Category

2003

2003, جريدة النهار, مقالات

2004 / السبت في 27 كانون الأول 2003

اذ نحيا على الرجاء نستقبل العام الجديد فالأيام متشابهة في حسنها وقبحها ما لم ينقض علينا نيزك بهاء او رضاء ويجعل لك في الأرض قطعة من فردوس. عام ينقضي وعام يطل ما هو الا مصطلح في التقويم ورجال الإعلام يذكرون بالأحداث وقلة منا تراجع النفس علها ترى خيرا حل فيها او سوءا انتهك براءتها.

لا يستطيع احد ان يغفل الأحداث والرهيب منها دموي. السنة التي تنقضي سنة العراق والدم فيه كما الدم الفلسطيني سكيب وليس ما يبشر بخير قريب ولبنان تصغر احلام بنيه اذ يرى الصغارة والاستهتار في كل مكان ولا اريد ان أحزن احدا فقد اكل الحزن من نفوسنا وشرب وكأن احدا ليس قابضا على زمام الأمور اذ شلت يده او تعطل عنده الفهم او يئس وظل متربعا على آرائك مجد تبدد والأمة في إحباط يكسر الهمم ويبطل الأشواق.

ولكن على رغم الأسواء وربما بسبب منها أخذ المفكرون العرب ينتقدون الوضع العربي كله بصراحة وصدق وتحليل لم نعهدها من قبل وهذا جيد. غير ان إحساسي انهم كثيرا ما لزموا الوصف وآخذوا الأنظمة ولم يفحصوا الطبع العربي. أليست الأنظمة هذا نتيجة العقل العربي؟ هل الاستبداد والظلم والسلطوية في الأخلاق العربية في البيت، في الزعامة (وهذه كلمة عربية لا تقابلها مفردة في لغات الغرب) ملازمة لبنيتنا النفسية؟ ما الإنسان العربي، بقناعاته وقوامه الداخلي والمعتقد الذي يسيره؟ ما تاريخه، ما تاريخ الدم في الحياة العربية؟ هذه التعرية للإنسان العربي ان لم تحصل في صدق كامل وتفحص دقيق شجاع لا نصل الى شيء وتبقى ايامنا الآتية كالماضية غرقى فتنة دائمة وباطنية مريضة ونلقي الشعر ونغني ماضينا لنحجب فقرنا الإنساني العميم.

لم يدخل العرب بعد طور العقل النقدي لكل شيء وطريقة التعامل مع المقدس. ينقدون الأدب فقط اي الكلمة الحلوة ولكن هذا لا يهز اي ركن من أركان الوجود الأسطوري ولا يمس غطرسة الجمال ولا يحد من التباهي. انا لا اعرف ادبا تعاطى المدح والهجاء كنوعين ادبيين مثل ما عندنا نحن العرب. في حال المدح هذا يعني التزلف وفي حال الهجاء البغض. ولست متيقنا انهم تغزلوا بليلى ولم يتغزلوا بهند. وغالبا ما تغزلوا بالمرأة إطلاقا ولك ان تضع لها اي اسم شئت.

#   #

#

يقيني ان الأزمة الفلسطينية-الإسرائيليةاذا حلت وكذلك مأساة العراق سيبزغ نور للعرب جميعا او تبدأ مغامرة فكر جديد او هكذا طاب لي ان احلم. عندما اسمع بعض القياديين الفلسطينيين يحللون اوضاعهم احس بالنضج الكبير الذي ولده الألم الكبير. وشيء كهذا يجري على الساحة العراقية. ولكن علينا ان ندعو كثيرا ونرجو كثيرا لينتقل الإنسان العربي الى البنيان الحضاري الكبير الذي لا مهرب فيه من الغرب وان كانت لنا روحيتنا في التعامل مع الغرب وفرادتنا. ولكن الإقبال العصري على مدنية بناءة في ربوعنا لا يكتفي بالإشكالية التي طرحها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو. ان التطور المذهل للعلم والتقنية وظهور فلسفات جديدة يجعلنا امام تحديات لم يكن لها مثيل في زمن النهضة العربية الاولى. والإصرار على ان الوحي فيه إجابة عن كل المسائل او يتضمن كل العلوم العصرية ولو تلميحا يأسرك في إطار التفسير اي في إطار اللغة. والعربية قد تكون لغة اهل الجنة ولكنها ليست لغة الذين سبقونا اشواطا في العلوم والتقنيات.

الكلمة الإلهية تتوجه الى القلب وتجعلك انسانا ناجيا وتهذب قلبك ولكنها ليست موسوعة علمية وهذه تأتيك من ابحاث ومختبرات ومراصد وحفريات في الأرض والاقتصاد السياسي والحقوق الوضعية وما الى ذلك. ان لم يكف الإنسان العربي ان يكون ماضويا ومحض لغوي فالحياة العربية لغو كلها.

#   #

#

فلننظر اذًا الى المستقبل لنصنعه. انه اهم من الماضي يصنعنا. مسيرتنا هي في الرجاء ولكنها ايضا في العمل، في التنقيب. والشجاعة هنا تعني عدم الخوف من اي شيء والإيغال في كل شيء عقلي. ما علاقة المعقول بالمنقول مسألة هزت الفكر العربي طويلا. هذه مسألة انتهت لأنك لا تستطيع في هذا العصر مواجهتها الا بعد تحصيلك كل ما هو عقلي في العالم. ولست اوحي بهذا ان تضع الوجدان المحب خارج شخصيتك لأن العلم اليوم ولاسيما في الفيزياء اخذ يدل على الله وعلى الحرية. العرب لم يتعلموا الاستقراء لأنهم يستنتجون كل شيء من كلمات الأقدمين. ان العلم يتطلب ان تذهب من الوجود الراهن الى ما قد يفوقه. ولكن لا تقبع في الفوقيات لتنزل الى ما هو تحت. تلمس، ترى، تتحقق. تقيم بناية عقلية بعد هذا واذا كان الله هو الحقيقة يلتقي كل رقي ذهني حصلته اذ لا يستطيع انسان ان يغيب الله اذا شاهده في قلب طاهر. امة العرب تجتمع حول حقيقة الأرض اولا ثم تصعد الى السماء.

#   #

#

ماذا يبقى بعد تكويننا الحضاري من أنظمة العرب لست اعلم. ولكن لا يقنعني قول مفكرين كثيرين عندنا ان الاميركيين لا يستطيعون ان يفرضوا علينا الديموقراطية. لماذا لم تقمها انت قبل التحدي الاميركي؟ واذا ذهبت معك ان اميركا عدوة العرب فما لي ولما تدعيه؟ الرفض العربي المبرر لأساليب اميركا ورفضنا لجيوشها لا يزكي هذا القول غير المبرر ان لنا اسلوبنا نحن في الديموقراطية. اذا عنت هذه تداول السلطة بحرية الانتخاب وتكوين حكومات من الشعب واذا عنت حرية التعبير بما فيه حرية الأديان والفكر والصحافة فهل لهذا كله اسم غير الديموقراطية؟ اما القول ان الشورى في التراث العربي أصل للديموقراطية فهذا كلام مردود لأن العرب لم يمارسوا الشورى الحقيقية الصادقة في اية حقبة من تاريخهم. فيقيت الآيات الثلاث المتعلقة بالشورى لا تطبيق لها سياسيا. كفوا ايها العرب ان تكونوا أسرى اللغة. ففي البدء كان الفعل كما قال غوته. هاتونا فعلا شورويا حقيقيا نفهم انكم تبنيتم الأسلوب الديموقراطي.

#   #

#

واذا انتقلنا الى مستوى آخر فالعرب طلاب لذة بالدرجة الاولى ويستمتعون بالبرامج المثيرة التي تصدرها الفضائيات اللبنانية. واذا جاؤوا لبنان فلكي يترفهوا بهذا اللون من الحرية ويجترؤون على اتهام الغرب بالإباحية. وهم لا يكرهون لبنان خمارة ومرقصا وارتضى لبنان نفسه كذلك. من اية سياحة يعيش؟ لست اعلم ان كثيرين من الأجانب يقصدوننا للتبصر في هياكل بعلبك وجبيل وسواهما.

ماذا يفعل اللبنانيون لترويض اولادهم على الخلق الكريم؟ كيف تربي الناشئة وتهوى فئة ليالي رافهة في رغد الفنادق الكبرى وتخشى العائلات «تعقيد» اطفالها وتدعهم يشاهدون ما طاب لهم ان يشاهدوا من برامج الليل المتأخر.

اللبنانيون المترفون يعيشون حضارة النهم. والفقراء يزداد فقرهم حتى حدود الجوع. وليس للجائع كلمة في جوعه. انه لا يشترك في السلطة ولم يترك له ان يفيد من الطبابة ولا من مدرسة راقية.

تريدون سنة جديدة بحق جددوا قلوبكم بالرحمة والمشاركة الانسانية السمحاء ولكن هذا يقتضي احساسا والحس عندنا آخذ بالجفاف والكفر قريب نتيجة للعوز. اي إله هذا الذي يسمح بفروق كهذه بين الطبقات، هذا لسان حال المحتاج عندنا. اذا جاءت السنة الـ2004 حاملة الشح تصبح القلوب كلها فارغة عتيقة.

اما اذا حلت الأعجوبة وانتقلنا الى ملكوت الحب وصارت الدولة كفيلة الناس جميعا فقد نبدأ مسيرة الرجاء. لا تبتسم شفاهكم قبل ذلك لأنكم لا تكونون من أنصار الحياة.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

الميلاد وما اليه / السبت في 20 كانون الاول 2003

يستهل متى إنجيله بقوله: «كتاب ميلاد يسوع المسيح» حسب الترجمة الأميركية المتداولة، واليسوعية تستهل بـ«نسب يسوع المسيح» اما في الأصل اليوناني فالعبارة هي «كتاب تكوين يسوع المسيح» وكأن متى اراد تكوينا جديدا للعالم مقابل سفر التكوين القديم لأن يسوع هو آدم الجديد الذي ينشئ عالما روحيا غير الذي انشئ بجسد آدم.

ما المسائل التي تحوم حول مولد هذا الرجل؟ وفق متى ولوقا امه مخطوبة لرجل اسمه يوسف عندما حبلت بابنها. السؤال المنطلق هو ما علاقة يوسف ومريم؟ هي علاقة خطبة بمثابة زواج غير انه بلا مساكنة ولا تنتهي الخطبة الا بطلاق شرعي موثق. قول الملاك ليوسف: «لا تحف ان تأخذ مريم امرأتك» توضحها ترجمة الآباء اليسوعيين الجديدة: «لا تخف ان تأتي بامرأتك مريم (وهي زوجته قانونيا) الى بيتك».

الموضوع الآخر متعلق بما نسميه المولد البتولي اي الذي لا رجل فيه وهنا يبدو السؤال: هل ظهر قبل ذلك نموذج في الديانات الوثنية، في الحضارة اليونانية-الرومانية او المصرية او عند الفلاسفة او في الشرق الأقصى؟ نجد فقط عند الكاتب اليوناني بلوتارك المتوفى حول السنة الـ521 هذا: «لا يستحيل على روح الله ان يقرب من امرأة وينبت فيها بقوته مبادئ مولد». غير ان بلوتارك كتب بعد الأناجيل ما يبطل إثبات تحدر متى ولوقا منه. اما في باقي الوثنية فنرى الإله مخصبا ومولدا بشكل فيه نوع من الجنس وهو اذًا جسديًا والد الولد المخلص. في المسيحية الحبل بيسوع خلق جديد وليس فيه مساهمة منشئ جسدي كما في الوثنية.

التساؤل حول النص: «ولم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» وفي معظم فصائل المخطوطات لم ترد لفظة بكر. وحتى لو صحت «بكر» فلا تحتم ولادة ابناء آخرين. تكون تسمية موافقة لما جاء في سفر الخروج 1: 13 «قدس لي كل بكر، كل فاتح رحم من بني اسرائيل». ما معنى اذًا لم يعرفها اذا استبان معنى جنسي للمعرفة وهذا غير محتم اذ قد يكون المعنى لم يعرف سرها كمالا. ولكن اذا تبنينا المعنى الجنسي فالنص ينفي العلاقة قبل الزواة ويصمت عما بعده لأنه مهتم بعذرية المولد وليس مهتما لسيرة مريم. مثال على ذلك لو سألت هل لازمت بيتك حتى الظهر فقلت نعم لا تكون قد أجبت بشيء عما بعد الظهر اذ لا يهمني الأمر. فاذا اخذنا حرفية النصوص لا نجد ذكر بتولية مريم بعد ولادتها يسوع. الإنجيل كتاب عن يسوع. البتولية يؤكدها التراث والذكر الواضح لها في المجمع الخامس.

#   #

#

ما حمكة الله في كون المولد كان عذريا؟ لقد اعطى بعض الآباء مبررا لهذا ان «ابنا واحدا لا يلد من أبوين» اي انهم اعتبروا ان بنوة المسيح للآب تنفي تحدرا من رجل، ورأوا في هذا في الا تلد من امرأة فقط إشارة على ان المسيح كان قبل ان يظهر على الأرض فلم يتكون في بشريته من زرع رجل ولا من رغبة رجل.

سؤال آخر يتعلق بتاريخ مولد يسوع. لا نستطيع ان نستنتج بدقة من العهد الجديد سنة الميلاد او شهره بسبب من تقاطع معطيات من النصوص والنقود والفلك ولكن قام إجماع على ان تاريخ المولد كان في السنة الرابعة قبل الميلاد قليلا قبل موت هيرودس اي يكون -حسب افتراضات العلماء- ان السيد ولد منذ 2007 من السنين. مجموعة إشارات تدل على انه ولد في الشتاء وفي الليل. اما تحديد العيد في الـ25 من كانون الاول فهو فقط من قبيل ان الكنيسة ارادت ان تكافح عيد ميلاد الشمس التي لا تقهر عند الوثنيين وتقيم مقامه عيد «شمس البر» الذي هو المسيح.

ما لنا وللتأريخ وهناك من كان اعظم من التاريخ. وفي هذا يقول بولس: «لما حان ملء الزمان ارسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدي الذي تحت الناموس لننال التبني» (غلاطية 4: 4 و5). قيلت اشياء كثيرة عن «ملء الزمان» منذ ايريناوس في القرن الثاني الميلاد. قيل الكثير في الفكر اليهودي عن انتصار الله على الشر. ثم تحدث بعض عن السلم الروماني او الفكر اليوناني كتهيئة للمسيح. لست أنكر شيئا من ذلك في حقيقة التاريخ. ولكن المهم ليس ماهيأ لظهور السيد. الوعود الإلهية أطلقت ما في ذلك ريب والله يزرع كلمات له في ارض التاريخ. غير ان يسوع هو تحقيق كل شيء. كلمات فيها خير وحق وجلال. الا ان المخلص كان هو الخير والحق والجلال. الكمال هو جاء من الكلمة الذي ليس خلاصة الكلمات ولكن تجسيد الكلمات او مطلقها بالحقيقة الكاملة التي كان يسوع يحملها. ليس زمانه إضافة على الأزمنة ولكنه ذروة الأزمنة وبهذا المعنى ينهيها لكونه انقضاءها.

من هذه الزاوية لا يجيء بعده زمان او لا معنى لأي زمان هو غائب عنه. هناك احداث تذهب واحداث تجيء. ولكن الذي لا يعمل معه يبدد او يتبدد. ولم يبق الا ان ننال التبني اي لنصبح ابناء بالنعمة، بميراثه بعد ان كان هو ابنا قبل ان يكون الكون، ابنا في كيانه. ويؤكد بولس وجه بنوتنا المشتقة في قوله: «والدليل على كونكم ان الله أرسل روح ابنه الى قلوبنا، الروح الذي ينادي: «أبّا، يا أبيَّ» وأﭕا هي اللفظة الآرامية التي كان الأطفال ينادون بها والدهم من باب الدلال لذلك نقلتها الى العربية ليس بـ«أبتِ» ولكن يا أبيَّ على وجه التصغير كما وردت بالعامية اللبنانية بلا الهمزة.

هذه هي الرسالة التي نقرأها في كنيستي يوم العيد فيما تروي الأناجيل حدث الميلاد وبيئته (مذود البهائم، الرعاة، المجوس) والتي منها معنى روحي يتجاوز الوصف والسرد. رسالة بولس تدخل الأعماق لكونها -كالايقونة البيزنطية- تجعل الميلاد فصحا مصغرا. فمنذ الآن لنا موعد مع الخلاص، مع الذي نزل لكونه «الذبيح قبل انشاء العالم» وليس لنا فيه حديث غير حديث حبه بالموت. ولهذا جاء عيد الميلاد متأخرا عن الفصح بقرنين. اجل ولد يسوع طفلا من مريم في الجسد. ولكنه ولد في تاريخ البشرية وضميرها لما اعطاها حياة في موته ووعدا بقيامته.

وحمل الذل في مذود البهائم لكي يتكرر بليغا على الجلجلة ويصبح ظفرا اخيرا ووحيدا للإنسانية كلها عن طريق الحب. ففي التجسد الذي «كان في صورة الله أفرغ نفسه (من مجده) متخذا صورة عبد وصار على مثال البشر وظهر في هيئة انسان فوضع نفسه حتى الموت موت الصليب» (فيليبي 2: 6-8). وما عاشه دائما في البشرة انه مارس الامحاء الكامل من اجل البقاء على الملء الكامل. فالألوهة لا تبيت الا في الانسحاق الذي مارسه الناصري كليا حتى لا يبقى فيه أثر للتراب.

ضياء كامل مخفي ما عدا هنيهة التجلي على الجبل. وانت لا تدرك هذا الضياء الا بقبولك البنوة الموروثة منه اي بارتضائك محق الأنا المقيت وانبعاثك في روح القداسة التي لا تأتي الا من خروجك الدائم من الترابية. واذا سلكت هذه الطريق تصبح مسيحا بوصفك صورة له ومشاركا في عطاء المحبة فيتسع جسده لك وتساكنه بالنعمة التي يرتضي ان ينزلها عليك.

هذا المسيح الذي انحجب في بيت لحم ورفعه الله اليه ولا تنظره عيناك انما لا يبدو للبشر الا بك. ولك ان تبديه بإيمانك والعامل الصالح او ان تخفيه بخطيئتك. واذا أبديته فهذا ميلادك واذا اخفيته كان موتك ولكنه يطالبك ان تخرج مع الإخوة الى القيامة كل يوم لنتمجد به كما تمجد هو بالآب.

ما كان ميلاده الا تمتمة لميلادك الحقيقي ان شئت ان تصبح قامة من نور.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

أجداد المسيح / السبت في 13 كانون الأول 2003

في الكنائس المسيحية ازمنة تهيئة لعيد الميلاد. من هذه الأزمنة -المراحل احد الأجداد الذي يحل في الكنيسة الارثوذكسية غدا- ويراد بالأجداد اولئك الذين سبقوا مجيء السيد منذ آدم أمن الشريعة الموسوية كانوا ام من حركة ابراهيم او كانوا من الوثنيين. فانحدار الناصري في بشريته من ابراهيم واضح عند متى ولوقا وتحدره من داود صريح عند بولس. اما تحدره من آدم فيوضحه لوقا ما يعني في قراءة فهيمة ان المسيح غاية الإنسانية منذ نشأتها وفي قراءة اعمق انه مرتبط بكل التراث البشري الذي سبقه وليس مرتبطا، حصرا، بالتراث العبري.

غير ان ما يهمنا في هذه الأسطر الوثنيون الذين لم تنظر اليهم المسيحية نظرة سلبية قطعية ولكنها رأت فيهم لمسات الكلمة الإلهية. فعند صباح العيد ننشد: «اذ نقيم تذكار الأجداد فلنسبح، بإيمان، المسيح المنقذ الذي عظمهم في جميع الأمم». ولفظة «أمم» مصطلح توراتي يراد به الأمم الوثنية. وتدعو الكنيسة الى تسبيحهم وهذا غير معقول ان لم يكونوا على شيء من معرفة الله.

وفي رؤية اكثر وضوحا قولنا في نشيد آخر: «لقد زكيتَ بالإيمان الآباء القدماء وبهم سبقت فخطبت البيعة التي من الأمم». جلي ان الآباء القدماء -ويعني بذلك اننا آتون منهم روحيا- هم آباء هذه الأمم الوثنية التي كانت بيعة (كنيسة) للمسيح على الرجاء اذ يستعمل كلمة خطبتَ ولم يقل تزوجت لأن الزواج قد تم على الصليب وبالبشارة.

في قطعة اخرى في صلاة السحر مدح لملكيصادق الذي لم يكن يسوع من صلبه وكان رجلا كنعانيا اي وثنيا صرفا حسب التصنيف الطبيعي للأديان. هذا جاء ذكره غير مرة في العهدين. غير ان المواضع الأهم لاهوتيا وردت في الرسالة الى العبرانيين حيث يقول الله لمسيحه: «انت كاهن للأبد على رتبة ملكيصادق» (5: 6و10 كذلك 6: 20). ثم يوضح الكاتب انه كاهن الله تعالى (على كونه من الأمم وهو الذي بارك إبراهيم «وله أدى ابراهيم العشر» ثم يقول: «وليس لأيامه بداية ولا لحياته نهاية، وهو على مثال ابن الله… ويبقى كاهنا أبد الدهور» (الإصحاح السابع).

فاللافت في هذا الكلام ان ملكيصادق ليس مثالا للمسيح ولكن المسيح مثال له بمعنى ان المسيح كان، بطريقة ما، في هذا الكهنوت الذي كان ملكيصادق يحمله، بصورة غريبة، في احد الشعوب التي كانت تعيش في فلسطين زمن ابراهيم.

#   #

#

استدلاننا حتى الآن ان رباط يسوع بالشعب العبري على وجوده ليس الرباط الوحيد فلوقا يمد الصلة الى ما قبل ابراهيم وكاتب الرسالة الى العبرانيين يهتم للنمطية الروحية القائمة بين المسيح وملكيصادق والكنيسة رأت لنا في الزمن الوثني آباء. النمطية توسع المسيح الى أبعد من جسده كذلك التسلسل الآدمي (وليس فقط الإبراهيمي) يجعل المسيح من البدء مصبا انسانيا وتاريخيا أشمل من اليهود. هذه الكونية تبطل اللاهوت الغربي المعاصر الذي يحصر المسيح في مركزية يهودية ويشدد على ذلك تشديدا عصبيا. وقد ظهر في هذه الحركة من يقول ان المسيحية فرقة من الفرق اليهودية في إصرار لتذويبنا في البوتقة اليهودية.

ازاء ذلك لا معنى لجعل المسيح آراميا. هذا يذهب ضد تأكيد العهد الجديد على ان يسوع متحدر من داود. لا ينبغي ان نشوش التاريخ بإسقاط صراعات حالية على الماضي. والأهم من ذلك ان الناصري واضح باستشهاده بالعهد القديم وفي تردده على مجامع اليهود (الكنس) في السبوت وتلاوته الأنبياء في مجمع الناصرة. معنى ذلك ان السيد كان يقرأ العبرية بسهولة وما كان يعرفها سوى الربانيين غير ان لسانه كان اللسان الآرامي وبه وعظ في مجمع الناصرة على نص من اشعياء. الى هذا ليس ما يشير الى انه كان يعرف اليونانية. فقط اليهود الذين عاشوا في الشتات اذا استوطنوا فلسطين كانوا عالمين باليونانية.

#   #

#

اما التواصل بين كتب العهد الجديد والثقافة اليونانية فأمر آخر. وهذه مناقشة كثيرة التعقيد وتتبدل فيها مواقف المفسرين. ربما امكننا ربط بعض الجمل القليلة لبولس بالفلسفة الإغريقية، بالرواقية مثلا. ولكن النَفَس العام في العهد الجديد ليس اغريقيا. هذا فكر شرقي، سامي. لذلك يحق القول اقله في زمن التأسيس ان المسيحية لا صلة لها باليونان.

غير ان المسيحين في القرنين الثاني والثالث قالوا ان اليونانيين كانت عندهم حقائق هيأتهم لاقتبال الإنجيل. وهذا ما سماه القديس الفيلسوف يوستينس الشهيد «الكلمات المزروعة» والكلمات جمع للفظة الكلمة (لوغوس) التي سمى بها الإنجيل الرابع المسيح. فالحقائق التي فيها خلاص كانت عنده حضورا للمسيح على طريق الاستباق وهي تاليا شبيهة بالنبؤة العبرية. غير ان اقليمس الاسكندري ذهب ابعد من ذلك وقال ان الفلسفة اليونانية عهد بين الله والأمة اليونانية اي انه استعمل اللفظة التي تطلق على التوراة والإنجيل. من هذا القبيل كان في الثقافة اليونانية ما هيأ لفكر المسيح بلا استمداد هذا من ذاك.

لا بد هنا من ان اؤكد ان يسوع الناصري لم يتأثر من اي باب بالفكر الهندوسي او الفكر البوذي. انه لخرافة القول ان السيد سافر الى الهند. الفكرة ظهرت فقط في القرن التاسع عشر عند كاتب انكليزي خالية من اي سند. الحجة الكبرى عندي انك لا تعثر على فكرة هندوقية واحدة في الأناجيل. هذا لا يمنع تلاقيا بشريا في الطاقة بين فكر وفكر. اما سؤال بعضهم اين كان المسيح قبل بلوغه الثلاثين فالجواب البسيط عنه انه كان يعمل نجارا في الناصرة ولا تسمح له التقاليد اليهودية بالتبشير قبل بلوغه هذه السن.

كل هذا الكلام سيق عن بشرية المسيح وهذه فيها تاريخ. وليس علينا حرج ان نقول ان يسوع الناصري يجيء في بشريته من فكر الأنبياء وقد يكون متصلا بالفكر العبري اللاحق لكتابة التوراة وهناك ما يدل على انه كان ملما بالمدارس التفسيرية القائمة في بلده مع ان شيئا لا يدل على انه كان مدينا لمذهب الرهبان الذين عاشوا في قمران. ولكنه كان يعرف المعمودية التي كان يجريها الفريسيون للدخلاء الوثنيين على الديانة اليهودية. يتخذ طقسا خارجيا ويملأه بمعنى جديد وهو موته وقيامته.

كل هذا لا يعطل كون المسيح بدءا مطلقا من حيث المعنى. وهنا أضيف البعد الإيماني في ما هو بدء فيه اذ يقول بولس: «ففيه خُلق كل شيء (بمعنى انه مكان روحي لبدء الخلق) كل شيء خلق به وله (بمعنى انه غاية الخليقة السائرة اليه في حركتها التاريخية). هو قبل كل شيء وبه قوام كل شيء (ذلك لأنه الكلمة المبدع). واذا أكمل بولس الرسول فكره ليتكلم على الخلاص يقول عنه: «هو البدء والبكر من بين الأموات لتكون له الاولية في كل شيء. فقد حسن لدى الله ان يحل به الكمال كله» (كولوسي 1: 16-19). وفي هذا يتخطى اجداده والآباء ويصير هو المنطلق لكل نبضة روحية في قلب العالم. ذلك انك لا تقدر ان تزيد شيئا على الحب. اجل هو أتى فكريا من الانبياء القدامى وفيه انصبت المعاني التي انبثقت في التراثات القديمة بما في ذلك حضارات الشرق القديم. غير ان طهّر كل ما سبقه واعطاه حياة صبت اليها البشرية التائقة الى الحقيقة ولكنها ما ادركتها الا به، ذلك ان البشرية كان يعوزها الحب الذي كشفه هو وحده كاملا مطلقا. وهذا الحب كان سر كل خير يتم وكل كلمة تخلص.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

الإنجيل برواية المسلمين / السبت في 15 تشرين الثاني 2003

هذا هو العنوان العربي للكتاب الذي وضعه طريف الخالدي اصلا بالانكليزية وصدر عن دار النهار معربا. ما هي صورة المسيح عند عدد من كبار العلماء المسلمين من بعد القرآن، هذا الهدف يضع الكتاب في لاهوت الأديان المقارن ومقاربة هذا العلم هنا مقاربة تناضح بين الإسلام والمسيحية من بعد التنزيل القرآني.

الدكتور الخالدي يأتي بـ300 حديث وحديثين منسوبة الى عيسى ذكرها مفسرون ومؤرخون ومتصوفة ويقدم لها ويشرحها بذكر مصادرها فيورد مثلا هذا الحديث عن عيسى. «ان الإحسان ليس ان تحسن الى من احسن اليك، انما تلك مكافأة بالمعروف. ولكن الإحسان ان تحسن الى من اساء اليك» وينسب هذه القولة الى احمد بن حنبل في كتاب الزهد والى ابن عساكر ويدل على الصفحة والأرقام وأخيرا يشهد ان هذا الخبر هو إعادة صياغة لما في انجيل متى 5: 46. احاديث جميلة معظمها مأخوذ من العهد الجديد مسكوبا بلغة الناقل. ما من شك ان هناك اقوالا اخرى لعيسى عند المسلمين ولكن عندنا هنا نماذج للروحية الإسلامية التي تعتمد القرآن قليلا في سرد سيرة عيسى واعتمدت الأناجيل القانونية كثيرا واحيانا قليلة نصوصا وردت في مصادر اخرى يحاول الخالدي ان يثبتها. ان اهتمام العلماء القدامى بالمسيح يسوع تفسيره بقول الإمام الغزالي عنه انه «نبي القلب».

من يقرأ كل هذه النصوص التي استخرجها المؤلف نماذج عن اهتمام المسلمين بالمسيح من ضمن تصورهم اللاهوتي يستدل على انهم كانوا في حاجة الى حب. ما طلع علينا به المؤرخ الصارم الخالدي باحثا هو أدب حب ليسوع الناصري وتبقى امينة للارثوذكسية القرآنية. جل ما يمكنني ان افعله في سطور قليلة كهذه ان اقول لك: إقرأ تلطف بما سوف تقرأ. اقرأ فيزداد ودك للناصري كائنا من كنت.

عندما تطلع على مراجع هذا المصنف أكانت إسلامية ام استشراقية ومبلغ التعب العلمي الذي بذله الكاتب لا يسعك الا ان تكبر الجهد. وكيف لا تكبّر اذا طالعت المقدمة التي وضعها الكاتب بتقنية علمية كبيرة وهي تكشف لك اننا امام بحث أكاديمي صرف لا يرتهن باية عقيدة ولكنه لا يخون عقيدة. يعترف بفضل من سبقه بما في ذلك المستشرقون. يعرض في «الخلفية التاريخية» من المقدمة ان أصول صورة المسيح القرآني هي من الأناجيل المنحولة او من الفرق المسيحية المنحرفة او من المسيحية المهودة. في قراءتي للكتاب لا يبدو ان الدكتور الخالدي يبت هذا الأمر وتفلت من المأزق بقوله ان الأهم هو «فهم افضل للنص (القرآني) من خلال نصه وسياقه» فيما يؤكد على «التنوع المسيحي» في ما يعرف اليوم بالعالم العربي.

ردة فعلي على هذا الرأي الأخير ان تعدد الكنائس لا يتضمن خلافا حول ألوهية المسيح وناسوتيته وصلبه وقيامته وان كانت العلاقة بين اللاهوت والناسوت فيه جاءت في غير قالب لفظي لم يؤثر على الإجماع المسيحي الدائم على اجتماع اللاهوتية والناسوتية في المسيح. السؤال الذي يطرح نفسه أكاديميا، تاريخيا على اساس النصوص هو هل ان السرد القرآني يلتقي مع الأدب الإنجيلي المنحول او هناك تطابق شبه نصي بين نصوص قرآنية والسرد المسيحي المنحول. على سبيل المثال نجد في متى المنحول ما يطابق في المعنى قول القرآن: «اني اخلق لكم من الطين كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طير بإذن الله» (سورة آل عمران، الآية 49). هل تأثر القرآن بهذه الكتابات التي لم تقرها المسيحية ام لم يتأثر؟ العقل الغربي النقدي يقول انا اطبق قواعد الأدب المقارن ولا افهم موقفا الا مأخوذا عن موقف اذا كانا متطابقين. انت لك ان ترى ان القرآن موحى. الخالدي لا يتطرق الى ذلك ولست انا اتطرق الى ذلك. ولكن اقل ما يقال في الأمر ان القرآن نزل في بيئة كان المسيحيون فيها يطالعون -على رغم توصيات الكنيسة- هذا الأدب.

كذلك نجد شبها بين سورة اهل الكهف وأصول مسيحية قديمة بعضها هرطوقي كما نجد عظة ليعقوب السروجي في المخطوطتين 115 و117 من مكتبة الفاتيكان تحوي حكاية سبعة نائمين في افسس لجأوا الى كهف هربا من اعدائهم الوثنين وأفاقوا بعد 196 سنة. كيف نفسر هذا الشبه مع القرآن؟ ليس في منطق الاستاذ الخالدي ولا في منطقي ان نخوض هذا.

في المحطة الثانية للمقدمة يؤكد المؤلف ان القرآن ينفي صلب المسيح وينفي ان يكون هذا مأخوذا عن بدعة الرائية «وهي من الجذر اليوناني ذوكيو بمعنى يتراءى او يبدو وهذا عنده يقابل التعبير القرآني الدقيق «ولكن شبه لهم» ويرد الخالدي ان استمداد هذا الموقف من الذوكية مستحيل لأن مسيح القرآن «انسان من لحم ودم» وكان في مذهب الرائية مجرد خيال. انا اوافقه في ذلك. ولكن لا يذكر الدكتور الخالدي القديس إيريناوس الذي دحض بدعة تقول ان سمعان القيرواني هو الذي صلب جهلا وخطأ بعد ان تغيرت هيئته وصار شبيها بيسوع فيما تحول سمعان الى هيئة يسوع وأخذ يسخر من الرؤساء». ما من شك عندي ان تفسير كبار المفسرين المسلمين «شبه لهم» بأنها تعني بديلا عن المسيح في الصلب تستند الى الأدب المنحول. وفي اعمال يوحنا المنحول ورد: «لست انا ذاك هو الذي صُلب… لم أعانِ ايا من الآلام التي نسبوها الي». وشيء عند كيرنثس الغنوصي الذي يفصل بين يسوع والمسيح ان يسوع «قد تألم ومات وقام من بين الأموات. اما المسيح فهو كائن روحي غير قابل للآلام. لذلك ترك المسيحُ (بضم الحاء) يسوعَ (بفتح العين) وصعد الى السماء».

ولكن هل يجزم القرآن حقا بعدم صلب المسيح؟ الآيتان المتعلقتان بهذا هما الآيتان 157 و158 من سورة النساء: «وقولهم (اي اليهود في رد القرآن عليهم) انا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لغي شك منه ما لهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا بل رفعه الله اليه وكان الله عزيزا حكيما». ما معنى «شبه لهم»؟ اوّل المفسرون جملة «شبه لهم» على شبه المسيح ألقي على رجل آخر فصلب هذا الآخر. الصعوبة الأخلاقية في هذا ان الله عاقب انسانا آخر على ذنب لم يرتكبه. الصعوبة الثانية هي ان المسيحيين ظلوا طوال 600 سنة ونيف ضحية لخدعة الهية. اما الصعوبة الكبرى فكون انجيلين ثلاثة من اصل اربعة كانوا شهودا عيانا على مسيرة الصلب. انسان قبض الرومان عليه وقادوه من قضاة اليهود الى بيلاطس البنطي الوالي الذي حكم عليه بالصلب وسلمه الى الجند الذين كانوا حريصين على تنفيذ الحكم وقيادة الرجل الى خشبة الصليب. رواية الحل الاستبدالي غير مقنعة. وقد كتب بولس الرسول حوالي عشر سنين بعد الصلب عن الصلب في رسالته الاولى الى اهل كورنثوس بعد تقصيه الخبر من الجماعة.

ثم تساءل الزمخشري في القرن السادس الهجري حول فكرة البدلية حول ما يشير اليه فعل «شبه» اذ يكتب: «فإن قلت (شبه) مسند الى ماذا، ان جعلته مسندا الى المسيح فالمسيح مشبه به وان أسندت الى المقتول فالمقتول لم يجر له ذكر. في القرن السابع الهجري طرح فخر الدين الرازي سؤالا يتعلق بما قد يحصل لو ألقي شبه رجل على رجل آخر. فقال: تنتج عن ذلك مشكلتان «اولاهما ان هذا يفتح باب السفسطة حتى يتعذر إثبات اي قاعدة اجتماعية كالزواج او الملكية مثلا. كما ان ذلك لا بد ان يؤدي الى القدح في شهادة التاريخ او التواتر».

ثم يفسر ابن قتبة على ان الجملة (مالهم به من علم الا اتباع الظن وما قتلوه يقينا) على انها تعني لم يقتلوا ظنهم باليقين. ويفسر الطبري ان الهاء في قوله «وما قتلوه» عائدة على الظن اي انهم لم يقتوا ظنهم يقينا».

هذا يقودنا الى ان القرآن لا ينكر موت المسيح ولكنه يتحدى البشر الذين ضللوا انفسهم بجهالتهم حتى اعتقدوا انهم سينتصرون على كلمة المسيح. الى هذا عندنا «اني متوفيك ورافعك الي». لقد دارت مساجلات كثيرة في الإسلام حول معنى «متوفيك» فقيل انها لا تدل حتما على الموت وقيل ان التوفي لا يفيد بالضرورة انه سابق للرفع. ولكن المعنى المباشر البسيط هو ان الله توفى مسيحه ثم رفعه من الموت. فتكون آيتا الصلب على غموضهما تعنيان ان اليهود على خطأ لما اعتقدوا انهم يقضون على عيسى ورسالته بالقتل والصلب ولما استطاعوا ذلك. «شبه لهم» انهم قضوا عليه ولم يقدروا ان يفعلوا ذلك.

النقطة الأخرى عند الخالدي ان القرآن ينبذ معتقد الثالوث الأقدس واستشهد بالآية 116 من سورة المائدة: «واذ قال الله يا عيسى ابن مريم أانت قلت للناس اتخذوني وامي الهين من دون الله» حتى آخر الآية. عندي ان هذه الآية لا تعني شيئا ضد الثالوث لكون المسيحية لم تؤله مريم لا في الكنيسة المستقيمة الرأي ولا في بدعة مسيحية. قد توجد آيات ظاهرها ضد الثالوث ولكنها منسوبة الى النصارى. من هم النصارى؟ هل هم المسيحيون اتباع الكنيسة ام انهم المسيحيون المتهودون الذين كانوا منتشرين في الجزيرة ومنهم ورقة بن نوفل؟ ما يظهر ضد الثالوث لا يقول به المسيحيون بل تقول به هذه الفئة من المبتدعين.

في محطة ثالثة يتطرق المؤلف الى المسيح في الإنجيل الإسلامي ليمهد لنصوص العلماء المنشورة في الجزء الثاني ولعل اهم ما فيها ان الإنجيل لم يكن معروفا بالعربية في عهد الرسول العربي واعتماده في ذلك ان ليس عندنا مخطوطة للإنجيل قبل القرن التاسع. طبعا هذا لا يعني شيئا لأن الأقدمين لم يكن عندهم تقديس للمخطوطات فتتلف او تحرق. فالعهد القديم ليس عندنا منه مخطوطة الا سبعة قرون بعد الميلاد. أيعني ذلك ان العبرانيين ما كانوا يقرأونه؟ الى هذا يشير هشام الكلبي الى راهب في اليمن كان يتلو الإنجيل واورد ذلك عرفان شهيد في كتابه (بيزنطية والعرب في القرن الخامس) ان وجود قبائل عربية وبعضها ذات حجم كبير كتغلب يدل ان القسس كانوا ولو تلوا الإنجيل بالسريانية يعظون العرب بالعربية وان الفحوى الأساسي للإنجيل كان متداولا. ولكن من الواضح جدا عندي ان النص القرآني ليس صدى للأناجيل القانونية. ولعل هذا يفسر عطش علماء المسلمين الى هذه الأناجيل كما اتضح من ايرادهم قصصها.

لم يبق من مجال لاختصار ما تبقى من المقدمة. انها تحاول ان تبين كيف تأسلم الإنجيل في اوساط المسلمين المتأخرين عن فجر الإسلام. اظن ان الحصيلة الروحية الخارجة عن الأكاديميات الصارمة تبيان المؤلف ان عيسى هو نبي القلب.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

الإكليروس / السبت 1 تشرين الثاني 2003

كلمة إذا صورناها عن اللفظ اليوناني تكتب “كليرس”بتسكين الكاف واللام وأضيفت الهمزة منعا لالتقاء الساكنين. وهي تعني “نصيب” أي ذلك الذي ناله اللاويون أو الأحبار عند تقسيم أرض كنعان فلم ينالوا نصيبا فيها إذ كانوا يتقاضون العشور فكان الله نصيبهم. أما في المسيحية فالذين هم أئمة العبادة فنعثر على تسميتهم “اكليروس”  فقط في القانون الكنسي وليس في العهد الجديد حيث يسمون أساقفة وشيوخًا والشيوخ ترادف قسساً أو قسيسين وهي سريانية أو كهنة في مصطلح الكنائس القديمة التي تعرب لسانها مع أن الكنيسة اليونانية تحافظ على كلمة الشيخ وكذلك ما تفرع في اللغات الأوروبية عن الأصل اليوناني priest، prêtre التي تعني أصلا الشيخ.

المعتقد المسيحي أن ثمة من دعاهم الله بنعمته وانتدبهم ليخدموا الرعية بالكلمة وهذه تتضمن طبعا الوعظ والتعليم وإقامة الأسرار الإلهية كالعماد والقرابين (القداس الإلهي) وما اليهما وهي امتدادات او تعابير عن الكلمة الإلهية ولا يمنحهم هذا امتيازًا. إنها شرف الخدمة وتواضعها وتكليفها وتعبها والمحاسبة الإلهية عليها والمراقبة الدائمة في أدائها والتطهر في سبيل إقامتها والدراسة الدائمة للقيام بواجبها. انه افتقاد الرعية وحمل أعبائها واتخاذها بالحنان والصبر اللذين لا يُحدان.

الاكليروس هي العبء الأثقل الملقى على عاتق من تحسبه أهلاً لحمله بعد دراسة وامتحان واستمرار فحص الفاحصين. وما قيل عندنا انك تطيعهم لأنهم في منصب يعلوك لكن الكلمة هي هذه: “أطيعوا مرشديكم واخضعوا لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم” (عبرانيين 13: 17) الكاتب لا يفترض انك تطيع أباك الروحي إلا لكونه مرشدًا ولكونه حريصا على خلاص نفسك إذ لا يخطر على بال الكاتب انه يقدر أن يكون غير ذلك. فانه قد اختير بسبب من قدرته على ذلك. فإذا اختارته النعمة فإنما يتكلم بقوتها وبما توحيه من مضمون. أنت لا تطيع بشريًا إلا بقدر ما انسكبت عليه الكلمة وهبّ فيه الروح ويقودك هذا حيث قاده.

هذه ليست فئوية بحيث يكون ناس فوق وناس تحت لأننا خاضعون بعضنا لبعض كما يقول بولس. ما من طاعة عندنا إلا للقداسة ولكوننا اعتبرنا أن فلانا تاب نجعله شماسًا وآخر استنار نجعله كاهنًا أو قسًا والثالث صار مألوهًا أي شع عليه المجد الإلهي نقيمه أسقفًا. هذا ما عبر عنه ديونيسيوس الاريوباجي المنحول في مطلع القرن السادس. فأنت لا تطيع الكاهن لمجرد كونه كاهنًا. أنت لست خاضعًا لجالس على كرسي. هو في الأصل لم يجلس على كرسي ألا لكون الله أجلسه.

في حكمتنا البشرية نحن لا نستطيع أن نفعل فوق طاقتنا. ندرب الرجل علميا وروحيا في معهد.  بعد هذا في الكنائس الشرقية نزوجه وننتظر أن نرى حكمته في تدبير عائلته ويشهد له القوم وأخيرًا نستدعي نعمة الله عليه لتقويه من ضعف وترشده من غي. قد يفسد في ما بعد. عندنا هنا مجموعة قوانين لتقويمه أو لومه أو توبيخه أو فصله. هذه هي قاعدة الرقابة التي تبدأ وتنتهي بعطف الأسقف وحنوه على الرجل. وأما أن يكون الأسقف غافلا عن حياته الداخلية عن رعايته وغائبا عن ضبطه الأشياء فهذا ممكن وكثير. وان يصبح الكاهن مهملا المطالعة ومتضجرًا من رعيته ومشتهيًا للمال فهذا أيضا كثير لان الشيطان موجود ولأنه يجلس أحيانًا على كرسي الأسقف ويفسد الكنيسة من داخلها. ولكنك سرعان ما ترى أن الروح القدس يستغني عن فاعلية الالكيروس إلا ما كان من إمامة العبادة فيرعى الكنيسة من فوق والأسقف يغط في النوم. من ذلك أنت تستمع إلى الكلمة ويعبر الله بها ولو كان الكاهن ساقطًا وغير متأثر بها إذا تكلم.

السؤال الشرعي المطروح هو كيف تطيع كاهنًا ساقطًا؟ انه لا يستطيع أن يأمرك بما يخالف الوصايا لأنك إذ ذاك تتسلح بالكلمة الإلهية إزاءه وترفض كلاما فيه كفر بالله. الخطيئة موجودة ولا تستطيع أن تبطل الكهنوت. فالذبيحة الإلهية قائمة ولو كان مقيمها في حالة المعصية وقد يكون الكاهن غارقًا في الذنوب ويناولك جسد الرب وأنت متناوله حقًا ولو كان الرجل أداة سيئة. وقد يعظك بما يناقض الكلمة فترمي السيئ في وعظه وتتمسك بالحسن ولو كان فم الرجل دنسا أو يداه نجستين.

التاريخ الكنسي مليء بالخطايا ونحن الذين ندرس هذا التاريخ نعرف الخطايا لكن الكنيسة هي جسد المسيح أي كيانه على الأرض وما ستؤول إليه في اليوم الأخير وفي صلواتها ورتبها ما يقدسك ويعزي وأمام عينيك “سحابة من الشهود” أولئك الذين انتقلوا إلى رؤية الله ويحيطونك بالحب وحولك الشهود الأحياء من أهل الرعية ويحيطونك أيضا بالحب.

المهم أن تحس أن لا شيء في العالم بهي مثل عباداتنا ولا شيء مثلها يحل السماء فيك وهي قادرة إن استلهمتها وتمثلتها وشبعت منها -ولن تشبع- على أن تنقلك إلى الملكوت ويبقى فيك الملكوت يوما أو يومين أو ثلاثة وقد تقع خلال أيام حتى يحل يوم الأحد اللاحق وتعود إلى السجود والاستمتاع بالإنجيل وذوق جسد الرب ودمه الكريمين حتى يصيرا من لحمك ومن دمك ويتحول عقلك إلى فكر المسيح.

يذهلني بعد هذا أن يترك قوم الكنيسة لتصورهم خطايا الكاهن في القرية أو في الحي كأنه هو الكنيسة مع انه يصبح لا شيء إذا سقط ولك أنت أن تلملمه بالنصح والوداعة عله يعود وتقوي محبتك له حتى يخجل ويرتدع وتتعاون والمحبين لتعزيته من الافتراء الذي يفترى به عليه أو من الإهمال الذي يصيبه أو من الفقر إذا بخلت عليه الرعية وتبقى معتبرا انه على سقطاته أيقونة المسيح ولو اسودت قليلا أو كثيرا ذلك أن ربه قادر على أن ينقيه. وتصمد وتصمدون لان السيد المبارك قاد كنيسته خلال عشرين قرنا ببشر أقامهم رعاة أو قادها بلا رعاية أرضية وعطف من السماء على كل واحد فيها.

“الكنيسة جماعة الخطأة التي تتوب” (القديس افرام السرياني). أن تتوب عميقا وكاملاً هو أن تصبح إلها ليس فيك شيء غير الله. قد يكون الله في جبة راعيك وقد لا يكون لكن المسيح حي ويحييك إذا أنت جثوث وبكيت وتبت إليه والى أبيه. إذ ذاك تصبح أنت نصيب الله. وبهذا يجعل الله نفسك نصيبك أي تصير أنت وربك روحا واحدة.

لذلك يخطئ من قال، بصورة قطعية حصرية، إن الاكليروس ينشئ الكنيسة. هذا صحيح بقدر ما يطيع هذا الاكليروس الكلمة. الحق أن الكنيسة هي التي تنشئ الكاهن والأسقف لانهما لا يجيئان إلا بوضع الأيدي (الرسامة) أي أن النعمة تجعل الإنسان خادما لها. والنعمة التي تقيم الكاهن هي إياها التي تقيمك في المعمودية. والكلمة الكاملة في صحتها أن القديسين ينشئون الكنيسة وأننا ننمو إذا تشبهنا بهم. ولذلك لا تستقيم أمورنا بأننا نقيم كهنة مثقفين رساليين ولو كان هذا غاية في الأهمية. لكن أمورنا تستقيم إن أحببنا بعضنا بعضا وثابرنا على الدعوة وكلمنا الناس جميعا على المسيح “في وقت مناسب وغير مناسب” وهكذا تصح الكلمة: “آمنت ولذلك تكلمت”. في هذا نحن مقصرون وتأكلنا المآتم والأكاليل والاجتماعيات التي لا بد من القيام بها. لكن البهاء هو أن يصبح كل منا مسيحا آخر وان يتجلى كل يوم حيث أقام ليرى الناس نور المسيح ساطعا فينا ويحسوا أن كلمتنا هي كلمته.

أنت تكون قد أصبحت كاهنا إن لاحظت أن “الأولاد جياع وليس من يكسر لهم الخبز”.  إن أنت تجندت لكسر الخبز الإلهي للجياع تصبح كاهنًا عظيمًا وتغفر لك خطاياك. نحن لسنا في حاجة إلى شيء آخر.

Continue reading
2003, جريدة النهار, مقالات

كتاب خالد / السبت في 30 تشرين الأول 2003

سأحدثكم عن كتاب خالد وعلى سبيل الحصر عن الفلسفة الدينية التي تبدو الهاجس الكبير في هذا السفر الكبير ولا أغوص على ديانة أمين الريحاني نفسه بسبب من القصص والبنية اللذين لا يتيحان لنا ان نحسب هذا المؤلف استعارة لسيرة ذاتية. فمن المؤكد ان وجه خالد مركب وأننا امام نص يريد الريحاني ان يراكم فيه من متاع دنياه الذوقية أشياء كثيرة من أهمها حديث ماروني في مطالع القرن العشرين عن كنيسته وحديث مفكر سوري نشأ في حضن التوحيد على غناه واستوعب الكثير من الثقافة الانكلوساكسونية التي كانت كالغرب كله تتغذى من المسيحية من جهة وترزح تحت أخطاء تاريخها من جهة وكل هذه محشو في حبكة رومنسية خلابة. ما أذهلني في الرجل أديبا ومتأملا انه ارتفع بقوة هذا السرد الى مستوى عال جدا في الادب العالمي.

قد تختفي بعض الحلاوات وراء الترجمة العربية التي كانت بين يديّ ولكن يبدو لي اننا نستطيع قراءة الفلسفة الدينية بلا تشويه كبير.

باختصار كلي لم أعثر في الكتاب على نكران عقيدة كاثوليكية إلا اذا اعتبرنا تعظيم الرجل للديانات الاخرى وانتماءه الروحي اليها لونا من ألوان التلفيق والمساواة بين الاديان تلفيقا. ولكن صاحبنا المتأذي من ممارسات الكهنة والرهبان يهجوهم هجاء مرا وكأننا امام اقرار نظري بالكثلكة ونفيا لبشريتها الساقطة ما يجعلك تحس انه يعلو في مقام التأملات العلوية ويسف في وصف المسالك وكأن له غيرة على كنيسة نقية وكأنه وريث لهذا اللذع الذي لذع به المبشرون الانجيليون الاوائل كنيسة التراث مع اني لم ألمس أي أثر بروتستنتي في كتاب خالد. يوغل في التنكيل حتى التهكم. هو ورفيقه شكيب “غسلا يديهما من كافة الخدعات والمكائد وكاهن الجالية السورية أحلهما من خطاياهما”. هذه السخرية لم تحل دون تأكيده انتماءهما الكاثوليكي.

ولكنك لا ترى عنده ارتباطا بين المسيحية والحياة الروحية التي يشتهيها لنفسه في أميركا. على ذلك وجه واحد وضاح هو وجه ذلك الراهب الطيب الذي كان يزرع الكرمة وكأن انسانيته الطيبة أتته من فتاة أحبها قبل ترهبه. وعلى رغم تعلق خالد بالنساء بحب او بشبق وفي كثرة من الاحايين بالخيال لا تراه يسائل نفسه عن مسلكيته هذه الا اذا استقرأت انت ان الحب وهو أرقى عاطفة في الكتاب كان المزكي لهذا التوثب الجنسي الذي كان عنده وفي هذا كان سباقا – عند حد تتبعي – ببضع عشرات من السنين لبيئات مسيحية متحررة تقول هذا القول. هنا لا أرى فصاما في شخصية خالد ولئن أدركت ضعفات عند من تمسك بأهداب الدين او الديانات المختلفة التي يقول بها جميعا هنا وثمة. النص تلفيقي ما في ذلك ريب. هل الشرق المتعدد المذاهب والبهائية منها يدفع الى هذا الموقف؟ هل البراغمية الانكلوساكسونية الموغلة فيه ترادفها النسبية العقدية؟ هل سحرته بعلبك بوثنيتها وقبضت عليه عشتروت الجبيلية وفي موضع يدين بالآلهة هي ثقافته الروحية الكاملة ام ان سوريا التي هي بلده بوتقة منذ فجر وجودها وخلال كل تاريخها البوتقة التي تنصهر فيها كل الديانات ولم تخرجه اميركا المتعددة المذاهب من هذه البوتقة.
كيف توفق بين تأكيده ان الكنيسة أمر حيوي وجوهري بالنسبة الى العافية الروحية وانتمائه الى كل الديانات بآن معا؟ ما هي مكانة التقمص التي تذكر مرة واحدة في الكتاب بين هذه الاديان التوحيدية التي تنكر التقمص بوضوح لقولها بالقيامة. مرة يقول: “انا مسيحي بنعمة الله” مرددا صيغة من كتاب التعليم المسيحي الذي تربى عليه الاطفال الكاثوليك في العالم.

اذا رمنا اعتبار الرجل منطقيا يبدو لي ان همّ صاحبنا هو الصوفية منذ العهد الفينيقي الذي كثيرا ما عاد اليه. يقول الفينيقي الصوفي ويقول التقشف الصوفي. على ذلك ليس التصوف عنده قائما في ذاته، اذ يؤكد ان الايمان هبة سماوية. للتصوف اذا مضمون وليس مجرد موقف تأثري. ينزل التصوف اليه من الايمان ويبقى السؤال أي ايمان او أية عقيدة. بعد صدور الكتاب بعشرين سنة يرى برغسون التصوف في غير تراث على ترجيحه المتصوفة المسيحيين. أظن ان خالدا في الاخير لا يرى الا هذا الخط المتعالي على كل المؤسسة الدينية.

أجل لا يخلو أمين الريحاني من رؤية التناقض بين المؤسسة الدينية والروحانية اذ يقول (ص160): “انا أكره هذه الأبوة الروحية حين ترتدي ثوب الكاهن وقلنسوة الراهب وسترة الحاخام الطويلة أو جبة الشيخ”. وهذا ما أعلنه على الملأ: “قداسة الفرد، وليس العائلة او الكنيسة”. بكلام آخر لم ير ان الكنيسة هي حركة الله الى الناس في قول الرب: “سأكون لكم إلها وتكونون لي شعبا” بمعنى ان الله يتحرك نحو البشر وهم يتكونون بحركته اليهم. وفي هذا المعنى ليست الكنيسة جسما مجتمعيا ولكنها كما يقول سرجيوس بولغاكوف حياة في المسيح. هناك غشاوة منعت الريحاني ان يرى ذلك وأن يغفر للناس زلات لهم وتقصيرا. قد يكون معظم رواد النهضة قوما لا يرون الكنائس الا مجتمعات طائفية يضغط عليها تاريخها وتولد مسوخا. كيف يجمع هذا الى تأكيداته المتكررة على انه مسيحي؟ في ذروة الرفض يقول: “هناك نجم واحد فحسب في هذا الفضاء الغسقي الغامض فوقنا، وهو لكم مثلما هو لي أنا. وذاك النجم إما ان يكون الاخير في الظلمة الابدية او الأول في الفجر الطالع. اما انه النجم الاول او الاخير في الليل. ومن ذا الذي يقول لنا ايهما هو؟ ليست الكنيسة، على وجه التأكيد ولا هي الدولة الى ان يقول “ان كل فرد من الناس عليه ان يفكر لنفسه وان يريد لنفسه”.

يبقى الله عنده غير منازع فيكره الالحاد ويحتقره. ربما لأنه تأكيد او جزم لا سند له. ولكن على تأرجح الكاتب الدائم بين قيام الكنيسة والغائها يرى الانسان في الظل الناقص الشبه الظل من الايمان والشك. بعيد هذا بأسطر يقول: “سواء أكان الدواء السحري هو الكنيسة الأم أو الشعر او الفلسفة او الموسيقى، فالنتيجة هي ذاتها ما لم يكن الباعث المحرك صادقا متدينا باخلاص. ونقي التقوى، وساميا وانسانيا”، دينيا ومتدينا باخلاص ولكن أين وبأي ممارسة أي بأي فعل تجسدي لهذا الايمان. ليس نفي للمعابد ولكن ليس من تأكيد لها حقيقي. المهم تربية كرمة للعنب وزراعتها وهذه التربية يجب “ان تكون بصدق واخلاص ورع”. ولا مانع من ان تكون الكنيسة الى جانب الكرمة. أجل لم يخطر على باله ان الناسك الذي ينتج العنب انما قصده الاساسي ان يجعل كأس الخلاص ريا لا مهرب اذا من الجماعة المصلية.

ليس عند الريحاني فرادة في انتقاد الكنيسة المسيحية. كل هذا قيل منذ القرن الثالث وردده الغرب العقلاني والفلسفة العلموية. الريحاني يرى ان المسيحية والكنيسة يرعيان الجهل والتعصب. وعندي ان الجهل والتعصب قد يكونان مسببين اكثر منهما سببين ويختاران الدين وسيلة فالنفس أمّارة بالسوء أكانت دائنة ام غير دائنة وعند كتابة خالد ما كانت الماركسية اللينينية قد ظهرت ولا النازية ولست أعرف في الحياة التاريخية تعصبا وتقتيلا مثل هذا الذي انتجته الايديولوجيات. مع ذلك يصر على قول ان “أخرجوا من خرافات الشيوخ وعلماء الدين، ومتاهات الصوفيين الجدباء، والمستنقعات المميتة لرجال اللاهوت والكهنة”. يريد صوفية ولا يريد صوفية. كنت أتوقع ألا يذهب أديب كبير كهذا الى التعميم الظالم وان يشهد أن رابعة العدوية التي يذكرها بحب والبسطامي وابن الفارض والحلاج وأوغسطينس وفرنسيس الاسيزي ويوحنا الذهبي الفم وباسيليوس الكبير وغريغوريوس بالماس وسواهم لم يغرقوا البشرية في مستنقعات مميتة. تحس كأن الرجل قهره كاهن الفريكة او قس في مانهاتن وانهما كل التاريخ.

متعب تتبع ظلم الرجل. هكذا، مجانا يقول ان اصلاح جمال الدين الافغاني ومحمد عبده باطل. “انه اصلاح يستند الى الشعوذة اللاهوتية والسفسطات او المغالطات التقليدية” في البحر الديني كله مذهب لا ينتقده ابدا وهو البهائية ومذهب يعجبه وهو الوهابية مع انهما على نقيضين.

ما ديانة خالد الأخيرة؟ أظن ان مفتاح قناعته قوله: “سأقيم مذبحا للروح في هيكل المادية، ومذبحا للمادية في هيكل الروح. ولكن الروحية عنده ليست النكران الزهدي للذات، هذا النكران الذي ينتهي الى نوع من البلاهة”. عنده اخلاص ثنائي للمادي والروحي. واذا فهمنا ان مادية الغرب – وهكذا يسميها – هي التكنولوجيا والعمل وبناء الدولة في لحظة يقول ان الغرب يعني بالنسبة اليه الطموح والشرق يعني القناعة حتى يؤكد: “قلبي يقيم دائما في الواحد منهما، وروحي في الآخر”. ما معنى هذا التمييز بين القلب والروح. مع ذلك لا نجد مرة تعريفا عن الروح. يبدو لي انها تلك الافهومة التي جعلت بين اميركا والمهجريين فاصلا وكأنها لفظة تحمل عندهم نوستالجيا الشرق.

الروحي والمادي معا بهذا العطف الغامض ليسا بديانة. ما ديانة خالد اذا في ما عبّر عنه صريحا؟ يقول حرفيا لرفيقته البهائية: “الحب هو الديانة الجديدة، والديانة الوحيدة… الحب هو بهاء الله – والله هو بهاء الحب”. وحتى لا تلتبس افهومة الحب او مضمونه قال هذا عندما كانت يده ممدودة الى صديقته وهنا قال: “كل شيء في الحياة يجب ان ينحل الى الحب. فالحب هو المذيب الالهي. الحب هو عظمة الله وبهاؤه”. قال هذا في موقع مغازلة فالحب هنا إيروسي ولا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بالمحبة الانجيلية.

مع تركيز الرجل على الشرق والغرب والحديث عن الروح والمادة، مع قبوله ورفضه للديانات وذلك في حركة واحدة، في تلاوين هذه اللوحة الكبيرة التي هي ككتاب خالد يبدو لي ان قلب الكتاب هو لقاء الرجل بهذه الداعية البهائية التي أراد ان يوغل في جمالها وأبت يتحول من أراد ان يتنطح الى الفكر الى شاعر يغني المرأة ويجعل من لقائه بها ديانة يحملها في قلبه.

ألقيت هذه الكلمة، الخميس الفائت، في ندوة حول أمين الريحاني لدى “صادر للفن والثقافة”.

Continue reading