1992, جريدة النهار, مقالات

الدولة، الثقافة، الحرية / جريدة النهار / السبت 7 تشرين الثاني 1992

المؤسسة على خطرها قناعة. قناعة لأنها قبول فلسفي بأن العقل القانوني والهيكلية السياسية ينجيان الإنسان. انها الاعتقاد بأن «لكم في القصاص حياة يا أولي الألباب» وكأن القرآن يوحي بأن هذه القوة التي نسمّيها اللب وهي جامعة بين القلب والعقل انما تتربى إذا خضعت لما يبدو مصطلحا مجتمعيا ولكنه في الأصل من رواسب القانون الطبيعي أو الشريعة الإلهية وما جاءت الأعراف أو السنن الا لتسكبه في قالب.

صحّ ان كل شريعة إكراهية ولكن الإكراه ليس القهر. يصبح الإكراه كذلك ان أنت أحسست ان الشريعة متعسفة ولكن المعقول والمرتضى ان ليس في الشرائع عسف هذا قبل ان يلغي لينين «دولة القانون» ويدخل اعتباطية اللجنة المركزية للحزب أي حرية التفسير للأدلوجة – الآيديولوجية – كما عربها علي حرب. ائمة الأحزاب هم المرجعية في ما يؤول إلى انطباق الأدلوجة على الواقع البشري. ولكن سمو الدنيا القانونية في حرصها على ان القانون بعامة ينظر في مصالح الناس وانه حيز الإنصاف الطبيعي في ما خلا حالات استثنائية جدا. ذلك ان القانون ليس غريبا عن الحقيقة المطلقة وان كان أدنى إلى الفائدة المجتمعية التي هي فائدة الأكثرين.

ان طبيعة الإنسان العقلية واعتقاداته وتطوره التاريخي هي العناصر التي يستلهمها الشارع ليحدد حقًّا وضعيًّا في ما ترجمناه عن الفرنسية بما كان أجمل منها لأنه يناسب وضع الجماعة. الانطلاقة ان أهل التشريع يضعون أنفسهم أو يتواضعون ليروا إلى أحوال الرعية ويراعوها وتاليا يرعونها.

ان هذا الموقف يفترض عند المواطن ايمانه بالدولة من حيث انها ذلك الجسم المجتمعي المفوض اليه رعاية الناس وإكراههم على أمور عدة: دفع الضرائب، خدمة العلم، قبول الأحكام القضائية، التقيد بالقانون. ويفرض قبل ذلك اقتناعًا روحيًّا بأن للإنسان في ذلك تهذيبا ورقيا وحماية وتنمية وان في ذلك شيئًا إلهيا بسبب من مجرى التاريخ البشري من جهة وبسبب ما فينا من لب يتجاوب والمجرى التاريخي لما ينفعنا ليس فقط في دنيانا ولكن في الآخرة. كان بولس الرسول على هذا العمق لما كتب: «ليخضع كل أمرئ للسلطات التي بأيديها الأمر، فلا سلطة الا من عند الله، والسلطات القائمة هو الذي أقامها» (رومية 31: 1). ليس في هذا شرعنة لكل حكم قائم ولكنه التسويغ الأساسي لفلسفة الحكم وقهريته. من هذه الزاوية حياتنا في الدولة ليست مجرد اصطلاح توافقنا عليه من أجل ترتيب أمور دنيانا. انـه انتظام إلهي ولو كانت الوسيلـة البشريـة للتعبيـر عنـه الحقـوق الوضعيـة. الإلهـام الأخير إلهي أقلنا ان لله أحكامًا محددة في الجزئيات كما في الإسلام ام قلنا ان فكرة انضباطنا وتفعيله صادران من الله.

***

هذا ما نسميه المؤسسة في الحقل السياسي وان كان مدلول الكلمة اعم. المؤسسة تعني أننا بعد ان تبينا الحق الوضعي وموضوعيته نوقن أيضًا ان القضاء والإدارة القائمتين على الحقوق الموضوعية انما تكون علاقتهما مع الأهالي موضوعية أيضًا. أي ان ثمة إقصاء عوامل الانفعال في الصلة الرسمية ذلك لأن هذه العوامل تشوه موضوعية القضاء والإدارة بحيث يتجاوز الإنسان العقل ليتخبط بالغريزة والدوافع الآتية من الزعامات والعائلية والطائفية إذا أردنا تسميات نعرفها كثيرًا في وطننا.

من يتصرف غريزيا لا يؤمن بسيادة العقل على العلاقات البشرية ولا يعرف الفرق بين ما يوافق الشرع وما لا يوافقه ولا يرى ان خير ما نقدمه لمواطن ان نهذبه بتذكيره انه إذا أحس بأن له منفعة آنية من المخالفة فإن له منفعة دائمة بطاعة أهل التشريع والحكم في الأمة.

هذه الموضوعية هي في ان يرى المسؤول والمواطن نفسيهما في علاقة تتجاوزهما تفرضها مصلحة الجماعة، كل الجماعة في مراعاة الحرية والعدل معًا. خلاف ذلك الفردية الفاتكة في هذا البلد وخلاف ذلك رؤية الطائفة متحدًا كافيا نفسه. العدل بارد إلى حد بعيد لأنه يرى ان القيم تسوس الناس جميعًا ويرى العاطفة ضمن السياسة. ولكن ما يجعل المؤسسة ليست كلية البرودة هو الأبوة الحاضن للعلاقات. وهنا يأتي دور القوى الروحية الفاعلة الشاهدة لأن الحكم يصبح شيئيًا ان خلا من الشعور. فالإدارة يصلحها الملح كما يقول الإنجيل أي تلك النكهة الشخصية التي هي نفحة الإدارة الكبيرة والقضاء الكبير فالعدل في ذروته يصبح محبة والوطن يصير عائلة. هذا ما عرفه الملوك العظام والذي يمكن ان نذوقه في حكم الشعب الناضج. وهذا يمكن ذوقه في كل مراتب الإدارة. فالسياسة لهفة اي انها تدبر شؤون الناس كما الناس هم. والسياسة اختيار للأولويات والأولية للفقراء وما يعانون منه وذلك لا ينتهي بإطعامهم وتطبيبهم وإيوائهم وتدريس أولادهم ولكن السياسة تثقيف.

***

هنا لا بد لي من الاغتباط بأن حكومة السيد رفيق الحريري انشأت في ما أنشأت وزارة للثقافة والفنون الجميلة طالمـا تمنينا ظهورها واسندتها لرجل يزداد إعجابي بـه ما سمعت اليه بسبب مـن المعرفـة الدقيقـة التـي يكشفها لنا. ميشـال إده رجل موسوعي يذكرني كلما اجتمعت اليه بهذه الآية النبراس في القرآن: «هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون». ومن وراء المعارف له هذا اللب الذي يذكرني بكلمة السيد في إنجيل يوحنا: «تعرفون الحق والحق يحرركم». اعرف في آخر المطاف ان الثقافة يمكن ان تكون ترفا ولكن ان تواضعت لها أيضًا ان تصبح عتبتنا إلى الحقيقة التي تعوز شعبنا كثيرًا. المطلوب من وزير كهذا ليس أقل من ان يصبح أبا للبنانيين على صعيد العقل وعلى صعيد الذوق أي في مجال القلب ذلك ان كل شيء قلب كما علّمنا المتصوف النفري.

ومغامرة تثقيف هذا الشعب جعله شعبًا جديدًا على قدر نعمة الله عليه وعلى قدر اجتهاد لنا كبير. ويعني هذا أولاً تقويم أخلاقنا وشدنا إلى إيمان نتغلب به على عيوبنا التاريخية. بالمعرفة المنجية نخلص من المركنتيلية ومن الاستلذاذية لندخل في سر العطاء وسر الإبداع إذ ليس من فصام ممكن بين قبول الأشياء العظيمة والمناقبية. هل تكون سيدي الوزير رسولاً؟ هذا يستوجب الإحاطة بالرساليين والخلاقين في كل ميدان وتنقية لكل أساليب التعبير عندنا ولا سيما وسائل الإعلام وللوزير هيمنة كاملة أو ليس هو بشيء. رفع الذوق اللبناني ورفعنا من حضارة الأكل والاستهلاك حتى تمتصنا الحقيقة بالحب الذي لها ان تنشئنا عليه وتدخلنا في التراث العالمي منذ سقراط حتى يومنا هذا وذلك بلسان عربي مبين، ذلك كان التكليف.

المبتغى أن نعرف كل شيء بدقة كما يعرف ميشال إده، ان نصبح أحرارًا في دواخل النفس بلا ضغط السياسة وقهرها، ان نعمل كل ذلك معًا «لئلا يهلك منا أحد» ولا يصير في بلده نسيا منسيا. والثقافة روافد التراثات القائمة عندنا تنصب معا في ما نشتهيه ميراثا لهذا البلد واحدًا. لم يعتد اللبناني ان يكون مسجلة فهو في الخطاب العربي رائد وإذا لم تعِ العروبة ذلك فانها لا تكون واعية لنفسها ولا تكون ذات مضمون. فالثقافة حمسة ولو لم تستغرقها الإنشائية الحماسية. الثقافة طاعة للجمال والطهارة مقترنين. روحها الحرية التي تبدع وحدها مسؤولة أمام نفسها كما ذكرنا بذلك غسان تويني في جامعة البلمند الأسبوع الفائت.

ان السيد الحريري بتأسيسه هذه الوزارة للمرة الأولى في تاريخنا دل على اننا نجتمع حول الفكر ولا يجمعنا اللغو ولا المجاملة. الحالة اللبنانية ليست الآن إلى الوحدة إذ لا نستطيع ان نقيم الا في الثقافة الكبرى أي في التنوع والغزارة خارج طغيان الوحوش السياسية. ان ندرك مسؤولية الكلمة التي تخرج من فم الإنسان وتطهره وتنتج ما تقوله تلك هي المسيرة التي تأخذ في طريقها كل اللبنانيين. ذلك ان الوفاق الوطني وفاق على الكلمة الحلال وتلك المشاركة التي لا يهمَل منها أحد.

أرجو الا نكون قد دخلنا في وفاق – نفاق يقوم على قهر تاريخي بإلغاء هويـة جـزء مـن الأمـة كبيـر. والإذلال ممكـن تحـت التعـابيـر التـي ظاهـرهـا وحقيقتهـا طغيـان. ان «طبائع الاستبداد» فـي لبنان غـدت باديـة، صارخـة بالرغـم مـن خطب الرئيس الياس الهراوي. والناس يأكلون ويبيعون حريتهم. هذا هو الإغراء الذي يحذرنا منه دوستويفسكي في اسطورة المفتش الأعظم. لن ندفع ثمن الحرية طعامًا يعلفوننا به. شاؤوها دولة المطعم بعد أن أذاقونا الجوع. الموت أشرف حتى تحل أعجوبة الحرية في فجر اليوم الثالث.

Continue reading