بدعوة من السيد انثيمس مطران سالونيك ورئيس مجلسها البلدي ذهبت الاسبوع الماضي الى هذه المدينة المحتفلة بموسم «ديمتريا» الثقافي والذي تضمن حفلا موسيقيا بيزنطيا قامت به جوقة من كنائس المدينة وجوقة ابرشية جبل لبنان الارثوذكسية. تسعى الكنيسة الارثوذكسية الى ان تتجنب الطرب في الانشاد ولكن ماذا نسمي النشوة الموسيقية العالية المستوى التي حلت بنا عند خروجها من افواه هؤلاء الشبان الذين ادوا تراتيل مختلفة باللحن البيزنطي الواحد.
كان الحضور في قاعة الموسيقى لا يقل عن الفي نسمة. قيل ان ريع الحفلة لمساعدة لبنان في محنته. لهذا أُلقيت على الشاشة صور عن الحرب وعن آثار لبنان القديمة واشجاره ونباته ولا سيما الارز. وتتقاطع الأناشيد بكلام عن بلدنا.
الى نتاج هذه الحفلة فهمت ايضا ان كنيسة سالونيك ستسهم ايضا بالمساعدة. الى هذا اليوم يقوم تنسيق بين الكنيسة والدولة بانتظار الفصل بينهما تلبية لرغبة المجموعة الاوروبية التي تلح على علمانية الدولة. الكنيسة بعامة في تلك البلاد ترفض العلمنة لكون الكنيسة ترى رابطا متينا بين الثقافة اليونانية والمسيحية. في الواقع يحس الكثير من اليونانيين بانتمائهم الى الشرق الادنى اكثر من انتمائهم الى اوروبا. هناك طبائع كثيرة وتقاليد توحدنا بهم. ولعل ايمانهم الارثوذكسي عنصر من عناصر شرقيتهم.
الأحد الماضي كنت في معية متروبوليت المدينة في كنيسة القديس ديمتريوس (مار متر بالعامية عندنا) الذي استشهد هناك ورفاته محفوظ في الكنيسة. الفسيفساء والجدرانيات القديمة تزين المعبد والممرات التي الى جانبه. وتحت المعبد الدياميس وطبقات الحضارات القديمة. الذبيحة الالهية تقام عندهم باتقان كبير اكان هذا من الاكليروس ام من جوقتي الترتيل وكان ايضا باليونانية والعربية. وقد تجلت هنا
وحدة الايمان على اختلاف الشعوب يراها الله واحدة فينا.
وكان لا بد لنا من زيارة بعض من الكنائس القديمة. سالونيك تحمل من حيث العمارة طابعا بيزنطيا مميزا. وما يلفتك رحابة الصدر عند اليونانيين بالحضارات الاخرى التي عايشوها اذ تجد مئذنة بقرب كنيسة القديس جاورجيوس التي كانت قد حولت مسجدا في العهد العثماني. المئذنة تصونها الدولة اليونانية والحال هي اياها في مناطق اخرى مع ان الأتراك رحلوا.
# #
#
كان دائما يحزنني الا اكون قد شاهدت الـ”ميتيورا” الواقعة بين سالونيك واثينا وهي مشهورة في الادبيات النسكية عندنا لغة، هي تدل على اشياء عالية في الجو او تدل على ظاهرة ضوئية نتج منها شيء صلب وقع من الجو. ما اتفق عليه العلماء انه في المدى الذي اتكلم عليه صخور منقسمة تعلو حتى اربعمئة متر تكومت بحكم الزوابع والرياح والمياه خلال ملايين من السنين. كأنك امام اعمدة عريضة متفاوتة العلو وكأن قوة احدثت فيها ثقوبا وكهوفا سكن بعضها النساك. وهذا التشقق يجعلك تتخيل وجوها بشرية او حيوانية هنا وثمة.
ليس من مدى صخري يشبه هذا في قوته والفن الذي رسمته الطبيعة هناك. الى ذلك ترى ترابا وبعضا من شجيرات. المنطقة مع ذلك شرسة جدا وهذه هي شراسة الفن احيانا.
رأى هذا الرهابين وعرفوا ان هذه الصحراء لها ان تكون مسكنا للروح فأموها بدءا من نهاية القرن الحادي عشر واقاموا صوامع صغيرة كان يجتمع اهلها صباح الاحد في كنيسة واحدة.
حول القرن الرابع عشر جاء اثناسيوس الميتيوريي واسس اول دير يقوم على الحياة المشتركة. وفي الازمنة اللاحقة نشأ 24 ديرا لم تبق كلها. الاديرة المشهورة الان هي دير التجلي، برلعام، الثالوث القدوس، القديس استفانوس، القديسة بربارة، القديس نيقولاوس.
الاديرة متباعدة قليلا او كثيرا، للنساء او للرجال. وجعلت الدولة اليونانية بينها طرقات. ودخلت التكنولوجيا هنا وثمة اذ نقلنا التلفريك الى دير كان الحجاج يرتفعون اليه في سلة وحبال.
ارجو الا يفسد الحياة الرهبانية قدوم ما يفوق الفي سائح في اليوم بدا لي ان الكثيرين منهم من دول الغرب اي في حاجة الى تفسير المعالم الفنية في الاديرة وقد يؤثرون عليها جمال الطبيعة. المؤمن ليس مجرد سائح. انه حاج. هناك يعسر عليك التمييز بين سياحتك الارضية وحجك السماوي. هو حج الى بيوت الله وفي الحقيقة الى الله نفسه هابطا علينا بكنائس مبنية وفق النسق المسيحي القديم وجدرانها مطلية كليا بالجدرانيات حسب اصول ترتيبها. والغاية ان تقرأ الايقونة على حدة والايقونات مجتمعة ولا سيما الاقدم منها لكونها على تراث شرقي محض.
سئلت عن لبنان. كان لبنان في قلوب الرهبان وصلاتهم. تأثروا جدا للموت والدمار، قلت جل ما نريده ان تدعوا الله من اجل سلام بلدنا ونهوضه. قلوب مرتفعة الى الرب على رأس جبال – اعمدة تنزل الى ديارنا بالرحمة والرأفات. كانت في نفوسهم وحدة مع شعبنا وليس مع شريحة منه.
# #
#
أن تحترم الدولة اليونانية آثار المسلمين في بلادها وليس من مسلم واحد وان تحافظ دولة قبرص اليونانية على المساجد في المنطقة التي لم يحتلها الاتراك هذا – بانعدام اي شرع ديني يوصي بالمسلمين – دليل على محبة الانسان للانسان واحترام دينه. كل شيء نابع من المحبة وهي تكفيك لإقامة الآخر في عزته وبهاء مجده، بسبب من انسانيته التي يجب ان تنمو حسب فهمها لذاتها والدين من الذات. ولا سياسة بعد هذا الاحترام.
الى ذلك فاليونانيون مثل كل الشعوب على صعيد الممارسة الدينية في القرن الحادي والعشرين. كلهم على بعض من الايمان او كثير منه ومنهم من صلّى ومنهم من لا يصلي في المعابد. اما من آمن عندهم فيعترف بذلك جهرا. مثال على ذلك اني ادخل مطعما فيقف بعض من الناس او تمر فيهجم عليك بعض القوم هجوما ليتبركوا اذ يحسبون على ما يزيّن لي ان شيئاً من عند الله ينزل عليهم اذا أدّوا علامات التبرك.
هذا فيه شيء من القلب وان كان القلب اعمق تعبير «والله يدين سرائر الناس» لكن الكنائس التي ينفق الكثير على عمارتها وتزيينها انما تشير على الاقل الى ان عند الناس رغبة في الله الى ان يقول هو كلمته فيهم في اليوم الاخير.
لم اغادر سالونيك قبل أن أحج الى الحي الذي تقول التقاليد ولم يعترض عليها العلماء ان بولس الرسول استقر فيه للبشارة وتقوم هناك كنيستان على اسمه والرسالتان الى اهل تسالونيكية تدلان على احتدام المسائل اللاهوتية في عقول اهل تلك المدينة آنذاك.
ما المهم في هذه المدينة التي ظهر فيها وحدها خلال قرون اكثر من ثلاثمئة وخمسين قديسا؟ لماذا ازدادت النعمة هناك؟ كيف اخذهم روح يسوع اليه؟ الواضح ان بهاء عظيما يسطع هناك على وجوه الاتقياء المختلين الى ربهم في زوايا معابدنا ويسمعون الصلاة باللغة التي نطق بها العهد الجديد وآباؤنا الأكابر. ثلاثة ايام نحياها بما استطعنا من اصالة نرجو ان يجددها الله فينا برحمته ورأفاته الغزيرة.
Continue reading