Monthly Archives

December 2010

2010, جريدة النهار, مقالات

2011 / الجمعة 31 كانون الأول 2010

اذا حزنا كثيرًا السنة المنصرمة فلتفتح أبواب السماء لنرث الرجاء. لا نستطيع ان ننسى آلام البشر وتبقى الذاكرة موسومة بالأوجاع حتى يغرس فينا الرب شوقًا إلى الفرح الذي وعدنا به المسيح. نمتد إلى الآتي النازل علينا من فوق حتى تتجدد أبديتنا في كل لحظة.

الأبدية دفق علينا. لا نصنعها بأشواق. نتلقاها نعمة ونوزعها بالحب على الجائعين اليها ولكن ماذا نعمل بالعقل المحلل والمضني. هو يقول ان الكوارث قد تحل، قد تعيد الينا الأحزان والفقر والمرض. تتشابه الأزمان في الشقاء ويقع الموت علينا كما تحل المسرة. وما يسمى تاريخًا هو تاريخ الخوف الذي فتك أو الذي نتوقعه ما خلا القداسة التي تحمينا وحدها من مخافة الموت.

السنة التي نستهلها اليوم موصولة بالتي عبرت وقد لا تكون أفضل منها لأن للأحقاد استمرارا وللتوترات بقاء والعداوة حاكمة حتى نهاية الدهور والهويات متناحرة فأنا عدوك لأني أنا أنا وأنت أنت وثروتي كثروتك، تشبهني فأكرهك أو أنت أذكى مني ولا أعترف بذلك فأنمّ عليك وكامنة فيّ ذئبيّة مفترسة لأقضي عليك وهذا كله يبيت في السياسة بغلاف الايديولوجية اذ الكلام كالمقول ستر لكلام غير مقول. البشرية قذارات ودم حتى يتجلى الله ويغسلنا من كل ذلك.

كيف اذًا نغير الكون؟ من يغيره؟ السؤال يفترض ان ثمة جماعات قادرة على تغيير السياسة. الناس عندنا يحسبون ان تغيير البلد في أيدي أهل الحكم ولكن القلة تؤمن ان الساسة يريدون بلدًا جديدًا وان ليس لهم مصلحة بظهور بلد حسن وجميل. ويؤتى بهم لمصالح الناس في آلية انتخابات نزيهة. ولكن لم يتبين حتى الآن إرادة تغيير. ماذا نعمل اذًا. هنا اليأس والقنوط يسودان وهذا يؤدي إلى تفجع ناتج من ان القديم على قدمه والتفجع من عدم ظهور دولة حاكمة أي قادرة.

#    #

#

انها لأعجوبة ان يعيش الناس في بلد لا حكم فيه أي لا عدالة فيه، بلد انقطع فيه الحوار بين الحاكم والمحكوم اذ لا يبدو فيه إرادة التعامل بينهما. وإذا نظرنا إلى غير لبنان، إلى الجوار العراقي مثلا أو الجوار المصري كل شيء يدل ان العنصرية تسود بشكل بشع عنوانه حسب الظاهر ان المطلوب تفريغ البلاد من المسيحيين. من هو العامل، من المخطط لكل ذلك، لمصلحة من؟ عند التحليل البسيط ليس ما يدل على ان المسيحيين العراقيين تحيزوا في العراق لفريق.

تعذرونهم اذا خافوا على وجودهم الجسدي وعلى شهادتهم الحضارية. وهم لا يربحون شيئا من فتنة اسلامية التي اذا حصلت، لا سمح الله، لا توفرهم. يقتلهم الغير مجانًا فإن موتهم ليس مربحا لأحد. لماذا صلاتهم في الكنائس يجب ان يحميها الجيش؟ هل جميل ان يصلي القوم خائفين أم يقبعون في بيوتهم لتصبح معابدهم أثارًا للسواح؟ من يمنع الذابحين ان يقضوا عليهم في منازلهم؟

كيف نشأت هذا البغضاء والمسيحيون قلة ليس لها قدرة ان تبغض أحدًا، قلة ليس لها أية وسيلة لتثبت نفسها في الوجود الجسدي فقط. أليس عيبًا ان تلتمس حماية بعد ان اقنعوها ان النظام في خدمة المواطنين جميعًا. ومن الثابت ان الدول الكبرى وكلها علمانية غير مهتمة بهذه الأقليات للحفاظ عليها جسديًا وهم لا ينفعون الدول بشيء. الصغار لا يدخلون في أية معادلة سياسة ولا يبدو ان أحدًا يتحرك لبقائهم واتكالهم على الله وحده.

الدنيا كلها ذبح حتى يعطل الرب أيدي الذابحين. لماذا لا يفهم القتلة ان الأخوة البشرية غير مستحيلة، انها أطيب عيش؟

#    #

#

حلول عالمية أو كونية ما بانت بعد. هل تنفع مناشدة الضمائر؟ السنة التي نستهلها اليوم ستراق فيها دماء ما لم تحصل أعجوبة سلام إلى هذا تفرغ فلسطين التاريخية منا بلا دم مهراق. ولكن من يقول هناك للمسيحيين الا يهاجروا؟ هل أرض المسيح معقولة حضاريا بلا أتباعه؟ هل تصبح كنيسة القيامة وكنيسة المهد أثرا بعد عين؟ هل يقال بعد بضع من سنين، هنا صلى قوم اسمهم المسيحيون ليذكرهم السواح ذكر قوم انقرضوا؟ معيب على العرب جميعا ان يتكلم يوما على كنيسة القيامة كما يتكلم الدليل عندنا على قلعة بعلبك. بلا المسيح عيسى ابن مريم اين تيقى بلاغة العرب؟

#  #

#

خارج الحديث عن الدول وحكامها، خارجا عن السياسة والدعاء يبقى الإنسان الفرد عربيا كان أم غير عربي وحده أمام الله. كان على كل منا ان يقول وحده لربه: ها انا لك مرميا في حضرتك، امام وجهك وحده اذ لم يبقَ لي وجه إزاء أحد. أنا لك في فقري وتعبي وأولادي الذين نسي القتلة ان يقتلوهم. أنا وهم في رحمتك. أنت طالبنا ونحن طالبوك. احينا انت في هذا الزمان الرديء الذي خلقه الأشرار وأهملنا فيه حكامنا. نعيش بفتات من الخبز وقد لا يبقى فتات. نحيا على الرجاء به نحن مخلصون. ادخل محبتك على ما تبقى لنا من هذا الجسد. ادخلها على تعبنا، على ضعف أجسادنا.

نحن عاهدناك الا نكره أحدا من حكامنا والمواطنين. ليس لنا سلاح نحمله ولا نريد. سوف نجوع إلى حبك اذ لم يبقَ لنا خبز نجوع اليه. بقوتك وحدها نحمل رجاءنا معنا ولو تشتتنا في دنياك الواسعة اذ ستكون أنت وطننا الوحيد. وفي شقاء سعينا سوف نجاهد الجهاد الحسن ونحفظ الايمان بهذا القليل الذي سيبقى لنا من التنفس.

علمنا ان نحب الذين يحبوننا والذين يبغضوننا. سنحب العراق ومصر وفلسطين حيثما استبقينا. سنحافظ على الجميع اذ لا ندين احدًا ولا نرى فيه السوء. ونسألك ان تفتقد كل البشر برحمتك الواسعة وتهديهم إلى الحق والدينونة لك وحدك في اليوم الآخر. لا نريد ان نقيم على أحد خطيئة فالقانون والراحمون كلهم ابناؤك.

امتحنا على قدر طاقتنا حتى لا تخور قوانا واجعل هذه السنة مرتعا لقدرتك أنت لنقول انها سنة جديدة. الجدة منك. أعدنا اليك وحدك حتى لا يخذلنا احد ولا نتمرمر فالتمرمر هو الجحيم. كل يوم، كل لحظة شدنا اليك حتى لا نموت حزنا. انك قضيت على الحزن بميلاد المخلص وموته وقيامته. بسبب منها نصبو إلى قيامتنا فيك كل يوم على رجاء القيامة الأخيرة والحياة الأبدية.

هل نفتتح معك السنة هذه بفضل من كلمتك ووعدك لنا بأرض يسكنها العدل. فاذا أتى أو لم يأتِ أنت وحدك مطرحنا ومطرح المطيعين لك الذين اعددت لهم ملكوتا لا يفنى.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

أن أَموت أُرثوذكسيًا/ الأحد 26 كانون الأول 2010 / العدد 52

أن أُولد أُرثوذكسيا، هذا ليس لي فيه رأي. أن أَتربى في هذه الكنيسة يعني أن أقبل تربيتي، أن أتركّز في كنيستي، أن يكون لي فيها حضور كلما أرادت هي حضوري (في الآحاد والأعياد أولاً، في الصيام الكبير، وإذا مكّنني من ذلك عملي أن أدخل الى كنيستي اذا كانت مفتوحة صباح مساء). شعبنا يقول باللغة الدارجة: انا ذاهب الى الصلاة لإحساسه بأن الوظيفة الأساسية للبناء الكنسيّ إقامة الصلاة.

ولكن في بيتي، أية صلاة أصلي وليس عندي كل الكتب الضخمة التي نستعملها؟ على الأقل انت تقرأ في السواعي الصغير وربما في السواعي الكبير. تتلو صلوات ثابتة منشورة، واذا كنت اكثر وعيا يرشدك الكاهن الى ما تقول.

القداس الإلهي تحضره في كنيسة رعيتك، واذا كانت بعيدة ففي أقرب كنيسة الى بيتك، ولا تزكّي نفسك بذهابك الى معبد من غير مذهبك بزعم أنه أقرب إليك. القرب والبعد لا يدخلان في الدين. انت عضو في الكنيسة الأرثوذكسية، وعليك أن تقوّي عضويّتك فيها أي أن تبقى منتسبا اليها في كل حين. ليس لك أن تقول ببساطة: كل الطقوس متشابهة. القصة ليست قصة طقوس. القصة كلها في الانتماء. اذا كنت تعيش على الإيمان الأرثوذكسي، تذهب الى مركزه. غيرُنا على مذهب آخر. نحترمهم ونتعاون وإيّاهم في شؤون كثيرة، ونرجو أن نتّحد بهم ويتّحدوا بنا في الوقت الذي يعيّنه الله في حكمته ورضاه. انت ذاهب الى الوحدة المرتجاة من كنيستك، وتمشي الى الوحدة متحصّنا بما ورثت من القديسين حيثما نلت المعمودية. انت وأبناء كنيستك مجتمعين تحبّون الإخوة الآخرين، ويقف كل واحد منا ومنهم حيث إخوانه ورعاته.

اذكُرْ ثانيًا أنك تذهب الى الكنيسة لتتعلّم. انت بالوعظ والاجتماعات او السهرات الإنجيلية التي يوجّهك بها المسؤولون تتلقّى التعليم الأرثوذكسي وهو يحتوي على عقيدتنا، وغيرنا له عقيدته ولا نجادل فيها ويناقش فيها العلماء الى أن تنجلي نقاط الخلاف بيننا. أن تذهب الى كنيستك فقط ليست حربًا على أحد.

هذا يبقى حتى موتك. أَذكُرُ أن والدتي قالت لي بضع مرات: اعلمْ أني أُريد أن أَموت أرثوذكسية. لستُ أعلم لماذا قالت هذا وما أغراها شيء آخر. انت لن تبقى أرثوذكسيا إلا إذا صمّمت على ذلك وكان لك على ذلك إصرار. يجب أن تقول هذا لمن حولك إذا كان بعضُهم على مذهب آخر. الدفن في مقبرة أُرثوذكسية أمر هامّ لتكون عظامُك الى عظام أبناء ملّتك. إنها أجسام يحتضنها الروح القدس. لا تقبل أن يشلحوك كيفما كان.

هكذا يكون إخلاصك للمسيح. المذهب الأرثوذكسيّ ليس قميصا ترتديه يوما وتخلعه يوما. هو يُلازمك طوال حياتك بالإيمان، بالفهم، بالصلاة والتقاليد الدينية.

الدين الذي نعيشه في كنيستنا هو الوعي، والوعي هو الذي يحملك الى السماء.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الميلاد / السبت 25 كانون الأول 2010

ان لم يكن كل عيد تدفق حب يكون فقط قطعة من الزمان ولا يصبح الزمان نقطة فينا وقد يضحي زمانه زمانا رديئا نقضي فيه حاجتنا الى التفاهات. ارى هنا مساحات مضاءة تقول للناس ان الميلاد قادم او قدم. هل دخلنا نحن عالم المعنى؟ من صاحب العيد او هل للعيد صاحب ام نحن وأطفالنا المحتفى بهم ولا سيما اذا اكلنا وشربنا ولهونا. هل هناك فاصل بين المؤمنين الذين يصلون واولئك الذين لا يصلّون. أتحجب هدايانا من تقبل هدايا المجوس؟ شغفنا بالزينة اذا جملنا الموسم فارغا من المعبود أليس عبادة للمخلوق؟ الا اعطانا الله ان تنفع الذكرى.

في البدء كان الفصح اي عبورنا من خطايانا الى حرية ابناء الله بالبر وفي مرحلة ثانية أتت الكنيسة بعيد الظهور الإلهي الذي يعيد له في السادس من كانون الثاني ويتضمن ذكرى عماد السيد وذكرى ميلاده حتى فصلا لأسباب رعائية. فصلت الكنيسة الميلاد عن العماد فجعلت تاريخه في عيد مولد الشمس في الامبراطورية الرومانية لئلا ينضم الشباب المسيحي الى الشبيبة الوثنية فيلهوان معا.

في الشرق بقي الفصح غالبا شعبيا. في الغرب انتقلت الأهمية الى الميلاد مع بقاء الكنيسة اللاتينية محافظة طقوسيا على قوة القيامة. عيد الميلاد المدعو الصغير هو طريقنا الى العيد الكبير الذي هو قلب فرحنا. الميلاد بدء الخلاص الذي يكتمل بصلب المخلص وقيامته. وهما ينعكسان فينا غلبة على الخطيئة وخوف الموت. للرعاة قال ملاك انكم تصيرون عظاما اذا استقبلتم ملك الملوك الذي يدعى مخلص العالم. لقد ولد في الجسد في بيت لحم لتولدوا مع كل البشر من فوق فتصيروا فاهمين وبالفهم الروحي فيكم تتجدد الإنسانية كلها وتصبح أرضكم سماء يسكن فيها العدل والعدل الكبير هو المحبة.

# #
#

هي محبة الله لكم من الآب وابنه وروحه. فالكلمة صار جسدا وحلّ فينا وبعبارة اوضح لليونانية التي نزل فيها الكتاب «صار الكلمة جسدا لينصب خيمته في حينا» فإنه يساكننا حيث نبيت ونبيت في أرض الله الواسعة مع كل من احبهم الله فجعلهم ابناءه. انتم كذلك لأن المولود الجديد جعلكم بذلك »شركاء الطبيعة الإلهية« بحيث تقر فيكم كل قوة الله وتدنون من كل إشراقات الرب لتضحوا بدوركم مكللين بالضياء الإلهي.

لقد اختار الله ان يبعث اليكم بابنه لتعرفوا قرباه. هذا هو سره انه اراد هذه الصورة ليعبر لكم عن احتضانه. تبناكم بملاصقتكم بشريته لتدركوا حقيقة قرباه. اجل كان له ان يخلصكم بكلمة ويبقى في سمائه ولكنه أراد بمشيئته الأزلية ان يوضح لكم محبته بصورة محسوسة فيتصرف المسيح معكم بطريقة إلهية-انسانية لتدركوا انكم مدعوون الى ان تتصرفوا إلهيا. تدركون عند ذاك انكم قادرون على تقبل الألوهة فيكم فلا تبقى هوة بين السماء والأرض.

الا تعلمون ان المسيح بعد ان جلس عن يمين الآب قال لكم انكم انتم به وفيه مدعوون بالنعمة ان تجالسوا الله وان ترفعوا فكركم الى «الفكر الذي كان في المسيح يسوع».

هذا حقق التواصل بينكم وبين أبيه اذ ان طبيعتكم الجسدية قادرة ان ترتفع بلا انقطاع. غير ان هذا التواصل عطاء منه وهدية منكم اليه ليس كهدايا المجوس اذ ان هديتكم واحدة وهي التوبة. بها تفهمون ان المسيح كما كان فقيرا هو الذي يجعلكم فقراء الى أبيه وكما بات متواضعا يربيكم على التواضع الذي تفهمون فيه ان ليس لكم سوى كبر التواضع. بالتوبة تتحولون الى وجهه فيرتسم عليكم نوره وتغدون كلكم قامات من نور. تسقط، اذ ذاك، ترابيتكم فيراكم نورا.

هذا يقتضي ان تصيروا مسحاء اي ممسوحين بنعمته وثابتين امامه بالنعمة وممتلئين بالفرح النازل من عنده اذ ليس لكم بحق الا هذا الفرح. وما لكم من مقر الا قرب عرشه أبرارا مع كل الأبرار، أحياء بكل قداسة يغدقها هو عليكم يوما بعد يوم وجيلا بعد جيل اذ ليس من تاريخ الا تراكم القديسين المذبوحة قلوبهم بالحب حتى يجيء الرب ثانية في آخر الأرمنة.

# #

#

«افرحوا في كل حين وايضا أقول افرحوا» ولا تخشوا كونكم قطيعا صغيرا. لا تحزنوا من هذا فالقطيع الصغير يولفه كبار النفوس ولطفاء القلب. ليس لكم ان تعدوا المؤمنين الذين يأتون من عمق الرب. العالم الإلهي لا يخضع للأرقام. هو توهج وفي التوهج تتكون الوجوه. «هلموا نصعد الى جبل الرب» ولا تصالحوا السقوط والذي قدر ان يخرجكم من العدم الى الوجود المنظور قادر ان يرفعكم الى الوجود غير المنظور الذي يؤلفه القديسون.

ميلاد الرب وعد لكم وموعد مع البرارة. ومتاع الدنيا يبقى في الدنيا وانتم منذ الآن مخطوفو النعمة ومتكونون منها. لا تخالطوا الظلمة ولا موضعا في الظلام لأن سكناكم الملكوت. هذا ليس مرجأ. فالملكوت يقترب دائما منكم لأن المليك قد جاء واختاركم وأحبكم واتكأتم على صدره وهناك سمعتم كلمات لا يسوغ النطق بها. وبعد هذا فالامَ تستمعون؟ «رنّموا للرب ترنيمة جديدة» كلما استمعتم الى كلمات الرب.

رتلوا امام المذود في فقركم الى مطرح في المذود. منه يأتيكم الهتاف اليه وبعد الهتاف اليه تخرجون الى العالم لتضموا اليكم أجواق السكارى بالحب الإلهي.

عيدكم اليوم زينتكم الداخلية وما من زينة أخرى حتى يحب الله جمالكم اذ هو جماله. يحبكم الله كما يحب ابنه الوحيد بالمقدار نفسه والزخم ذاته لأنكم حصلتم على مجد المسيح بين الجلجلة والقبر. لازموا بيت لحم كمنطلق الى العلى.

هذه معموديتكم الثانية. انكم لقد متم مع المسيح لتقوموا معه وذلك كل يوم في نباهة النفس واشتهاء الكمال الذي ينزل من عنده. بعد هذا لا يبقى لكم ما نطلبونه. انتم مقيمون عنده برغبة الإقامة.

الميلاد جاء لتطلبوا الميلاد الثاني لكم هذا الذي وعدكم به. الإنسان يولد من السماء قبل ان يبلغ السماء العلوية. هو أزال الهوة التي كنتم تتصورون بين ما هو فوق وما هو تحت. لأنه هو الذي أصعدكم منذ الآن الى فوق.

هذا هو ميلاد الرب وميلادكم. انهما واحد حتى تخرج من أفواهكم وقلوبكم ترنيمة أبدية.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

أحد النسبة / الاحد 19 كانون الأول 2010 / العدد 51

الكلام في الرسالة والإنجيل هو مضمون أحد النسبة السابق لعيد ميلاد الرب. الرسالة تسمّي شخصيات من العهد القديم، جدعون وباراق وغيرهما والأنبياء الذين تحدّثوا بطرق او أخرى عن ظهور المخلّص. ومقطع الإنجيل المأخوذ من متى يذكُر شخصيات كبيرة متحدّرة من إبراهيم جاء منها الرب يسوع تنتهي بيوسف خطيب مريم لأن النَسَب هو للمظنون والدًا كما يقول عنه لوقا في لائحة النَسَب الصاعدة أي التي تبدأ بيوسف وتنتهي بآدم.

تكلّمت الرسالة عن فضائل هؤلاء: «عملوا البِرّ ونالوا المواعد ونجوا من حدّ السيف وتقوّوا من ضعف»، وتحدثت عن جهادهم الروحيّ «تائهين في البراري والجبال والمغاور». «هؤلاء كلهم، مشهودًا لهم بالإيمان، لم ينالوا الموعد حتى لا يكمُلوا بدوننا» والمعنى أنه لا كمال إلا بمجيء المخلّص. والكلمة المفتاح هي الإيمان.

كذلك الإيمان هو صفة الذين ذكرهم متّى في مطلع إنجيله، هذا المطلع الذي نقرأه مضمونه الإيمان. ابتدأ لوقا الإنجيليّ بإبراهيم أبي المؤمنين لأنه أول انسان آمن بالله الواحد. وبعده جاءت الشريعة بموسى، وبعده جاء داود أبو المسيح.

لماذا كل هذه الأسماء؟ ليُبيّن متّى البشير أن ثمة تسلسُلا من أجيال مؤمنة الى المسيح الذي ما جاء لينقض بل ليُكمل. يسوع تحدّر في بشريته مِن نسلٍ مؤمنٍ واكتمل الإيمان به.

بعد ورود هذه الأنساب، روى متّى ما يتعلّق بميلاد الرب من مريم. العذراء تحبل، وهذا وردَ عند إشعياء النبي، وتلد ابنًا ويُدعى اسمُه يسوع (يهوشع باللغة العبرية) التي تعني «الله يخلّص» بهذا الشخص المولود ليس من رغبة رجل ولكن بمشيئة أبيه الذي في السموات.

يوسف لم يعرف مريم جسديًا قبل ولادتها. ولم يعرفها بعد هذا، ولبثت عذراء. وهي “الدائمة البتولية” كما عرّف عنها المجمع المسكونيّ الخامس. وأما عبارة «إخوة يسوع» فتدلّ في اللغة العبرية على أنسبائه، ولا تعني في هذه اللغة بالضرورة أنهم من أُمّه. وليس هنا مجال للتوسّع بهذا، ولكن هذا هو إيمان الكنيسة.

كيف نستقبل ميلاد يسوع؟ هو ميلاد من أجل الخلاص الذي نناله بموته وقيامته. ولهذا سمّته الكنيسة «العيد الصغير» وسمّت الفصح «العيد الكبير». يسوع وُلد من عذراء ويريد أن يولد كل يوم روحيًا من نفس عذراء أي ليس فيها أثر للخطيئة. الإنسان المحبّ للخطيئة او المشتاق اليها لا يتقبّل يسوع في نفسه. السيد في جسده كان منسوبًا الى إبراهيم وإلى نسله. المهم أن تكون أنتَ منسوبًا الى المسيح بروحك الطاهرة. الميلاد إذًا يتم كل يوم فيك إذا قبِلتَ أت تطرد كل غشّ وكذب ودنس وبغض وانتقام وتسلّط وكبرياء. اذا جمعتَ جمالات الفضيلة في ذاتك، يخرج منها يسوع الى العالم ليضيء هذا العالم بنعمته.

لا تُعيّد فقط بالهدايا للصغار. هناك هديّة واحدة أعطاها الآب للبشر هي المسيح. إذا أطعتَه فأنتَ ثابت فيه وهو ثابت فيك. أن تحمل السيد في ثنايا كيانك يجعلك أنتَ هديّة للبشر جميعًا. المحبّة هي الهديّة.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

إخوة يسوع الفقراء / السبت 18 كانون الأول 2010

في ميلاد يسوع «قمّطته (مريم) وأضجعته لأنه لم يكن لهما موضع في المنزل» (لوقا 2: 10). المراد هنا هو إما «ردهة» خان والخان فيه زريبة، وإما مضافة احد المنازل. لم يأتِ حديث عن مغارة. ذكر المغارة متأخر. الإقامة كانت قياسا على ما بقي في هذا المشرق من خانات الطابق السفلي منها لدواب المسافرين الذين كانوا ينزلون في الطابق العلوي. اذ يبدو لي أن يسوع الطفل ظهر في هذا العالم محاطا بحيوانات ليست بالضرورة حمارا وبقرة وذكرهما غير وارد في النص. في نقاهة الوالدة بقي السيد عشير أدنى المخلوقات الحية المحسوبة لا شيء.

يسوع لمّا بلغ حوالى الثلاثين حسب تقاليد اليهود، أخذ يعلّم ولازم أدنى طبقة اجتماعية الصيادين على بحيرة طبرية ما كان عندهم دخل ثابت اذ يقول الإنجيل انهم أحيانا ما كانوا يحصلون على صيد. وكان فقرهم باديا اذ اخذوا مرة «يقطفون السنابل ويأكلون» (لوقا 6: 1).

بعد القيامة ظهر لهم مرة وقال: «يا غلمان ألعل عندكم إدامًا؟» (يوحنا 21: 5) وبتعبير آخر: هل عندكم شيء من المأكول؟ فقالوا لا. هذا يعني انهم لم يصيدوا في تلك الليلة شيئا.

الى هذا يذكر لوقا أن كانت نساء كن قد شُفين من ارواح شريرة وأمراض كن يخدمنه من أموالهن (8: 1-3). طبعا هذا لم يكن راتبا شهريا للجماعة. كان يسوع اذًا لا دخل له نظاميّ اي كان ينتمي الى الطبقة الدنيا من اهل فلسطين. فلما طوّب الفقراء عرف الشدة التي كانوا عليها وعلم أن الموسرين عليهم واجبات عظيمة لهؤلاء المحرومين. واذا قاموا بها يدخلون ملكوت السموات.

ان كنت انت محبا للمسيح تحب أهله هؤلاء فيكون لك معه نصيب. هذا في الميلاد القادم وفي كل ذكرى ميلاد. انضمامك الى يسوع يعني رفع الظلم عن الكواهل التي يُتعبها الفقر.

# #

#

لست اقول هذا للذين يتبعون ديانة الإنجيل وحسب ولكن لمن كانوا إنجيليي الروح على أيّ مذهب كانوا. أن تقبل أن يبقى الجائع على حاله وانت قادر على عنايةٍ ما به يعني قبولك بأن تأكل انت وعيالك وتُهمله ولك القدرة الا تهمله فهو من لحمك.

تعظم الخطيئة عندما نعرف هذا الوضع وليس احد اليوم في لبنان لا يعرف والأعلمون القيّمون على الحكم وعندهم دراسات. هالني ما سمعته من مدة قريبة على الإعلام. قالت امرأة معوزة (اي غير قادرة على التوفير) ان عائلتها تنفق ثلاثين ألف ليرة في النهار على الطعام. ضربت هذا بثلاثين يوما فكانت الحصيلة أن هذه العيلة في حاجة الى ما يقرب من مليون ليرة على الطعام. اكثر من نصف الناس ليس عندهم هذا المبلغ. واذا أضفنا الى هذا الكساء وإيجار البيت ونفقات الطبابة وأقساط المدارس، إن نسبة ضخمة جدا من المواطنين دخلها دون هذه المبالغ بكثير. ربما لم يمت احد جوعا بتقدير الأطباء ولكنه ضعف التغذية المؤذي للأطفال والمراهقين وشيخوخة مبكرة للكثيرين وأحزان ويأس عند غالبي السكان. الفاقة الفائقة الحد تجعلك بلا أفق ولا أمل.

هل من علاج سريع اسمه بالحد الأدنى إبعاد خطر الجوع الراهن او المحدق بنا؟ لقد أحلّ بنا المجاعة عمدا جمال باشا السفاح في الحرب العالمية الاولى إطعاما للعسكر الألماني والعثماني من جهة وقصد إبادتنا لرفضنا خدمة الدولة المستعمرة. أُبيد ما لا يقلّ عن ثلث شعبنا. هل هناك زمرة جشعة لا أتهمها بقصد الإبادة ولكنها تتصرف بلا وعي ولا تخطيط ولا شفقة فينكشف تباين رهيب بين المالكين الكبار وغير المالكين لنكبتهم؟

انا ليس عندي وصفة لحل هذه المشكلة. علماء الاقتصاد والمال هم الأعلمون. ويُطلب الإحساس من القائمين على الحكم، ويُطلب الفهم وتمييز الأولويات، وهل من شك أن الأولوية الأولى لتخفيض الاسعار بأية وسيلة يعرفها العلماء؟

من يكلّمكم عرف الجوع الحقيقي في غربته. أكل خبزا فقط ممسوحا بزبدة نباتية خلال خمسين يوما بلا خضار ولا لحم ولا جبنة ولا لبن ولا فاكهة وذلك في بدايات الخمسينات من القرن العشرين في فرنسا. انقطع عنه مصدر تمويله بلا سبب يعرفه حتى اليوم.

# #

#

لا يستطيع المواطن الظالمه جوعه أن ينتظر قيام الدولة في كل مرافقها. أُمورنا بعضها الى بعض لن تنتظم بسرعة. هناك ما يوجع وهناك ما نصبو اليه من تحسين أموالنا وترقيتنا. نتصدى أوّلا الى ما يوجع حتى نتمكن من ألا نصرخ، من ألا يبكي اولادنا.

من عاش في ضائقة يبقى وضعه معقولا بالنسبة الى من كان تحت الضائقة اي في حال كفر حقيقي وبكاء متواصل للأطفال. رتبوا شيئا معقولا للفم قبل اي مشروع قابل للتأجيل. أعرف أن العالمين بالأشياء قد يقولون لي مثلا ان تشجيع السياحة سيحلّ المشكلة. هل هم عارفون بأن الرضيع يجب أن يرضع الآن ولا يستطيع أن ينتظر تدفق السواح؟ من سنوات كتبتُ في هذا الزاوية ما قد أكون صغته هكذا: ماذا تنفع الطرقات التي يسير عليها الفقراء الى قبورهم؟ هناك تراتب بين النافع والأنفع، بين ما نقوم به اليوم وما نقوم به غدا.

هل تريدون مني هذا الكلام المجازي: أتريدون ان يولد الأولاد في زريبة كما وُلد يسوع أَم ان أمه ويوسف قبلا بذلك حتى لا تتكرر مثل هذه الحادثة؟ من له أن يعيّد بعد أسبوع ليفرح اولاده بهداياهم والعائلة بمآكلها والأطياب ألا يستطيع شيئا لجاره المحروم ولعله يستطيع أن يحرك الدولة وأقطابها ليقوى حسهم بإخوتنا الذين الفقر الكبير قاهرهم.

القداس الحقيقي للعيد يكون بعد القداس، على مذبح الفقير الذي يقول عنه يوحنا الذهبي الفم انه أعظم من مذبح القربان. من لم يقرأ أن الفقير اهم شخص يحبّه صاحب العيد ليس له عيد.

اذهبوا وافهموا وشاركوا ليستمع الله الى صلوات عيدكم.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الأجداد /الأحد 12 كانون الأول 2010 / العدد 50

الأحد الذي يلي هذا، أحد النسبة، نذكر فيه الآباء بدءًا بإبراهيم، ومنهم جاء المسيح في الجسد حسب رواية متى. وهذه اللائحة هي لائحة الآباء العبرانيين مع أن إبراهيم لم يكن عبرانيًا. متّى وجه إنجيله الى اليهود الذين كانوا ينتظرون أن المسيح يجيء منهم. غير أن السيد يجيء أيضًا ممن عاشوا قبل اليهود. وهذا ما سيذكره لوقا إذ يجعل الرب يسوع ليس فقط من إبراهيم ولكن من آدم. ربما كان لوقا وثنيّ الأصل من أنطاكية او كان من الدخلاء على اليهودية وأراد أن يعطي الطابع الانساني الشامل لشخص المسيح.

هذه الرؤية الشاملة جسّدتها الكنيسة في هذا الأحد الذي نذكر فيه أجدادًا للمسيح هم من الأُمم (أي من الوثنيين). نرتل في صلاة الغروب: «لقد زكّيتَ بالإيمان الآباء القدماء، وبهم سبقتَ فخطبتَ البيعة التي من الأُمم». وأيضًا أن المسيح المنقذ «عظم الأجداد في جميع الأمم». منهم من كان وثنيا بوضوح، ومنهم من كان يهوديا. يذكر ملكيصادق الذي أتى ذكره في الرسالة الى العبرانيين.

هذا استقبل إبراهيم من كسرة الملاك وأعطاه إبراهيم عشرا من كل شيء. «لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة بل هو مشبّه بابن الله». وليس عبرانيا. ونذكر الأجداد ابتداء من آدم.

لذلك كان المسيح أوسع من إسرائيل ورئيسَ إسرائيلِ اللهِ الذي هو الكنيسة. لذلك يقول بولس في الرسالة الى اهل غلاطية: «ليس يونانيّ ولا يهوديّ»، والمراد بها أن الآتين من الحضارة اليونانية صاروا واحدا في الكنيسة مع الآتين من إسرائيل، ويرادفها قوله «لا ختان (يعني اليهود) ولا قلف» وهكذا يُسمّي الوثنيين الذين لا يختتنون. كذلك يقول «لا بربريّ ولا اسكيثيّ». البربريّ حسبما قال أرسطو هو غير اليوناني. الاسكيثيون من أصل إيرانيّ كانوا ساكنين في جنوبي روسيا.

كل هذه الاختلافات العنصرية التي كان الأقدمون يعتدّون بها لا تتوحّد الا اذا انضمت الى المسيح، ومن هذه الزاوية تكون تخلّصت من عداوة الأعراق، وكل ما كان عندها في وثنيّتها من خير وعلم ومعرفة يكون مهيئا لمجيء المخلّص. المسيح قبل ميلاده من مريم كان بطريقة او اخرى تُمتمُهُ كل الشعوب القديمة وتنتظره بما عندها من صلاح وفهم. فإن المسيح، لو كان من اليهود في جسده، انما كان من الناحية المعنوية وريث كل الحضارات. عمّدها بالإنجيل، وسقط من فكرها ما كان ضد الإنجيل، وثبت ما كان من الإنجيل.

كلمات للمسيح قبل تدوين الأناجيل كانت مزروعة في ثقافات الشعوب التي تقدّمت يسوع واعتنقته وورث منها المخلّص ما ورث، وطرحت هي بمجيئها اليه ما كان يتنافى مع رسالته، وصار هو للجميع كل شيء.

عندما نأتي الى المسيح من أيّ موروث ثقافيّ، يبقى هو سيّدًا على كل ما نعرف ونحسّ، ويظلّ وحده قطب شخصيّتنا ومنتهى طريقنا الى الآب.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

تحدر يسوع البشري وارتقاؤنا / السبت ١١ كانون الأول ٢٠١٠

سلالتان ليسوع إحداها عند متى والأخرى عند لوقا. لا يهمني هنا اختلافهما لأنهما كليهما ما كان هاجسهما رسم شجرة العائلة بدقة ولكن عند كل منهما أطروحة لاهوتية تختبئ وراء اسماء وردت في تاريخ العهد القديم. اذًا هناك ارتباط بهذا العهد ما يعني معاني لاهوتية تتصل بالسلالة وبعامة تتصل ببشرية المسيح. تأكيد هذه البشرية لم يرد على خاطر قراء الإنجيل الأوائل ولكنه ورد فيما بعد اذ أنكر قوم حقيقة جسده كما أنكر آخرون ألوهيته. هاتان اللائحتان برزتا داعمتين للعقيدة في هذا الزمان او ذاك.

         الفرق اللاهوتي واضح بين متى ولوقا بسبب افتراق الغاية عند هذا وذاك. لوقا يبدأ بيوسف الذي «كان يظن» -هذا كلام لوقا- على انه ابو يسوع. وهو يقول بعلى ما كان يظنا ليؤكد بتولية مريم حسبما ورد ذكرها في التراث السابق له والوارد بوضوح عند متى. لا نعرف اذا كان لوقا قرأ متى لأن كل واحد -كما يؤكد العلماء المعاصرون- وضع بشارته بين السنة الثمانين في القرن الأول والسنة التسعين.

         غير ان لوقا كتب من زاوية الانسانية كلها ومتى من الزاوية اليهودية. لوقا يبدأ بيوسف وينتهي بآدم ومتى يبدأ بابراهيم ويصل الى يوسف. فكرة متى ان يسوع الناصري هو المسيح الذي ارتجاه الأنبياء ويختم نسل الإيمان الذي بدأ بابراهيم ولوقا اراد ان يبين انه مخلص العالم ولذلك ينهي السلالة بآدم غير انه بعد ذكر هذا يقول عن يسوع انه ابن الله.

         في السلالتين ابراهيم ليس من اسرائيل. ابراهيم يقول عن والده: «كان ابي آراميا تائها» (تثنية 26: 5) فاسرائيل اذًا لم يبدأ به. هو اسم ليعقوب حفيد ابراهيم. في الطقس البيزنطي يوم غد يدعى احد الأجداد ومن بين هؤلاء ملكيصاداق الذي كان من خارج اسرائيل وبارك ابراهيم. يسوع منسوب على الأقل الى اثنين ليس واحد منهما عبرانيا. منسوب يسوع الى هذا الملك الكنعاني وليس له معه صلة جسدية. هنا لا بد لنا ان نفتش عن فكر الكنيسة التي ترى ارتباطا ما بشخصين ليسا من اسرائيل. ما هو هذا الارتباط؟

         ملكيصاداق يقول عنه الكتاب انه ملك السلام او ملك اورشليم قبل ان يجعلها داود عاصمة لملكه. ملكيصاداق صورة للمسيح او نموذج. بلغة اليوم نقول انها صلة ثقافية وليست صلة دين.

# #

#

         بتعبير آخر المسيح وريث ايضا لمن ليس له معهم وحدة دم. لست أوحي بهذا ان السيد أخذ شيئا من وثنيي الجليل الذين كانوا ينطقون باليونانية ولكن الكنيسة رأته منفتحا على الذين كانوا قبله خارج الشعب اليهودي. وهذا ليس منحصرا بمن سبقوه ولكن كنيسته منفتحة على الذين عاصرتهم من بعده ويتحققون فيها علموا ام لم يعلموا. ولهذا يتسربل الإنجيل الثقافات الدينية الأخرى دون ان يخون نفسه ويأخذ هذا الإنجيل الشكل التعبيري الملائم له اذا دخل ميادين دينية او ثقافية اخرى.

         هنا تلاقي الدعوة المسيحية الفكر اليوناني. فالإنجيل لا يتضمّن كلمة جوهر التي نطلقها على طبيعة الله كما لا يتضمّن كلمة أقنوم ولكن هذا لا يعني ان المسيحية صارت يونانية في المجمع المسكوني الأول (النيقاوي) الذي أتى بدستور الإيمان الجامع الكنائس المسيحية كلها. انما ارادت الكنيسة الدخول الى الثقافة اليونانية لتنتشر بها في الأوساط الهيلينيّة المثقفة. الآباء الذين تثقفوا يونانيا كانوا يعلمون انهم لم يخونوا الانجيل ولكن كانوا يبلغونه بلغة عصرهم.

         ولماذا لا تكون هذه الثقافة ثوبا للإنجيل الذي ارتدى عند تدوينه الثقافة العبرية. هي ايضا ثقافة بشرية. في كل عصر كان المسيحيون مخلصين لإنجيل لابس ثوبا عبريا. لماذا لا يلبس في جيل آخر الثوب الذي يحتاج اليه؟ لماذا لا تكون الفلسفة الألمانية مثلا او ما جاء بعدها من فلسفات كساء للوحي الإنجيلي في إخلاص كل جيل للوحي الواحد؟

         بعد العنصرة تكلّم كل الرسل لغات متعددة يذكرها سفر الأعمال ليقولوا ما اوحي اليهم بلغتهم. تعدد الألسنة ووحدة الوحي.

         على هذه الصورة عندك في المسيحية طقوس مختلفة كانت الكنيسة تبدو فيها واحدة مع اختلاف العبادات وجوهر العبادة واحد.

         نحن نعمّد الثقافات كما نعمّد الإنسان فالانسان البالغ اذا تقبل العماد يطرح عنه الخطيئة بما فيها الفكر المخالف للمسيح ولكن طبائعه تبقى كما كانت وميوله الحسنة تبقى كما كانت اذ يطرح فقط الميول الرديئة. لا يرمي صناعته ولغاته ولا هوية بلده ولا انتماء له سليما. لا تلتصق به في المعمودية هوية له بشرية ولكنه يصير انسانا جديدا مع حفاظه على القديم الجيد الذي كان يحمله.

         المسيحية تلملم كل حسنات الثقافات وتطرح فقط سيئاتها. الإنسان يصبح جديدا بعمق النفس الذي فيه وهو على صورة الله قبل المعمودية الخطأ الذي كان يحمله لم يكن عنده جزءًا من صورة الله التي تكوّنه. المسيحي جديد بجدة المسيح وقديم بقدم آدم ويبقى ابن آدم ولو صار بالايمان ابن الله.

# #

#

         جمال الإنسان في ما ورثه من ربه ومن آدم معا. الله لا يبيد فينا آدميتنا والآدمية تتلقى الألوهية وتتحدان بلا انفصال ولا انقسام ولا اختلاط. في معتقدنا «تأنس ابن الله ليتأله ابن الإنسان». حركة الله الينا كانت تنازلا وحركتنا اليه كانت تصاعدا وهذا ما نعنيه في قولنا انه «جلس عن يمين الآب» اي ان بشريته بسبب موته وقيامته استحقت ان تكون جليسة الرب على العرش. وهذا تحرك الى الله دائم بنعمته وكرمه ورضائه ونبقى خلائق ولكنها خلائق جديدة. اذ يبقى الله نازلا حتى منتهى الدهور بكلمته ويبقى الانسان صاعدا بقوة هذه الكلمة نفسها وسر ذلك محبة الله للإنسان.

         سألني مرة صديق لي يعرف الموسيقى جيدا: هل نسمع السمفونية التاسعة فوق؟ أجبته تبقى متلقيا لجوهرها بلا صوت او رنة اي يظل القلب حاملًا كل غنى الفكر ولا نعود الى الجهل الذي كنا عليه قبل تلقينا المعارف.

         السماويات لا تزيل الأرضيات التي حلّ فيها روح الله. التاريخ بما كان فيه من بهاء يسجل في الأبديات. والأبديات التي كانت فينا لم نؤتاها لحظة اكتسابها لأن ما اكتسبناها هبط علينا مما لا بدء له ولذلك لا نهاية للإنسان الذي مجّده الله بالقيامة. بمعنى نحن في السماء هنا بعد ان اقتبلناها بحب وما جاءنا بحب يلازمنا من بعد القيامة. ولعله هو سبب القيامة.

         من هنا اننا قياميون بما نقتبسه من الخير والفهم لأنهما من الحقيقة التي يسكبها علينا الرضاء الإلهي.

         المسيح في بشريته الذي ورث كل جمالات التاريخ الذي قبله واحتضن جمالات التاريخ الذي تلاه صورة عن مصيرنا.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

ثمر الروح/ الأحد 5 كانون الأول 2010 / العدد 49

الروح يعني هنا الروح القدس، وثمره كلمة يستعملها الرسول بالمفرد مواهب عديدة، أوّلها المحبة التي يجعلها أوّل الفضائل في كلامه العظيم عنها في الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس ويتبعها الفرح الذي ليس مجرد تحرك نفساني ولكنه نعمة الروح، وكذلك السلام الذي هو مصالحة مع الله، وهو عنده ايضا نعت للمسيح، ثم يذكر طول الأناة ويريد به الصبر على الناس أيّا كانوا، ويعبّر عن نفسه باللطف الذي ينبعث عن الوداعة، والصلاح الذي هو التنزّه عن الخطيئة، والإيمان بكل ما قاله الله واذا كان حقيقيا معه الاتكال على الله، ثم يذكر الوداعة المتّصلة باللطف، وأخيرا يذكر العفاف عن كل دنس.

ولمّا أراد أن يقول ان الناموس يوصل الإنسان الى هذه الحسنات، عبّر عن ذلك بقوله ان هذه ليس ناموس ضدّها.

ثم يتصاعد فكر بولس ليوحي أن من عندهم هذه الميزات قد صلبوا الجسد مع الآلام والشهوات، والكلمة اليونانية التي نقلها «الآلام» يريد بها الأهواء اي الميول الباطنة التي تذهب بنا الى الخطيئة.

ويختم هذاالمقطع بقوله: «فإن كنّا نعيش بالروح (ايضا يريد الروح القدس) فلنسلُكْ بالروح». الروح القدس يسكن فينا ويأخذنا الى السلوك الصالح.

بعد هذا ينتقل الى ما هو سيء ويحذّرنا من العُجب اي الاعتداد بالنفس وهو لون من ألوان الكبرياء. كذلك يحذّرنا من الغضب الذي يجرح دائما الإنسان الذي نغضب عليه، ويريدنا ألاّ نحسد بعضُنا بعضا ونفرح بالخير الذي يعطيه الله من يشاء.

وبولس يعرف أنه، ولو وصّى بالفضائل، قد يسقط بعض الإخوة، ويريد أن نُصلحهم بروح الوداعة لا بتوبيخ شديد يجرحهم وقد يُظهرنا أننا بلا خطيئة. لذلك دعانا الى أن ننظر الى نفوسنا ونخشى السقوط. باللوم الأخوي اللطيف ليس من استعلاء. الخاطئ يحمل أثقال خطيئته في ضميره. من هنا قوله: احملوا بعضُكم أثقال بعض. اتعبوا مع من يتعب. ابكوا مع الباكين والحزانى. احملوا شدائد الفقراء والمرضى بمساعدة لكم حقيقية، بالموآساة والقربى. وينتهي بقوله: «وهكذا أَتمّوا ناموس المسيح». هذا ناموس جديد لأنه ناموس المحبة التي تحوي كل الفضائل.

فالمحبة والفرح والسلام وما اليها التي ذكرها في بدء المقطع الأخلاقيّ للرسالة الى أهل غلاطية، اذا اجتمعت معًا في قلب إنسان وسلوكه، هي شريعة المسيح. لم نبقَ إذًا في نظام الفرائض عند موسى (ماذا يؤكل وماذا لا يؤكل مثلا)، ولكن تجاوزنا الأنظمة الشرعية لنلتزم شريعة المحبة التي تنزل علينا من فوق، واذا نزلت تنطلق من قلوبنا الى قلوب الآخرين فتغيّرها. والمحبة فينا تُخاطب المحبة في الآخر، وتُنشئ كل الحسنات التي عدّدها بولس، وتدعونا أن نتطهّر من كل الخطايا التي ذكرها. هناك طبعًا جهاد تبذله النفس لتحفظ المحبة، ولكنها قبل كل ذلك هي نعمة من الروح القدس الذي اذا تغيّرنا به نحصل على كل الفضائل بمعنى أننا نتمرّس بها وتتأصل هي فينا ويصبح القلب المستنير ينبوعا ينبع فينا لنبلغ بها الحياة الأبدية.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الحياة / السبت 4 كانون الأول 2010

الحياة، بمعناها البسيط، هي المساحة التي تمتدّ من لحظة الولادة الى ساعة الموت. وفيها جوانب كثيرة لا بدّ من الإحاطة ببعض منها لنفهمها بكليّتها. أبدأ بما هو على سطح الوجود أعني الجسد. هذا هو البرهان الساطع على وجودنا. أعضاؤنا فيه او منه. نحسّ به معافى او مريضًا. مزاجنا يتقلّب بتقلّبه. نعبّر به عن كثير من مشاعرنا. تتسجل فيه كل خاطرة من خواطرنا ان تفكرنا حسنًا او تفكرنا بسوء. هو قريبنا واحيانًا صديقنا. يسحرنا بصورة مذهلة اذا أدركنا وظائفه وذلك الارتباط العجيب بينها.

اللحم والعظام، الدم، الهواء، كيف يترابط كل هذا ليستقيم. هذا الكيان المحسوس يسهم في قيادة الناس الى الله اذ لا تقدر المادة ان تنتج الحياة بمعناها الراقي؟ كيف يرافقك اختلالك وتبقى في سر وحدتك وسلامة كبيرة او قليلة حتى تبيد وحدتك اذ يستردّك الله الى رحمته.

ولعلّ السحر يقوى عندما تتأمّل ان جسدين اذا تلاقيا ينتجان جسدًا آخر اي حياة أخرى. وهذا يحدث فيهما كليهما نموًا لا انتقاصًا وانتعاشًا وحلاوة وحرية. انت ترى ولا تفهم ان الإنسان كله في الجنين، في بيولوجيته وطبائعه استعدادًا للتربية.

الى هذا ليست المعمورة جسما واحدًا. هي الآن ما يقرب سبعة مليار بشري من كل الألوان والقامات كل منهم يختلف عن الآخر في كل جزء من أجزائه المنظورة وغير المنظورة. انت على المستوى الأدنى من الوجود تعرف البشر من خلال عيونهم وأيديهم وما اليها. هذا اول صعيد المعرفة التي لا احتقارفيها لأحد ويستوي فيه القوي والضعيف، الصحيح والمعوق. البشر كلهم في حالة التمجيد لله عرفوا ام لم يعرفوا اذ قال أحد آبائنا ان الجسم ايضا هو مع النفس على صورة الله والرب في العهد الجديد لم يتكلّم مرة عن الجمال الذي عند بعض ومرد ذلك ان كل ابنائه متساوون عنده في ما يبدو منهم كما هم متساوون في محبته لهم. الله يضع في كل واحد منا بهاءه وهذا لا علاقة له بما يظنه الإنسان تفوقا فيه.


# #
#

أعظم من الجسد العقل الذي نغوص فيه على أسرارنا وأسرار الكون. قال الأقدمون ان الإنسان حيوان ناطق والمراد به العقل وبه يمتاز عن كل الخلائق. وهذا مرتكز على الدماغ ولكنه ليس الدماغ. العقل بالعربية الربط ومظهره المنطق وفي اللغة هو نطاق الذي يوحد الفكر اي يكتشف الرؤية ويجعل الإنسان بعد الله سيد الخليقة لكونه يستوعبها بحيث تجتمع كلها في عقله.

تتكون بنا المعارف ونسعى لجمعها فينا حتى تأخذ وحدتها وبهذا يأتي العمل الذي به نغير العالم ونجبل أجزاءه وهذا ما أراده الله عندما دعانا الى التسلّط على الدنيا وفي لغة الله ليس لنا في هذا كبرياء ولكن لنا الخدمة وبالخدمة يرتقي الكون اذ نؤنسنه. وفي هذا نصبح متواضعين. السلطة التي لنا هي التواضع الذي به يعظم الكون فينا ونحن نعظم به.

نحن ندخل الكون ولا نقتحمه. واذا جئناه بلين نتروض على الرقة. العقل يمكن ان يصبح طريقا الى المحبة. لولاها يستبدّ الفكر وبها ينجو من عنجهية له ممكنة فيصير أداة دمار وموت لنا وللآخرين. لذلك لا نوافق قول ابي العلاء المعري ان لا إمام الا العقل. ذكاء شاعرنا العظيم كان يجب ان يعصمه عن هذا التأكيد الذي أراد به محاربة الخرافات ولكن العقل السليم حر من الخرافة. يحتاج الى بركات من فوق ليتحرّر من تعصبه ضد الالتواء الذي يأتي من كل انحراف في الفكر.

اقلّه ان العقل زينة كما تقول العامة. ولكنه أهم من ذلك. هو بنيتنا في سعته وشموليته وان كان العالِم والجاهل يتساوان امام الله. اجل يزعجك الجاهل ان كنت فهيمًا ولكن يجب ان تضم الجاهل اليك لأنه حبيب الله ويساعدك الا تفتخر بالفكر. النعمة الإلهية تنزل على من تشاء. ليس شأنك بل شأن الله انه يسكب عليك التماع وجودك. الاستكبار إثم كبير مشوّه لصورة الله فيك. ولكن قد تحب اجتماع الأذكياء. هذا كله تنمية لك ولهم وبدء إخاء. وفي الإخاء مجد الله.

وهذا يفضي الى تفتق المواهب وتوزيعها. فلتأتِ الحقيقة من حيث تستطيع والى من يتقبّلها. العقل الذي يسبح في الحقيقة هو ما يريده الرب لك. انت لست غاية ذكائك. الله والإخوة هم الغاية من قوة فكرك. لا تنظر الى عقلك كما الى مرآة. انظر فقط الى من تخدم.


# #
#

عند الأرثوذكس كلام يقول ان العقل يجب ان ينزل الى القلب ليتطهّر ثم يصعد حتى يصير عقلا طيبا. ويقول احد المتصوفة (الحلاج) لله: «مكانك من قلبي القلب كله». القلب اذًا عند كبارنا ليس مكان التأثّر العاطفي. انه مكان الفهم اذا نزل الله اليه وكأن كبارنا يقولون ان الله مصدر الفهم.

هذا يذهب بي الى إنجيل يوحنا في رواية العشاء الأخير. يقول: «وكان متكئًا في حضن يسوع واحد من تلاميذه كان يسوع يحبه فأومأ اليه سمعان بطرس ان يسأل من عسى ان يكون الذي قال عنه (يهوذا الاسخريوطي) واتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له يا سيد من هو» (13: 23-25). في التصورات العبرية الحضن هو مكان العاطفة التي كات التلميذ الحبيب يتقبلها. غير انه لما اتكأ هذا على صدر المعلم وصل الى القلب اي الى مكان الفهم.


انت تفهم عندما يخاطبك الله، عندما يضمّك اليه. تصير، عند ذاك، صاحب قلبك، ويسكنه الله. يصبح فهم الله فهمك. عندئذ تضم الكون اليك. بعد هذا تفهم انت الكون وذلك في عملية تلاقي العقل والقلب.


هذا يصبح الأعلى اذا أحبّ وتقبّل العقل فيه. الفاهم هو الله فيك.


التكوين البشري يبدأ بالجسد الذي هو من تراب والنفَس الذي نفخه الله فيه. اذًا عندنا تراب وعقل وترابية ترتقي الى العقل. ثم اذا استراح الفكر في القلب وأخذ منه الحب يتنقى. واذا استترت المحبة فيك «تتأنى وترفق. ولا تتفاخر ولا تنتفخ… لا تظنُّ السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق» (1كورنثوس 13: 4-6).


الإنسان جسد يرقى الى عقل وعقل يعلو بالقلب. هذه مجتمعة مراقي وجود يصبو الى كمال حتى اذا رآه الله يحسب انك أكملت سعيك في الأرض اذ لا يليق بك بعد هذا الا السماء.

Continue reading