Monthly Archives

October 2012

2012, مقالات, نشرة رعيتي

مع المسيح صُلبتُ/ الأحد 28 تشرين الأول 2012 / العدد 44

«مع المسيح صُلبتُ». العبارة تدل على المسيح الحاوي في نفسه كل أحبائه. العبارة المرادفة لها والتي يستعملها بولس كثيرًا هي «في المسيح» وتدل على أن الرب يسوع أخذنا في ذاته، جعلنا فيه لمّا تمّم خلاصنا بموته.

بعد هذا القول اللافت عند الرسول قوله «صُلبتُ فأَحيا». وفي هذه الكلمات دلّ بولس على أن حياتنا الجديدة أوُتيناها من موت المسيح إذ على الصليب بدأ خلاصنا بمعنى أننا نلنا الحياة الجديدة.

بعد أن قال بولس «فأحيا» استدرك فقال «لا أنا، بل المسيحُ يحيا فيّ». ارتكز هذا على الوحدة القائمة بين كل واحد منّا والمسيح. فإذا ملأني الرب يسوع بكل نعمة من عنده يكون هو الحيّ فيّ وتنسكب حياته فيّ بالروح القدس. من أَحب المسيح بقوة يكون قد أخذ المحبة التي أَحبنا المسيحُ بها. دائمًا تبدأ المحبة بالمسيح، ونحن نستجيب لها بطاعة وصاياه.

بعد هذا يقول الرسول: «ما لي من الحياة في الجسد انا أَحياه في الإيمان بابن الله». هو يريد الحياة في المسيح. وعبارة «في الجسد» تعني من كل كياني. انها الحياة التي يسكبها الروح الإلهي فينا، ولا يقصد بها حياتنا البيولوجية. هناك حياة أقوى تنزل علينا من فوق. هذه يعطيها الإيمان اذ الإيمان حياة جديدة تبدأ عندنا بالمعمودية وتنمو بالإيمان ونغذّيها بصلواتنا والأسرار الإلهية. أحيا في إيماني بابن الله لأنه، ساكنًا فينا، يعطيني الإيمان به.

إذا آمنت بابن الله أَعرف أنه أَحبّني وبذل نفسه عني. كل الإيمان في حقيقته وعمقه أن أعرف أن الله أَحبّني. هذه هي المرة الوحيدة التي يوضح فيها بولس أن يسوع يحبه هو، ولا يقول أَحبّنا. كل مؤمن مخصّص بحب يسوع له. إنه لمهم جدا أن تعرف نفسك حبيب الرب وأن تفهم هذه العلاقة الخاصة بينك وبين المخلّص. ما هي حياة المسيح فيك؟ أَوضحها بولس بقوله: «وبَذل نفسه عني» والمعنى طبعا أنه مات ثم قام لخلاصي.

الإيمان بابن الله يعطينا الحياة الأبدية، وهي تبدأ من هنا علاقة وجود مع المسيح. الحياة الأبدية لا تعني حصرًا تلك التي ننالها بعد الموت إذ هي تبدأ بالمعمودية وتقوى بالإيمان. تُسمّى «أبدية» لأنها لا تنقطع بالموت فالنعمة تنزل على كل الأحياء وعلى الأموات الذين هم أحياء في المسيح.

تبدأ حياتنا بالمسيح بالإيمان ونغذيها بالكلمة الإلهية ومناولة جسد الرب واستمرار ثقتنا بالله. هذه هي الحياة في المسيح المحيي كل مؤمن بها. ما من أُمنية أعظم لإنسان من أن يحيا المسيحُ فيه ويحيا هو في المسيح.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

القتل / السبت 27 تشرين الأول 2012

أول خطيئة ارتكبها الإنسان حسب السرد التوراتي انه عصى أمر الله بأكله من شجرة في الفردوس منع من أكل ثمارها. بعد هذا اختبأ من وجه الرب اذ فرّق العصيان بينه وبين إلهه وترسخ في استكباره وصار واحدا مع تراب الأرض. والاستكبار ابادة الإنسان لصورة ربّه فيه.

والخطيئة الثانية قتل قايين لأخيه هابيل. أليس كل قتيل أخا للقاتل. ولما عاتب الرب قايين قائلاً: «أين هابيل أخوك» قال «لا أعلم. أحارس أنا لأخي». تحجب الأخوّة عن القلب المبيد. يبدأ الانفصال أي التشتت عن الآخر. الوحدة كانت في الحياة. انها نازلة على الناس واحدة وتزرع فيهم سر وحدتهم.

أنت لا ترزق الآخر حياة. تلحظها فيه وتدرك ان سرها الأساسي في انها معطاة أي انك تلقيتها من واحد وهو الله الذي فوّض رجلا وامرأة بمدك بها إلى ان تعود إليه وقت تحدد حكمته ذلك. الحياة في الجنس البشري تنتقل انتقالا منذ مئة وخمسين ومليون سنة ليستمر تمجيد الله بنا فاذا اوقفتها عمدا في اخيك البريء تكون قد تنكرت لهذا التمجيد وأقمت نفسك إلها كما فعل آدم.

ثم جاءت الوصية: «لا تقتل» (خروج 20: 13). الحديث عن القتلى في العهد القديم طويل. غير ان الكتاب الإلهي لا يفلسف التمنع عن ابادة الآخر. هذا امر إلهي تحيا أنت به ويحيا به المؤمنون. في هذا الأمر لا يجدد العهد الجديد شيئا أو يأتي بتفسير اذ لا يزول حرف واحد من الناموس (متى 5: 18). غير ان السيد يذهب إلى ما هو أعمق من الوصية القديمة فيمنع الغضب الذي يأتي بها ويمنع الخصومة. إماتة الآخر تبدأ هنا.

وفي الإسلام «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» (سورة المائدة، 22). كذلك يمنع القرآن الانتقام بقوله: «لئن بسطت اليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يديّ اليك لأقتلك اني أخاف الله ربّ العالمين» (المائدة، 28).

#   #

#

بالمعنى نفسه: «لا تقتلوا النفس التي حرم الله الا بالحق» (الأنعام، 151). كثيرا ما أتى القتل من الخوف، من الظن ان الآخر يحرض نفسه على قتلي. ألغيه قبل ان يلغيني. وفي هذا انا محتاج ان أنأى بنفسي عن الله لأتمكّن من تقرير ذبح الآخر. في حالة الفتنة كل امرئ عثرة لي. أنا سلطتي وهذه تأمر لتنبسط. وفي آخر تحليل مدى الدنيا لي. ومن لا استسيغه يعرقل بسط نفوذي على دنياي. ومن اريد اقتحامه يلغيني حتى لو لم يكن متعمدا أذاي. انا لا اشك في انه يريدني ان اموت. فلئلا يكون هذا يجب ان يموت هو.

لا يكون هذا اذا زال خوفي اما بقراءة لي جديدة لواقعي بحيث افهم بالتحليل ان خشيتي الآخر عنصر من عناصر قوته فإقدامه على القتل. والموقف الأعلى والأفعل ايماني بغلبة ايماني وقوة علوية تنزل عليّ وتمدّني بصمود امام الخطر فيحصل ما يحصل وأنا امجد الله في حياتي ومماتي. اكون في هذا قد بذلت نفسي لله الذي يرعاني في محياي ومماتي ويجعلني في اية حالة من الحياة في نصرة منه.

ان رؤيتك للحياة وإزالتها مرتبطة بإيمانك أو عدم ايمانك. أمام هذه المشكلة الكبيرة في بلدنا لا يبدو منذ اربعين سنة اننا على دين قوي فعففنا عن القتل أو اننا على دين ضعيف فقتلنا. يهون علينا ان نقول قاتلنا من أجل قضية. من قاتل لا يحمل الثأر ولا الكراهية أو بغض الذين انتموا إلى عقيدة دينية اخرى. والواقع اننا كنا نختبئ وراء ما نسميه ديننا لأننا نقتل خائفين من ذواتنا أولا ومما يبدو ضعفنا ثم خائفين من الآخرين معتقدين اننا محاربون ولسنا قتلة. مرة في الحرب بسبب خطأ مطبعي اتهمني احدهم اني اتهم ابناء طائفته انهم قتلوا ويبدو اني كتبتها مع اني كنت أود ان أقول انهم قاتلوا.

أنا غير مؤهّل جنائيا أو موضوعيا ان أدلّ على القتلة أو القاتلين وان افرّق بينهم. الفرد الذي عاش بعد الحرب وحمل السلاح يفحص قلبه أو ضميره ويعترف لنفسه عما اذا قتل أو قاتل. ولكني استقبلت مرة محاربا اعترف لي انه كان قاتلا وقرأت صفحات بالفرنسية كتبتها امرأتان اعترفتا بأن هذه الحرب كانت باطلة من البدء إلى النهاية. أنا هنا اشهد أو ابلغ ما سمعت.

ان السهولة الكبيرة في القتل في هذا البلد تدلّ على انّ الذين ارتكبوه وهم كثر لا يؤمنون حقا بالله أو لا يدخلونه في مجال الحياة والموت. قال لي طبيب كبير في الأمراض العقلية ان لبنان عنده اعظم نسبة من الجنون في العالم ولما سألته عن السبب قال ان كل من خرج من المصح يجب ان يكون عنده في الحي أو القرية مصح للأمراض العقلية لئلا ينتكس.

غير ان عددا منا قليلا دخل مصحا للأمراض العقلية. لماذا اذًا عندنا هذه النسبة الفظيعة؟ هل لأن ثمّة عوامل تصادم بيننا كامنة في تشكيلتنا المجتمعيّة؟ هل ان بغض الطوائف الأخرى ليس بغضا بالحقيقة بل خوف؟ هل الآخر من حيث هو مختلف مخيف؟

لعلّ السوال الأصعب هو هل نحن مؤمنون بالله معينا وحاضنا أو أبا أم اننا ننتمي بحسب قوانين الدولة إلى أديان لا يعنينا منها وجود إله حي يحيينا في نفوسنا ويدفعنا إلى السلام.

لماذا يقتني اللبناني سلاحا في بيته؟ هل لأنه يخشى الاعتداء أم يتوقع الاعتداء وعند ذاك هو خائف. ماذا يعمل الواعظ وهمّه الأول خلاص النفوس؟ هل معلّمو مادة الديانة في المدارس ينشئون شبابا شجاعا أم ينشئون مؤمنين بإله يزجّ الخطأة في جهنّم وهم تاليا يربونهم على الخوف.

ماذا يعني الايمان ان لم يعنِ الاطمئنان إلى الرب وإلى سلامه. حسرتنا ان يذهب الناس ضحايا قاتلين كانوا أم مقتولين. هل الأهميّة للاحتجاج أم للتوبة؟

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

حتى يوجع العطاء (الأم تريزا) / السبت 6 تشرين الأول 2012

أن يأخذ الطفل الجديد ما يُعطى من طعام، ان يبتلع كل ما يستطيع فمه ابتلاعه، أن يلتهم كل شيء، هذا هو المنهج العادي في حياتنا اليومية. الأنا هي ما نريدها مركزا للوجود. ما آكله يصير جسدي. ما أتعلمه يصبح عقلي أنا.

لست أريد بهذا ان الإنسان اناني كله او انه مركز ذاته وليس فيه حركة الى الآخرين او لا يرى نفسه منوجدا في الآخرين وبهم. الإنسان ايضا عطاء وهذا يعني ان فيه قوّة الإنعطاف.

ولست هنا بصدد التحديد لمصدر العطاء عنده. نحن نقول ان هذا يأتي من الرب الساكن فيه او ان هذا نعمة مجانية من فوق وان ليس للإنسان فضل في حسناته ليس بمعنى انه لا يجاهد ليكسب المحبة ولكن بمعنى انها، اساسا وانطلاقا، نازلة عليه »فبالنعمة انتم مخلصون«. الخير الله مصدره اولا لأنه هو المبادر وهو المحب ونحن ما استطعنا ان نحب الا بعد ان عرفنا انه هو الذي يحبنا وفهمنا اننا قادرون على أن ننشئ الآخرين بالمحبة لإحساسنا باننا محبوبون.

نحن لا نخلق الخير فينا. نؤتاه. اجل، نكافح انانيتنا لاستلامه. نستجيب للإلهام الإلهي فينا. استودع الإنسان حب الآخر. ومن الناس من استجاب بقوة وبنيت نفسه بهذه الإستجابة. فمنا من يستجيب بنفس يسوقها الله اليه بسرعة ومنا من يتعب كثيرا ليطوع نفسه لربّه. هذا تلاقٍ بيننا وبين الإله الحبيب وهو يعرف سر ذاته فترى نفسك منسابا اليه او ترى نفسك مجرورا اليه بدفع منه كأنك غير مشتاق اليه.

هناك من يعشق الخطيئة عشقا صارما كأنّه يبيت فيها ويتآلفان كأنها خلقت معه وتحن اليه كما يحن اليها وهناك من لا يود هذه الإلفة ولا يسعى اليها ولا يريحه الا صدمها لأن قلبه غدا مقر الرب او عرشه. يحس بعض الناس انهم خلقوا على الفضيلة وكأنهم لا يجاهدون لكسبها وتشعر انت ان سواهم جبلوا بالرذائل جبلة رهيبة وان ربك فقط قادر ان يزرع فيهم حضورا له يأنسون اليه قليلا او لا يأنسون ولكنهم تذكروا كلامه الذي يرن احيانا في مسامع قلوبهم ويوقظهم ايقاظا شديدا فتنسلخ هذه القلوب عن الإغراء لأن النعمة أمست أقدر فيهم من معاصيهم.

#   #

#

واذا لامستك النعمة او استقرّت فيك فأغرتك وصرت لها عاشقا فلا يجذبك شيء آخر ويشدّك الرب الى لذائذه فتألف الألوهة فيك اذ تصبح منك او تصبح منها واذا بك انسانًا نزل من فوق.

«في الليل على فراشي طلبت من تحبه نفسي… وجدني الحرس الطائف في المدينة فقلت أرأيتم من تحبه نفسي. فما جاوزتهم الا قليلا حتى وجدت فأمسكته ولم أرخه» (نشيد الانشاد 1: 3-4).

ما في البال من الايمان يقود الى المحبة اي الى طاعة الرب. ولكنك انت تتقبل الايمان بالنعمة التي تنزل عليك فتدفعك الى ان تحب الله. انا لست أنكر أن محبتك له تترجم نفسها بحفظك وصاياه ولكن ان تعرف نفسك حبيبه هو الدافع الكبير الى طاعته.

ان تعرف نفسك حبيا هو ان تعرف انك استلمت كل قوة الله على بذل نفسه. «هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل نفسه» (يوحنا 3: 16). الله معطى وليس فقط معطيا. هو على يديك او تسلل الى قلبك. ماذا يعني يسوع بقوله: «ان أحبني احد يحفظ كلامي ويحبه ابي واليه نأتي ونجعل فيه منزلا» (يوحنا 14: 25). اذا آمنّا بكلام يسوع هذا نفهم ان الله ليس فقط فوقنا او علينا ولكنه فينا. في هذا تكمن قدرة المسيحيين على تجاوز انفسهم الى الألوهة وان يكونوا في دوام الصعود. هذا صعب وقليل ولكن فيه وعدا ونحن امام هذا النداء حتى نصير منه.

#   #

#

بنعمة هذه الحقيقة نصبح قادرين على العطاء في هذه الدنيا اي ان نصير في الآخرين بالحب او ان نصير الآخرين. فاذا لم تذهب الى الآخر لتتساكنا او لتكون اياه لا تكون قد استقللت عن ذاتك. «من أراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (متى 16: 24). تنسلخ اذًا عن الأنا المنطوية والطاوية لتدخل اليك ذات المسيح. في أدنى الايمان تصبح معه بمعنى انك لا تريد ان تعرف ما هو لك وما هو له او توقن انك لست بشيء وانك تصير اليه فمنه ولا ترى هوة بينكما الا لإيمانك بأن كلّ ما فيك من بهاء يأتي من رحمته. فاذا آمنت بأنك أخذت منه كلّ نعمة تصير قادرا على العطاء اي معبرا للنعمة. ما هو من بشريّتك البحتة ليس فيه شيء ليعطى. انت معطٍ ما أخذت والآخر يستلم ما انسكب عليك من فوق.

ان بشريّتك بحدّ نفسها تفهة. انت يؤلّهك ايمانك اي يصبّ فيك كل قدرة الله. انت توزّع هذه القدرة وتعرف ان ما يطلبه ربك منك ان تنسى بشريتك المخلوقة او تتجاوزها لتعطي ما نزل عليك من الخالق اذ يبغي الله منك ان توزعه على أقرانك فانه ملكه وانت تعرف ان الناس يتلقونه بانعطافك عليهم ومشاركتهم هذا الكنز الذي انت مؤتمن عليه.

قد يوجعك ان يطلب الله اليك كل لحظة ان تعطي ذاتك فقد يوسوس لك الشيطان انك لست مسؤولا عن الناس بهذا القدر الذي عرفته من كتبنا المقدسة. رغبة الانطواء تقرع على باب القلب احيانا. انها من الكبرياء. ولكن اذكر ان كل جمال فيك يأتيك من العلي وانك لا تملكه الا بوصفك أمينا له. انت في دوام الانسكاب حتى تنوجد بالرؤية التي يراك الله فيها. واذا شاهدت الناس يلتمعون بالنعمة تحس ان ربك وحده أعطى وهو وحده يختار ان يوزع حتى يصبح الآخرون امة الله في الكون اي الذين يحملون حضرته.

هذه هي السماء قبل ان يصعدنا الله من القبور.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

إنجيل بولس/ الأحد 21 تشرين الأول 2012 / العدد 43

كلمة إنجيل التي يستعملها بولس تعني مضمون البشارة التي بشّر بها. هي طبعًا لا تعني الأناجيل الأربعة التي لم تكن دُوّنت بعد. إنجيله ليس بحسب الإنسان، أي لم يكتبه إنسان، ولم يعلّمه إياه إنسان، وفي الواقع لم يشاهد رسولا من الاثني عشر او تابعا لهم قبل ان يعلّم.

يوضح هذا بقوله: «كنتُ أَضطهد كنيسة الله بإفراط وأُدمّرها». هذا مؤكّد في سفْر أعمال الرسل عندما يتكلّم هذا السفْر عن اهتدائه. «أما شاول (اي بولس) فكان لم يزل ينفث تهددا وقتلا على التلاميذ» (أعمال 9: 1). قبل ظهور السيد له على طريق دمشق، كان اكثر من بقية اليهود «غيرةً على تقليدات آبائه»، والغيرة اليهوديّة جعلته يذهب الى أورشليم «ليسُوقهم موثقين الى أورشليم».

في طريقه الى دمشق لإتمام هذه المهمة، دعاه الله بنعمته «ليُعلن ابنه فيّ لأُبشّر به بين الأمم». كان المفروض عقليّا أن يصعد الى أورشليم ليتّصل بالرسل الذين قبله. المهم عنده إدراكه أن الله أفرزه من جوف أُمّه كما أَفرز الأنبياء القدامى، اي جعله خصّيصه، فلما أدرك انه للرب ذهب الى ديار العرب. لفظة «العربية» التي يستعملها تعني هذا القسم من بلاد العرب القريب من دمشق ربما حوران او البتراء في الأردن اليوم.

لا يبدو أنه أقام طويلا في أي مكان لكونه كان يتوقّع اصطدامه بالسلطات المدنية التي كانت تريد قمع المسيحيين.

في ديار العرب (حوران) كان الحُكم لملك الأنباط المدعوّ الحارث الرابع. وإذ خشي بولس القمع مِن قَبل الحارث رجع الى دمشق. يقول: «بعد ثلاث سنين رجعتُ الى دمشق». هل يحسب هذه السنين من بعد ظهور الرب له، أَم بعد رجوعه الى دمشق؟ لسنا نعلم على وجه الدقة.

بعد هذه التنقلات أَحسّ أنه لا بد له أن يصعد الى اورشليم حيث كان بطرس مقيمًا. واضح أن بطرس لم يكن قد رحل عن فلسطين الى البشارة، فمكث عنده خمسة عشر يوما.

لماذا اراد بولس لقاء بطرس ويعقوب أخي الرب؟ بطرس لأنه قائد الاثني عشر، ويعقوب لأنه من عائلة الرب. يعقوب هذا مذكور في مرقس 6: 3. كان يعقوب مهمّا في كنيسة اورشليم، بل عرفه التقليد انه اول أُسقف عليها. هذا قد يعني ان يعقوب بقي في هذا المقام حتى رجْمِهِ مِن قبل رئيس الكهنة.

اللافت في هذا المقطع أن بولس يؤسس مهامّه ومسؤوليته الرسولية على اتصاله المباشر بالرب يسوع بمعنى أنه لم يستمدّ رسوليته من سلطانه التعليميّ لأن الجماعة الرسولية لم تُعيّنه ولكن الرب يسوع اختاره.

على هذا الاختيار يؤسس كل تعليمه، ويطلب الالتزام بهذا التعليم.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

ما الدينونة؟ / السبت 20 تشرين الأول 2012

لما كنت أتتلمذ في فتوتي على رهبان فرنسيين كان يقال لنا ان ثمّة دينونة خاصة عند الموت ودينونة عامة في اليوم الأخير. في هذا الزمن المبكر كنت أواصل التعليم الأرثوذكسي وما عثرت على هذه الثنائية فيه وكنت أقول لنفسي حسبي الدينونة العامة ورهبتها.

بعد هذا فهمت ان الكنيسة الشرقية تقول انك بعد الموت تدرك وضعك امام الله وانك في انتظار المكافأة ان لم تكن مثقلا بالمعاصي وان هذا بدء فرح وان لم يكن الغبطة الكاملة. والى هذا انت في انتظار القصاص الأخير ان كنت تحمل خطايا كثيرة فهذا بعض من عقاب.

ثم في شيخوختي اقتربت من فكرة الدينونة الخاصة وما تبنيت العبارة نفسها لأن كنيستي لا تستعملها. اقتنعت منذ وقت يسير ان ساعة الموت ساعة مواجهة مع الخالق والمواجهة رهيبة لأنك تبدو امامه في ثقل خطاياك وتاليا في تنافر وطبيعة الرب. وتحس ان هذا اللقاء هو ضمن مصيرك الأبدي ولو أعلن الله رحمته في المبدأ او في بدء التقائك به ومنتهاه.

لا يزين لي ان ثمة مقاضاة لك تحدد مصيرك الأبدي. وان يكون الله قاضيا فهذه صورة عن الحقوق ولو تكلمت عنها كتبنا المقدسة وهذه الكتب تحكي حكاية الانسان مع الله من حيث المبدأ ولكن الحكاية الكبرى هي في اللقاء فور فراقك هذه الأرض. الصورة التي استعملها هي ان المسيح يأتي الى جانبك في التابوت ويكلمك همسا وهو همسة توبيخ. ربما كان يسوع في هذا الاجتماع رقيقا ولكنه في طاعة أبيه لا تهون عنده المعصية لأنها تجرح رأفات ابيه بك. انت لم تقم بشيء لتضمد جراح الآب. انت تبقى عدوا بالخطيئة ويبقى الآب يضمك الى صدره او يجعلك الابن على صدره ويرى الآب ذلك ويتحنن دون ان يترك لومه اياك لأنه لو ترك اللوم يصبح متحيزا لك وليس متحيزا لشريعته.

#   #   #

وبشريعته وحدها تتقدم لأنك لا تستطيع ان تداعب الخطيئة وتبقى منه قريبا. قربك ببهائك الروحي لأن الرب ليس عنده زمرة يدنيها منه وزمرة يباعدها عنه. انت ان كنت له تصبح منه فيرى نفسه فيك لأنك ان صرت نقيا تصير مرآته والرب بطبيعته يحب نفسه فيك ويسألك دائما اذا قبلته وهو يعرف انك عنده او انك ظللت بعيدا عنه ساعيا الى نفسك لتستعلي بها وتقيم في كبريائها وتجعل كبرياءك منزلك كما تجعل الله في منزل بعيد.

كل قصتك مع الله ان تجعله اليك او الا تجعله اليك. واذا أقصيته – وهذا ما نفعله في الخطيئة – تلغي نفسك من الوجود الحق لتخلق لنفسك وجودا يغشك ويقيمك في اوهام الوجود. الخطيئة هي التي جعلتك تظن انك موجود بقوتك لا بقوة ربك اي انها تجعلك بعيدا عنه وساميا الى سراب يخدعك.

كل القصة ان تعرف انك انت نزيل الكيان الإلهي الذي فيك او نزيل الهيامات التي تصطنعها لنفسك في خوفك من الله. هل انت انسان الخوف ام انسان الثقة. هل انت مجتر لنفسك والخديعة المعششة فيك ام انت ملقى في حضن الآب ناسيا لذائذك وترفك لتشعر بأنك أمسيت ابنا اي ساكنا في هذه الأرض ملكوت الله النازل عليك بحنان الآب.

حنانه ان آمنت به يحول عينيك الى عينيه فتدرك انك موجود بنظرته اليك. وهذه النظرة ان التقطها تجعلك تفحص قلبك حسب العبارة الأرثوذكسية او تفحص ضميرك وفق العبارة الغربية. طوبى لك اذا رأيت الله في قلبك ورأيته يحرك نبضات الروح فيك وتبقى في نفسك بعد انطفاء الجسد.

#   #   #

ان أصرّ بعض ان يتحدّث عن دينونة خاصة أقول ان كل لحظة من حياتنا دينونة خاصة ان كنا يقظين بمعنى ان وعينا الروحي يجعلنا واقفين دائما في حضرة الله فنرى ان خطيئتنا تضربنا وان ابتعادنا عنه هو الموت. كل خطيئة موت ودون ان اتقرب من نيتشه الا تعبيرا اقول ان موت الخطيئة هو موت الله. ما أقبح وجود الذي يقتل الله في نفسه وهو غير عالم انه بذا يبيد نفسه من الوجود الحق ويجعل جهنم النار مقيمة في نفسه قبل ان تأخذها الشياطين ان لم يتب.

والتوبة تعني للخاطئ اكتشافه ان مسالكه كانت خاطئة وان كل رأيه في الله كان مغلوطًا لأنه كان يوهم نفسه ان المعصية ليست بمعصية وانها ضرورية للحياة وربما ما كان يسعى ان يحافظ في نفسه على الله او استعمل في ما كان أبعد من هذا ان يحسب نفسه قادرًا ان يستبقي له كيانا خارجا عن الكيان الإلهي.

قصتنا بمعايشة النفس للخطيئة رهيبة جدا لأنها قائمة على مغالطة كبرى انك قادر ان تعيش بلا إله وأقله انك قادر ان ترجئ لقاءك به وتاليا تعني ان ليس لك فكرة عن رهبة الموت وما يستتبعه هذا فيك.

الخاطئ ليس فقط منحرفًا سلوكيا. انه منحرف فكريا بمعنى انه ذو فكر مغلوط. التوبة ان تخلع عنك هذا الفكر ليكون لك الفكر الذي كان في المسيح يسوع كما قال بولس او ما يشبه هذا التعبير ان كنت على غير ديانة بولس.

ربِّ نجّنا من الخطيئة وقرّبنا من وجهك لنحيا.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

الشهادة والأيقونة/ الأحد 14 تشرين الأول 2012 / العدد 42

«وأهل البدعة بعد الإنذار مرة وأُخرى فأَعرضْ عنه». البدعة في اليونانية الهرطقة وهي الخروج عن الإيمان والإتيان بعقيدة مخالفة له مثلا أن تُنكر أُلوهية المسيح او الثالوث الأقدس أو كون السيد قام من بين الأموات. هكذا كان قديمًا. في تاريخ الهرطقات الكبرى الآريوسية (من صاحبها آريوس) هي اعتبار المسيح بشرًا فقط لا إلهًا.

هذه تصدّى لها المجمع المسكونيّ الأول المعروف بالنيقاويّ من مدينة نيقية حيث اجتمع وسنّ القسم الكبير من قانون الإيمان (أُومن بإله واحد…). لقد انعقدت سبعة مجامع مسكونية، منها المجمع السابع الذي نقيم ذكراه اليوم. إيماننا الأرثوذكسي حدّدته هذه المجامع وسكبته فيصيَغ تُدعى عقائد.

العقيدة هي مجموعة العقائد التي أوضحتها المجامع السبعة او صاغتها بعبارات فسّرها الآباء (أثناسيوس الكبير، يوحنا الذهبيّ الفم، غريغوريوس اللاهوتي، باسيليوس الكبير). العقائد كما صيغت وتفسير الآباء لها هي إيماننا. يبقى الحفاظ على هذا الإيمان عند كل واحد منا. اذا حافظ عليه، نسمّيه أرثوذكسيا اي مستقيم الرأي، غير منحرف الاعتقاد ويمجد الله تمجيدًا سليمًا في الخدمة الإلهية.

في هذا الأحد نقيم ذكرى المجمع السابع المنعقد في أواخر القرن الثامن وحدد إكرامنا للأيقونة وتبنّى ما قاله عنها القديس يوحنا الدمشقي حيث قال اننا لا نعبد الأيقونة ولأننا نُكرمها إكرامًا. والإكرام يعود الى الشخص المصوَّر عليها (السيد أو والدة الإله أو أحد القديسين). وإذا قبّلناها او انحنينا أمامها فهذا ليس سجودا بل تكريم.

نحن لا نعبد الخشبة او اللون او قطعة الفسيفساء، ولكنا نذهب بالعقل والقلب الى الرب يسوع او والدة الإله او القديس المرسوم، وشعورنا ان القديسين موجودون معنا في الكنيسة بروحهم وبرسومهم، وهكذا تتّحد كنيسة السماء وكنيسة الأرض، والبيت الذي توجد فيه أيقونة يحضر فيه صاحبها بإشراف الروح القدس. فهو يطلّ علينا بالأيقونة كما ينسكب في قلوبنا اذا كانت مطيعة له.

بالأيقونة يعيش في بيوتنا السيد له المجد ووالدة الإله والقديسون. بالأيقونة تصبح هذه البيوت مساكن للرب وأحبائه. الأيقونة تحفظنا اذا آمنّا بصاحبها. البيت المليء بها كنيسة. الجدران التي تحملها جدران كنيسة. فالكنيسة ممتدّة الى منازلنا بالقديسين الذين يُساكنوننا.

الأيقونة إشارة على أن السماء والأرض أصبحتا واحدة. اذا ملأت بيتك بالأيقونات تُظهر إيمانك الأرثوذكسي.

الرب يريد منك هذه الشهادة. عندنا شهادة الكلمة والعلامات التي تُظهرها مثل الأيقونات.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الشتم / السبت 13 تشرين الأول 2012

القتل جسدي او معنوي. الشتم صورة من صور القتل. نبيد الآخر بإبادة جسده او محقه او سحقه او نلغي كيانه الداخلي بالكلمة. واذا ظننا ذلك نكون فقط قد محونا أنفسنا. في مرحلة من البغض المبتغى إزالة الآخر فإن لم نتمكن من ذلك او لم نرد إزالته كليا نشطبه عن الذهن او من القلب ونقول هذا باللسان او بالقلم.

هناك اوضاع لنا داخلية لا تبيح وجودنا مع وجود آخر. الثنائية تكون في القلب او لا تكون وان تعترف بالآخر بكل مكوّنات عقله وسلوكه وتباينها وعقلك وسلوكك لأمر يحتاج الى جهد قد يكون عظيما. قبول الفروق بينك وبين الناس يعني انك تعايشهم على رغم الفروق والإقرار انك لست وحدك مالك الحقيقة.

انت لا تعايش الآخر كما هو قائم. انت تعايش صورة له فيك واذا اهتزت الصورة تزول المعايشة. الحياة رقصة صور وهذا مصدر قلق الى ان تطلع عن هذا او ذاك من الناس برؤية ترتاح اليها والرؤية عرضة للتغيرات لأنك تغير الرقصة او تحسب انه هو غيّر رقصته.

ايقاعك الداخلي ليس دائما هو اياه. لبعض من الناس ولا سيما ان كانوا مزاجيين ايقاعات مختلفة. وان كنت على ايقاع داخلي واحد في الصبح والمساء تعطي جوابا واحدا ان سئلت وتبدو ثابتا وهذا قد يزعج ولكنه شرط التعايش السليم. وكثيرا ما تتغير اجوبتك عن اسئلة الناس لأن قناعاتك ليست ثابتة ولأنك تراهم يتغيرون ولعلهم في الحقيقة لم يتغيروا ولكنك انت ترى فيهم الصورة التي تريد ان ترى او قادك مزاجك ان ترى.

وصعوبة التلاقي الحقيقي ان ثمة امزجة راقصة وامزجة غير راقصة وان هناك من يتوخى الحقيقة وهناك من يطلب نفسه ومنافعه ولذائذه. الحقيقة والانا المنطوية والطاوية لا تلتقيان اي ان في الدنيا قاتلا وقتيلا او مشروع قتيل. هناك من انوجد بايمانه او قناعاته وهناك من انوجد بتقلب احواله.

#   #

#

لماذا يتقلب هذا ولا يتقلب ذاك؟ الجواب البسيط ان ثمة من يؤمن بثبات الحقيقة ومن لا يؤمن بثبات الحقيقة لكونه بنفسه كما استلم نفسه من الوجود ولا يعرف ان لها مرجعا وهو الاله الثابت بذاته. قد لا ينكشف له الله بوجهه ولكنه يربط كيانه الداخلي بحقائق قائمة بذاتها ولا تؤثر فيها منفعة من الدنيا او من الوجاهة او من الطائفة او من الحزب. اي هناك من أقام في الحقيقة ويسلم لها وحدها وهناك من أقام في انفعالاته او منافعه وكبرياء يظنها إسلاما للحق.

انسان كهذا موقن ان ما فيه من حق هو اياه الذي يجعل كل انسان قائما في الحق. لذلك يكافح بإصرار لمدّ كل الناس به لحرصه على استقامتهم ولبسهم درع الخلاص وخوذة البرّ. هذا يحمل الإلهام الإلهي ولبقاء هذا الإلهام فيه يجاهد ولسبب من إصراره على الحق يقابله ضعفاء الايمان بالشتم وقصدهم العميق ان يقتلوه او يصفعوه والشتم الغاء مع صورة المحافظة على جسد الآخر. اما محبو الحقيقة فينتظرون اهتداء الناس جميعا وان يصلوا الى الحقيقة ولا ينضبون ولو تألّموا.

الذي لا صبر له على الحقيقة وان تنتشر يستخدم لسانه ليزيل الآخر. «هكذا جعل في اعضائنا اللسان الذي يدنس الجسم كله ويضرم دائرة الكون ويُضرم من جهنم» (يعقوب 3: 6). ويتابع الرسول كلامه عن اللسان: «به (اي باللسان) نبارك الله الآب وبه نلعن الناس الذي قد تكونوا على شبه الله».

يتابع يعقوب قوله ان التصرف الحسن في وداعة الحكمة وهي تطلب الآخر حبيب الله وانت عليك ان تحفظه في هذه المحبوبية لا ان تميت نفسك وتميته بالشتم اذ لا يبقى فيك وجه الآخر ان انت قتلته بالكلام البذيء الذي لا يخرج الا بالغضب.

اذا أعطاك ربك الصبر فأنت في حالة انتظار. كل الرجاء انتظار لأن ربك سوف يأتي لأن الله حركة اليك والى الآخر برجائك.

هذا موقف قد يجعلك في عزلة. الهدوء دائما عزلة عن البشر. انه اجتماع الى الله ولكنك ان احببته تؤثر عشرته على عشرة الغاضبين وحسبك هو وإقامته فيك حتى تقيم الهدأة في قلوب من هم حولك.

لا مهرب لك من تحزبات الناس الا ايمانك بأن ربك يكفيك وبأنك رسوله الى من طلبه ومن لم يطلبه. انت لست وحدك ان استعصمت به. انه هو معطيك قوته لاستمرارك في فضله عليك. لازم نعمته عليك. لست في حاجة الى رضاء الناس. الايمان هو ان تسترضي الله فقط قبل الناس بذلك ام لم يقبلوا.

ولكن حذارِ ان تدنس لسانك . ان عففت به عن الشتم سبيلك الى حسنات كثيرة فيك. عفة اللسان الكاملة نتيجة لرفع الغضب الداخلي عنك وان تجعل ربك ينطق بك.

لا تتكلم الا بعد صبر ومن اجل البنيان. انت لست مدافعا عن نفسك. انت مفوض الحقيقة في الكلمة وفي السلوك. اخضع لمن هداك وبلغ مشيئته. ان كنت على هذه الطاعة يعصم لسانك من الزلل ويعصمه من غضب الشتم ليبقى موطن مباركات ما دمت حيا.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

العطاء/ الأحد 7 تشرين الأول 2012 / العدد 41

يدعو بولس الى ألاّ نبخل في العطاء، الى أن نزرع الخير ويسمّي هذا «زرعًا بالبركات» لأنه في حقيقته، بواسطتنا، عطاء إلهيّ. ويوضح أن القلب هو المعطي، اذ لا يُضطرنا على العطاء الا الدعوة الإلهية التي تدفعنا الى الآخرين. إنهم فرحنا وبهم نكتمل. لذا يقول: «إن الله يُحبّ الـمُعطي المتهلل».

فإذا نظرنا فقط الى بذل ما عندنا من مال، المهم جدا أن نُسرّ للتعزية التي يتعزّى بها من نُعطيه. نحن شاكرون لمن يقبل عطاءنا ونفرح لفرحه. وإذا امتددنا اليه نكون قد اقتربنا من الله وصرنا إليه.

وإذا أَعطينا تنزل علينا نِعَمٌ من الله، وهذه النعم تجعل فينا «كل كفاية كل حين وفي كل شيء». فإذا انسكبت النعمة من فوق لا نبقى محتاجين الى شيء اذ لا شيء يزيد على نعمة الله التي تجعل فينا كل فرح وكل انتعاش. وإذا قبِلنا النعمة من فوق نزداد في كل عمل صالح. بهذا الكلام يؤكد الرسول أن العمل ليس عملا صالحًا إلا إذا كان الله قد أَوحى به لنا حتى لا نكون واعين لمصالحنا ولكن مُطيعين لمشيئة الله التي يوحيها لنا.

بعد هذا الكلام أراد بولس الرسول أن يوضح جانبًا من العمل الصالح فيأتي بكلمة من المزامير: «انه بدّدَ، أَعطى المساكين، فبرّه يدوم الى الأبد». المساكين يحبّهم يسوع بنوع خاص لأنهم اعتبروا الرب ثروتهم ولأن المؤمنين فيهم يذوقون الله طعامًا. هذا الذي يُعطي الفقراءتَحرّرَ من أن يرى مالا محورا لحياته. الآخرون محورُه او مركزه. أنت تذوق الله في المحتاجين، تراه فيهم. كيف تلتقي الله في هذه الدنيا إن لم تلتقه بالناس. المحتاجون إليه هم وجهُه، وأنت الى وجهه إن أَحببتهم. بعد هذا الكلام يعود الرسول الى بدء المقطع المنشور هنا ويوضح أن «الذي يرزُق الزارع زرعًا وخُبزًا للقوت يرزُقكم زرعًا». ويؤكد انه «يرزُقكم بكثرة ويزيد غلال برّكم». الزرع الذي تزرعونه هو زارعه وبكثرة. كل شيء من نعمته. إذا أَطعتموه تكونون قد أدركتم أن هذا من نعمته. إرادتُكم في الخير لا تصبح فاعلة ما لم يمنّ عليكم برضاه. هو ينزل إليكم بمحبته فتكونون أبناءه وحاملين عطاءه وتُعطُون من عطائه.

أمام المواهب الإلهية التي تنزل إليكم «تَستغنُون في كل شيء». لا يبقى فيكم فقر روحيّ. إذا كان الرب بكل قوّته فيكم، فليس من مدى لآخر وليس عندكم حاجة. وهذا يدفعكم الى كل سخاء ولا تبقون بخلاء بأي وجه من وجوه العطاء. هذا السخاء الخالص «يُنشئ فيكم شكرًا لله». لأنكم إذا عرفتم أن كل ما تقومون به هبة لكم لا يبقى فيكم إلا أن تعترفوا بذلك. وتصبح نفسُكم مليئة بالشكر لله وأنتم أمام يديه السخيّتين لتأخذوا منها نعمة.

Continue reading