Monthly Archives

October 2006

2006, مقالات, نشرة رعيتي

أعجوبتان ليسوع/ الأحد 29 تشرين الأول 2006 / العدد 44

الأعجوبة الأولى إقامة طفلة من الموت هي ابنة يايرس رئيس كنيس لليهود وهو القاعة التي يجتمعون فيها في السبوت للصلاة وقراءة الكتاب المقدّس. في مطلع الفصل أورد لوقا انها مريضة. بين خبر مرضها وإنهاضها من الموت في آخر الفصل الإنجيلي، أورد لوقا الإنجيلي حادثة أخرى وهي أن السيد فيما كان يكمل طريقه قربت اليه امرأة كانت تنزف دما منذ اثنتي عشرة سنة. وهذا مرض نسائي.

أخبرت المعلم أن الأطباء لم يفيدوها بشيء. لم تأتِ الى السيّد مواجهة ربما لأنها لم تجرؤ على المواجهة. وجاءت من خلفه ومسّت ثوبه فشفيت للحال. هل نحن نلمس يسوع؟ بالمحبّة له، بالشوق اليه أم نبقى نازفين بسبب من الخطيئة؟ أن نلمس يسوع هو ان نعاشره مع أبيه وروحه القدوس.

شفيت المرأة فورًا. كذلك الخاطئ يشفى فورًا بتوبته ويصير انسانا جديدا. لا يشفى جزئيا او على مراحل. عند ذاك قال لها السيّد ايمانك أبرأك اذهبي بسلام. ايمانك أبرأك تـعني إيـمانك بي أبـرأك. الايمـان لا يعني ان نصدّق كل شيء. يعني فقط ان نثق بالله لأن الايمان يبدأ بحركة الله الى الانسان وينتهي بطاعة الانسان للحركة الإلهيّة. الإيمان يعني قبولك لله وان ليس لك مكان لذاتك فيك. الله يملأ كل القلب. “لستُ أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ”. هذا الالتصاق بيسوع بحيث يكون هو كل شيء هو ايمان ومحبة معا.

وأكمل يسوع سيره على طرقات الجليل، واذْ بواحد من ذوي رئيس المجمع قال له ان ابنتك قد ماتت فلا تتعب المعلم. لم يخطر على بال احد ان المعلم الجليلي له سلطان على الموت، وعلى إلغاء الموت. أجاب يسوع هذا الرسول: “آمِنْ فقط فتبرأ هي”. احد يجب ان يؤمن، ليس بالضرورة المريض. في غالب الأحيان كان يسوع يطلب هذا ليعلمهم ان الله يعمل الأعمال العظيمة تلبية للإيمان، عندما يطرح الانسان نفسه في أحضان الله.

أدخل يسوع معه ثلاثة من التلاميذ بطرس ويعقوب ويوحنا وهؤلاء رافقوه في غير موضع ولا سيّما على جبل التجلّي. لم يكشف لنا الإنجيل سبب هذا التمييز. كذلك ادخل ابا الصبية وأمها، فقال لهم: “انها لم تمت ولكنها نائمة”. هكذا سيقول عن اليعازر فيما بعد. وفي بدايات المسيحيّة الى اليوم نقول عن الميت: انه راقد في الرب. دخل الغرفة وناداها: يا صبيّة قومي. فرجعت روحها.

ثلاث مرات أنهض يسوع أمواتًا: هذه الصبيّة وابن أرملة نايين واليعازر. هذه لم تكن القيامة المجيدة التي حصل هو عليها وتلك التي نحصل نحن عليها في آخر الأزمنة. هذه عودة الانتعاش لأن هؤلاء الثلاثة عادوا فيما بعد الى الموت.

نحن المسيحيين اذا متنا نبقى ذائقين فعل المسيح فينا ويبقى هو ملازما ايانا. بالموت نظل متحدين به. “لا شيء يفصلنا عن محبة المسيح”. من اجل ذلك استطاع الشهداء ان يشهدوا. من اجل ذلك يصبر المؤمن ولو عانى اوجاعا رهيبة مزمنة. وتستغرب انت الصبر العظيم الذي يتسلّح به هذا المؤمن. تقول في نفسك: كيف يقـدر هـذا على كل ذلك. السر في انه يعايـن المسيح الذي يجعلك تحتمل كل شيء، ليس عن إذعان ولكن عن فرح.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

أحبوا أعداءكم / السبت 28 تشرين الأول 2006

العدو، تحديدًا، هو من عاداك هو وكرهك وتأمّر عليك وأخل بعملك ونمّ عليك وقتلك في نفسه خشية من عقابك الفعلي. هو من ألغاك اي أخرجك عن نفسه ورغب في ان يزيلك من الوجود. قد لا تجتمع كل هذه السيئات مرة واحدة عنده وقد تتدرج لكن الاصل هو انه لا يحتملك ولا يطيق رؤية وجهك ولا استماع كلامك. وغالبا ما ظلمك مجانا وانت ما آذيته. ويجتمع عليك كل سخطه لان شرا فيه يتأكله فلا يستطيع ان يرى فيك خيرا ولا حسنا ولا يجد مكانة لكما معا لانه قرر ان الوجود ينبسط له ولمن اعارهم هو الحياة.

عرف القدماء هذا فقال الرومان: «الانسان ذئب للانسان». وعرف بعض من الأدباء ذلك فقال جان بول سارتر: «الجحيم هي الآخرون». اما الشعر العربي فقد كان فيه هجاء وهذا جزء من القبلية. انها هي البغض الجماعي الذي قد يكون اقل حدة من البغض الفردي لانه ليس محسوسا مثله وفيه شيء من تخيلك للقبيلة الاخرى. غير ان نظام القبائل العربية مارس الجوار ومارس الحلف اي التقارب بين العشائر. وكل مجتمع ينمو نحو القبلية كالمجتمع اللبناني لا يجهل العداوة الجماعية فقد تكره انت طائفة اخرى عندنا ولو لم تكره واحدا منها. اي انها كراهية بلا محسوسية لانك لا تجرؤ على المعرفة ولا تمحص الدوافع التي تدفعك الى البغض اي انك لست فاحصا للذاكرة الجماعية فتعلق فيك احداث قريبة او بعيدة وتتأصل فيك البعيدة كأنك واحد من التآمر الذي قيم به على جماعتك مع انك لم تكن في حادثة عمرها مئات السنين. هذه هي القبلية التاريخية التي تنزل عليك من المخيلة وانت لم يشتمك احد ولا اضر بك احد. انها جماعية التاريخ وفاعليته. انت لا تغفر للآخر ما قام به اجداده ضد اجدادك وقد يكون انسان الجماعة الاخرى صديقا لك ولكنك سجلته عدوا بسبب من انتسابه. انها لحرب لم تخضها. ورثتها كأنك كنت حاضرا لمشاهد قديمة. كيف تتخطى التاريخ او كيف تتخطى الجرح الشخصي. ذلك هو السؤال.

#  #

#

فلسفيا، لم يحتضنك العدو. لم يحس انك تؤلف معه كتلة انسانية غير قائمة على منافع الارض. لم يفهم انك ترثه وانه يرثك ولم يدرك ان الانسان ينتمي الى قلبه المفتوح الذي يتسع للكثيرين وينمو باجتماعهم فيه. لا شك في ان ثمة مجتمعات مكونة سياسيا أو طائفيا (والمجتمع الطوائفي هو أيضا سياسي لأن القلب الطاهر لا ينشئه). انه ناشىء من الخوف في كثرة من الأحيان، من التراص الخائف ولا علاقة له بالدين في الحقيقة. في هذه الحال الدين ذريعة لحماية النفس وكثيرا ما كان ذريعة للانقضاض على الآخرين الذين هم اعداء لأنهم في الاخير اصحاب سياسة اخرى. الطوائف مجتمعات مغلقة عندما تقوم ازاء الآخرين. ويؤسفني رجوع الناس الى القيم الدينية كلاميا ولا يوظفونها لكسر الاقفال ويرون قيما واحدة او متقاربة هنا وهناك ولكنها في الحقيقة تبقى ملك الله في ذاته ولا تصير ملكهم بالارث بحيث تبقى متشددا بالطائفية ولا ينتقل اليك شيء من الخلق الديني وتحسب نفسك انك تنتسب الى الله.

أنت تكره الآخر لكونه آخر اي لم يرصف نفسه معك في العلاقات الفردية او في علاقات الجماعات. والآخر يجب ان يموت بطريقة او بأخرى وفي الواقع ان قلبك هو الذي مات على رغم ما ظننته فيك من قوة. ثم تخترع لنفسك صورة وجود وما هو بوجود فتقول بعلاقات طوائف اي علاقات مسيّسة هي في التنظيم القانوني اي في صورة غير وجدانية للجماعات. هي حفظ او محاولة حفظ للناس في دنياهم اي خارجا عن القلب لئلا يعم الموت وليس عدم نشر الموت هو الحياة. وما صح من اعدام الآخرين معنويا او في العمل السياسي هو اياه اعدام الفرد للفرد معنويا وشيء من تحطيم وجوده.

هذا ما عرفه يسوع الناصري: «سمعتم انه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك» (متى 5: 43). في الواقع ان العهد القديم قال فقط: «تحب قريبك كنفسك» (لاويين 19: 17) ولم يدع الى كراهية. واحتسابي في قراءة كلام يسوع انه يرد على اليهود ولا يرد على الشريعة اليهودية. هم اخذوا يكرهون الاعداء لكونهم غوييم اي من الامم (الاخرى) او باللغة اللبنانية من الطوائف الاخرى. فعندما يقول السيد: «احبوا أعداءكم» يسقط جدار العداوة اذ اصبح هو سلام العالم. يبطل الطوائف بمعناها المجتمعي المتراص المنغلق. يبطل الشرقية والغربية في بيروت كما يزيل الجدار الفاصل بين دولة اسرائيل والضفة الغربية. يلغي الهويات التي اقامها الناس في ما بينهم لأن الهوية اذا كانت مشتقة من «هو» اي ما تحدد بها نفسك ازاء الآخر فهي من الخطيئة. اما اذا كان الـ «هو» هو الله فهويتك وهوية الآخر هي الانتماء الى الله وحده وتاليا ليس في الحب من هوايات دنيوية.

ولا يكتفي يسوع بالدعوة الى حب الاعداء بل يزيد «باركوا لاعنيكم، أحسنوا الى مبغضيكم… لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السموات». الهوية هي التي تكتسبها من البنوة الواحدة. ولكي يضرب السيد كل فارق بين البشر قال عن الله: «انه يشرق شمسه على الاشرار والصالحين ويمطر على الابرار والظالمين».

انت والآخر (المسلم والمسيحي في هذا البلد على اختلاف المذاهب) واحد بسبب من الانتساب الواحد الى الله ويستتبع هذا الانتساب الواحد الى البلد. فالوطن هو المكان الذي نعيش فيه الكلام الالهي او ليس بشيء. الامة هي امة الله والباقي قيود في سجلات الدولة.

ما كان يهم يسوع الناصري ان يقطع شروش العداوة وهذا ممكن ان بادر المكروه بالمحبة. المبتغى الا يولد البغض فيك بغضا وان تحاول شفاء الآخر بالحب. قد تجمع جمر نار على رأسه بهذا الحب كما يقول بولس. لكن الكاره قد لا يرتدع فتكون انت خلصت نفسك من شعور العداء ويبقى هو وحده في العداوة.

كل فكر غير هذا الفكر يعني اننا نجعل الآخر في كفة ميزان ونحن في كفة ميزان اخرى. والايمان الكبير ليس فيه ميزان. لذلك اختتم المسيح كلامه في هذا الفصل بقوله: «كونوا كاملين كما ان اباكم في السموات هو كامل». في السياق، الكمال يبدأ في الإعراض عن رصف البشر كتلا كتلا او جماعة اصدقاء وجماعة اعداء. الكمال يلغي المقابلة ويشد البشر جميعا الى وحدة واحدة وهي وضعهم في الله فانه وحده لحمتهم. وهو لا يقابلهم بعضهم مع بعض اذ لا يعرف الازائية. الطائفة الالهية الوحيدة هي التي يراها في نفسه اي التي ادركت بنوتها له بالايمان، وادركت الاخوة فيها بالمحبة. وبعد هذا كل العقد الى انحلال او ليس من عقد.

البغض تضخم الأنا المستقلة عن الأنا الاخرى. ففي الحب «أنا من اهوى ومن اهوى أنا/ نحن روحان حللنا بدنا» أنا يسعدني ان تراني كما ترى أخي بعطاء من القلب واحد بعد ان ازلت أناي المستبدة وصرت كما يراني اخي بمحبته فأتكوّن به ويتكوّن بي وما هو لي هو له. هو لي لانه هكذا يريد.

لا ضربة للعداوة الا بانسكابي فيك وانسكابك فيّ ليكون الله واحدا فيّ وفيك.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

رؤى بولس الرسول/ الأحد 22 تشرين الأول 2006 / العدد 43

يفتتح الرسالة بالحديث عن هربه من اضطهاد حاكم دمشق النبطي له وكيف انه دُلّي في زنبيل (في سلّة) من سوق دمشق لينجو من الاضطهاد. وهذا كله تكلم عليه سفر الأعمال في الإصحاح التاسع. وكان الفرار بعد ان تعمد بولس في دمشق.

هذه المعلومات التاريخية التي يوردها بولس تدل على ان اهتداء بولس الى المسيح تم حوالى السنة الـ35. اذ ذاك كان المسيحيون في دمشق ودعاء كالحمام وحكماء كالحيات واستطاعوا بمعرفتهم السور ان يدلّوا بولس في سلّ. والسور قائم حتى اليوم. وكان بيت الكاهن حنانيا قريبا من السور. وكنيسة القديس يوحنا التي اقيمت في العهد البيزنطي لا بد انها شيدت في الحي الذي لجأ اليه الرسول.

وبعد ان سرد بولس حادثة هروبه جاء الى ذِكر “رؤى الرب وإعلاناته ” وقال انه يفتخر بها لأنها نعمة الرب ولا يفتخر بنفسه. وهذه الرؤى يؤكدها سفر اعمال الرسل في عدة مواضع وكذلك الرسالة الى اهل غلاطية. لماذا يذكر بولس ذلك؟ لعلمه بأن اهل كورنثوس يتبعون قادة، كاذبين فأحب ان يؤكد مكانته عند الرب ليتبعوا “الانجيل” الذي أتاهم به الرسول.

وما من شك في ان الإنسان الذي رأى هذه الرؤى انما هو بولس عينه “منذ اربع عشرة سنة” اي حوالى السنة الـ44. اكد بولس انه اختطف الى الفردوس. هل هذا هو السماء الثالثة كما اليهود يسمّونها ام السماء العليا، لسنا نعلم على وجه التدقيق وهذا غير مهم. هل ارتفع في الجسد ام في الروح، لا يؤكد. لا يذكر انه كان ارتفاعا حسيا.

سمع “كلمات سرية”. هذا لا يعني انه لم يفهمها، ولكنها هكذا مقدسة انه لا يسوغ النطق بها. هذه الرؤى والإعلانات كانت لتقويه في آلامه وكان من شأنها ان تسكت اعداء البشارة. ولكونها نعما من الله لا يستحقها، يذكرها ولا يذكر اسم الذي نالها (اي هو بالحقيقة).

هذا القصد الإلهي بالرؤى حفظه من شدة الاوجاع التي كابدها. وادرك ان الرؤى حفظته من الادعاء والكبرياء. ولذلك تحدث عن شوكة في الجسد الله انزلها به. ويبدو من تعابيره انه كان كل يوم يتوجع بجسده واعصابه. ثلاث مرات طلب ان يموت. غير ان الرب لم يستجب له. ولكنه استلم جوابا افضل اذ قال له السيد: “تكفيك نعمتي. لأن قوتي بالضعف تكمل”. هذه النعمة مكّنته من ان يكمل خدمته. كانت قوة المسيح فيه.

ارتضى بولس الآلام التي كانت تنتابه يوميا وفهم ان عليه ان يفتخر باوهانه، بالاضطهادات والمصائب. وعرف ان قوة الله هي التي تشدد الرسول على الرغم من كل اوجاعه وتكمله ولو كان ضعيفا روحيا. انها قوة الله التي تعمل فيه حتى يقوى. وهكذا ارتمى كليا في حضن يسوع. عرف انه يقدر ان يواجه كل الصدمة بسكنى المسيح فيه. فهم ان احدا لا يستطيع ان يفتخر في حضرة الرب، وان كل عطاء منه نعمة مجانية لكي نكمل خدمة الإنجيل.

واي خادم للكلمة اسقفا كان ام كاهنا يجب ان يـعـرف انه لا بحـذقـه الإداري ولا بفصاحـة لسانه ولا بأية موهبة دنيوية يستطيع ان ينقذ نفسه والرعية ولكن فقط اذا اتحد روحه بالمسيح ليصير روحا واحدا معه. اجل ينبغي تشييد كنائس ومؤسسات لاحتضان المؤمنين، ولكن جمال الروح عند المسؤول هو الذي يجعله يشع ويدفع الكنيسة الى القداسة.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

في توديع رمضان / السبت 21 تشرين الأول 2006

أودّع رمضان مع المسلمين وانا في الغربة. حدثني أحد أصدقائي فيما كان في رأس بيروت منذ أسبوعين انه سمع خطيب المسجد في شارع بلس في بيروت يقول: «نحن لانعف عن الاكل ولا نصوم لمجرد ان نصوم وننقطع عن الاكل بل لنشعر بجوع الى وجه الله لنتغذى منه. الأكل واللذات تلهينا عن ذكر الله فاذا صمنا تفرغنا عن شهواتنا لننظر الى وجه الله». حرفيا كان هذا الاستشهاد أم غير حرفي انه قول ملهم وما من شك ان الكثيرين يحسون بذلك.

كذلك أورد لي هذا الصديق نشيد المسحراتي في حيهم في طرابلس ما حفظ بعضه: «طرقت باب الرجاء والناس قد رقدوا / ورحت أشكو الى مولاي ما أجد / فقلت في كل نائبة… يا من عليه… أعتمد / مددت يدي في الظل خاشعة / اليك يا رب وبحر وجودك الامل». فاتتني كليمات غير واضحة في التسجيل ولكني أحسست ان هذا الدعاء المنشد يحرك نفس الصائمين.

منذ أيام كنت في بيت أهلي في طرابلس وسمعت جوقا يصعد الى البناية مع طبال ولما وصلوا الى البيت سجلت نشيدا عن خلعة فاطمة. وأطللت على المنشدين فأنشدوا عن عرس لليهود حضرته السيدة فاطمة التي سألت النبي اذا كان يمكنها ان تذهب الى العرس. «صلى النبي ركعة فنزلت على يده خلعة من حرير ومخمل. قال قومي قيسي الخلعة. طلعت طولها بالطول. لما رأوها (هكذا) اليهود قالوا أعطينا اياها. قالت تأدبوا يا يهود هذه خلعة القدرة. / قالوا اعطينا منها قطعة. أعطتهم قطعة قطعة وذكرت النبي المصطفى».

راقني هذا الادب الاسلامي الشعبي كما راقتني الموعظة. وعشت تلك الايام تأتيني من مسجد قريب جدا من بيت العائلة أناشيد تتبع أذان صلاة العشاء. وقرأت أحد الأناشيد يأسف فيها واضعها لرحيل رمضان. ثم يقول:

نبكيك يا شهر الصيام بأدمع

تجري فتحكي في الخدود سيولا

أسفًا على الأنس الذي عودتنا

وصنيع فعل لا يزال جميلا

شهر الأمان والصيانة والتقى

والفوز فيه لمن أراد قبولا

لاحظت الشعور نفسه عند المسيحيين الشرقيين الذين يأسفون لتوديعهم الصيام والفصح وكأن الشعور الديني واحد عند اهل الله اذا ما مارسوا.

ورمضان شهر رياضة على التقوى وانتهاج الآداب الدينية في صفاء العبادة ومبرات التهجد وذلك على اساس النية والاخلاص انه سير الى الله نفسه او سير في الله كما يقول اهل التصوّف. انه حج الى رب البيت، الى وجهه من وراء النص او ما بعده ففي الحديث القدسي (اذا لم تخطئني الذاكرة) «الصوم لي». كلام يفاد منه ان الرب نفسه يقيم علاقة من عطفه وكرمه بينه وبين المؤمنين. وعلى رغم ان الصوم يبدو من التكاليف الظاهرية الا انه في عمقه امساك النفس عما يؤذيها من مكاره. وعفّة عن المعصية واعتكاف في المساجد على من قدر عليه لاداء الصلاة والتلاوات والنجاوى.

واول ذكر للصوم صوم مريم حيث قالت: «اني نذرت للرحمن صومًا فلن أكلم اليوم أنسيا». اصوم – تقول – لتكلم الله بالصلاة او الذكر او في دعاء موصول وهذا يغني عن الاختلاط بالبشر. والصمت مجال لنزول الالهام على مريم بهدوئها وسلامها وطهارتها فيتجاوز رمضان مكانته الزمنية حتى يصير المؤمن الى ما قاله الشاعر:

اذا ما المرء صام عن دنيانا

فكل شهوره شهر الصيام

إذًا كان زمن الصيام ليس رياضة تنتهي بل دعوة للاقامة في معانيه في جهد موصول بلا فريضة. انه من الجهاد الاكبر اذ تكف الحواس عن الآثام. هو صوم القلب عن هموم الدنيا وكفّه عما سوى الله.

اما الذي هو حب الهوى/ فشغلي بذكرك عمن سواك. كما تقول السيدة رابعة العدوية.

واما الانهماك في الاطعمة فليس من التراث الاول وفيه تقشف. هذا رد عليه صيامه لأنه لم يبلغ غايته. أما الذين بلغوا من صيامهم مبلغا كبيرا فقد قال أحدهم: «الهي وقف السائلون ببابك، ولاذ الفقراء بجانبك، ووقفت سفينة المساكين على ساحل كرمك، يرجو الجواز الى مساحة رحمتك ونعمتك. الهي ان كنت لا تكرم في هذا الشهر الشريف الا من أخلص لك في صيامه، فمن للمذنب المقر اذا غرق في بحر ذنوبه وآثامه. الهي، ان كنت لا تقبل الا العاملين، فمن للمقصرين؟ إلهي ربح الصائمون ونحن عبيدك المذنبون، فارحمنا برحمتك، وجُدْ علينا بفضلك ومنّتك، واغفر لنا أجمعين برحمتك، يا أرحم الراحمين».

هذه هي حياة الحب الالهي وهذا يذكرني بأن في القرآن الكثير من إيثار الآخرة على الدنيا كما جاء في التنزيل: «ولكم في الارض مستقر ومتاع الى حين» (البقرة، 36). وكذلك: «وما الحياة الدنيا الا متاع الغرور». ومثل هذا كثير.

نحن أهل البلد والبلدان التي نحن فيها مختلطون في حاجة الى قيم رمضانية تبقى في المسلمين طوال السنة لنتقبل بعضنا على بعض في استعفاف بروح التعالي عن شؤون الارض وشهواتها بحيث نعطي بعضنا بعضا البركات التي نزلت علينا من الله فنمارس معا كرم الروح كما يمارس المسلمون كرم الافطار. نريد موائد الرحمان ممدودة لكل أيام حياتنا كمآكل روحية نغتذي منها لأجل العدل الواحد لنا كلنا ولأجل بساطة العيش ونعف معا عن شهوة السلطة فيكون السلطان الحقيقي للمحبة والتقدير للفقراء حتى نتعاون على محاربة فقرهم اعلاء لكرامتهم في الارض. والارض، اذذاك، باب من أبواب الجنة او من أبواب السماء بلغة أخرى.

ولا يمكنك ان تحب الفقراء حبا جما اذا استلذذت هذه الدنيا. اذذاك هي لك وحدك. واذا أحببت مشاركة الآخرين بالطيبات طوال عمرك فأنت صائم الدهر في عمق المعنى. واذا كنت من خصوص الخصوص كما يسميهم الامام الغزالي فتقوم بصوم القلب وتكف عما سوى الله. أجل، لا بد ان تتعاطى الدنيا وأنت فيها ولكن مبتغاك ان تلتمس وجه الله وان تدني منه الاخوة المحتاجين الذين سيعرفون الله ان انت عرفتهم وأحببت.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

انتم نور العالم/ الاحد 15 تشرين الأول 2006 / العدد 42

أحببت اليوم أن أكلّمكم بغض النظر عن إنجيل اليوم، عن كونكم نور العالم حسبما جاء في متى (14:5-16). لم يقل يسوع: فيكم نور او عليكم بعض النور. قال: انتم نور. وأوضح فكره: ” لا يمكن ان تخفى مدينة موضوعة على جبل”. والمعنى الواضح لهذا الكلام ان النور من نفسه يظهر. ثم اوضح السيّد ان الأعمال الصالحة تنتج عن النور الإلهي الذي فينا، ذلك لأنها نابعة من الروح القدس الساكن فينا، وبهذا نكون شبيهين بالمسيح الذي قال عن نفسه في موضع آخر:” انا نور العالم”.

هذا الفصل الإنجيلي مأخوذ من العظة على الجبل التي تحوي الشريعة الأخلاقيّة للمسيحيين وذلك حسب بشارة متى.

في هذه العظة كان الرب يسوع يذكر وصايا من العهد القديم ويقابلها بكلامه. على سبيل المثال يقول المخلّص في هذه العظة: “قد سمعتم انه قيل للقدماء لا تقتل ومـن قتل يكون مستوجب الحكم. وأما أنا فأقول لكم كل من يغضب على أخيه باطلا يكون مستوجب الحكم”. وحتى لا يفهم السامعون ان هذا التقابل الذي أقامه السيّد بينه وبين العهد القديم يتضمن تناقضا مهّد له بقوله: “لا تظنّوا اني أتيت لأحلّ الناموس والأنبياء. اني لم آتِ لأحل لكن لأُتمم”. طبعا للمسيحي ان يطرح معنى قول الرب: لم آتِ لأحلّ الناموس. كيف لم يحل القاعدة التي تقول برجم الزاني او الزانية. او كيف لا يكون نقض اذ جعل هيكل سليمان كلا شيء ؟ المفهوم عندنا اننا لم نتمسّك بالفرائض الشرعيّة التي تتحدّث عن الهيكل. ذلك لأنّ يسوع صار هو الهيكل وما بقيت حاجة الى هذا البناء الحجري الذي كانت حضرة الله تتجلّى فيه. صارت كل حضرة الله في الابن المتجسّد. كذلك الحكم المتعلّق بالزنا فلا حاجة الآن الا للرحمة. الإنسان تصلحه المحبّة ولا يصلحه الموت. انتقلنا مما كان شكلا خارجيا في العهد القديم الى العمق الروحي.

كذلك الختان الذي كان يرمز الى العهد الذي أقامه الله بينه وبين ابراهيم استغنى عنه المسيحيون لأن هناك عهدا جديدا مع الله بدم يسوع. تتم هذه الوصايا القديمة الصغيرة اذا تمّت مقاصدها وهي توبة الإنسان وحياته في المسيح.

من هذه الزاوية يجب ان نفهم قوله: “لا يزول حرف واحد او نقطة واحدة من الناموس حتى يتم الكل”. نحن في العهد الجديد نبينّ مقاصد الشريعة التي نحفظ معناها الحقيقي ولا نحفظ صورتها الشرعيّة التي كانت مرحليّة، حتى اذا جاءت الحكمة الإلهيّة كاملة بيسوع بتنا في شريعة المحبة التي تختصر كل الناموس وتجمع غاياته في ذاتها.

الا ان المقطع الأخير من هذا الفصل يؤكّد مقارنة العمل والتعليم عند الإنسان الواحد. فلا تحلّ وصيّة واحدة بالمعنى الإنجيلي، اي كما وردت في عظة الجبل، ولا تعلّم ان الانسان له ان يستغني عن أيّة وصيّة. اذ ذاك انت صغير اذا جاء ملكوت الله، “اما الذي يعمل ويعلّم فهذا يدعى عظيما في ملكوت السموات”.

فالشيء الذي لا يقبله يسوع هو ان تكتفي بإعطاء التعليم المسيحي وتكون سلوكيا غير مهتم بحفظ الـوصايا وفـق كلام السيّد: “مَـن أَحبني يحفظ وصاياي”.

عقلك لا يمكن ان يكون مستقلّا عن قلبك المستنير. هما في تداخل او تلاحم، واساسا لا يمكنك ان تفهم كلمات يسوع حق الفهم إن لم تصر جزءًا من سلوكك اليومي.

في هذا الكلام حث ايضا على الفهم. ليس احد منا معذورا ان لم يدرس كلمة الله. هذه قادرة ان تصل الى كل مؤمن وان تقوّم ما اعوج فيه وان تُظهر له جمال الله فيحسّن سلوكه اذا عرف اعماق المعاني الإلهيّة الموجودة في الكتاب المقدّس. الفهم اساسي للعمل. والعمل يقوّي عندنا الفهم وهكذا يصير الإنسان كاملا.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

الإله الحي/ الأحد 8 تشرين الأول 2006 / العدد 41

رسالة اليوم تبدأ بقول الرسول: “أنتم هيكل الله الحي”. فبعد ان زال الهيكل الحجري في اورشليم وكان قد جاء ابن الله متجسّدًا، صرنا نحن المؤمنين بيسوع هيكل الله. كل منا هيكل ومجموعتنا هيكل لأننا مع بعضنا البعض جسد المسيح. ويؤسس بولس الرسول كلامه على ما جاء في العهد القديم: ” اني سأسكن فيهم واكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا”. لماذا قال “سأسكن” في ما يعني الوقت الحاضر والوقت المستقبل؟ لأن الله حركة وهو في دوام مساكنتنا بالرحمة (على لغة العهد القديم) وبالمحبّة على لغة العهد الجديد.

وبعد ان قال: “اكون لهم إلهًا” تابع: “ويكونون لي شعبًا” اي اني اذا رأيتهم وضممتهم لي بالرأفة يصبحون شعبي وما كانوا شيئًا قبل ذلك. هم شعبي لأنهم محبوبون . يتكونون بمعرفتهم انهم محبوبون.

ولكونكم صرتم شعبي الآن يترتّب عليكم واجب أساسي وهو هذا: “اخرجوا من بينهم واعتزلوا يـقـول الـرب ولا تمسـّوا نجسـًا”. طـبـعـا هـذا لا يعني ان نخرج من المجتمع ونعيش في البراري. هذا يعني الا تكون لنا صلة بالخطيئة. نعتزل الشر ولا نعتزل البشر. لا تمسّوا نجسا تأكيد لقوله اعتزلوا. ليس معنى هذا الا نلامس أشياء ماديّة كان محظورًا على اليهود أكلها. هذا يعني الا تنظر أعينكم ما لا يجوز رؤيته ولا تلمس ايديكم ما لا يسوغ لمسه ولا ان يفكّر عقلكم بما لا ينبغي ان يفكّر به. كونوا طاهري النيّة والقول والعمل، وهذا ممكن اذا كنتم ملتصقين بي “فمن التصق بالرب فهو روح واحد معه” ولن يكون واحدا مع فكر سيء شرير.

فإذا ما تطهّرتم يقول الله: “فأقبلكم وأكون لكم أبا وتكونون انتم لي بنين وبنات”. ان يقبلنا الرب هذا سعينا لا ان يقبلنا نافذ او قدير في قومه. المبتغى ان نكون موجودين امام عينيه لا في اعين الناس. فإنكم ان رغبتم في ان يقول عنكم جميع الناس حسنا تكونون قد استرضيتموهم وانت لا تستطيع ان ترضي انسانا سيئا الا اذا تبنّيت سوءه او مدحته في الأشياء القذرة التي يعملها. واذا استرضيتموني بالإيمان وسلكتم في الإيمان تصبحون لي بنين وبنات.

هذا هو الشيء العظيم الذي أكّده العهد الجديد ان نصبح ابناء الله بالنعمة التي فيها يجعلنا الآب إخوة لابنه الوحيد. هو ابن في الأزليّة والجوهر ونحن نصير ابناء بالكرم الإلهي والرضاء اذ ينسكب الله علينا بالروح القدس ويحوّلنا من مولودين من لحم ودم الى مولودين من الله. هذه الولادة نُعطاها بالمعموديّة ونبقى عليها بالأعمال الصالحة. المهم استمرار المعموديّة بالطاعة للرب.

وبعد هذا الكلام يحثّنا بولس على هذا: “فلنطهّر أنفسنا من كل ادناس الجسد والروح ونكمل القداسة بخوف الله”. قلنا معموديّة مستمرّة اي اغتسال دائم بالكلمة الإلهيّة وتنفيذها. ان نطهّر انفسنا من الأدناس (بصورة الجمع). لا يكفي ان نحمي انفسنا من خطيئة واحدة او اثنتين ولكن من كل الخطايا لأن الله لا يقبل مساكنة في القلب بينه وبين ايّة خطيئة.

واذا عقدنا العزم على ذلك فلنجتهد بقوّة حتى العرق والدم. فإذا قضينا على كل شهوة مؤذية نكون قد كمّلنا القداسة على قدر ما هو ممـكن في هـذه الحيـاة وذلك بمخافة الله. هذا بدء الحكمة. وبعد المخافة يأتي الحب الكبير لله.

Continue reading
2006, جريدة النهار, مقالات

خواطر يونانية / السبت 7 تشرين الأول

بدعوة من السيد انثيمس مطران سالونيك ورئيس مجلسها البلدي ذهبت الاسبوع الماضي الى هذه المدينة المحتفلة بموسم «ديمتريا» الثقافي والذي تضمن حفلا موسيقيا بيزنطيا قامت به جوقة من كنائس المدينة وجوقة ابرشية جبل لبنان الارثوذكسية. تسعى الكنيسة الارثوذكسية الى ان تتجنب الطرب في الانشاد ولكن ماذا نسمي النشوة الموسيقية العالية المستوى التي حلت بنا عند خروجها من افواه هؤلاء الشبان الذين ادوا تراتيل مختلفة باللحن البيزنطي الواحد.

كان الحضور في قاعة الموسيقى لا يقل عن الفي نسمة. قيل ان ريع الحفلة لمساعدة لبنان في محنته. لهذا أُلقيت على الشاشة صور عن الحرب وعن آثار لبنان القديمة واشجاره ونباته ولا سيما الارز. وتتقاطع الأناشيد بكلام عن بلدنا.

الى نتاج هذه الحفلة فهمت ايضا ان كنيسة سالونيك ستسهم ايضا بالمساعدة. الى هذا اليوم يقوم تنسيق بين الكنيسة والدولة بانتظار الفصل بينهما تلبية لرغبة المجموعة الاوروبية التي تلح على علمانية الدولة. الكنيسة بعامة في تلك البلاد ترفض العلمنة لكون الكنيسة ترى رابطا متينا بين الثقافة اليونانية والمسيحية. في الواقع يحس الكثير من اليونانيين بانتمائهم الى الشرق الادنى اكثر من انتمائهم الى اوروبا. هناك طبائع كثيرة وتقاليد توحدنا بهم. ولعل ايمانهم الارثوذكسي عنصر من عناصر شرقيتهم.

الأحد الماضي كنت في معية متروبوليت المدينة في كنيسة القديس ديمتريوس (مار متر بالعامية عندنا) الذي استشهد هناك ورفاته محفوظ في الكنيسة. الفسيفساء والجدرانيات القديمة تزين المعبد والممرات التي الى جانبه. وتحت المعبد الدياميس وطبقات الحضارات القديمة. الذبيحة الالهية تقام عندهم باتقان كبير اكان هذا من الاكليروس ام من جوقتي الترتيل وكان ايضا باليونانية والعربية. وقد تجلت هنا

وحدة الايمان على اختلاف الشعوب يراها الله واحدة فينا.

وكان لا بد لنا من زيارة بعض من الكنائس القديمة. سالونيك تحمل من حيث العمارة طابعا بيزنطيا مميزا. وما يلفتك رحابة الصدر عند اليونانيين بالحضارات الاخرى التي عايشوها اذ تجد مئذنة بقرب كنيسة القديس جاورجيوس التي كانت قد حولت مسجدا في العهد العثماني. المئذنة تصونها الدولة اليونانية والحال هي اياها في مناطق اخرى مع ان الأتراك رحلوا.

#  #

#

كان دائما يحزنني الا اكون قد شاهدت الـ”ميتيورا” الواقعة بين سالونيك واثينا وهي مشهورة في الادبيات النسكية عندنا لغة، هي تدل على اشياء عالية في الجو او تدل على ظاهرة ضوئية نتج منها شيء صلب وقع من الجو. ما اتفق عليه العلماء انه في المدى الذي اتكلم عليه صخور منقسمة تعلو حتى اربعمئة متر تكومت بحكم الزوابع والرياح والمياه خلال ملايين من السنين. كأنك امام اعمدة عريضة متفاوتة العلو وكأن قوة احدثت فيها ثقوبا وكهوفا سكن بعضها النساك. وهذا التشقق يجعلك تتخيل وجوها بشرية او حيوانية هنا وثمة.

ليس من مدى صخري يشبه هذا في قوته والفن الذي رسمته الطبيعة هناك. الى ذلك ترى ترابا وبعضا من شجيرات. المنطقة مع ذلك شرسة جدا وهذه هي شراسة الفن احيانا.

رأى هذا الرهابين وعرفوا ان هذه الصحراء لها ان تكون مسكنا للروح فأموها بدءا من نهاية القرن الحادي عشر واقاموا صوامع صغيرة كان يجتمع اهلها صباح الاحد في كنيسة واحدة.

حول القرن الرابع عشر جاء اثناسيوس الميتيوريي واسس اول دير يقوم على الحياة المشتركة. وفي الازمنة اللاحقة نشأ 24 ديرا لم تبق كلها. الاديرة المشهورة الان هي دير التجلي، برلعام، الثالوث القدوس، القديس استفانوس، القديسة بربارة، القديس نيقولاوس.

الاديرة متباعدة قليلا او كثيرا، للنساء او للرجال. وجعلت الدولة اليونانية بينها طرقات. ودخلت التكنولوجيا هنا وثمة اذ نقلنا التلفريك الى دير كان الحجاج يرتفعون اليه في سلة وحبال.

ارجو الا يفسد الحياة الرهبانية قدوم ما يفوق الفي سائح في اليوم بدا لي ان الكثيرين منهم من دول الغرب اي في حاجة الى تفسير المعالم الفنية في الاديرة وقد يؤثرون عليها جمال الطبيعة. المؤمن ليس مجرد سائح. انه حاج. هناك يعسر عليك التمييز بين سياحتك الارضية وحجك السماوي. هو حج الى بيوت الله وفي الحقيقة الى الله نفسه هابطا علينا بكنائس مبنية وفق النسق المسيحي القديم وجدرانها مطلية كليا بالجدرانيات حسب اصول ترتيبها. والغاية ان تقرأ الايقونة على حدة والايقونات مجتمعة ولا سيما الاقدم منها لكونها على تراث شرقي محض.

سئلت عن لبنان. كان لبنان في قلوب الرهبان وصلاتهم. تأثروا جدا للموت والدمار، قلت جل ما نريده ان تدعوا الله من اجل سلام بلدنا ونهوضه. قلوب مرتفعة الى الرب على رأس جبال – اعمدة تنزل الى ديارنا بالرحمة والرأفات. كانت في نفوسهم وحدة مع شعبنا وليس مع شريحة منه.

#  #

#

أن تحترم الدولة اليونانية آثار المسلمين في بلادها وليس من مسلم واحد وان تحافظ دولة قبرص اليونانية على المساجد في المنطقة التي لم يحتلها الاتراك هذا – بانعدام اي شرع ديني يوصي بالمسلمين – دليل على محبة الانسان للانسان واحترام دينه. كل شيء نابع من المحبة وهي تكفيك لإقامة الآخر في عزته وبهاء مجده، بسبب من انسانيته التي يجب ان تنمو حسب فهمها لذاتها والدين من الذات. ولا سياسة بعد هذا الاحترام.

الى ذلك فاليونانيون مثل كل الشعوب على صعيد الممارسة الدينية في القرن الحادي والعشرين. كلهم على بعض من الايمان او كثير منه ومنهم من صلّى ومنهم من لا يصلي في المعابد. اما من آمن عندهم فيعترف بذلك جهرا. مثال على ذلك اني ادخل مطعما فيقف بعض من الناس او تمر فيهجم عليك بعض القوم هجوما ليتبركوا اذ يحسبون على ما يزيّن لي ان شيئاً من عند الله ينزل عليهم اذا أدّوا علامات التبرك.

هذا فيه شيء من القلب وان كان القلب اعمق تعبير «والله يدين سرائر الناس» لكن الكنائس التي ينفق الكثير على عمارتها وتزيينها انما تشير على الاقل الى ان عند الناس رغبة في الله الى ان يقول هو كلمته فيهم في اليوم الاخير.

لم اغادر سالونيك قبل أن أحج الى الحي الذي تقول التقاليد ولم يعترض عليها العلماء ان بولس الرسول استقر فيه للبشارة وتقوم هناك كنيستان على اسمه والرسالتان الى اهل تسالونيكية تدلان على احتدام المسائل اللاهوتية في عقول اهل تلك المدينة آنذاك.

ما المهم في هذه المدينة التي ظهر فيها وحدها خلال قرون اكثر من ثلاثمئة وخمسين قديسا؟ لماذا ازدادت النعمة هناك؟ كيف اخذهم روح يسوع اليه؟ الواضح ان بهاء عظيما يسطع هناك على وجوه الاتقياء المختلين الى ربهم في زوايا معابدنا ويسمعون الصلاة باللغة التي نطق بها العهد الجديد وآباؤنا الأكابر. ثلاثة ايام نحياها بما استطعنا من اصالة نرجو ان يجددها الله فينا برحمته ورأفاته الغزيرة.

Continue reading
2006, مقالات, نشرة رعيتي

الآن، الآن/ الأحد أوّل تشرين الأول 2006 / العدد 40

في رسالة اليوم كلمة مفتاح لكل تصرفاتنا: “هوذا الآن وقت مقبول. هوذا الآن يوم خلاص”. هذا كلام يدعونا الى شيئين: اولا أن الخلاص الذي أتى بيسوع المسيح ليس خلاصا ماضيا وليس خلاصًا مرجأ الى اليوم الأخير. إنه قد تم بصورة كاملة في صليب السيّد وقيامته. ولكنا نأخذه الآن، نفيد منه الآن بإيماننا بيسوع وبتطهير ذاتنا، بتوبة محقّقة اليوم لا تأجيل فيها، لأنّ كل تأجيل يتم عن عدم إيماننا بأن الخلاص قد حصل نهائيا ومن أعطاه يريد أن نحققه في اللحظة التي نعيشها.

ثم يزيد بولس: “لسنا نأتي بعثرة في شيء لئلا يلحق الخدمة عيب”. هذه دعوة خاصة الى الأساقفة والكهنة لئلا يصدموا المؤمنين والغرباء بأي معثرة سلوكيّة لأن من رأى العثرات تأتي فلا يبتعد فقط عن المسؤولين الذين ارتكبوها ولكنه يبتعد عن الكنيسة نفسها. كم من مرّة سمعنا من يقول: انا لا أتناول من يد هذا الكاهن. نحن طبعا لا نوافق هذا القول لأن جسد الرب يبقى هو هو أكان الكاهن غير مستحق ام كان مستـحـقـًا. كـم مـن مرة نسـمع ان هـذا الكـاهـن او هـذا المطـران يحب المال. إن مـن اشتهى المـال او لم يشتهه تتـم عن يــده الأسرار الإلهيّة. ولكن الواقع في الشهوة اذا رؤي المشتهي منفذا لشهوته يبعد المؤمن وغير المؤمن عن الكنيسة وتاليا عن المسيح.

ويتابع الرسول فكره هذا بأن خدام الهيكل ينبغي أن يسلكوا في صبر كثير، ويعدد بولس الأسباب التي تدعوهم الى الصبر. ذلك أنهم (وهنا يتكلّم على نفسه) يذوقون الضيقات والجلدات والسجون، وذاقها كلها هذا الرسول العظيم. ثم يعلو الصبر ويقول عن جميع الخدّام انهم في طول أناة اي في احتمال الشدائد مع المحبة وبلا تذمّر، ثم يعلو طول الأناة ويقول اننا في رفق ويلاحظ ان هذا آتٍ من الروح القدس وكذلك كل الفضائل وعلى رأسها “المحبة التي هي بلا رياء” اي بلا تصنّع ولا مجاملة في الكلام ولا ظاهريّة بل عميقة وحارّة وعمليّة.

محبة بلا مداهنة. لذلك يستتبع كلمة محبة بقوله: “في كلمة الحق” ذلك انك اذا أحببت انسانا تريد ان يدخل الحق الى كيانه كلّه فتصلحه ليتحرّر من كل زلّة0 ويقول بولس في قوّة الله بأسلحة البر عن اليمين وعن اليسار. ذلك انك لا تؤتي الآخرين الحق الا اذا نزل عليك من فوق. ولذلك يقول: بقوة الله. وحتى لا تلتبس قوّة الله بقوّة الانسان يوضح بولس انه يحمل والذين معه أسلحة البر اي ان الذي يتطهّر لينال أسلحة البر ليضرب بها قوى الشر يعلم علم اليقين أنه اذا تبرّر وحل عليه مجد الله يكون حاملا قوّة الله التي تمدّه بكلمة الحق يصدع بها كل انسان فيصير انسانا جديدا.

وبعد ان يكون من أرسله الله مسلّحا بأسلحة البر، لا يرى فرقا بين ان يكون في مجد او هوان وقد يرتكب بعضٌ النميمةَ بحقّه والحسد لأنهم لا يحبون إنجيل يسوع المسيح ويعتبرونه ضالا مع انه صادق ويحسّون انه مجهول مع انه معروف من الله او حبيب الله وكأنّه مائت مع انه حي بالنعمة، يحسبون انه حزين بسبب من مخاضات الألم مع انه مليء بالفرح. يحسبون ان الفقر الذي هو عليه يقلقه مع انه في هذا الفقر يغني الكثير من الناس. يحسبون كأن لا شيء له وهو يملك كل شيء. هم لا يعرفون غنى المسيح الذي يستغني به المؤمن عن كل شيء في العالم ليربح وجه يسوع.

Continue reading