من كتب يكتب من جوع. يحس أنه يوجد إذا قال. الجائع يأكل أي يأخذ فيوجد. الكاتب إذا أعطى يوجد. الجائع هو بطنه. الكاتب هو كلامه ويؤخذ. هو غير موجود لنفسه ولو أغري أحيانا بالسيطرة. إذ ذاك لا يكون كاتبا عظيما إذ ليس من كتابة الا في الحب.
غير صحيح أنّ غايته في الكتابة أن يتحقق. هذا قد يأتي على الدرب. ليس خارج المحبة من غاية. الأطهار يحبون بالخدمة. الموهوب عقليا يحب أن يقول الكلمة. هذا ليس خياره. هذا ما صنعه الله فيه.
أنا لا أعتقد أن ثمة ناسا مغلقين. صح أن الإنفتاح درجات ولكن الإنسان أيا كان هو للآخر. يختنق بلا انفتاح. الكاتب يحيا في داخله لأنه يكتب. يحيا لأنه يحب. ما الأدب الا انك لا تعيش الا إذا قلت شيئا للناس. هو ترجمة من ترجمات المحبة. القديسون الصامتون كانوا أدباء لأنهم هكذا كانوا يترجمون الله.
الكلمة نير وضع عليك. تخون إن لم تقلها. الكاتب مجرد رسول، ليس خالقا. «في البدء كان الكلمة» (يوحنا 1: 1) وأنت لا تزيد شيئا على الكلمة. اختارك الله لتقولها. وضع فيك طاقة لذلك. ليس لك في ذلك شيء. أنت تأخذ طاقتك من فوق. غير هذا ادّعاء. نحن ليس لنا كلمة. كلمتنا زينة فقط لما قيل إلهيا. لذلك كان القديسون يختفون وراء الكلمة. كان يذهلني دائما لما كنت أقرأ عند آباء الكنيسة قولهم إنهم يرددون ما قاله الأسلاف. ما ادّعى أحد منهم شيئا لنفسه. المبدعون الحقيقيون يعرفون أنهم يترجمون الله ولا ينسبون شيئا فيهم الى أنفسهم. الإنسان لسان الله أو ليس بشيء.
ما علاقة الكاتب بالقارئ؟ الكاتب المؤمن لا تهمه هذه العلاقة. يسعى الى إقامة صلة بين القارئ وربه. الكاتب ليس خالقا. إنه مترجم. يترجم حسّه بالخالق بكلام بشري. الكاتب المؤمن لا يعرف نفسه الا دليلا على الله. ليس عنده كلمة. إنه غارق في كلمة الله تلبسه كما هي تشاء. عندما نقول عن شاعر إنه مبدع هذا من باب التجاوز الأدبي. أعظم شاعر في الكون ناقل الشعور الإلهي لأن الله استعار لغة البشر ليخاطبهم.
أنت لا تكتب. الله يكتب. لما قال الإنجيل الرابع: «في البدء كان الكلمة» أظن أنه قصد أنّ الكلمة كان في البدء وفي الآخر بدليل قول الله: «أنا الألف والياء، البداءة والنهاية». أنت لا تزيد على قول الله حرفا أو فاصلة. أنت لا تخلق. أنت تفسّر. علاقة الكاتب بالقارئ أنه ينقل كلمة الله إن كان كاتبا عظيما. يلبسها ثوبا بسبب وضعنا البشري. ولكنها لا تكون كلمة عظيمة الا إذا كانت مخفية وراء ثوب إلهي. عندما قال الله: «أنا الألف والياء» أظن أنه قصد أنك لا تزيد بكلامك حرفا على كلامه وأنت كاتب عظيم فقط إن أوضحت كلامه اذ تصبح إلها. ألم يقل هو: «أنتم آلهة؟». ذلك أنّ الألوهة كامنة فيكم. أعرف أنّ هذه مسيحية ولكن ماذا تعني لي الألوهة إن لم تكن منسوبة؟ أرجو أن يفهم المسلمون بعمق ايمانهم أنّ هذا ليس بتجديف والا ماذا تعني أن للرب صلة بي. كيف يصل إن لم يتصل، إن لم يلتصق ويصير إياي وأصير إياه بالحب؟ أن تكون علاقتي به ليست على هذه الصورة يعني أن لا علاقة. أنا مسيحي وإلهي تجسد. قبل تجسده أفهم أنه كان عنده حنان. الآن أفهم أن فيه لصوقا بي وأن عندي لصوقا به أي أني أنا فوق وهو تحت وإذا كان عندك حب تفهم ما أقول.
تنزل الكتابة -فإنها تنزل- لأن ما تقوله أنت سامعه. إذًا في البدء كان الكلمة. في كل الكلمات أنت تتلقى من الله ان كنت مطيعا. أنت لا تخلق إذ ليس ما كان في البدء الا في الكلمة.
فيما أكتب هذه السطور في بيت أبي أنظر إلى أيقونة بيزنطية من القرن الثامن عشر الناقلة وجه المسيح على المنديل. لماذا يجب أن أنظر إلى الأيقونة إذ أكتب؟ أليست الكتابة طاعة لإلهامها؟ ماذا تعمل بهؤلاء الأرثوذكسيين المتمسكين بالأيقونة ليصلوا بالله لا بلوحة من رافائيل؟ لماذا تريد أن تسلخهم عن هذا الشرق ليتمدّنوا؟ هم يعرفون كيف يتمدنون إذا شاؤوا. ماذا لك عليهم إن تمسكوا بتراثهم وتكلموا كل لغات الغرب؟ هذا يعني أنهم لا يحبون الهجين. دائما كان يذهلني هؤلاء الروس الذين هاجروا إلى الغرب بعد ثورتهم إذ كانوا ثقافيا يحبون روسيا والغرب معا. هل المحبات تتنافر؟
في الفهم المسيحي لإلهام الكتاب المقدس صعوبة إذ نقول إن الله كاتب الكتب وإن أصحابها كتبوها. هذه صعوبة ظاهرة. الله لما كتب اللوحين اللذين سلم موسى لم يكتب بإصبعه ولكنه قال كل الفحوى. الله هو القائل في ما هو مقدس. الكاتب الديني لا يشعر بثنائية إذا تكلم عن علاقته بربه. القصة ليست قصة سطور سطرت.
نحن في المسيحية لا نسعى إلى إقامة علاقة بين القارئ والكاتب. بين القارئ وكلمة الشراح صلة. الرب الموحي حتى نختفي جميعا في الكلمة. هذا سر إن رمت أن تعرف من حقا هو الكاتب. هل موصل الكلمة مبدعها أو مبلغها؟ كيف نخلق؟ هذا هو سر الأداء الأدبي أنك لا تعرف من هو المبدئ.
الكاتب المؤمن عنده صعوبة دينية مع الكتابة. إنه يريدها تبليغا إلهيا دالا لما كتب. مع ذلك يعرف من كل جوارحه أنها آتية من خبرته وذوقه ومن تراث عليه أن يكون أمينا له. كيف تكون إلهيا وأنت مجرد مستظهر للكلام الإلهي لأن الإجترار يلغيك كاتبا والنص الإلهي بلا تأويلك أفصح منك؟ أفهم أن تقول لي أنا أكرر كلمات الله. إذ ذاك أقول لك لست بكاتب وهذا لا ينتقص منك شيئا. ولكن إن أردت نفسك كاتبا لأن هذا من جوفك فلا تستطيع فقط أن تستظهر الآيات. أنت شيء مع الآيات، بالآيات إذ ذاك أنت كاتب. بلا هذا التمييز بينك وبين كلام الوحي أنت راوية وهذا جميل. ولكني أنا أحب لعبة الله بكلمات البشر كما أحب كلام الله وحده. هناك فرق بين الأديب المتأثر بالشعر وبين الناقد. الأديب يلعب أي يحيا. الناقد لا يلعب.
أنا من زمان عندي صعوبة مع الكتابة. دائما أخشى فيها أن أخون الأصل الإلهي المفروض عليّ. في أعماق العمق الإنسان ليس بشاعر. إنه ناظم. الله وحده شاعر. أعظم ما يقوله المؤمن أنه يحيا بالله. لا يقول إنه يحيا الله إذ هذا يتطلب اختلاط الجوهر الإلهي والجوهر البشري فينا. لذلك ما كانت الكتابة خلقا. إنها تقليد للخلق.
أنت تقلد الخالق إذا فكرت مثله أي إذا اقتربت منه في عمق كيانك. هذا فوق المستوى الذهني. هذا اختبار وجدان لأن لله قلبا ومن القلوب ما كانت شبيهة به. كيف تنسب إلينا فضائل هي أصلا لله إن لم تكن بين الأفضلين منا والله قربى وبيننا جميعا وبينه شيء من القربى؟ إذا كنت غير جائع اليها تحسب أنك طالب فضائل ولا تفهم أنك تبغي قربى. إن لم تفهم ضرورة القربى تكون أدركت أنك تريد فقط تشبهاً بفضائل الله لا قربى من كيانه. وإذا لم تحس بهذه القربى لا تشعر أنك أليف الله أو حبيبه أي تبقى أسير محسوسية الخلق. العاشقون يفهمون أنهم بالحب اخترقوا الحاجز بين الخالقية والمخلوقية.
Continue reading