Monthly Archives

March 2012

2012, جريدة النهار, مقالات

الجهل / السبت 31 آذار 2012

أعرف اني لا أعرف الكثير. وفضل الله عليك اذا نجاك من الإدعاء على هذا الصعيد. وكارثة الجهل انه لا يسمح لك بمتابعة هذا الكون اي ان تكون مجردا من المعارف الضرورية للعيش او غريبًا عن نوعية عيش فتكون تاليا على نقص كبير قد لا يهم الله ولكن غيابه لا ينفعك في هذه الدنيا.

اذا ساغ هنا شيء من الاعتراف ينفع بعضا اقول اني لم احفظ شيئا من العلوم الطبيعية واني لا افهم شيئا من حديث اقتصادي على رغم من تحصيلي شيئا دقيقا في هذا العلم ولكن قبل ستين سنة. اذا لم تعرف، اذا لم تتطور بتطور قطاع من المعرفة لازم تعسر عليك الحياة. اضطررت تاليا ان الازم اللغة لئلا اطرح في الجهل الكامل. وهنا ايضًا ألحظ عندي نواقص كبيرة. لذلك اقتنيت اهم القواميس العربية لتتبع علوم اللغة. والقاموس يلغي ما تظنه اختلافا. مثال على ذلك كنت أسمع كاهنا يتقن العربية في تلاوته المزمور الخمسين يقول: تنضحني بالزوفى بكسر الضاد فتساءلت لماذا هذا الرجل بالذات يلحن حتى تبين لي ان لسان العرب يقبل كسرها ويقبل فتحها. الى هذا لاحظت منذ بضع من سنين ان جمهورا كبيرا في الرعية لا يفهم الفصحى فآثرت مزجها بالعامية عند الوعظ. عليك احيانا ان تتنازل عن الفصحى لتوصل معنى إلهيا اذ انك خادم للخلاص لا للغة.

لماذا نطمع بفهم الكون؟ الأمي او شسبه الأمي لا يطمع ولكن الدماغ اذا انتشى قليلا بالمعرفة يشتهي الأكثر وهذا حلال لا يجرح التواضع بالضرورة. العارفون الكبار الذين عرفتهم ذقت تواضعهم. ان تقرأ هذا الكون يرضي الله اذ طلب منا ان نتسلط على الأرض. والتسلط هنا يعني الخدمة وليس فيه استكبار. انت تقدر ان تقرأ الله من خلال الكون وان تلمس يده مخلوقاته. هذا باب من أبواب التخشع الى ان يخطفنا الرب الى وجهه. اذ ذاك »العلم سيبطل« وتغدو الرؤية كل شيء في السماء.

ولكن تدغدغك المعرفة اذا كانت عظيمة. وصلت الى هذه القناعة لما كنت مرة جالسا عند الشيخ عبدالله العلايلي على الأرض في بيته نتدفأ بجمر المنقل وطرحت عليه سؤالا في اللغة. قال لي دون ان يلتفت كثيرا: اذهب الى هذا الرف (وحدده) وخذ الكتاب السابع تر الجواب في الصفحة كذا. ذهلت، اذ ذاك، ذهولا صاعقا وعرفت كيف يكون العلماء وحاولت ان أدرس العربية.

عرفت جهلي يزداد لما رأيت الحاسوب وما يتفرع عنه من علم وانا لم امس الآلة هذه حتى اليوم ولو كانت في مكتبي في استعمال الموظفين. واتعجب عندما يجدون لي حلا لمسألة بسرعة فائقة فعرفت نفسي غريبا عن المعلوماتية واني انتمي الى حضارة متراجعة يمكن تسميتها الحضارة الأدبية. ادركت ان الشعر يتوارى في معظم البلدان وان الناس يؤثرون الكلام العادي الذي يصل بهم الى غايتهم وهي تطبيقية. هل ان الأدب كله ترف عقلي ام ان للجمال والحقيقة المكتوبة مكانة في هذه الدنيا؟ هل ان الحياة كلها طعام وشراب ومسكن وتحصيل معارف بواسطة الحاسوب ام ان هناك نفوسا تحب ان تتحرك مجانا. كانت امي تستعجلني الى تناول وجبة الغداء وتنزعج مني لأني استمر في القراءة. هل هذه الحرب تبقى قائمة بين اهل العلم واهل ما يعتبره هؤلاء حياة عادية لا تخلو من التفه.

#   #

#

سؤال شبيه يطرح نفسه حول العلاقة بين المعرفة والحياة الروحية. عندما قال بولس لتلميذه تيموثاوس: «اعكف على القراءة حتى مجيئي» (1تيموثاوس 4: 13) كان مدركا ان القراءة الروحية تقربنا من الله لأنها كلامه او ترجمة كلامه. وكلمته حياة. كيف يعامل الله الذين لا يعلمون عن وحيه شيئا او تعبيرهم فيه قليل؟ عند الرب وسيلة اتصال غير الكلمات الملهمة ما في ذلك ريب وهذه الوسيلة هي انسكابه في قلبك بالحب. المسيح لم يكتب شيئا ولكنه قال. ولا نعرف كل ما قال. «وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع ان كتبت واحدة واحدة فلست أظن ان العالم نفسه يسع الصحف المكتوبة» (يوحنا 21: 25). ماذا يدخل في عقول المؤمنين البسطاء من مدلول الكلمات التي يسمعونها؟ ليس عندي شك ان الأيقونة تتكلم واللحن يتكلم وجو الخشوع يصير كالكلام كما ليس عندي شك اننا نستدخل معا الكلمات حسب طبقتنا الفكرية. خطر الأمية على أهلها انهم يجهلون كثيرا معنى ما يسمعون ويضعون تاليا مشاعرهم عوض الفكر النازل في الصلاة.

اما خطر النص المقدس على المثقفين فهو التأويل وجهلهم احيانا للتراث المحيط بالنص الإلهي فالمثقف عنده تراثه الذي فيه يتقبل الكلام الإلهي. بأي شيء يتقدس تعني اي شيء يستلم. مع كل هذه الأخطار لا بد من الكلمة النازلة. ايضا «اعكف على القراءة» و«عظ في الوقت المناسب وغير المناسب» (2تيموثاوس 4: 2) والوعظ بالكلمة.

اما خلاص العارف فمثل خلاص الجاهل. اجل تساعدك النصوص على معرفة الله ولكن شهواتك احيانا تعطلها. ونمثل امام الآب في عرائنا من الجهل وفي عرائنا من المعرفة. تظهر النفس امامه كما استلمت. ليس من مشهد في الكنيسة يلهمني حبا لبسطاء العقل والتحصيل مثل صف المؤمنين امام الكأس المقدسة. هؤلاء واللاهوتيون الكبار واحد في المحبوبية عند الله. لا يمر الله بكلمته ليعبر اليهم. هو يأتي بنفسه ويسكن القلوب.

#   #

#

لماذا أهلكت نفسي بالتحصيل الذي من الدنيا وذاك الذي من الحياة الأبدية؟

الاول جئته لاعتقادي ان الطبيعة والفن كتاب من الله الينا. اقرأ ربي حيث يمكنني من ذلك. لست اعلم اذا أخذت الكثير من الطبيعة. اظن اني حاولت اخذ الكثير من الفن. ما شجعني على ذلك كوني موقنا ان الله مخفي في الجمالات واني أغيب عنه إن غبت عنها.

ثم لإيماني بالكلمة أقبلت عليها حسبما استطعت. انت لست حرا من تجلياتها واذا نأيت عنها تضع نفسك في الجهالة. هل أعطتني الكلمة هذا الذي كان في البدء وتجسد من مريم؟ في ضعفي وانكساري أقر انها اسعفتني في ظروف التأزم والحزن اذ كنت في حاجة الى تلحينها لذاتها واحس اني كثيرا ما سمعت النظم الإلهي واللحن في البيعة.

هل اقتبلها قلبي اقتبالا غير مشروط؟ هل خضع لها وقد أراد الخضوع؟ هذا ما سيقوله الآب بعد ان يستردني اليه وارجو الا اخشى المواجهة.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

البشارة بالخلاص/ الأحد 25 آذار 2012 / العدد 13

الخلاص غاية البشارة بالتجسّد الإلهي. ثمرة البشارة عرّفها كاتب رسالة اليوم أن المقدِّس (المسيح) والمقدَّسين (المؤمنين) كلهم من واحد أي الآب وهذا يؤسس الأُخوّة القائمة بيننا وبين المخلّص. وتظهر أُخوّتنا للسيد بأننا نُسبّحه في الكنيسة وبإعلان يسوع (في الرسالة): «ها أنذا والأولاد الذين أَعطانيهم الله» (أولاد الله أو أبناؤه).

لنا عُنصر اشتراك أساسيّ مع المسيح أننا معه حاملون اللحم والدم اللذين اشترك هو فيهما بالتجسد من مريم لكي يُبطل بموته الشيطان أي فاعلية الشيطان ويُحررنا من العبودية التي كنا خاضعين لها مخافةً من الموت.

نرتكب الخطيئة خوفًا من الموت إذ نعتقد أن الخطيئة تُحيينا، تُنعشنا. ولكن ما إن أَحسسنا أننا نموت بها، تُعطينا العدم لأنها عدم إذ ليس فيها قوّة الحياة.

بعد هذا يقول الكاتب ان الله اتّخذ نسل إبراهيم. «فمن ثم كان ينبغي أن يكون شبيهًا بإخوته في كل شيء». وأهم شبه له بنا أنه مات إذ الموت أهم شيء في حياتنا وهو أفصح تعبير عن حب يسوع لنا. وأفصح تعبير كان لكاتب الرسالة عن موت المسيح انه سمّاه «رئيس كهنة» وهو الوحيد الذي صار لله أبيه قربانًا بالموت. وهو قرَّب باختياره هذا القربان «حتّى يُكفّر خطايا الشعب».

ثم يوضح أن الرب يسوع تألم مجرَّبًا، والتجربة كانت قاسية في الضرب والهزء وإكليل الشوك وتسميره على الخشبة وطعنه بالحربة. ولكونه ذاق التجربة صار «قادرًا على أن يُغيث المصابين بالتجارب» أي نحن المؤمنين به.

الطريق ابتدأ بالبشارة، ومنذ أخذ هو يبشّر صار اليهود أعداء له وأرادوا إسكاته وقمعه، ولكنه تكلّل هو بانتصاره على الموت. فإذا ما أَقمنا ذكرى البشارة اليوم، لنبقَ عالمين أننا نتهيأ لنُتابع كل طريقه حتى آخرها على هذه الأرض في الصليب والقيامة. ولنذُق سَيرنا معه لأنه هو الطريق وليس غيره من طريق.

اليوم يوم فرح لأنه يكشف لنا قرب الله من الإنسان ليس فقط كما كان يقول في الأنبياء ولكن في كونه نزل ونصب خيمته في حيّنا وعايشنا في كل أطوار حياتنا، وآخر تعبير عن معايشته أنه مات معنا، وصار موتُنا مجالسة له، وازداد بموتنا قربُنا اليه بعد أن كان الموت «أُجرة للخطيئة» ولعنة.

هذا كله تطلّع فصحي. والفصح وحده هو التطلّع وتقبّلنا قوّة الله. فبعد أن كنّا مفصولين عنه، يُخبرنا أن قبول مريم للتجسّد جعلنا أبناء الله بعد أن كنّا أبناء الغضب.

ولكون عيد البشارة يقع دائمًا في الصيام، صرنا نفهم أن التقشف والنُسك والتوبة صارت كلها لازمة لنا لنفهم أُخوّة السيد لنا وقيادته لنا الى الخلاص بالصليب والقيامة.

ونحن لا نعبُر عيد البشارة إلا لننعطف على الأسبوع العظيم ونفرح فيه ونتهيأ به الى نصر المسيح في الفصح.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الأقباط / السبت 24 آذار 2012

بعد رحيل الأنبا شنودة الثالث بطريرك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ان افضل ما أقدمه له ان أكلّم قراء »النهار« عن كنيسته بعد ان عرفوا في صحافتنا الكثير عنه.

لفظة قبطي مشتقة من اليونانية القديمة التي تدلّ على الانسان المصري بما صار في الفرنسية  Egyptien وما يقاربها في لغات الغرب. القبطي هو اذًا المصري. واستعمل العرب عند فتحهم للبلد لفظة قبط او فقط. ولكون العرب عنصرا يختلف دينيا عن مسيحيي البلد سموا هؤلاء اقباطا.

الترادف الكامل بين قبطي ومسيحي يسقط عندما نعرف ان الكنيسة القبطية هي فقط غالبة عددا وان ثمة من نسميهم روم ارثوذكس الذين هم على عقيدة اخرى والكاثوليك على اختلاف طوائفهم والانجيليين. من هؤلاء من انشقّ عن الكنيسة القبطية وهم القبطيون الكاثوليك والانجيليون ومنهم من هاجر الى مصر من اليونان ومن منطقتنا. يبقى ان الأقباط الارثوذكس هم الأكثرية الكبرى.

يفترقون عن الآخرين الذين ذكرت اننا كنا ندعوهم أصحاب الطبيعة الواحدة ونسمي كل الآخرين أصحاب الطبيعتين. مشكلة الطبيعة والطبيعتين في المسيح ظهرت في المجمع الخليقدوني وهو الرابع المسكوني المنعقد السنة الـ451 والقائل بأن للمسيح طبيعة إلهية وطبيعة انسانية. هذا لم يعترف به من صاروا الكنيسة الأرثوذكسية القبطية في مصر وعلى عقيدتهم الأحباش والأرمن والسريان وهم القائلون بأن للمسيح طبيعة إلهية واحدة متجسدة. وبسبب قولهم بالطبيعة الواحدة حرمهم المجمع الرابع.

ولكن غدا في القرون الوسطى ومن المعاصرين من قال ان الاختلاف بين أصحاب الطبيعة وأصحاب الطبيعتين ليس خلافا اذ ان الاختلاف فقط لفظي فكل المسيحيين يذهبون الى ان المسيح إله كامل وإنسان كامل وهذا ما أكّده دائما الأنبا شنودة وتاليا مضمون الايمان واحد وليس من هرطقة في اي فريق. يبقى ان تتصالح القيادات وان تعكس الوحدة وصورة الاتحاد.

#   #

#

لا يبدو ان هناك احصاء للأقباط دقيقا ولا سيّما ان مصر ليس عندها نظام طوائفي. غير ان الأقباط يعتبرون انفسهم عشر الأمة اي ما يقارب ثمانية مليون نسمة. هم والمسلمون يتنافسون في الوطنية المصرية. كل فريق ديني يعتبر الآخر مصريا كاملا وكل مواطن عندهم يذكر ان المواطن الآخر حمل القضية الوطنية عاليا بحيث لا يتهم المسلم القبطي انه كان قريبا من الانكليز. ما هو السبب العاطفي اذًا لقتل مسيحي هنا ومسيحي هناك؟ مسألة لم أحلّها بعد.

غير ان الواضح ان البابا شنودة لم يضع الأقباط ازاء المسلمين ولم يتهم احدا بقتل شعبه وما كان يلجأ الا للدولة ولما كان بعض من اهل الغرب ولا سيما الاميركان يحاولون البحث عن حرية الدين ما كان شنودة يأخذ بموقفهم ورفض كل مرة اللجوء الى فكرة حرية الدين لئلا يلقي مسؤولية على المسلمين.

بقي شنودة ساهرا على التقوى الشعبية وهي عظيمة جدا. المصلّون والصوّامون كثر والايمان يبدو قويا على بساطته وذلك عند المثقفين ايضا. ولما كان شنودة يحاضر كل يوم اربعاء في الكنيسة المرقسية كان يحضره ما لا يقل عن خمسة آلاف انسان من كل الطبقات الفكرية وكنت أراهم خارجين من المحاضرة جمهورا تلو جمهور.

وعظت في كنائسهم بعض المرات وعند خروجي كانوا يتلمسون جبتي للتبرك مع علمهم اني لست قبطيا. عرفت من نال شهادات في اللاهوت عالية وصادقتهم. عندهم جميعا المسيحية واحدة. في التأزم الاجتماعي هكذا تبدو ويظلّون على قوة الشهادة. غير القادرين على التعبير الكلامي عندهم كان يبدو لي ان قلبه يعرف. بهؤلاء كنت أحسّ ان المسيح يمشي على ضفتي نهر النيل.

في حالات الضعف السياسي  لا بد لهم ان يتحلّقوا حول الإكليروس وهم يقدمون لمصر ما استطاعوا من المعرفة. علوا في العلم. كفاني هنا ان أذكر في الفنون عوض كامل ورمسيس ويصا واصف وسامي جبرا وحبيب جرجس ومراد كامل.

في الحياة الكنسية يقود الأقباط مجمع مقدس مؤلّف من أساقفة ومطارنة ورؤساء اديرة ومجلس اكليريكي لدى البطريرك.

انتخاب البطريرك يتمّ على درجتين. يشترك المؤمنون في الترشيح ويختار ثلاثة يأتي الناجح بالقرعة.

البطريرك يعيّن المطارنة بعد استشارة غير ملزمة للعلمانيين. عندهم مجلس ملّي يهتمّ بادارة الأوقاف والعلاقات الاجتماعية. الإصلاح الذي تمّ السنة الـ1955 جعل الأحوال الشخصية تحت سلطة الحكومة التي تفحص الخلافات الزوجية.

على رغم الحدود الموضوعة تبقى الكنيسة القبطية على حيويتها في الوعظ والنشر والحياة الرهبانية التي تجددت في العقود الأخيرة وانضمّ اليها مثقّفون كثيرون يزاولون كل ما استلموه من التراث القديم.

مع هذا لا يزال الأقباط منخرطين في الحياة العامة. لهم صحافتهم المنتظمة في جريدتي مصر ووطني. لهم حضورهم في القيادة السياسية وان كان لا يصل احدهم الى المسؤولية انتخابا. كان بعضهم مقربا من سعد زغلول عند تأسيس الوفد. كنت اتابع في مطلع شبابي نشاط القبطي العظيم مكرم عبيد. كان لواصف بطرس غالي دور حاسم في إعداد معاهدة السنة الـ1936 التي كرست استقلال مصر.

حافظ جمال عبد الناصر على كرامة الأقباط. رأيته السنة الـ1965، يضع حجر الأساس  للكاتدارئية الجديدة. هنا اسماء في الأدب والفن لا تنسى. كيف تنسى جورج حنين والبروفسور عزيز سريال عطية واضع الموسوعة القبطية؟

لا يسعني ان اسمي كل من ساهم في خدمة الفن القبطي في الرسم والعمارة. كيف نهمل ذكر الأطباء  والأساتذة والمعماريين والمهندسن والصاغة وعدة صناعات أخرى.

سيبقى الأقباط بالرضاء الإلهي اولا وبإخلاص المسلمين لبلدهم الذي له عظمة الا يتكلّم على الأكثرية والأقليّة لتعود مصر الى عمق حضارتها وذوقها وجمالها وعلى ريادتها للعالم العربي.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

السجود للصليب/ الأحد 18 آذار 2012 / العدد 12

هذا الأحد المسمّى أحد السجود للصليب هو في حقيقته سجود للمصلوب. الفكرة ان الكنيسة لاحظت أن بعض المؤمنين يتعبون من الصيام في انتصافه، فحتى تشدّهم الى ان يكملوا السعي بلا ملل جعلت ذكرى صغيرة من آلام السيد.

الذبيحة التي رُفعت على الصليب هي المسيح نفسه. وبها صار رئيس كهنة او بالحري الرئيس الوحيد لأنه المقرِّب والمقرَّب معا.

في إنجيل اليوم يكشف مرقس لكل مؤمن معنى الصليب وكيف يجب ان يلتزم الصليب وينذبح بآلام السيد، ويبين أن في الأمر اتّباعا لطريق المخلّص اذ يقول: «من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني».

في البدء عندك وقفة التزام. إرادتك تتعهد المسيح. هذا يقودك الى ان تتجرد عن الأنانية وحب الذات وشهواتها، وهذا ما قال عنه السيد «فليكفر بنفسه». ولكن حتى تتخلى عن شهواتك حقيقةً لا بد لك من حَمل صليبك اي ان تحتمل مشقّات الحياة كما حمل الرب يسوع صليبه. ان تمشي وراء السيد يُلقي عليك تعبا جسديا ونفسيا. الناس الذين حولك او من تتعامل معهم يعذّبونك بالدرجة الأولى. هذه الآلام شرط لتتبع المسيح. ان كانت كل حياتك هرج ومرج فأنت تابعٌ أهواءَك ولست تابعًا للمسيح.

ويجسّم الإنجيل هذا المعنى بقوله: «من أَهلَكَ نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يُخلّصها». إهلاك النفس يقصد به التعب والإمساك عن الخطيئة. هذا كله ضبط للأهواء ومراقبة للنفس وإشراف على الذات.

ويصل الى القمة عندما يقول: «ماذا ينفع لو ربح العالم كله وخسر نفسه، او ماذا يعطي الانسان فداء عن نفسه؟». لك ان تربح كل أموال الدنيا ومجدها، ونفسك واقعة في الخطيئة. ماذا تكون قد كسبت؟ تكون نفسك قد دخلت الجحيم اليها وفي نفسك مال ومجد ونفوذ اي لا شيء في نظر الله او شقاء حقيقي للنفس. بماذا تفدي نفسك؟ هل نفسُك اذا انتُهكت ثمن لهذه الأمجاد والملذات.

هذا السقوط يعني في حقيقته أنك تستحيي بابن البشر. إن كنت لا تستحيي تحتمل كل شيء وتشهد ويضمّك المسيح الى صدره.

المطلوب أن تختار بين المخلّص وما كان عدوّا للمخلّص اي الخطيئة. هما لا يجتمعان في قلب واحد. المطلوب ان تنحاز ليسوع ولا تجمع معه آخر او لا تجمع معه ضدّه.

اذا كنت معه تذهب الى أعمالك والى عائلتك والى كل همومك الشرعية. تأتي منه اليها وتكون أعمالك مقدسة. وتكون حاملا صليب المسيح بفرح.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الفرح / السبت 17 آذار 2012

منتصف الصوم عندنا في الأسبوع القادم وقد أحس الكثير من الأقدمين ان نصف زمان الإمساك خالطه شيء من الملل وبعض من تعب فخشي علينا الأقدمون أن نقع ولا نتابع المسيرة بفرح. دائمًا الكنيسة تخاف من زوال الفرح لأن خلافه استباق لموت ما في حين ان رؤيتنا رؤية قيامة.

ما كنت اتمناه وانا أكتب لجميع الناس ان يدركوا ان المسيحية التي تتكلم برموز وليس فقط بكلمات ما جعلت الصليب مركزا لها الا لكونه تحولا الى الانبعاث. اذا كان المسيح لا ينطفئ فنور الفصح هو كل شيء ولسنا ديانة مأساوية، مسدودة النوافذ اذ دخل السيد على تلاميذه بعد القيامة والأبواب مغلقة. ليس من انغلاق للنفس، اذا هي أرادت، يحول دون دخوله اليها. يدخل ليزيل الألم والحزن اذا رافقه ويخطئ من ظن ان المسيحية ديانة الألم وتعذيب الذات المقصود وان فيه فضلا. الفضل للصابرين اذا صبروا وليس للمتوجعين لمجرد توجعهم.

الإنجيل كتاب مليء بالعجائب وأراد المسيح شفاء المرضى. «العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون والموتى يقومون والمساكين يبشرون» (متى 11: 5). ولكن لا يظنن احد انه قادر ان ينال التعزيات الإلهية وعظمة النعمة بهدوء الكسل. لا مفر من الخطيئة ولكن لا خروج منها الا بالتوبة ولا صعود على معارج التوبة الا بالصلاة.

المسيح لم يخترع الصليب. كان موجودا في العقوبات الرومانية. تقبله تقبلا ليعلمنا ان لنا به حراكا الى الله. النعمة المنسكبة علينا يتهيأ لها الانسان بشدائد تعتريه. كيف تشطب الشدائد روحيا وليس بالطب الجسدي او الطب النفسي بلا سكينة هي سكينة الله لنفسه.

لك ان تتوقع شفاء على صعيد الطبيعة ونحن نؤمن ان لله اصبعا في هذا. والطب النفسي يعالج العقد التي ورثتها ولكنه غير مكترث بعافيتك الروحية. اصلا لا يسعى الى هذا ومؤسس هذا الطب كان ملحدا. انا ما قلت ان بديل المعالجة الصلاة. والقديسون حضوا على طلب المعالجة الطبيعية. غير ان الانسان مصلوب على ما يعتريه وعلى ذاته حتى يتلقى الحنان الإلهي. لا احد يخترع صليبه الشخصي او يتوهمه. قد لا يروقك استعمالي لكلمة صليب. ولكن حقيقتها قائمة في وسط الوجود. نحن نبقى على التسمية لأنها أعطتنا حياة لما واجه الناصري الخشبة التي علق عليها بالمسامير وإكليل شوك.

#   #

#

لما وضعت كنيستنا يوم غد ذكرى للصليب ترى اذا قرأت النصوص كلها المتعلقة بالتعييد انها شبيهة جدا بنصوص الاسبوع العظيم ولا سيما الجمعة العظيمة وكأن الذكرى استباق لتلك العظيمة، كأننا لا نستطيع ان ننتظر الموسم الفصحي مدة تطول. واللاهوت الذي تقرأه منذ مساء اليوم حتى الاحد هو اياه اللاهوت الفصحي. النظام الطقوسي عندنا دائما يبدأ بيوم سابق لأي عيد عظيم كأن زمنا لا فرح فيه يعذبنا. نشتهي التذوق المسبق للموسم المرجو.

لست اذكر من هو العالم المسلم الذي قال من قرون عديدة ما مفاده ان الله لا يدع امة توحيدية تخطئ قرونا عديدة في فهمها للصلب او تقع في انحراف رهيب كهذا المنسوب اليها. انا ما أخذته على نفسي اني لا أساجل ولكني لست قائلا هذا القول. انا لست افهم ان اعظم قصيدة حب كهذه التي نحن في صددها يمكن ان تكون بالكلية غريبة عن الفكر الإلهي.

انا لا افهم ان الوفًا مؤلفة من الشهداء الذين قُتلوا من اجل هذه القضية او بسببها ماتوا عبثا اي انهم ماتوا في الكذبة الكبرى واذا انخدعوا فمن صاحب الخدعة. هم ما اتوا بجلال قداستهم الا من ايمانهم بما اعتبروه واقع خلاص.

نحن الصائمين نجيء الى التعبد غدا ليطهرنا الله من كل ادناسنا فنرث حامل الحياة اعني المسيح.

نطلب «صفحا الهيا ونورا سماويا وحياة وسرورا حقيقيا» ونعلم ان هذه هي المجد. ولكن قبل نزول المجد نقول «يا رب لا بغضبك توبخ شعبا خاطئا ولا برجزك تؤدبنا لأنك صالح».

#   #

#

في الأخير ماذا يعني الصليب الذي نتجدد غدا بمعرفته؟

كل فكرة موت المسيح لا تعني لنا الا انه وهو الحياة قد دخل نطاق الموت وأمات الموت. القصة كلها تختزل بأن ارتضاء يسوع الألم ألغى الألم واعطى الانسان المؤمن به طاقة الغلبة على كل ما هو سلبي في الوجود.

غير ان نصر القيامة يعيدنا الى الا ننسى المتألمين والفقراء والمرضى وان نستعد لنأخذهم معنا الى الفرح. نحن لا نحب صلب احد ولا ان يبقى تحت وطأة صليبه. واحد حمل الصليب حتى لا يبقى مخلوق رازحا. سعينا ان نصعد مع كل الناس الى اعلى ما في الكون وهذا ما نسميه السماء. رجاؤنا ان يتسلح البشر جميعا بالنصر على ما يعادي البشرية فيهم.

سنواصل الصوم بالرضاء الإلهي على رجاء رؤية الفصح نحن وكل المحبين ليسوع ونصلي عند ذاك لفرح الانسانية جمعاء.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

شفاء المفلوج / الأحد 11 آذار 2012 / العدد 11

بعد أن تجوّل السيد حول بحيرة طبرية، دخل الى كفرناحوم التي صار ساكنها بعد أن ترك الناصرة. استضافه بيت لعلّه كان مُلكا لأحد التلاميذ. كثر الوافدون الى هذا البيت لمّا سمعوا أنه فيه «فكان يخاطبهم بالكلمة» أي بموسى والأنبياء. اذ ذاك قدّموا اليه مخلّعا (حسب ترجمتنا) اي مفلوجا. ولما لم يستطيعوا أن يقتربوا اليه بسبب الازدحام نقبوا السقف. مثل هذا السقف المصنوع بألواح خشبيّة وشيء من التراب معروف في جبال لبنان.

توّا يقول يسوع للمفلوج: يا بنيّ مغفورة لك خطاياك. هذا في عرفهم تجديف لأن أحدا من كهنة اليهود او من أنبيائهم قديما لم يتفوّه بمثل هذه العبارة. الكتبة وهم من علماء الشريعة ما كانوا يعرفونه إلا بشرا. لذلك استهجنوا قوله انه قادر على غفران الخطايا.

إلاّ أنه أثبت صحة ادعائه القدرة على الغفران اذ قام بالشفاء الجسديّ بعد أن أعطى الغفران. قال للمريض كمن له سلطان: «قم واحمل سريرك واذهب الى بيتك». وهو أكّد لليهود بعمليّة الغفران وعمليّة الشفاء أن له سلطانا على جسد الانسان وعلى روحه.

توّا بعد أن شُفي المفلوج بكلمة، «قام للوقت وحمل سريره وخرج أمام الجميع حتى دهش كلهم» وقالوا: «ما رأَينا مثل هذا قط». ربما كان بين هؤلاء القوم من سلّم يسوع الى الموت. واضح من هذه الأعجوبة أن اهتمام السيد هو أولا شفاء النفس من الخطيئة، والمرتبة الثانية شفاء الجسد، وقام بهذا في صنعه معجزات كثيرة.

اذا مرض أحدنا، أهم هاجس عنده أن يتوب، لأن المصيبة ليست أن يموت ولكن أن يموت غير تائب. لا مانع من أن يسأل المريض شفاءه من الله دون أن ينسى شفاء نفسه. واذا دُعي الكاهن الى مريض وصلّى فلا تنحصر صلاته او طلبته بالشفاء. المهم قيامتنا من الخطيئة وسلامتنا مسلّمة الى رعاية الله لنا. لعلّ المرض كان أحيانا هزّة تُذكّرنا بضرورة العودة الى الرب.

يكون الرب سمح بمرض او بحادثة. هذا لا يعني أنه بسبّب المرض او الحادثة. الله ليس علّة اوجاعنا. هو يُقيمنا منها لكي نقترب اليه.

من يعي أن الخطيئة مصيبة المصائب وأن ليس شيء أسوأ منها؟ وعجبي أننا نسهر على صحّتنا لئلا تتدهور، وقلما نسهر على نفوسنا كي لا تقع في التجربة. هل الغضوب مثلا يسأل نفسه: كيف أُروّض نفسي حتى أَكتسب الهدوء؟ او من يقول لنفسه: هؤلاء ناس يجب ألاّ أُعاشرهم لئلا أَتبعهم في السيئات التي يرتكبون؟ وبكلمة، كيف أسعى أن أَضمّ نفسي الى يسوع في كل ظرف اجتماعي أكون فيه؟ ثم كيف أُقوّي نفسي في الإيمان، في روح الصلاة، في دوام الصلاة لئلا أَزلّ. بعبارة واحدة: هل انا مُحبّ للفضيلة حقا أَم أُوهمُ نفسي بذلك؟ هل همّي، حقيقة، أن أُلازم الرب يسوع ليصبح هو حياتي؟

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

حارة النصارى / السبت 10 آذار 2012

سألني مرة أحدهم في كهولتي: «أعندك عبارة واحدة تعرف نفسك بها منذ نشأتك حتى اليوم تكون عصارة فهمك لذاتك ولا تنتقص منك شيئا وتتوق ان تبقى عليها ولا يزيدها شيء آخر يراه الناس انه من هويتك»؟ قلت له: «انا صبي فقير من حارة النصارى».

انا ما كنت اعرف في طفولتي الأولى معنى نصارى اذ ما كان قومي يستعملونها ولكنها هي كلمة من القرآن ومن التنظيم المدني في عهد العرب بعد ان احتلوا بلادنا. الفكرة العمرانية والسياسية وراء اللفظة ان من سماهم العرب النصارى وهم يسمون انفسهم مسيحيين، الفكرة انه يجب ان يجتمعوا في حي واحد حول كنيستهم ليظلوا في حماية الحكم الإسلامي ولا يعتدي الرعاع عليهم. ما كنت افهم آنذاك لماذا تحدث احدا نفسه ان يعتدي عليهم. ماذا فعلوا؟ لما صرت شابا أخذت افهم ان كل مجتمع في العالم فيه من يعتدي عليه فعل ام لم يفعل وهذا مكتوب في كتب او الكتب احيانا تأتي هي من الشعوب.

ولكن قبل ان اولد اي قرونا بعد ان ظهرت شريعة الحماية للنصارى أخذ المسيحيون يسكنون بعيدا عن الكنيسة يخالطون اهل البلد الآخرين ولم يكن عند احد من الفريقين مسؤولية الحماية للاخر لأن العثمانيين بعد اختلاطهم بالغرب قالوا للرعايا: كلكم مواطنون واذا اعتدي على الامة العثمانية يؤخذ المسيحي العثماني الى الحرب. كان هذا النصراني عارفا ان اهل السلطنة واحد لأن الموت واحد ولأن تشريعات كثيرة أرادت ان تظهر ان هذا الشعب واحد.

مرة سألت احد الناس: لماذا اذا كانت شرائحنا متجاورة في بوابة الحدادين في طرابلس او يعملون جميعا في سوق واحدة لا يبقى من حاجة الى حماية احدنا للآخر بل يظل حسن الجوار هو القاعدة  وحسن الجوار يأتي من قربى الجار للجار او المزاملة في العمل ولا يطرح احدنا السؤال عن الحي الذي يستأجر فيه شقته ويتسامرون ويحترم كل منهم تقاليد الآخر. مرة كنت ازور صديقا في شهر رمضان في النهار. قال لي: سامحني لا استطيع ان اقدم لك القهوة لكوننا صائمين. قلت: ما كنت انتظر شيئا آخر. واذا سهروا بعضهم عند بعض ففي شوق يسهرون.

وعلى امتداد الناس جميعا في المدينة بقيت حارة النصارى وعند حدودها حارة اليهود ولكونها كيانًا مُدنيا آخر لم افكر قط باجتيازها او ان ادخل الكنيس. كل جماعة هي الأخرى.

لم ألحظ عصبية في حارة النصارى او تباعدا بين عائلاتها ربما لأن ما يوحدهم كانت هذه الكنيسة القائمة في وسطهم وكانوا دائما حولها فاذا قرع الجرس يعرفون انها صلاة الغروب مثلا ويهرول بعضهم اليها وعند انتهائها يعودون الى بيوتهم لتناول طعام العشاء او يسهرون قليلا عند الأنسباء ولو طالت المسافة اذ السيارة لم تكن معروفة عند غير الميسورين. فاذا حضرت يستقبلونك وهم لا يعرفون بمجيئك سابقا ويتحادثون احيانا بما هو شيق.

اذكر ان ابي كان طيب الحذيث ولا يؤتاه من الجرائد التي كان يتصفحها. كان يتحدث عن خبرته مع الأتراك. ما كان يكرههم ابدا. انهم اسياد الحرب. ما كنا نتساءل لماذا نحارب لهم. انهم اسياد البلد. ونموت في الترعة اي عند قناة السويس او نعود منها او من بعلبك بعد دفع البدل.

#   #

#

المثقفون كانوا يقولون انهم عرب. كانت هذه الفكرة ظهرت في باريس عند قاطنيها الموارنة الذين كانوا يكتبون بالفرنسية. اهلي كانوا يقولون انهم اولاد عرب. كبف وجدوا هذا لست اعلم. فقط بنهاية الحرب العالمية الاولى أخذت الهويات تظهر وتتصارع ولكني كنت اذكر من ايامي في آخر العشرينات من القرن التاسع عشر ان ذاك الجيل القديم كان لا يزال يقول اننا اولاد عرب. ولما كانوا يريدون ان يتحدثوا عما يحسونه اعماقا يقولون نحن مسيحيون ويريدون بذلك فقط انتماء لا علاقة له بهذه الدنيا. البلد كان في استلام الاتراك ثم صار في استلام الفرنسيين اما هم ففي استلام الله وكنيسته التي كانوا يتحلقون حولها وما يعرفون شيئا عن كنيسة اخرى الا اذا صعدوا الى قرى الاصطياف اذ كانوا يعرفون ان مسيحيين آخرين يسكنون الجبال ويصلون بلغة اخرى ويرتلون بألحان اخرى. وما كتنت المس عندهم تعصبا فالآخرون هم الآخرون.

اما جماعتي فيرعاها كهنة تلقوا بعض العلم الاساسي ليتمكنوا من أداء الخدمة وهي الكلمة التي تدل على الطقوس عندنا فالقيام السليم بكل الخدم على كثرتها كان الشرط لاقتبال الكهنوت. الأسقف وحده كان حائزا على العلوم اللاهوتية كاملة في الخارج والخارج يمتد من القسطنطينية (اي اسطنبول بالتركي) الى بطرسبرج في روسيا مرورا بكياف وقازان وموسكو بحيث ان كل اسقف كان عندنا يتقن اليونانية اوالروسية الى عربية متينة تؤهله للوعظ. وهذا الرئيس كان الى زمن ليس بعيد يسكن حمى الكنيسة اي في حارة النصارى.

ولد ابي وجدي لأبي فيها وانا ما كنت اتردد عليها الا لزيارة عمتي التي كانت تعيش مع ولديها بعد ان مات زوجها عند الأتراك في الحرب. والديّ عند زواجهما عاشا في حي جديد يدعى الزاهرية ثم في حي إسلامي يدعى باب الرمل حيث ولدت. لم يكن اذا في هويتي اي انتساب الى حارة النصارى.

لماذا أكون اذًا صبيا فقيرا من حارة النصارى؟ هل لأن جدي بنى قبة الكاتدرائية هناك ام لأني أحببت في شبابي ان أتأصل في هذه الهوية النازلة على اهل الحي من السماء؟ أين أصولهم الا في السماء؟ هل تبنيت الحارة ام هي تبنتني بعد ان دعي اهلها مسيحيين في انطاكية اولا (أعمال 26: 11).

ما همني ان اهل الحارة كلهم ما عدا قلائل نزحوا. حتى نهاية الأزمنة الإنسان في نزوح. المهم انهم يوم الأحد هم في الكنيسة ويصيرونها اذا اخذوا جسد ابن الله ودمه فينتشرون عالمين انهم في رعاية الله وحده وانهم يدفنون في مقبرة مسيحية مع القديسين.

تعزيتهم انهم في حارة النصارى العقلية لأن آباءهم شهدوا وانهم سيقيمونها في اللامدى ويعلمون اولادهم ان يصلّبوا وجوههم اتخاذا للغلبة التي اعلنها يسوع على الخشبة. عددهم ليس همهم واذا انقرضت حارة النصارى بكل معنى من المعاني سيذكرون ان واحدا قال لهم: «ها انا معكم كل الأيام الى انقضاء الدهر» (متى 28: 20).

سقطت قبة الكاتدرائية في حياة جدي جرجس خضر ولما رآها تتصدع صرخ بالمؤمنين ان اخرجوا ولم يمت منهم واحد لأن السماء كانت قبتهم.

سوف نتشتت في الأرض كلها. ما همنا. لسنا سكان الأرض. قاماتنا هنا ورؤوسنا تنطح العرش السماوي حتى يجلسنا الآب عن يمينه مع الابن. ذهبت حارة النصارى. أبقي المسيحيون الآن بين السماء والأرض حتى يوم تزول الأرض.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الأرثوذكسية/ الأحد 4 آذار 2012 / العدد 10

«الأرثوذكسية» كلمة قديمة جدا تعني استقامة الرأي اي الإيمان السليم، كما تعني ايضًا التمجيد الصحيح لأن إيمان آبائنا هو ألهمهم الصلوات المعبّرة عن الإيمان، فإذا قارنت العقيدة بصلواتنا والترتيل نرى أنهما واحد.

لماذا أصرّت الكنيسة على تخصيص أحد من آحاد الصوم للإيمان المستقيم؟ السبب أن عقيدتك اذا كانت منحرفة فالإمساك عن الطعام لا ينفعك شيئا. الإيمان هو بدء الحياة المسيحية وركنها واستمرارها. لذلك كانت الصلاة تسندك في جهاد الصوم لأنها مملوءة بالفكر الإلهي المأخوذ من الكتاب المقدس والكتاب يقوّم إيمانك.

لماذا نُصرّ على استقامة الرأي ليس فقط في هذا الأحد ولكن طيلة حياتنا؟ لأن هناك جماعات انحرفت عن الكنيسة منذ القرن الأول، والكارثة الكبرى أتت بالآريوسية التي كفّرها المجمع الأول وهي أنكرت أُلوهية المسيح. في الحقيقة أن كل الهرطقات مشتقّة عن هذه.

اليوم الآريوسية يردّدها شهود يهوه الذين يُنكرون أُلوهية السيد، ولهذا السبب هم غير مسيحيين.

إنجيل اليوم يعبّر عن الإيمان الأرثوذكسي بقوله: «إنكم من الآن ترون السماء مفتوحة وملائكة الله يصعدون وينزلون على ابن البشر» (اي المسيح). فإذا كان الرب يسوع هو الجسر القائم بين السماء والأرض يكون هذا تعبيرا على أنه الإله.

في الرسالة، بعد أن يبيّن كاتبها قداسة الناس في العهد القديم وعظمتهم الروحية، ينتهي المقطع بـ«لم ينالوا الموعد لأن الله سبق فنظر لنا شيئا أفضل أن لا يَكمُلوا بدوننا». المعنى أن الكمال بيسوع، وكان على الأقدمين أن ينتظروه وينتظروا تلاميذه (اي نحن) ليصيروا معنا كنيسة واحدة لننال معا المجد الإلهي.

فإذا مشينا جميعًا في هذا الصوم على درس الإنجيل والقراءات الروحية والصلوات المملوءة من الكتاب الإلهي نقدر أن نتأهب للعيد. والقيامة نقومها كل يوم في الصيام اذا غلبنا الخطيئة وانتظرنا المخلّص آتيا الينا فنأكل جسده ونشرب دمه ونحيا بهما حتى ينقلنا الله اليه بالموت.

عيد الفصح، تاريخيا، سابق للصوم. نعرفه منذ القرن الأول، والصيام استغرق أربعة قرون ليتثبّت شيئا فشيئا. الفصح هو الإيمان بالمسيح ربًّا وإلهًا. يمدّ هو اذًا الإيمان المستقيم الذي نذكره الأحد الأول. كل الآحاد اللاحقة تحتوي بطريقة ما الإيمان المستقيم وتنتظر المسيح الآتي الينا والذي ننتظر مجيئه الأخير.من يعطينا، في هذا اليوم، موهبة أن نكون ممتلئين في كل أحد من الصوم من قوة الفصح المنتشرة على كل أيام هذا الإمساك! من يعطينا ان نصبح فصحيين، قائمين على الفرح! نرجو أن نكون معا في هذه الأيام لنقدر ان نكون معا في الفصح المبارك.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الصيام / السبت 3 آذار 2012

دخل المسيحيون الصيام منذ اسبوع او اسبوعين ووجهتهم الفصح اذ الفصح هو الرؤية وغاية الصوم ان تبصر مجد الله مرتسما على وجه القائم من بين الأموات. التقشف هو الوسيلة البشرية لإدراك النور والنور والجهاد يتآزران لتدخل اليك قوة الله. ما من وجود روحي خارج الإلتقاء بين النعمة الإلهية وجهادات الانسان. وعند الجهاد تتم دالتك على الله وتؤتى الحميمية المذهلة بينك وبينه.

لأن الرؤية كانت الغاية ولأن رؤية الفصح هي الرؤية رتبنا هذه الفترة الزمنية قبل ذكرى القيامة ما لم يمنع رياضات صومية مماثلة قبل أعياد اخرى اذ ما من عيد عظيم عندنا الا انعكاسا للعيد الكبير. وما من صوم طوعي تقرره انت ما شئت الا التماسا لوجه أبيك الذي في السموات وما من شك عندي ان إمساك يومي الاربعاء والجمعة الا استعدادا ليوم الأحد المقبل واليوم الأحد هو الذي لم يزل وحده ولم يكن معه آخر وينفي تاليًا ما يذكر معه من العدد كما جاء في القاموس. أقمنا القداس الإلهي فيه فلنقول انه يوم المجد.

مدعوم هذا الكلام بما ورد في سفر الخروج عن موسى في جبل سيناء حيث «كان الرب يكلم موسى وجها لوجه كما يكلم المرء صديقه». غير ان مجد الرب لم يتراء لموسى «لأنه لا يرى وجهي انسان ويعيش». وكان موسى في الجبل بلا طعام اربعين نهارا واربعين ليلة.

شيء من شبه رؤية حدث مع ايليا في جبل سيناء ايضا. قبل إدراكه الجبل هاربًا من الملكة ايزابل بقي اربعين يوما واربعين ليلة بلا طعام وتراءى له الله رمزيا بشكل «صوت نسيم لطيف». غير ان النبيين أحضرهما الله الى جبل التجلي فشاهدا نور الله على المسيح. كان هذا اول اتصال لهما بالرب. قبل ذلك كان لهما التماس له.

المدة نفسها التي قضى موسى وايليا في الصوم قضاها المسيح بعد اعتماده. هذا الرقم كان يعتبر رقما مقدسا كأرقام اخرى في العهد القديم. رقم الأربعين كان يعني للأقدمين الرجوع الى الذات ويتضمن تاليًا معنى التوبة. غير ان مدة الصوم لم تكن عندنا محددة منذ البدء اذ كانت كل كنيسة تلتزم بالفترة التي تحددها هي الى ان استتب رقم الأربعين في المجمع المسكوني الأول السنة 325 ومجمع اللاذقية المنعقد السنة 365.

أكدت هذا لأقول ان الفترة التي نحافظ عليها جاءتنا من التراث الروحي المتأصل في القدم.

#   #

#

ما كان شكل الصوم قديما؟ اولى شهادة كلام القديس ابيفانيوس القبرصي في القرن الرابع القائل ان الصيام يقوم على وجبة واحدة خالية من اللحم. ويزين لي ان الأسقف القبرصي كان شاهدا لتراث سابق استمر حتى آخر القرن السابع حيث ينهي مجمع ترولو عن اكل اللحم ومشتقاته (القانون 56) وهو يريد بذلك البيض والجبن. واستمر هذا التقليد حتى يومنا هذا في الكنيسة الأرثوذكسية.

هنا لا بد ان نذكر ان ثمة كنائس غير ارثوذكسية تتحرر جزئيا او كليا من هذه الممنوعات باعتبار ان هذا ترتيب كنسي يتغير بتغيير الأزمنة. الأرثوذكسيون انكبوا منذ زمان على التطلع الى تعديل ما في هذا النظام وقد ينظر في هذا المجمع الأرثوذكسي الذي أخرت انعقاده ظروف مختلفة في السنوات الأخيرة.

هنا ايضا لا بد ان نذكر ان الصيام عندنا دعوة إلهية منصوص عنها في العهدين القديم والجديد ولكن الامر الإلهي لا يتضمن شكلا معينا من الطعام. هناك مرونة ذات طابع رعائي. ومن الواضح طبعا ان المشروبات الروحية غير مسموح بها في الصيام.

#   #

#

لا يتركز الصيام فقط على الامتناع عن الزفر ولكنه يقوم على التقشف اي الابتعاد عن الطيبات وطلب اللذات بالأطعمة الصيامية. الفكرة ان تقترب من الفقراء وطعام الفقراء والا تنفق كثيرا لتدنو من المحتاجين. هؤلاء كانوا هما أساسيا في المسيحية الأولى فقد كتب أحد المدافعين عن الإيمان الى الامبراطور الروماني في القرن الثاني قائلا: لماذا تضطهدنا ونحن قوم اذا وجدنا عائلة فقيرة بيننا نمتنع عن الطعام لإعطاء هذه العائلة ثمنه. المشاركة كانت، في البدء، تاريخيا. وتبقى الى اليوم الصدقة ملازمة للصوم بل أحد أركانه. فالمحسن متصل بالله ولا يكشف نفسه لأحد. كذلك الصائم يمسك ليصوم لله الذي يرى في الخفية والذي يرى في الخفية يجازيه علانية.

هذا المفهوم للصوم يجعله طريقا الى التواضع اي الى رؤية الانسان نفسه على انه لا شيء يلتمس من الله كل شيء ويتربى على ان يصير فقيرا لله. من جعلته النعمة هكذا يصبح مهيأ للاستغناء عن اشياء كثيرة. في الأخير الصوم ترويض النفس على كلام يسوع: »لا تكنزوا لكم كنوزا على الأرض … بل اكنزوا لكم كنوزا في السماء«. الذي يربي نفسه على التشبه بواقع الفقراء ويتألم كما يتألمون من الحاجة يصبح قلبه مكانا لله.

واذا فعل هذا مرة في السنة وفي كل مواسم الامساك عندنا يكتسب روحية الفقر الدائم الى الله.

#   #

#

تبقى قضية اساسية عقائدية. ماذا يصوم فينا؟ هل النفس ام الجسد؟ الجسد لا يخطئ ولا يصوم. هو مكان للنفس الراغبة في التطهر. هو مظهر للذات الكاملة، العاقلة، المحبة ولكنه ليس آلة. هو بعض من الانسان الواحد القائم بالنفس والجسد معا المعبرين بالمشاركة عن الأنا التي تنزل عليها النعمة لتنقيها من الانغلاق والكبرياء. الأنا معرضة للغطرسة والتسلط والاستيلاء ومنفتحة للذات الإلهية بعطائها العلوي.

واذا صح الجسد فليس هذا بسبب من أنواع الأطعمة اولا ولكن بسبب خضوعه للكيان البشري الموحد بالحب والبذل. الجسد مشدود الى الروح المعطاء الذي يكون قد ذاق الامحاء امام وجه الله. ووجه الله مطل دائما على الذين يحبونه ليعطيهم حياة جديدة.

وهذه تعلن عن نفسها في الفصح الآتي على رجاء ان تعود الينا قبل ان يأخذنا الله الى رحمته.

Continue reading