Monthly Archives

January 2007

2007, مقالات, نشرة رعيتي

التريودي/ الأحد 28 كانون الثاني 2007 / العدد 4

هذا كتاب ليتورجي (طقوسي) من بين الكتب التي نستعملها في الخدمة الإلهيّة. هذا موسم نسمّيه التريودي (اي القصائد الثلاث، او الأودية) المستعملة في صلاة السَحَر في هذه الفترة الزمنيّة. والفترة تبدأ اليوم الذي هو أحد الفريسي والعشّار ثم أحد الابن الشاطر، ثم أحد الدينونة، وهي الأسابيع الثلاثة لفترة الاستعداد للصوم الكبير. ويشتمل ايضًا على كل الصلوات لكل الأيام حتى الفصح.

في رسالة اليوم يتحدّث بولس الى تلميذه تيموثاوس عن الآلام التي عاناها في أنطاكية وإيقونية ولسترة، تلك المصاعب مذكورة في أعمال الرسل، ثم يقول إن الرب أنقذه منها جميعًا. ولا بدّ أنّ بولس أراد ان يشدّد تلميذه بسبب المصاعب التي سوف تعتريه. وينبّهه الّا يخاف منها لأنّ “الذين يريدون ان يعيشوا بالتقوى في المسيح يسوع يُضطَهدون”.

ربّما يلمّح هنا الرسول الى الصعوبات التي واجهته من قبل الإخوة الكذبة، والى الاضطهادات التي لقيها بعض من رفقائه الرسل. ولكنّه هنا يعمّم.

فقد اضطهدَنا أعداء المسيح طوال تاريخ ألفي سنة في هذا البلد او ذاك. لقد عرفنا صعوبات جمّة في كل بلد، تارة هنا وطورًا هناك.

ولكن اذا افترضنا ان بلدًا ما ليس فيه اضطهاد فقد يعادينا أبناء الكنيسة الذين لا يمارسون او يمارسون بلا تقوى عميقة، واحيانًا لا يريد الأهل أن يذهب أولادهم كثيرًا الى الكنيسة او ان ينضمّوا الى نشاطات روحيّة للشباب. عزاؤنا أنّ ثمّة مجموعات روحيّة تحيط بنا ونُسرّ لتحرّك لنا قوي في الكنيسة.

ثم تنتهي الرسالة بأنّ بولس يهنّئ تيموثاوس على انه يعرف منذ طفوليّته الكتب المقدّسة. انا شاهد على ان الطفل قادر بإرشاد انسان بالغ أن يقرأ الإنجيل منذ نعومة أظافره. وفي اللغات الأجنبيّة كتب لتعليم الإنجيل مصورة، وأرجو أن يكون عندنا مثلها بالعربيّة.

ليست القضيّة أن نقرأ فقط قصصًا من العهدين ولكن أن نطالع النصوص كما هي. فالكتاب المقدس يحتوي على كلمة الله نفسها. والكتب التفسيريّة تهيّئنا لمعرفة الكتاب ولكنها ليست الكتاب بحرفيّته. وقناعتي كبيرة انّ أجمل القصص من الإنجيل لا تستطيع أن تكون بديلا عن الإنجيل بنصّه.

قد نقرأ أشياء حلوة عند آباء الكنيسة في ما بعد البلوغ. ولكن أجمل نص للآباء ولأي قديس ليس له جمال الإنجيل ولا حيويّة الإنجيل ولا حرارة الإنجيل. لا تكتفِ بالفتات. ثم يشدّد بولس على أن الكتاب المقدّس يجعل تيموثاوس حكيمًا للخلاص بالايمان بيسوع المسيح. الحكيم هو الذي يعرف ما يجب عمله وما لا ينبغي عمله، وهو الذي يعرف كيف يفكّر وكيف لا يفكّر. هذا يأتيه من الايمان بالمسيح يسوع، وفي ان يعرف يسوع في الأعماق من الإنجيل الذي تركه بين أيدينا الروح القدس.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

تحية إلى محمد السماك / السبت ٢٧ كانون الثاني ٢٠٠٧

أحيد اليوم عن “الحرب” الدائرة في لبنان لأجنح إلى ما هو أبقى ولست أعرف إلامَ تؤول. وقد يكون من حسناتها ان اللبنانيين اليوم ليسوا منقسمين طائفيًا في التزامهم السياسي الظاهر. ولعل هذه الكارثة التي حلّت بنا تسهم في اقتناعنا اننا مواطنون معا. ففيما كنت أطالع “النهار” السبت الماضي عثرت على مقال للصديق الدكتور محمد السماك اكون مقلا اذا حسبته مملوءًا من المحبة ليس فقط للمسلمين والمسيحيين في العالم ولكن للمسيحيّة والإسلام فيما هما عليه من تراث توحيدي.

                      محمد السماك يتجاوز الذاكرة الدينية الموروثة وكل شعور بالأذى  امن هذا الفريق جاء ام من ذاك. اجل لا مفر لي وانا اعرف الرجل ان اعترف ان من عنوان مقالة “قصة جسرين بين الاسام والمسيحية” ان صديقنا هذا كان هو شخصيا ولا يزال جسرا بيننا ليس في هذه المنطقة.

                      لست أخون المروءة التي تدعو الى التكتم لو قلت اني في اول اجتماعي به قال لي ان اهل الحي الذي يعيش فيه يقولون: “حارة بلا نصارى خسارة”. ما كنت اعرف العبارة ولكني كنت احس منذ طفولتي في مدينة طرابلس اني كنت اسمع من المسلمين ما يفيد هذا المعنى. وكنا هناك نتعايش ولا نزال في التعامل الودي الذي كانت العائلات والافراد تحس به. هذا اذا اهملت الاشارة الى اننا كنا واحدا على صعيد الصداقات ولا نلجأ الى العقائد التي تفرق بيننا واذا سمح لي لو ذكرت اني علمت الحضارة العربيّة الاسلامية منذ مطلع الجاهليّة الى آخر العهد الأموي في الجامعة اللبنانية منذ أواسط الستينات ولم اشعر يوما باستغراب احد ان كاهنا مسيحيا يعلّم المادة وعندما افكّر بالجد الذي ساد كل سنوات تعليمي ألمس ان طلابي لم يتفرقوا يوما على اساس ديني وهم يتحدثون عن الموضوعيّة التي كانت تتسم بها هذه الدراسة كما لم اكن اشعر ان المباينات السياسيّة – وكانت على اساس وطني- كانت تزعزع تقبلهم لكلامي في الاسلام. ومع اني كنت موقنا بأن العلماء المسيحيين في العصر الاموي ولا سيّما الفلاسفة منهم أسهموا في نشوء الفكر الفلسفي الاسلامي منذ تلك الحقبة.

                      وأذكر اني منذ اللحظة الاولى من تعليمي كانت اول جملة قلتها للطلاب تلفظت بها انني اطلب منكم اولا ان تأتوا بأوراق تدونون عليها الامالي وثانيا اريد من اجل فهم العرب ان يحمل كلّ منكم الى الصف مصحفًا لأننا سنعود كثيرًا الى الآيات.

                      واذا عدت الى محمد السماك لست اقول انه في هذا المقال كان موضوعيا في عرض اوضاع الناس الى اية عقيدة هم عليها كما كان طوال حياته الفكرية ولكنه كان منصفًا حتى منتهى الإنصاف بحيث لا تلمس في ما قال تحفظا على الديانة الأخرى وهو ماد للجسور.

                      كان الاستاذ محمد دائما يقف هذا الموقف ويقرب بين القلوب. هذه المرة يضع قولا هو في غاية المودة ومتوازن جدا من حيث اسلوب المعالجة اذ يمكنني القول ان هذه القطعة النادرة في الجودة الروحية هي وصيّته لنا جميعا. ويمكن اعتبارها حقا وصية للمسلمين والمسيحيين على السواء نحن الذين دعينا معا الى كلمة سواء.

#            #

#

                      سنّي كل شيء يظهر تعلّقه بمذهبه لم يذكر الشيعة والسنة. وانا الارثوذكسي ما كنت رأيت بعيني شيعيا واحدًا قبل بلوغي الأربعين بسبب انحصاري الحياتي في طرابلس الى ان عرفت الشيعة بين طلابي وذهلت لمستواهم العقلي وانبثاق الشعر عند غير واحد منهم. وبسبب من حرصي على تواضعهم لن اذكر اسما من اسمائهم ولكني قرأت عند كبارهم قولا في المسيح وقولا في مريم – ومن اجل الصدق- اعترف اني لم ألمس حرارة وحبا عندهم للسيد وامه في المسيحية العربية المعاصرة.

                      وانقطاعا عن هذه العاصفة الهوجاء، التي نحن فيها فشهادتي تدل على ان الروح يهبّ حيث يشاء كما جاء في انجيل يوحنا وان الحب يتجلّى حيث يشاء، وانا مؤمن اننا بعد انقشاع الغيوم سوف نشاهد مثل ذلك في الاستقلال عن السياسة.

                      ما يؤكّده محمد السماك ان سوء العلاقة بين الشريحتين يحتاج الى الإزالة لسوء الفهم بينهما. نحن نحتاج الى “مزيد من التعارف والتفاهم بين المسيحيين والمسلمين” . كان دائما يؤذيني هذا الجهل اذ لا بد لك ان تسعى الى كل الجمالات الروحية المبثوثة في العالم كلّه. ان بعضا من آباء الكنيسة منذ يوستينوس النابلسي الى اقليمس الاسكندري يرون الجمالات الروحيّة في الحضارة الاغريقيّة الوثنيّة ويربطونها بالمسيح فمن باب اولى ان نرى ما يجمع الموحدين وما اتمنّاه ان يعمم هذا في اليهوديّة والمسيحيّة والاسلام وان نرفع تهمة الشرك عن كل هذه الديانات لأن هذا القول غباء. ففي مرّة التقيت فيها مفتي طرابلس السابق الشيخ نديم الجسر وكان خارجًآ من مجلس عزاء وانا داخل اليه قال لي سماحته قبل ان يلقي عليّ السلام: “انتم موحدون”. التقينا عند الباب وما كانت قامته تمكنني من دخوله. قلت له اشكرك سيدي لأنك رفعت عنا تهمة الشرك فقال لي “ولكنكم فلاسفة”. ادركت عند ذاك انه يشير الى الثالوث. فأجبته: هذا الثالوث ما هو الا حركة ضمن الوحدانية الالهيّة ثم افترقنا. كنت اكنّ له احتراما كبيرا ولا سيما اني تدرّجت محاميا عند واحد من آل الجسر. ناس من هذه النوعيّة يجب ان نفتّش عنهم تفتيشا ليكمل الحب.

                      يقول الدكتور سماك “تفاهم” بين اهل الديانتين. اظن ان كلمته هذه لا تفيد التعايش المجتمعي فقط او التلاقي في العيش ولكنها تمتد الى المحبّة ايضا وربما الى التناضح الفكري ما امكن ذلك ولا سيّما ان المليار والثلاثمئة مليون مسلم سيتكاثرون جدا حتى يوم الدين كتلة متراصة وانت، جديا، لا يمكنك ان تتجاهلها. والمسيحيون سيبقون كتلة متراصة صلّوا ام لم يصلّوا. في جو التلاقي الوجداني بيننا انت توضح ما تؤمن به وتستوضح الآخر ايمانه وهذا عندي بدء الحوار ان لم يكن ذروته.

                      وفي ظل هذا يتحدّث المؤلّف عن ” ثقافة حول الاختلاف واحترام المختلف معه”. لو كان المقال اطول وصار دراسة اكاديمية الاعتراف بالآخر حياتيا امر لا يكفي اذا رأيت انك مؤهل لبسط عقيدتك في اوساط علميّة وتبصّرت بديانة الآخر. فاحترام المختلف ينبغي ان تتضمّن حرية اخذك بأي دين وان يعلم الدين في الجامعات ويعترف لك حرية الكلام والكتابة وان تختار الايمان الذي تريده .

                      طبعا هذا غائب عن العالم العربي ما عدا لبنان. “لا إكراه في الدين” ليست فقط قاعدة الا تدخل في دينك قسرا من لا يريده ولكن ان تحترم حريّته بتغيير معتقده لئلا تكون القصة قصة المحافظة على العدد وعلى حجم اية امة من الأمّتين لأستعير التعبير القرآني.

                      الى هذا ان حسن العلاقة اخلت به الحروب الصليبيّة والاستعمار كما قال صاحبنا. غير ان الابحاث الجديدة دلّت على انّ المسيحيين الارثوذكسيين قتلهم الصليبيون هنا وثمّة بين انطاكية والقدس. ما وجب قوله انصافًا للتاريخ ان مسيحيي الشرق بعامة لا علاقة لهم بالاستعمار وكل من تتبّع الحياة السياسيّة في إطار الانتداب اطّلع على ان سلطة الانتداب عملت على تقويض النفوذ الارثوذكسي في هذه المنطقة وعلى تذويبهم في مجموعة مسيحية اخرى.

                      ثم يذكر الدكتور محمد ان المسيحيين العرب يستطيعون ان “يشكّلوا جسرًا معرفيا بين العالم العربي والغرب” كذلك يرى ان “المسلمين العرب يستطيعون ان يشكّلوا جسرًا معرفيا مع العالم الاسلامي غير العربي” وهذان المسعيان يسميهما جسرين.

                      ما يتحتّم عليّ قوله هنا ان المسيحيين في الغرب – على المستوى الشعبي- لا يعرفون شيئا عن المسيحيين العرب. فاذا قلت لهم انك ارثوذكسي مثلا يظنون انك روسي او يوناني ولأن العروبة والاسلام عندهم واحد. كم من مرة سئلنا في الغرب: متى جاء ابوك او جدّك من الاسلام الى المسيحية؟ نضحك ونفتح سفر اعمال الرسل لنذكرهم بأننا كنا هنا منذ العصر الرسولي واننا أكملنا طريقنا.

                      اليوم هناك مسلمون في اوربا مهاجرون اليها من شمالي افريقيا وتركيا والباكستان. هؤلاء تعاملهم السلطات الاوروبية بحرية وقد بنوا في اوربا الغربية آلافا من المساجد. السنة الماضية كنت أزور مسجد فيينا في النمسا مع زملاء لي يتعاطون الحوار الاسلامي المسيحي وشاهدنا إماما يرتدي ثيابا اوربيّة يعلّم الاسلام لشبان شقر بلغة المانية طليقة. انا لست استعمل عبارة تبادل في المعاملة ولكن يجب ان يكون من المألوف ان يعلّم قس مسيحي ايمانه بصورة موضوعيّة من يشاء في دار الاسلام وان يحق للمسيحيين ان يجتمعوا للصلاة يوم الأحد.

                      هذا قائم في الإمارات ومؤخرا اقمت في ابو ظبي قداسًا للرعية المسيحية في كنيسة مبنية بالحجر .

                      اظن اننا ان توخّينا التلاقي الحقيقي الكامل ينبغي ان ندافع عن حريّة الأقليّات حيثما وجدوا. اتمنّى الا نستعمل في علاقة الديانتين عبارة “حقوق الانسان” وان نلجأ فقط الى المحبة والسماحة ليبقى كل منا مختلفا.

                      ما قاله محمد السماك كثيره جديد بالنسبة الى التعامل وفي مسيرتنا الى الله الذي سنجتمع معا امام وجهه الوضّاء في اليوم الأخير.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

الكاهن المستحق /الأحد 21 كانون الثاني 2007 / العدد 3

خدمة المؤمنين في الوعظ والصلوات والرعاية يقول بولس إن فيها تعبا وتعييرا. امّا التعب فلكون الكاهن يستغرق ذلك منه وقتًا طويلاً وانشغال بال ومتابعة لأمور المؤمنين وإلاّ كان كسولا. اما التعيير (الانتقادات) فلأن بعضا من المؤمنين عن حق او باطل ينتقدونه ويرتكبون النميمة بحقه أكانوا دارسين مبرر الذم ام غير دارسين. وهو يستقوي بالله إزاء التعديات لارتباطه بالرب الذي يخلّص المؤمنين ومنهم أهل النميمة.

هذا الكلام موجّه الى تيموثاوس تلميذ بولس وكان شابا وتخوّف بولس الا يتقبل بعض الرعية شابا راعيا لهم فكتب له «لا يستهن أحد بفتوّتك» فكان عليه ان يقنعهم بأنه مستحق للرعاية اذا عمل بما أوصاه الرسول: «كن مثالا في الكلام» اي في المعرفة والسلوك والمحبة والعفة. غير ان هذا يجب ان يرافقه مستلزمات الكهنوت: «كن مواظبًا على القراءة الى حين قدومي»، والقراءة آنذاك تعني قراءة العهد القديم وما ظهر من رسائل بولس لأن الأناجيل لم تكن قد دُوِّنت بعد. هل أراد بولس ان يتثقّف تلميذه بالآداب الوثنيّة من شعر وفلسفة؟ هذا ممكن لأن الرسول نفسه كان مطّلعًا على الفلسفة اليونانية وربما على بعض من الأدب. كان مطّلعًا بالتأكيد على الفلسفة الرواقيّة وأقوال من أرسطو.

لماذا قال بولس لتلميذه: «واظب على القراءة حتى قدومي»؟ لأن تيموثاوس يمكن ان تثير فيه قراءة العهد القديم تساؤلات ولا بد له من أن يفسّر له معلّمه بولس ما لم يفهمه.

ثم قال له: «واظب على الوعظ والتعليم». الوعظ هو الوعظ في القداس الإلهي وموجّه الى كل فئات الشعب وعلى شيء من البساطة اي انه يأخذ بعين الإعتبار المسائل التي يعرف الكاهن ان المؤمنين في حاجة الى توضيحها ويعرف الواعظ ضعفاتهم ويسعى الى تقويتهم ودعوتهم الى التوبة حتى يتمكّنوا من بعد سماع الوعظ ان يتناولوا جسد الرب ودمه. ثم جاءت القوانين فيما بعد وجعلت الموعظة إلزاميّة في كل خدمة ما يعني انّ كلام خدمة معيّنة كالمعمودية والجناز مثلا كلام لا يكفي ويجب على الكاهن ان يفسّر المعاني التي تتضمّنها الخدمة. المهم أن يرفع الكاهن عقول المؤمنين وقلوبهم الى الله ويجمّلها بالنعمة حتى اذا خرجوا من الكنيسة يكونون قد تزوّدوا بزاد يقيت روحهم ويحفظهم الى القداس في الأحد اللاحق. ولا يتكاسلنّ الكاهن بقوله إنهم يفهمون مما سمعوا. فلو كانوا عالمين بالمعاني لما كتب مواعظ في المعموديّة القديس كيرلّس الأورشليمي والقديس يوحنا الذهبي الفم.

ثم يقول بولس إن تيموثاوس صار كاهنًا بوضع أيدي الكهنة. يصل الإنسان اذًا الى الكهنوت بالرسامة. من ذلك نفهم ان الكاهن يرئس كل خدمة إلهية ولا يُستعاض عنه.

غير انّ الرسول خشية من إهمال الكاهن لنفسه وعمله يقول له: «تأمّل في ذلك وكن عليه عاكفًا». تأمّل بكل هذه التوصيات واتبعها «عاكفًا»، جديا ولا تكن كاهنًا بالتسمية.

«ليكون تقدّمك ظاهرًا في كل شيء» أي في كل فضيلة ذكرتها لك وفي كل النشاطات التي دعوتك إليها. أريد منك تقدما ظاهرا ليرى الناس أعمالك ويمجّدوا أباك الذي في السموات. اذ نقتبس النور الذي عند الإخوة فنحن نبني بعضنا بعضًا بالقدوة. فإذا كنت أنت عفيفًا يندفع المؤمنون الى العفة وان كنت قارئًا يسعون هم ايضًا الى القراءة. هناك دائمًا منائر في كل رعية. نحن «جسد المسيح وأعضاؤه أفرادًا» ونكمل بعضنا بعضًا. هناك شروط أساسيّة للكهنوت ولذلك اذا رسم الأسقف كاهنًا يقول «مستحق» ويؤيّد الشعب ذلك. وأمّا من عرفوه غير ذلك فلا ينبغي ان يقدّموه لئلا يجدّف على اسم الله بسبب من كاهن غير مستحق. ليس عندنا محاباة للوجوه واسترضاء لهذا او ذاك. الكهنوت صارم وقبل ان نقدّم واحدًا له ينبغي ان نفحصه بتدقيق لئلا يُساء الى الخدمة.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

بعد الغطاس/ الأحد 14 كانون الثاني 2007 / العدد 2

بعد ان عرف يسوع بقتل يوحنا المعمدان اراد في حكمته الا يتعرّض الى ملاحقة السلطة له في اليهوديّة، فلجأ الى الجليل ولكن لم يعد الى مدينة الناصرة لأنها لم تقبله، وسكن في مدينة أهم هي كفرناحوم التي كانت أنفع له ليبشّر بالإنجيل منها اذ كانت مركزًا تجاريًا بين دمشق ومصر، والكهنة فيها أقل تعصّبًا من الذين كانوا في اورشليم. وكانت الشعوب مختلطة فيها.

سمّى متى المنطقة أرض زبولون وأرض نفتاليم في تقسيم البلد الذي قام به يشوع بن نون وهما في منطقة بحر الجليل، والآية هذه «أرض زبولون وأرض نفتاليم» اقتبسها متى من إشعياء. جليل الأمم المذكورة هنا سمّيت كذلك لكثرة الوثنيين فيها قبل عصر المكابيين. متى يقتبس من إشعياء: «الشعب الجالس في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا» ليوحي بأن رؤية النور الذي تكلّم عنه النبي انّما تتم الآن بمجيء المسيح.

ثم يحدّد متى بدء البشارة في الجليل انطلاقًا من كفرناحوم، تحديدًا ومحتوى البشارة الأولى هي «توبوا لأنه قد اقترب ملكوت السموات».

توبوا في العهد الجديد تعني غيّروا أفكاركم الباطلة وليكن فيكم الفكر الإلهي فيتغيّر سلوككم. هذا يعني انكم قبلتم سيادة الله على قلوبكم. في العهد القديم ملكوت الله أبدي ويكتمل ظهوره في اليوم الأخير. وهنا يتحقق ملكوت الله او ملكوت السموات فيك ان وعيت سيادة الله ورأيت نفسك في إطارها.

أما قوله «قد اقترب ملكوت السموات» فلأن الملك (اي المسيح) جاء وهو بينكم او فيكم كما يقول لوقا. من هنا إن الملكوت عطية الله، لك ولذلك تقول في الصلاة الربيّة: «ليأتِ ملكوتك» بمعنى انك تطلب ان يشمل الملكوت اكبر عدد ناس ممكن، وان يكون من جهة أخرى في اعماقك انت. هو في المدى البشري وفي عمق الشخص. هو مدّ حالتك الروحيّة المتقدسة الى يوم مجيء ربّنا يسوع المسيح.

هل نقول تاليا ان الكنيسة هي ملكوت الله؟ نحن نقول انها بشهدائها وقديسيها والأسرار المقدسة باب الملكوت، ولكن بسبب خطايا أعضائها لا تكتمل الا في الدهر الآتي. بهذا المعنى، الملكوت متحرك. ولكن الصورة الأكمل للملكوت في هذا العالم هو سر القرابين المقدسة لكونها اتحادًا بالملك. ثم ظاهرة القداسة اي التنزّه عن الخطيئة هي الصورة الأكمل في هذا العالم للملكوت في الفرد. واذا ركّزنا على فكرة الملك الذي دشّن ملكوته بالبشارة، لا بد ان نقول ان الملك هو دائمًا هنا معنا وان المسيحية كلها هي المسيح بالذات.

ألاّ تُشرك بالله وجهًا غريبًا وأن تضرب فيك كل رغبة تعرقل رغبتك في الله تلك هي التوبة. قل لله: أعطني ان أتوب اليك، وأعرف انك تفتّش عنّي انا هو الخروف الذي ضلّ في الجبال. أعطني أن أكره الأشياء السيئة وألّا أتعوّد عليها لأنها تحجب عني وجهك. أعطني أن أعيش معك كأن السماء صارت على الأرض، وهبني ان أقول هذا لإخوتك كي يعرفوا ان لا فرح الا فيك وانه لن ينقصهم شيء اذا مكثوا فيك. ما أتعس هذه الإنسانية التي تجد لذتها في ما هو غيرك. هبني دائما أن أقول: تعال أيها الرب يسوع.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الوحدة المطلّة / السبت ١٣ كانون الثاني ٢٠٠٧

بعد ان يعبر عيد الغطاس يتهيأ المسيحيون لاستقبال الصيام الكبير من حيث انه هو ايضًا استعداد لآلام المسيح التي تتبعها قيامته فيتغيّر الإيقاع الروحي عندهم ولا تقل الكثافة الروحيّة في نفوسهم ان كانوا من الطائعين. وهناك مواقف هي أعياد القديسين التي يتجلّى فيها المؤمن الممارس اذ يحاول ان يرى الى وجه الله ثم الى وجوه الناس في تجلّياتها لكون الانسان الطيب يتلمّس دائمًا الأنوار الإلهيّة على كل وجه. والوجوه اذا أضا ءتها النعمة لا تسأل انت عن دين صاحبها ولا عن نحوه السياسي اذ السياسة دائما عجين من الغلط ومن الصحة ان كان الناس صادقين. فالانفعال جزء من مواقفنا في هذا المجال والناس بعضهم أقرب الى قايين )وهو قابيل في الاسلام) او هم أدنى الى هابيل ما مرشّح لذبح أخيه له.

          هذا اذا كنت في هذه الدنيا. اما اذا حالت دنياك الى جحيم فلا ترى وجه أخيك اذ يقول نص نسكي عندنا ان عذاب أهل النار الا يرى أحد وجه أحد فكل من ساكني جهنّم ظهورهم الى ظهر بعض بربط محكم ولا يعرف الواحد الآخر اذ لا يرى الى وجهه. ذلك ان العذاب هو العزلة المطلقة والافتراق الدائم. اما المؤمنون فيشاهدون بعضهم بعضًا لأن وجوههم مكونة مما ارتسم عليها من أنوار ربهم. ويقول المتصوّفة المسيحيون والمسلمون معا ان أهل الجنة ليسوا فقط في لقاء دائم مع الله ولكنهم يسيرون في الله بعد ان أمسوا إلهيين وليس لهم فوق من مبتغى الا هذه المسيرة.

          وهناك طبعًا تكون الانظومات الدينيّة ملغاة وكانت هنا شرعة ومنهاجا وبعد زوال المنهاج تبقى الرؤية اذ تتكوّن هناك الهويّة الحقيقيّة بسقوط الحواجز ويكون الله الكل في الكل كما يقول بولس. وهناك لا تحتاج الى لغة اذ يكون التواصل انسكاب القلب بالقلب اي اننا نكون تحت نظام المحبة التي لا تسقط ابدًا وكان من المفروض هنا ان تكون هي اللغة ولكن الناس لا يعقلون.

#           #

#

          لقد افترضنا في هذا العالم ان يصبح لبنان قطعة من السماء وانا أقول دائما للأجانب ان اللبنانيين من ألطف البشر ومن الدلائل على ذلك أن المقاتلين من معسكري حربنا او حروبنا الأهلية اذا اجتمعوا معا الى عشاء في قبرص مثلا كانوا يرتاحون معا ويفرحون معا اذا لم يتحدّثوا في السياسة وسرعان ما خاطبوا بها  بعضهم بعضا في السياسة يتراشقون بالصحون او الأكواب اي اذا تحولوا الى أنصار ويعودون في لبنان الى منازلات لا تعرف متى واين تنتهي. هم معا على موائد المحبّة وهم قاتلون في ميادين القتال والإنسان في اللغة الفلسفيّة مفارق للآخر بمعنى ان هذا غير ذاك والله أعدّه للتواصل وليس الى ان يقضي على الآخر برصاص كان هذا ام بغير رصاص.

          ان تكون لك شخصيّتك لا تعني ان تكون واحدًا من حشد. العاقل لا يحتشد ولا يؤلّف جمهورًا ازاء جمهور ولكنه يؤلّف جماعة مع أهل العقل واهل الحب. أما المسيسون فيقولون ان لهم قضية كثيرا ما ارادوا بها تحزبا. ألم تسمعوا كثيرا اذا ما حل التأهّب للإنتخابات التشريعيّة: انا صاحب مبدأ ومعناها الحقيقي انا صاحب المرشّح الفلاني وسبب ذلك انه تناول القهوة مرة عند فلان او حضر لعائلته مأتمًا.

          لبنان قطعة من سماء تعني ان لبنان اهم من اي نزاع فيه وأثبت وأقوم وان تفاوتت أسباب المنازعات وكان بعضها أقرب الى الوحدة منه الى الانقسام. انا لست داعية الى الحياد في اي خصام سياسي يتكوّن في البلد اذ لا تساوي بين المواقف في اي ظرف، ذلك ان في السياسة حقائق وفيها انسانيات وما يدعم تقارب الناس حتى الاندماج او بعض منه. وعليك ان تتدرّب في السياسة على الاستقامة ومنها وحدة البلد على التنوّع وان تفهم في الحقيقة اسباب الخلاف والوجهة الصحيحة فيه لا لتتراكم مع المتراكم ولا ان تحافظ على موقف اتخذته وتبيّن لك فيما بعد انه مغلوط. في السياسة كما في غيرها توبة. السؤال هو أين كان القديسون يقفون لو نزلوا الينا وشرح لهم اسباب الخلافات بين اهل الأرض. واذا تنازعت أمّان على أمومة الصبي كما في حكاية سليمان ينبغي ان نقتنع ان الصبي ينبغي الا يموت.

          والمهم قبل الأهم الا نتقاذف بحجارة الشتائم وبذاءة الكلام لأن هذا بدء قتل او أقلّه محو الآخر من روحك لأن خصمك حبيب والخصومة اسلوب للوصول الى المصالحة الى بقاء بلد نعرف انه هش من تكوينه الحديث وان ازمات الهشاشة كانت تظهر فيه منذ استقلال لم نفهمه جميعا بالروح نفسها.

          هذا بلد الحمايات منذ القرن السادس عشر هو وجواره اي بعد ان احتلّنا العثمانيون بقليل. ومع علمي ان بعض الظن سوء يفتقد الكثيرون منا الى حماية. ولكن هل فكّر شعبنا بأننا قادرون على رغم ضغط الاجنبي اننا بلغنا نضجًا واستقلالا روحيا يغنيانا عن التماس وصايات كائنة ما كانت لأن الغريب ايا كان لا يحبك كما يحبك أخوك ومبدئيًا تعترف بأخيك “اذا صدقت الوالدة”. هذا يذكّرني لمّا كنت رئيسا لمحكمة الاستئناف الارثوذكسية اني قررت فحص الحامض النووي في مختبر في فرنسا لأتثبت من أبوّة رجل. شعوري اننا لم نصل لبنانيين الى هذا الحد وان كان لا مهرب احيانا من شكوك.

          ابدأ بتأكيد قناعتي اننا أجمعنا بالأقل اننا لا نزني مع اسرائيل واننا لن نهرول الى توقيع سلام معها حتى تحين قناعة العرب جميعا. مع ذلك يبدو ان ما تسميه انت وصاية يسميه ذاك تحالفًا. هذه قضيّة صدق وقضيّة تحليل سياسي عميق. والاحلاف تتغيّر فيما انت تقلب احوال الدنيا السياسيّة. غير ان اللبنانيين اتفقوا في نهاية احداث الـ ١٩٥٨ الا يدخلوا في حلف لئلا ينقسموا. هذا يعني ان هناك حدة ما لا نستطيع ان نبلغها وهناك عصمة ينبغي ان نتسلّح بها تبقي هذا البلد المتعدد المكون واحدا. ولك في السياسة الخارجية ان ترفض وان كان عليك ان تكون حكيما وعليك ان تزن الاثقال التي بين يديك وبين أيدي الآخرين: “ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا انفسهم” (المؤمنون. ١٠3).

          وهنا يأتيني التأمّل ان الأصرار ليس الثبات الا اذا كنت ذاهبا الى الشهادة. وليس من ثبات يعني ان تأخذ البلد الى الفقر لأنك تستطيع بسهولة ان تسقط في الفقر ولست في السهولة نفسها تتعرّج الى البحبوحة. والفقراء مسؤوليّتنا الأولى لأنهم سادتنا كما قال القديس يوحنا الرحيم. والفقر هو الطريق المثلى لنصل الى الوصاية.

          لا بد لنا ان نتعامل والدول الطامعة بنا وغير الطامعة بنا. القضيّة ان نحافظ اولا واخيرا بعضنا على البعض الآخر لئلا نسقط ببدعة القائلين ان لبنان عابر  accident de parcours وانه يمكن الا يبقى. ليس من بلد في العالم له ضمانة ابدية. ولكن هذا البلد هو الذي اخترناه لنعيش معا فيه والذين يقولون هذا ما قرّره اتفاق سايكس- بيكو. أقول لهم ان هذا الاتفاق لم يأتِ على ذكر لبنان. هو كان عثمانيا مع نظام المتصرّفية ولكن الدول لم تقتطعه من كيان عربي كان هو جزءًا منه حقوقيا. نحن خرجنا من المدى العثماني بعد ان قسم الحلفاء هذا المدى. ليس من جدل بعد الطائف اننا غدونا بلدًا ذا سيادة. والسؤال في الأزمات هو كيف تحافظ او بوجه من تحافظ على هذه السيادة. وتقف بوجه الجميع لتحافظ على نفسك بأعظم حنكة ممكنة وبالوسائل المتاحة لك.

          ربما ارادت هذه الدولة او تلك ان تراودك عن نفسك كما فعلت امرأة العزيز بيوسف. ولكنك تعف مثله بشجاعة وصبر طويل وايمان بأنّ الله يريد لك لبنان مرتعا لخدمتك وخدمة الحضارة الانسانية. المرأة الجميلة مغرية ولكن ليس مقدرا لها بالضرورة ان تسقط.

          عند ارتجاج الوطن لا بد لنا من ان نقوي الدولة لتكون في خدمة كل الشعب وتساعد الوطن على ان يحافظ على منعته. وعندنا ان الدولة والبلد متشابكان بخاصة وكل منهما يقوى بالآخر. نحن الآن في حمى  رهيبة لم أشاهد مثلها منذ استقلال السنة الـ ١٩٤٣ التي رافقت ما تبعها من ازمنة. أخشى ان تفتك الحمى في جسم الوطن فتكا كبيرا كما اني أرجو ان يلهم الرب كل الاطراف الى فهم ان لبنان اعظم منهم جميعا فإن هو ذهب ذهبوا. والمطلوب ان نحيا والا نموت بسبب من جهلنا وشكوك لا تنقطع.

          وقد قال غير واحد فليمد رئيس المجلس الحكيم مائدة التشاور وهي مكان لاستعادة الثقة او بعض من ثقة. كذلك هي مناسبة لعقد زواج ماروني بيننا محرم فيه الطلاق حرما كاملا. ولا يعني هذا إبادة القناعات ولكن القناعات السياسية ليست كتابا متنزلا. لكل نجاح مائدة تشاور مع ما يسدينا العرب من نصح. المهم ان نتلاقى شعبا واحدا ونبدأ جدية تاريخ جديد نأكل فيه مع أولادنا خبزًا نستحقه ونتطهّر ونخلص ونسير معا في الله.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

الظهور الإلهي/ الأحد 7 كانون الثاني 2007 / العدد 1

واضحٌ من الانجيل ومن الخدمة الإلهيّة انّ ما سمّي الظهور الإلهي بمناسبة معمودية السيّد كان ظهور الثالوث القدوس بصوت الآب وهيئة الحمامة التي اتّخذها الروح القدس ووجود المسيح في الماء.

هذا لا يتعارض مع الفكرة الأساسيّة التي أعطاها إنجيل اليوم. فالكلمة الأولى التي تفوّه بها يوحنا المعمدان هي «هوذا حمل الله الذي يرفع خطيئة العالم»، والمعنى الواضح انّ هذا الذي يظهر منكم اليوم هو الذي أعدّه الله ليكون ذبيحًا.

سينزل بالماء رمزًا لنزوله في القبر بعد ذلك، وسيرتفع عن الماء رمزًا لقيامته من بين الأموات. من بعد ذلك يأتي تعليم بولس الرسول عن المعموديّة على أنها اشتراك بموت المسيح وقيامته. ولذلك كنا نعمّد المهتدين الى المسيح من الوثنيين دائمًا في ليل الفصح فيفهموا العيد من خلال ذوقهم لمعموديّتهم التي فيها يتشبّهون بموته وقيامته.

وما يقوله المعمدان ان كل قيامي بالمعموديّة غايتها ان يظهر هذا لاسرائيل بحيث يتركني الكل ويتبعونه هو فيستغنون عن معموديّة الماء التي قمت انا بها ليعتمدوا بالروح القدس.

ذلك ان الروح القدس مستقر فيه منذ الأزل، وهو اذا نزل على الأرض ومات يبعث بالروح الذي فيه الى العالم، فمن انضمّ الى المسيح يأخذ الروح شرط ان يعترف بالمسيح ربًّا ومخلّصًا.

والمعموديّة التي نأخذها أطفالا لا تنمو فينا مفاعيلها الا اذا كنا ملتصقين دائمًا بالمسيح وممارسين الفضائل بالروح اذ ليس من خير فينا الا من المسيح منقولا الينا بواسطة روحه.

وان يظهر المسيح بين الناس مسؤوليتنا الآن لأنه يريد ان يظهر بتلاميذه. فأن يكونوا كنيسة حيّة فاعلة هو استمرار لحضوره في الأرض.

أجل نحن نتقبّل المعموديّة مرّة واحدة ولكننا نجددها في كل عمل صالح، بكل افتقاد للفقراء، بكل دراسة معمّقة للإنجيل، اذ في كل عمل صالح تتجدّد معموديّتنا روحيّا فنميت الخطيئة فينا ونحيا مع المسيح.

وهكذا نستطيع ان نشهد بالواقع ان المسيح هو ابن الله كما شهد له يوحنا وهذا ليس فقط بالأقوال. وكذلك نشهد ان الأعمال التي يقوم بها الأبرار من حولنا انما هي ايضًا ثمار الروح القدس. فنحن الذين نقوم بالعمل الروحي يوحدنا الروح القدس ويجعلنا كنيسة حيّة.

كل هذا دشّنه السيّد بالغطاس، ونحن نعاهده على ان نتقبّل نعمة الغطاس. فإذا جاء الكاهن ونضح منازلنا بالماء المقدّس، فهذا عهد ان نجعلها منازل للروح القدس. ان نشرب الماء المقدّس يعني من قبلنا إرادة ان نبقى في قداسة الروح بالجسد. ليس هذا عملا سحريا ينتج فينا دون تقبّلنا إياه. هذا التزام للمسيح متجدّد لنلبس المسيح.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

لبنان والغطاس / السبت ٦ كانون الثاني ٢٠٠٧

كل الأعياد الكبرى عندنا هي بسط لسر الفصح بطريقة او بأخرى بمعنى انها كشف لموت المسيح وقيامته او هي تأوين لهذين الحدثين والتأوين هو إحياء في الآن لحدث مضى. اليوم نعيّد لما يسمّيه العامة الغطاس ولا شك انه صيغة شعبيّة تعبّر عن ان يسوع الناصري غطس في نهر الأردن حيث اقتبل صبغة يوحنا وهو يحيى بن زكريا في الإسلام والصبغة هي الكلمة العربية التي اصطلح عليها المسيحيون العرب على تحويلها الى معموديّة. ولكن لفظة الصبغة استعملها المسيح مرة للكلام على موته وتدل بوضوح على الدم المراق.

          في المدلولات أيضًا ان معمودية يوحنا كانت رمزًا للتوبة. وقد بدأت المعموديات قبل يوحنا عند الفريسيين كما ظهر الاغتسال كل يوم في جماعة قمران، ولكن دعوة يوحنا كانت الى التوبة. واقتبلها الناصري ليوحد نفسه بالعائدين من قومه الى الله مع انه لم يكن في حاجة الى التوبة. عمليّة تواضع من قبله لا بد من فهمها على انها تواضع حتى الموت ولما خرج يسوع من الماء رسم رمزيّا خروجه من الموت. عندنا في هذا العيد الذي نسمّيه في الطقوس “الظهور الالهي” تهجئة لظهور السيّد بموته وقيامته. نحن اذًا عند ظهور هذه السطور فصحيون.

          ما يؤكّد هذه القراءة ان سر المعمودية في الاناجيل يشبه الى حد بعيد حادثة تجلّي السيّد على احد الجبال هو حسب التقليد ثابور في الجليل وعند بعض العلماء جبل الشيخ حيث بزغ النور على وجهه وثيابه وحضر اليه موسى وايليا وكانا يكلمانه على الآلام الذي كان مزمعًا ان يتقبّلها في اورشليم. وصوت الآب: هذا هو ابني الحبيب الذي سمع في صبغة الأردن هو إياه الذي سمع على جبل التجلّي. في الأردن دفن وانبعاث وفي ثابور حديث عن الآلام التي يليها الانبعاث.

          اذا اسقطنا هذا العيد بعد ان امسى رسميّا في الدولة في وضعنا نرى سقوطًا ليس بعده سقوط ورجاء وقيامة قد تأتي بعزة لا بعدها عزة. وهذا سقوط يشبه الموت. ولا احد يعرف متى ولأي سبب تأتي للإنسان ميتته. وكان قبل ذلك غاطسا في حياة صاخبة واذ بها تنقطع توّا لتظهر الحياة من جديد في اليوم الأخير ولكنه قبل ذلك لا بد له ان ينكسر.

          هناك اوطان هشّة بتركيبتها ترتج أكثر من غيرها وتهزل وتبدو نائية عن الوجود الحضاري مختفية في عتمات التاريخ حتى يحل فيها نهوضها من جديد. هاتان الحركتان هما معموديتها وهذه حال كل الشعوب. غير ان هناك شعوبا او دولا تنقرض اذ لم يكن فيها بذرة حياة تنتشلها في يوم الرضا من الموت. لقد انقرضت أمم بالكليّة فالموت يأخذ الأفراد والجماعات. في الحقيقة تنقرض التسميات. الى الناس ناس غير ان ما أنجز لا يبقى في دورة الفعل الحضاري ويصير متّخذًا في العواصم الفنيّة التي تكتب كثيرًا عن الحضارات المنقرضة ولكنها تلتمس دورها في الزمان الحديث.

#           #

#

          دعائي ان يخرج اللبنانيون من الماء الذي غرقوا فيه كما خرج المسيح من النهر ولكن هل سيبقى لبنان الذي نحن على عثراته وشقائه  والنقص الكبير في جديّته. هل يحب اولاده هويّته اي ان عنده امتياز وجود وتزكية وجود. السؤال الحق هو هل يحب اللبنانيون ان يتعايشوا على ما بينهم من اختلاف ام ينحتون وحدة جديدة لهم لا تقوم على تعدد يفرّقهم الآن بوضوح وهم يفتخرون به على رجاء وحدة لم تأتِ بعد. هل نجد مكونات جديدة لوحدة نريدها وهل نريدها حقا بحيث لا يطغى احد على أحد اي لا يميته حضاريًا.

          تحقيق هذا كان صعبًا حتى الآن كثيرًا. ليس عند أحد وصفة لخلاص البلد. ولكن ان نحسن التسويات ونبقى على ان البلد يقوم على ممارسة تسويات، هذه الفلسفة تعني ان البلد ليس له مقوّمات استمرار. لا بد من “غطاس” لكل طوائف لبنان اي ان تقتنع اولا انها في حاجة ان تميت من ذاكرتها ومن احساساتها ما يجعلها تظن ان السيادة لها اوانها اجمل من غيرها وأعلى شأنًا. هذا يعني ان تنزل في الماء وتترك فيه خطاياها. وبعد ذلك تخرج منقّاة فتسمع صوت الله: انت الآن يا طائفة كذا صرت ابنتي الحبيبة التي بها سررت. ولكن تبقى كل مجموعة على تراث خطاياها وان تقول لزميلاتها انا أبهى وأذكى وأطهر وما الى ذلك تكون قد ساهمت في ابقائنا على خطايانا فنكون قد دخلنا في الماء واختنقنا فيه.

          هذا هو المعنى العميق للاطائفيّة. ليست هي اللا انتماء. هي انتماء الى طائفة تائبة وتوق الى تلاحم كل الطوائف تائبة. هذه هي صورة نموذجيّة لوطن سائر نحو وحدته فيما ينبغي ان يثق انه ينتقل من مجد الى مجد. هذا لا يمنع نظريا ان يكون لكل طائفة التماع يميّزها عن سواها. وعلى اعتقادي مدة طويلة ان كل طائفة تحمل صفات تميّزها ثقافيّا عن سواها بتّ أعتقد الآن ان الطوائف تتمايز بخطاياها اولا وان الفرد في كل مجموعة يتميّز عن الفرد الآخر في شريحته وفي غير شريحته اذ تجد ان الصالحين من أمّة واحدة والأشرار من أمّة واحدة.

#              #

#

          بعد مراسي الشعب اللبناني سبعين سنة بوعي كامل بأن الخيرين خارج طائفتي يحبونني واني اكره الطالحين في طائفتي وجدت اني اسعى لأكون مرصوفًا مع الأوادم. انا اذًا لم اولد في طائفة. صرت على ما أرجو في طائفة الأوادم التي لا اسم لها ولا بطاقة خاصّة بها. ولكني وجدتني مختارا مسيحيا  ارثوذكسيا وهذا انتماء الى الله والى مدرسة روحيّة له.

          وانت بسبب قرباك المجتمعي والذوقي من جماعتك تذهب بها الى نهر الأردن “لتعتمد” مع المسيح واذا شئتها بقالب اسلامي اقول: “صبغة الله ومن احسن من الله صبغة” (البقرة، ١٣8). ودون ذلك نحن فيديراليّة طوائف اظن اننا لسوء الطالع نعيشها الآن سيكولوجيا. ولكن هذا يعني اننا نزلنا في الماء ولم نخرج منه اي ان الله لم يستقبلنا ولن يقول لأي قسم من هذه الفيديرالية. انت ابني، انا اليوم ولدتك. اذا بقينا تحت نكون ملاصقين شهواتنا وتعاش الفيديراليّة تحت اي مجموعة طوائف غارقة كل واحدة بخطايانا وغير مؤمنة انها يجب ان “تتعمّد” بالروح او غير قارئة للآية: “وجعلنا من الماء كل شيء حي” (الانبياء، ٣0). انه حي لمن اراد ان يحيا به اي ان يغرق شهواته في النهر.

          في العمق قضيتنا هي هذه اي انها اولا زهد بالتاريخ على ما فيه من جمالات  وتطلّع الى مستقبل نصنعه معا بعد اغتسال. هل انا قائل: ان القضيّة كلّا قضية توبة؟ انا قائل بالأقل ان احدًا لم يرد ان ينشئ لبنان مع الآخر. كل فريق هام يريد لبنان له. والأصغرون أظنهم قائلين اننا نحيا من الفتات الذي يتركه لنا الكبار. انا ما قلت ان الطوائف تتمازج ولكن الخيرين الذين ما حادوا عن زواجهم بلبنان ولا يزنون يتوقعون الى ان يخدموا البلد مع كل المخلصين لزواجهم بالوطن لأن القضيّة الكبرى في الوطن هي الا تزني. واذا لازم الرجل والمرأة بيتهما فإنهما يتدبران معا أمور المنزل ويتعايشان بكل ما أوتيا من عزم.

          واذا خلاص البيت الا يتسلّط فيه أحدنا على الآخر ففرح المشاركة يسود الضيق ان وجد ويبدأ مسعى الخروج منه حتى ينمو الأولاد ويعمر المنزل بهم.

          هل نستطيع ان نبني وطنا شبيهًا ببيت قائم على المحبة صورته ليست فيديراليّة بل زوجية مارونيّة؟ نحن جاء التاريخ بنا الى هذا المركب الواحد وقدرنا وان ننزل معا في الماء ونطرح عنا خبثنا ونخرج معا في انتماء واحد تحت السماء.

Continue reading