أحيد اليوم عن “الحرب” الدائرة في لبنان لأجنح إلى ما هو أبقى ولست أعرف إلامَ تؤول. وقد يكون من حسناتها ان اللبنانيين اليوم ليسوا منقسمين طائفيًا في التزامهم السياسي الظاهر. ولعل هذه الكارثة التي حلّت بنا تسهم في اقتناعنا اننا مواطنون معا. ففيما كنت أطالع “النهار” السبت الماضي عثرت على مقال للصديق الدكتور محمد السماك اكون مقلا اذا حسبته مملوءًا من المحبة ليس فقط للمسلمين والمسيحيين في العالم ولكن للمسيحيّة والإسلام فيما هما عليه من تراث توحيدي.
محمد السماك يتجاوز الذاكرة الدينية الموروثة وكل شعور بالأذى امن هذا الفريق جاء ام من ذاك. اجل لا مفر لي وانا اعرف الرجل ان اعترف ان من عنوان مقالة “قصة جسرين بين الاسام والمسيحية” ان صديقنا هذا كان هو شخصيا ولا يزال جسرا بيننا ليس في هذه المنطقة.
لست أخون المروءة التي تدعو الى التكتم لو قلت اني في اول اجتماعي به قال لي ان اهل الحي الذي يعيش فيه يقولون: “حارة بلا نصارى خسارة”. ما كنت اعرف العبارة ولكني كنت احس منذ طفولتي في مدينة طرابلس اني كنت اسمع من المسلمين ما يفيد هذا المعنى. وكنا هناك نتعايش ولا نزال في التعامل الودي الذي كانت العائلات والافراد تحس به. هذا اذا اهملت الاشارة الى اننا كنا واحدا على صعيد الصداقات ولا نلجأ الى العقائد التي تفرق بيننا واذا سمح لي لو ذكرت اني علمت الحضارة العربيّة الاسلامية منذ مطلع الجاهليّة الى آخر العهد الأموي في الجامعة اللبنانية منذ أواسط الستينات ولم اشعر يوما باستغراب احد ان كاهنا مسيحيا يعلّم المادة وعندما افكّر بالجد الذي ساد كل سنوات تعليمي ألمس ان طلابي لم يتفرقوا يوما على اساس ديني وهم يتحدثون عن الموضوعيّة التي كانت تتسم بها هذه الدراسة كما لم اكن اشعر ان المباينات السياسيّة – وكانت على اساس وطني- كانت تزعزع تقبلهم لكلامي في الاسلام. ومع اني كنت موقنا بأن العلماء المسيحيين في العصر الاموي ولا سيّما الفلاسفة منهم أسهموا في نشوء الفكر الفلسفي الاسلامي منذ تلك الحقبة.
وأذكر اني منذ اللحظة الاولى من تعليمي كانت اول جملة قلتها للطلاب تلفظت بها انني اطلب منكم اولا ان تأتوا بأوراق تدونون عليها الامالي وثانيا اريد من اجل فهم العرب ان يحمل كلّ منكم الى الصف مصحفًا لأننا سنعود كثيرًا الى الآيات.
واذا عدت الى محمد السماك لست اقول انه في هذا المقال كان موضوعيا في عرض اوضاع الناس الى اية عقيدة هم عليها كما كان طوال حياته الفكرية ولكنه كان منصفًا حتى منتهى الإنصاف بحيث لا تلمس في ما قال تحفظا على الديانة الأخرى وهو ماد للجسور.
كان الاستاذ محمد دائما يقف هذا الموقف ويقرب بين القلوب. هذه المرة يضع قولا هو في غاية المودة ومتوازن جدا من حيث اسلوب المعالجة اذ يمكنني القول ان هذه القطعة النادرة في الجودة الروحية هي وصيّته لنا جميعا. ويمكن اعتبارها حقا وصية للمسلمين والمسيحيين على السواء نحن الذين دعينا معا الى كلمة سواء.
# #
#
سنّي كل شيء يظهر تعلّقه بمذهبه لم يذكر الشيعة والسنة. وانا الارثوذكسي ما كنت رأيت بعيني شيعيا واحدًا قبل بلوغي الأربعين بسبب انحصاري الحياتي في طرابلس الى ان عرفت الشيعة بين طلابي وذهلت لمستواهم العقلي وانبثاق الشعر عند غير واحد منهم. وبسبب من حرصي على تواضعهم لن اذكر اسما من اسمائهم ولكني قرأت عند كبارهم قولا في المسيح وقولا في مريم – ومن اجل الصدق- اعترف اني لم ألمس حرارة وحبا عندهم للسيد وامه في المسيحية العربية المعاصرة.
وانقطاعا عن هذه العاصفة الهوجاء، التي نحن فيها فشهادتي تدل على ان الروح يهبّ حيث يشاء كما جاء في انجيل يوحنا وان الحب يتجلّى حيث يشاء، وانا مؤمن اننا بعد انقشاع الغيوم سوف نشاهد مثل ذلك في الاستقلال عن السياسة.
ما يؤكّده محمد السماك ان سوء العلاقة بين الشريحتين يحتاج الى الإزالة لسوء الفهم بينهما. نحن نحتاج الى “مزيد من التعارف والتفاهم بين المسيحيين والمسلمين” . كان دائما يؤذيني هذا الجهل اذ لا بد لك ان تسعى الى كل الجمالات الروحية المبثوثة في العالم كلّه. ان بعضا من آباء الكنيسة منذ يوستينوس النابلسي الى اقليمس الاسكندري يرون الجمالات الروحيّة في الحضارة الاغريقيّة الوثنيّة ويربطونها بالمسيح فمن باب اولى ان نرى ما يجمع الموحدين وما اتمنّاه ان يعمم هذا في اليهوديّة والمسيحيّة والاسلام وان نرفع تهمة الشرك عن كل هذه الديانات لأن هذا القول غباء. ففي مرّة التقيت فيها مفتي طرابلس السابق الشيخ نديم الجسر وكان خارجًآ من مجلس عزاء وانا داخل اليه قال لي سماحته قبل ان يلقي عليّ السلام: “انتم موحدون”. التقينا عند الباب وما كانت قامته تمكنني من دخوله. قلت له اشكرك سيدي لأنك رفعت عنا تهمة الشرك فقال لي “ولكنكم فلاسفة”. ادركت عند ذاك انه يشير الى الثالوث. فأجبته: هذا الثالوث ما هو الا حركة ضمن الوحدانية الالهيّة ثم افترقنا. كنت اكنّ له احتراما كبيرا ولا سيما اني تدرّجت محاميا عند واحد من آل الجسر. ناس من هذه النوعيّة يجب ان نفتّش عنهم تفتيشا ليكمل الحب.
يقول الدكتور سماك “تفاهم” بين اهل الديانتين. اظن ان كلمته هذه لا تفيد التعايش المجتمعي فقط او التلاقي في العيش ولكنها تمتد الى المحبّة ايضا وربما الى التناضح الفكري ما امكن ذلك ولا سيّما ان المليار والثلاثمئة مليون مسلم سيتكاثرون جدا حتى يوم الدين كتلة متراصة وانت، جديا، لا يمكنك ان تتجاهلها. والمسيحيون سيبقون كتلة متراصة صلّوا ام لم يصلّوا. في جو التلاقي الوجداني بيننا انت توضح ما تؤمن به وتستوضح الآخر ايمانه وهذا عندي بدء الحوار ان لم يكن ذروته.
وفي ظل هذا يتحدّث المؤلّف عن ” ثقافة حول الاختلاف واحترام المختلف معه”. لو كان المقال اطول وصار دراسة اكاديمية الاعتراف بالآخر حياتيا امر لا يكفي اذا رأيت انك مؤهل لبسط عقيدتك في اوساط علميّة وتبصّرت بديانة الآخر. فاحترام المختلف ينبغي ان تتضمّن حرية اخذك بأي دين وان يعلم الدين في الجامعات ويعترف لك حرية الكلام والكتابة وان تختار الايمان الذي تريده .
طبعا هذا غائب عن العالم العربي ما عدا لبنان. “لا إكراه في الدين” ليست فقط قاعدة الا تدخل في دينك قسرا من لا يريده ولكن ان تحترم حريّته بتغيير معتقده لئلا تكون القصة قصة المحافظة على العدد وعلى حجم اية امة من الأمّتين لأستعير التعبير القرآني.
الى هذا ان حسن العلاقة اخلت به الحروب الصليبيّة والاستعمار كما قال صاحبنا. غير ان الابحاث الجديدة دلّت على انّ المسيحيين الارثوذكسيين قتلهم الصليبيون هنا وثمّة بين انطاكية والقدس. ما وجب قوله انصافًا للتاريخ ان مسيحيي الشرق بعامة لا علاقة لهم بالاستعمار وكل من تتبّع الحياة السياسيّة في إطار الانتداب اطّلع على ان سلطة الانتداب عملت على تقويض النفوذ الارثوذكسي في هذه المنطقة وعلى تذويبهم في مجموعة مسيحية اخرى.
ثم يذكر الدكتور محمد ان المسيحيين العرب يستطيعون ان “يشكّلوا جسرًا معرفيا بين العالم العربي والغرب” كذلك يرى ان “المسلمين العرب يستطيعون ان يشكّلوا جسرًا معرفيا مع العالم الاسلامي غير العربي” وهذان المسعيان يسميهما جسرين.
ما يتحتّم عليّ قوله هنا ان المسيحيين في الغرب – على المستوى الشعبي- لا يعرفون شيئا عن المسيحيين العرب. فاذا قلت لهم انك ارثوذكسي مثلا يظنون انك روسي او يوناني ولأن العروبة والاسلام عندهم واحد. كم من مرة سئلنا في الغرب: متى جاء ابوك او جدّك من الاسلام الى المسيحية؟ نضحك ونفتح سفر اعمال الرسل لنذكرهم بأننا كنا هنا منذ العصر الرسولي واننا أكملنا طريقنا.
اليوم هناك مسلمون في اوربا مهاجرون اليها من شمالي افريقيا وتركيا والباكستان. هؤلاء تعاملهم السلطات الاوروبية بحرية وقد بنوا في اوربا الغربية آلافا من المساجد. السنة الماضية كنت أزور مسجد فيينا في النمسا مع زملاء لي يتعاطون الحوار الاسلامي المسيحي وشاهدنا إماما يرتدي ثيابا اوربيّة يعلّم الاسلام لشبان شقر بلغة المانية طليقة. انا لست استعمل عبارة تبادل في المعاملة ولكن يجب ان يكون من المألوف ان يعلّم قس مسيحي ايمانه بصورة موضوعيّة من يشاء في دار الاسلام وان يحق للمسيحيين ان يجتمعوا للصلاة يوم الأحد.
هذا قائم في الإمارات ومؤخرا اقمت في ابو ظبي قداسًا للرعية المسيحية في كنيسة مبنية بالحجر .
اظن اننا ان توخّينا التلاقي الحقيقي الكامل ينبغي ان ندافع عن حريّة الأقليّات حيثما وجدوا. اتمنّى الا نستعمل في علاقة الديانتين عبارة “حقوق الانسان” وان نلجأ فقط الى المحبة والسماحة ليبقى كل منا مختلفا.
ما قاله محمد السماك كثيره جديد بالنسبة الى التعامل وفي مسيرتنا الى الله الذي سنجتمع معا امام وجهه الوضّاء في اليوم الأخير.
Continue reading