المسيح. واذا عرفت نفسك صائمًا اي مكرَّسًا للسيّد وهاجمك روح الشرّ، تتذكّر أنّك صائم وغالبًا ما تمنع نفسك عن الشرّ. فكما يتروّض الجسد بالتمارين، تتروّض النفس بالعفّة التي يقدّمها لك الصوم وتميل الى العفّة.

هناك فترة من السنة نقضيها حلوة بصداقة يسوع ونستحلي الرجوع إليها، وكثيرون يتمنّون عند الفصح أن يستمرّ هذا الزمان. في كنيستنا الرهبان يصومون كلّ حياتهم عن اللحم. وهذا معروف في معظم أديرة الأبرشيّة. هم في رياضة روحيّة دائمة حتى لا تسيطر عليهم الشهوات ويظلّوا ملتصقين بالمسيح.

ألا متّعَنا الله بهذه البركات حتى نستعيد شبابنا الروحي.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

المعلّم / السبت 7 آذار 2009

بعد يومين تعيّد الأمّة للمعلّم الذي أنقذنا من الجهل والأميّة ووضع فينا العطش الى النور. لن أتكلّم الآن على حقوقه والإهمال الذي يُهمَل به. البلد الحضاري لا ينسى حملة الفكر والقائمين بالتربية لاسيّما الذين استطاعوا أن ينشئوك على الحق بكتاب وسلوك، بالأسوة الحسنة وكنت من أبنائهم في عمق وجدانك وعقلك بعد أن ولدتك أمّك. هذه بنوّة ثانية لا يفوقها الا الحريّة الروحيّة التي تجعلك من أبناء الله.

من الخلابة التي كانت تنزل عليّ في هذا المجال هو تساؤلي عن حجم المعرفة عند المعلم حتى أدركت أنّ في هذا بذلًا كبيرًا، ومما كان يؤلمني بعد مرتبة من البلوغ فهمي أنّ الرجل مغبون الى حدّ كبير مع أنّه يكدّ. في مطلع شبابي كنت أنقل الى بيت أستاذ أخذت عنه العربيّة مسابقات رفاقي مكدّسة وكان أستاذي رقيق البنية تسكنه علّة في الجهاز الهضمي. كنت أكبّر جهده وما كان يرضى الّا أن أنقل اليه أنا الأوراق لحسبانه أنّي أفهم القواعد وأعرب إعرابًا صحيحًا وما كنت جاهلًا للأدب ويؤثرني على الذين كانت الفرنسيّة تستغرقهم وما كان لهم حس بجمال لغتنا او عبقريّتها. كنت أشعر بجهده وفقره معا وانكبابه الدائم على اللغة.

دائما كان يستوقفني صبر المعلّم على الكسالى وعلى أهل الضجّة والقليلي التهذيب وعلى أهل التصرّف بنكاية. هؤلاء كانوا يدّعون أنهم ضحايا وكانوا في الحقيقة جلّادين لأهل العقل من أقرانهم وعلى هذا كان يسكب علينا المعرفة. كان دائما بيننا قوم لا يستلذّون المعرفة ويتساءلون لماذا يحلّ بهم العقاب. في كثرة الأحوال كان العقاب تأديبيًا ورجاء التحسّن عند التلميذ، ولكن الجهلة بيننا كانوا يشعرون بأنه انتقام.

ربّما كان هذا هكذا في أحيان اذ يقول لنا علماء النفس أن من بين مَن يختارون مهنة التعليم ساديّون تطلب نفوسهم معاقبة التلميذ. أنا لست أخصائيا من علماء النفس لأناقش هذا الأمر ولكنك تشعر احيانا ان ما كان المعلّم يسمّيه تأديبًا كان ثأرًا. لذلك لست أقدر ان أجعل من كلّ معلّم قديسًا. غير ان المهنة بحدّ نفسها التماس للحقيقة وإعطاؤها، ويخطئ من يخطئ كما يعلو فيها من يعلو.
# #
#
كان ثمة مواد لا أحبها بدءًا من الحساب والرياضيات ووصولا الى العلوم الطبيعيّة . كل ما كان متصلا بالحواس ما كنت أفهمه. قيل لي، فيما بعد، انّ هناك من يميل الى الآداب وهناك من يميل الى الرياضيات حتى لاحظت ان بعضًا من رفاقي وبعضا من كبار العارفين ملمّون بكلّ شيء حتى درجة البراعة وكان الموهوبون للرياضيّات يفتخرون أمامنا بذكائهم حتى أدركت أنك إن كنت تعرف قواعد اللغة، أيّة لغة فأنت دقيق الفهم كما من أحبّ الحساب والفيزياء. أظنّ ببساطة أن هذا كلّه اختلاف مواهب وانّ الفطنة هي إيّاها في هذا الحقل وذاك. وفي كلّ هذا شيء من الجهد. لا إبداع يطغى عليك وعلى من تربّي بلا جهد كبير .

هذا يشبه لقاء النعمة والجهاد كما علّمت في الكنيسة عندما باشرنا الصوم الاثنين الماضي. انت لا تستطيع ان يكون صيامك عظيمًا، عميقًا بلا هبة تنزل عليك من فوق وبلا جهاد كبير لتثمر فيك النعمة. أظنّ أن كل معرفة تتكوّن هكذا وأن دور المعلّم قد يبعث فيك شغفًا بمادة كنت تتجاهل فعلها فيك وكذلك يبعث فيك المعلّم جهدًا تؤتاه من الشغف. ومن هذه الزاوية أمكن القول إنه يجعلك ذلك الإنسان الذي ما كنت تتصوّره.

الذكاء الفطري وحده لا ينفع. يسحرك احيانا ذكي مفرط جاهل. هذا يحفزك على الدراسة ولا يحفزه هو اذ ليس عنده وسائل التنقيب. لذلك كان الجهل قتالا. ولذلك كانت مسؤولية الموهوبين والدول عظيمة في نشر المعرفة. ماذا تنفع أرض غير مفلوحة؟
# #
#
أريد هنا ان آتي بخبرتي استاذًا في الجامعة. بدأ هذا في أواسط الستينات لما أسند لي عميد كليّة التربية في الجامعة اللبنانية مادة الحضارة العربيّة. كان عليّ ان أعدّ كلّ الدراسة خلقًا جديدًا اذ لم اعثر في اية لغة معروفة عندنا في لبنان على كتاب واحد يتبسط في هذه المادة. كان طبعا كتاب جرجي زيدان عن التمدّن الإسلامي ولكني وددت أن أعطي شيئًا جديدًا موافقًا لتذوّقي للعروبة والإسلام كما كنت أقرأهما، وهذا أرهقني كثيرًا اذ كنت أقضي سبع ساعات إعدادًا لحصّة واحدة.

كان حبّي يزداد لمضمون التعليم كلّما اكتشفته وكلّما كشفته اذ كنت أسعى أن يذوق طلّابي مواضيعي كما كنت أنا أذوقها. بدأت أنا الكاهن بما اعتبره طلّابي صدمة اذ أوّل ما كنت أقوله في كلّ صفّ في أوّل لحظة من التدريس: «سأطلب اليكم أوراقًا او دفترًا لتتلقنوا ما ألقيه. كذلك أطلب ان يحمل كلّ منكم مصحفًا صغير الحجم، الشاب في جيبه والصبيّة في حقيبتها لأنّ القرآن سوف يكون لكلّ منكم مصدرًا من مصادر الحياة العربيّة». كانوا يتعجّبون بذكري لأيّة آية وأقول رقمها ورقم السورة. دهشتهم، على ما أظنّ، كانت في أنّ هذا الكاهن قد درس ديانة ليست ديانته. وكانت دهشتهم تعظم كلّما أحسّوا أن كاهنًا محسوبًا آنذاك على لبنانيّة ضيّقة ومسيحيّة متعصبة يستطيع ان يتكلّم عن العرب والإسلام بحبّ ولا يحاول إطلاقًا أن يقارن بين الديانتين اذ لم يكن مجال للمقارنة. فالأستاذ لم يكن معلّما للمسيحيّة ولكنه كان معلّمًا للإسلام كما الإسلام يتحدّث عن نفسه.

لعلّ هذا الذي كان نادرًا في تقدير طلابي ما كان هو الأهمّ. الأهمّ أنّهم عرفوا أني كنت أحبّهم. فأخذني بعضهم مرشدًا روحيًا ورأوا ليس فقط ان التحيز الديني لا أثر له فيّ بل ذهلوا ان تقديرًا خاصًا احيانًا يظهر من هذا الإكليركي لطلاب مسلمين بدوا متفوّقين اذ ظهر منهم بعد الدراسة شعراء.

الأستاذ يكوّنه تلاميذه كما هو يكوّنهم. هذه مسيرة باتجاهين. شكرت لله هذه السنوات التي قضيتها مع هؤلاء الأحبّة اذ تابعت بعد أن غادرت الجامعة سعيي الى هذه الحضارة التي كنّا نكتشف جمالها أنا وتلاميذي.

أمنيتي بعدما مارست التعليم أن يؤمن المسؤولون في الدولة أنّ المعلّم كاد أن يكون رسولا وأنّ لبنان ليس في جباله وسهوله وحسب ولكنّه في عقله، فإن لم يصبح مملكة العقل في دنيا العرب وربّما إزاء العالم لا تجمّله الطبيعة فيه.


Continue reading