2004 / السبت في 27 كانون الأول 2003
اذ نحيا على الرجاء نستقبل العام الجديد فالأيام متشابهة في حسنها وقبحها ما لم ينقض علينا نيزك بهاء او رضاء ويجعل لك في الأرض قطعة من فردوس. عام ينقضي وعام يطل ما هو الا مصطلح في التقويم ورجال الإعلام يذكرون بالأحداث وقلة منا تراجع النفس علها ترى خيرا حل فيها او سوءا انتهك براءتها.
لا يستطيع احد ان يغفل الأحداث والرهيب منها دموي. السنة التي تنقضي سنة العراق والدم فيه كما الدم الفلسطيني سكيب وليس ما يبشر بخير قريب ولبنان تصغر احلام بنيه اذ يرى الصغارة والاستهتار في كل مكان ولا اريد ان أحزن احدا فقد اكل الحزن من نفوسنا وشرب وكأن احدا ليس قابضا على زمام الأمور اذ شلت يده او تعطل عنده الفهم او يئس وظل متربعا على آرائك مجد تبدد والأمة في إحباط يكسر الهمم ويبطل الأشواق.
ولكن على رغم الأسواء وربما بسبب منها أخذ المفكرون العرب ينتقدون الوضع العربي كله بصراحة وصدق وتحليل لم نعهدها من قبل وهذا جيد. غير ان إحساسي انهم كثيرا ما لزموا الوصف وآخذوا الأنظمة ولم يفحصوا الطبع العربي. أليست الأنظمة هذا نتيجة العقل العربي؟ هل الاستبداد والظلم والسلطوية في الأخلاق العربية في البيت، في الزعامة (وهذه كلمة عربية لا تقابلها مفردة في لغات الغرب) ملازمة لبنيتنا النفسية؟ ما الإنسان العربي، بقناعاته وقوامه الداخلي والمعتقد الذي يسيره؟ ما تاريخه، ما تاريخ الدم في الحياة العربية؟ هذه التعرية للإنسان العربي ان لم تحصل في صدق كامل وتفحص دقيق شجاع لا نصل الى شيء وتبقى ايامنا الآتية كالماضية غرقى فتنة دائمة وباطنية مريضة ونلقي الشعر ونغني ماضينا لنحجب فقرنا الإنساني العميم.
لم يدخل العرب بعد طور العقل النقدي لكل شيء وطريقة التعامل مع المقدس. ينقدون الأدب فقط اي الكلمة الحلوة ولكن هذا لا يهز اي ركن من أركان الوجود الأسطوري ولا يمس غطرسة الجمال ولا يحد من التباهي. انا لا اعرف ادبا تعاطى المدح والهجاء كنوعين ادبيين مثل ما عندنا نحن العرب. في حال المدح هذا يعني التزلف وفي حال الهجاء البغض. ولست متيقنا انهم تغزلوا بليلى ولم يتغزلوا بهند. وغالبا ما تغزلوا بالمرأة إطلاقا ولك ان تضع لها اي اسم شئت.
# #
#
يقيني ان الأزمة الفلسطينية-الإسرائيليةاذا حلت وكذلك مأساة العراق سيبزغ نور للعرب جميعا او تبدأ مغامرة فكر جديد او هكذا طاب لي ان احلم. عندما اسمع بعض القياديين الفلسطينيين يحللون اوضاعهم احس بالنضج الكبير الذي ولده الألم الكبير. وشيء كهذا يجري على الساحة العراقية. ولكن علينا ان ندعو كثيرا ونرجو كثيرا لينتقل الإنسان العربي الى البنيان الحضاري الكبير الذي لا مهرب فيه من الغرب وان كانت لنا روحيتنا في التعامل مع الغرب وفرادتنا. ولكن الإقبال العصري على مدنية بناءة في ربوعنا لا يكتفي بالإشكالية التي طرحها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو. ان التطور المذهل للعلم والتقنية وظهور فلسفات جديدة يجعلنا امام تحديات لم يكن لها مثيل في زمن النهضة العربية الاولى. والإصرار على ان الوحي فيه إجابة عن كل المسائل او يتضمن كل العلوم العصرية ولو تلميحا يأسرك في إطار التفسير اي في إطار اللغة. والعربية قد تكون لغة اهل الجنة ولكنها ليست لغة الذين سبقونا اشواطا في العلوم والتقنيات.
الكلمة الإلهية تتوجه الى القلب وتجعلك انسانا ناجيا وتهذب قلبك ولكنها ليست موسوعة علمية وهذه تأتيك من ابحاث ومختبرات ومراصد وحفريات في الأرض والاقتصاد السياسي والحقوق الوضعية وما الى ذلك. ان لم يكف الإنسان العربي ان يكون ماضويا ومحض لغوي فالحياة العربية لغو كلها.
# #
#
فلننظر اذًا الى المستقبل لنصنعه. انه اهم من الماضي يصنعنا. مسيرتنا هي في الرجاء ولكنها ايضا في العمل، في التنقيب. والشجاعة هنا تعني عدم الخوف من اي شيء والإيغال في كل شيء عقلي. ما علاقة المعقول بالمنقول مسألة هزت الفكر العربي طويلا. هذه مسألة انتهت لأنك لا تستطيع في هذا العصر مواجهتها الا بعد تحصيلك كل ما هو عقلي في العالم. ولست اوحي بهذا ان تضع الوجدان المحب خارج شخصيتك لأن العلم اليوم ولاسيما في الفيزياء اخذ يدل على الله وعلى الحرية. العرب لم يتعلموا الاستقراء لأنهم يستنتجون كل شيء من كلمات الأقدمين. ان العلم يتطلب ان تذهب من الوجود الراهن الى ما قد يفوقه. ولكن لا تقبع في الفوقيات لتنزل الى ما هو تحت. تلمس، ترى، تتحقق. تقيم بناية عقلية بعد هذا واذا كان الله هو الحقيقة يلتقي كل رقي ذهني حصلته اذ لا يستطيع انسان ان يغيب الله اذا شاهده في قلب طاهر. امة العرب تجتمع حول حقيقة الأرض اولا ثم تصعد الى السماء.
# #
#
ماذا يبقى بعد تكويننا الحضاري من أنظمة العرب لست اعلم. ولكن لا يقنعني قول مفكرين كثيرين عندنا ان الاميركيين لا يستطيعون ان يفرضوا علينا الديموقراطية. لماذا لم تقمها انت قبل التحدي الاميركي؟ واذا ذهبت معك ان اميركا عدوة العرب فما لي ولما تدعيه؟ الرفض العربي المبرر لأساليب اميركا ورفضنا لجيوشها لا يزكي هذا القول غير المبرر ان لنا اسلوبنا نحن في الديموقراطية. اذا عنت هذه تداول السلطة بحرية الانتخاب وتكوين حكومات من الشعب واذا عنت حرية التعبير بما فيه حرية الأديان والفكر والصحافة فهل لهذا كله اسم غير الديموقراطية؟ اما القول ان الشورى في التراث العربي أصل للديموقراطية فهذا كلام مردود لأن العرب لم يمارسوا الشورى الحقيقية الصادقة في اية حقبة من تاريخهم. فيقيت الآيات الثلاث المتعلقة بالشورى لا تطبيق لها سياسيا. كفوا ايها العرب ان تكونوا أسرى اللغة. ففي البدء كان الفعل كما قال غوته. هاتونا فعلا شورويا حقيقيا نفهم انكم تبنيتم الأسلوب الديموقراطي.
# #
#
واذا انتقلنا الى مستوى آخر فالعرب طلاب لذة بالدرجة الاولى ويستمتعون بالبرامج المثيرة التي تصدرها الفضائيات اللبنانية. واذا جاؤوا لبنان فلكي يترفهوا بهذا اللون من الحرية ويجترؤون على اتهام الغرب بالإباحية. وهم لا يكرهون لبنان خمارة ومرقصا وارتضى لبنان نفسه كذلك. من اية سياحة يعيش؟ لست اعلم ان كثيرين من الأجانب يقصدوننا للتبصر في هياكل بعلبك وجبيل وسواهما.
ماذا يفعل اللبنانيون لترويض اولادهم على الخلق الكريم؟ كيف تربي الناشئة وتهوى فئة ليالي رافهة في رغد الفنادق الكبرى وتخشى العائلات «تعقيد» اطفالها وتدعهم يشاهدون ما طاب لهم ان يشاهدوا من برامج الليل المتأخر.
اللبنانيون المترفون يعيشون حضارة النهم. والفقراء يزداد فقرهم حتى حدود الجوع. وليس للجائع كلمة في جوعه. انه لا يشترك في السلطة ولم يترك له ان يفيد من الطبابة ولا من مدرسة راقية.
تريدون سنة جديدة بحق جددوا قلوبكم بالرحمة والمشاركة الانسانية السمحاء ولكن هذا يقتضي احساسا والحس عندنا آخذ بالجفاف والكفر قريب نتيجة للعوز. اي إله هذا الذي يسمح بفروق كهذه بين الطبقات، هذا لسان حال المحتاج عندنا. اذا جاءت السنة الـ2004 حاملة الشح تصبح القلوب كلها فارغة عتيقة.
اما اذا حلت الأعجوبة وانتقلنا الى ملكوت الحب وصارت الدولة كفيلة الناس جميعا فقد نبدأ مسيرة الرجاء. لا تبتسم شفاهكم قبل ذلك لأنكم لا تكونون من أنصار الحياة.
Continue reading