Monthly Archives

December 2008

2008, مقالات, نشرة رعيتي

بشارة بولس/ الأحد 28 كانون الأول 2008 / العدد 52

العبارة لا تعني كتابا مدوّنًا. الأناجيل المدوّنة والمقبولة في الكنيسة أربعة. وليس واحدا منها كان معروفا في ايام بولس. ما يسمّيه الرسول إنجيله هو تعليمه عن الإيمان بيسوع وموته وقيامته. وما دعا اليه بولس في الرسالة الى اهل غلاطية والرسالة الى أهل رومية اننا مبررون بالإيمان بيسوع المسيح وليس بناموس موسى.

وفي هذا كان يعتمد مجمع اورشليم الرسولي الذي اجاب عن سؤال كان مطروحا في الأوساط الكنسيّة: هل الوثني يصير يهوديا اولاً (بالختان) ويتبع تاليا فرائض العهد القديم، ام يعتمد توا ويتبرّر بالإيمان؟

هنا، في هذا المقطع، أراد بولس ان يقول ان إنجيله، اي مضمون تعليمه، لم يأته من إنسان ولم يتعلّمه من إنسان. وكان عنده سابقا لانعقاد المجمع الرسولي وتبنّى المجمع فكر بولس. ما أتاه من انسان ولكن بإعلان يسوع المسيح. هل يعني هذا إعلانا واحدا لمّا اهتدى بولس بظهور يسوع له على طريقه من أورشليم الى دمشق، اي على الطريق المستقيم التي تمر امام بطريركيتنا وتنتهي عند باب شرقي، أم يقصد عدة إعلانات بعد ان لجأ بولس الى «ديار العرب» ونرجّح انه اقليم العربية اي حوران كما كان يسمّى في الإدارة الرومانية.

من الطبيعي انه كان في حوران مسيحيون لقرب المنطقة من دمشق. بولس لم يرَ المسيح في الجسد ولم يسعَ لمّا عمّده حنانيا أن يصعد من دمشق الى اورشليم. كانت له علاقة وجدانية مباشرة مع السيد. وما كان في يديه شيء مكتوب من الرسل.

ان معرفة بولس للمسيحية تبقى لغزا ابديا. غير ان رسائله تدل على ان شيئا اساسيا من المسيحية بلغ المسيحيين الذين ارسل اليهم رسائل. يعرفون بالأقل ان السيد اقام العشاء السري ثم مات وقام من بين الأموات وظهر لبعض من التلاميذ. بولس لم يكن منشئا للرسالة المسيحية كما ادّعى بعض اهل الغرب ولكنه كان كاشفًا للمعاني والعقائد التي تتضمّنها الأحداث الخلاصية الأساسية.

الى هذا عاد من حوران الى دمشق. ماذا عمل في دمشق؟ لا احد يعرف. غير انه يقول: «بعد ثلاث سنين صعدت الى اورشليم لأتعرف ببطرس». لماذا بطرس وحده؟ في الإصحاح الثاني يذكر «المعتبَرين أعمدة» ويقول انهم لم يشيروا عليه بشيء . اعترف اذًا الرسول انه كان في اورشليم.

من هم المعتبَرون أعمدة؟ هم يعقوب وصفا ويوحنا (غلاطية 2: 9). هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في الإنجيل ان الرب يسوع اصطحبهم الى العجائب وجبل التجلي. فعلى ذكر بولس ان إنجيله من الآب ومسيحه عرض إنجيله على النواة الرسولية لئلا يكون قد سعى باطلاً. مهما كان الانسان عظيمًا عليه ان يراجع التراث.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

٢٠٠٩ / السبت ٢٧ كانون الأول ٢٠٠٨

إن أطللت على السنة القادمة لا بد ان تودع العام المنصرم في كل بشاعاته. تودعه بالغفران للذين قتلوا وأتلفوا الجمالات التي رأوها جمالات ولكنهم ظنوا ان قبائلهم تدوم بالميتات اذا اقترفوها. انا أبقى وأنت لا تبقى لأن الدنيا لا تتسع لنا كلينا اذ ينبغي لي ان أسكت الآخر بإهراق دمائه. قطرة دم باقية في الآخر تهددني.

          ظاهرة الإبادة من خصائص العالم الحديث فالحرب العالمية الثانية لم تنته. تشرذمت في أقطار عديدة. تغيرت الأعداء فقط. عداء يفنى وعداء آخر يبدو. نلازم قلوبنا الشريرة هنا وثمة. يصغر عدد المقاتلين وتستيقظ البغضاء بين عناصر قديمة او دينية ويبدو انها كالمغطاة تحت تعددية طلبت الوحدة ولم يتوفر صدق الوحدة لأن الوحدة كانت تفترض زوال الأنا المقوقعة ولكن هذا الزوال لم تتوفر شروطه فانكفأ القوم الى القبائل يطمئنون اليها وما من طبع القبائل ان تتشارك. وقد تبقى الاوطان على أعلامها وحدودها ولكن القلوب تصدّعت وتناثرت موداتها.

          الموت كان الصورة الصارخة في العام الذي ينصرم. واذا لم يوجد مصدر سلاح تشتريه وتفتقر فقد تقتل وتجوع معا اذا كانت الجريمة غذاءك العاطفي والجريمة أبقى فيك من غذاء الجسد. لم يبق في الحياة الا بطولات الموت والبطولة، صحيحة كانت ام كاذبة، دائمة فيها استكبار.

          الفاجعة الكبرى في التشنجات الاثنية المركبة على التشنج الديني فاجعة روحية كبرى لانها تكشف في جماهير كثيرة ان ايمانها كان سطحيا للغاية كما تكشف انها ليست مجموعات روحية تطلب الله ولكنها تطلب طوائفها حيث يكون المعتقد الديني قشرة تبث احقادا عتيقة راسخة في منافع الذي يغذون عداء الجماعات بعضها لبعض حتى بات كثير من الناس يذهبون الى ان الأديان مصادر عداء. هذا سؤال ليس سخيفًا اذ بان حقيقة تاريخيّة والأمر الرهيب ان اهل كل دين توحيدي ينسب الى أهل الدين الآخر طاقة موت وينبش حوادث الاقتتال التي التبست بالدين. هذا ما يغذي الخوف. ما يجعلنا نشكّ في ان المسؤولين روحيا عن الامم قاموا قليلا بتأكيد العدل الواجب لكل امة وبتثبيت المحبة في كل أمة. وما يعزز الشك ان الامم الوثنيّة القائمة في افريقيا وآسيا كانت ولا تزال أقل الديانات هجوميّة او تحرّشا.

          وتنتهي السنة بالمجزرة المالية التي عمّت العالم وهبوط المستوى الاقتصادي في بلدان من العالم عدّة وانتشار الحاجة بصورة مروعة بسبب من الرأسماليّة المتوحّشة ورمي الفقراء في قعر العوز ويقول العارفون ان معرفة ما قد يحصل في الأزمة كان متوقعا عند اهل الاختصاص مما يوحي بأن ثمة جرائم بلا سفك دم.

#                      #

#

          مقابل هذه الفظائع عندنا وعند سوانا لا ريب ان المجتمعات عرفت ايضا بهاء كبيرا في حقول العمل الاجتماعي والتعاضد والأدب والفنون الى جانب حياة روحية صافية، هادئة، مقدسة وان ناسا كثيرين لم يتدنّسوا. طبعا الأعمال الصالحة لا تدون لأن الكثير منها على مستوى شخصي. في هذه الدنيا أبرار كثيرون ولكنهم يؤثرون الخفاء والخفر وحسبهم ان الله يراهم وهم يحلّون بالبكاء خطايا الآثمين. وجود القديسين في الدنيا يعزينا والخيرون منا يحاولون التشبّه بهم كي لا يلعن الله اهل الأرض.

          غير ان الصالحين لا يؤلفون جمهورا ولا فاعلية لهم ملحوظة في أنظمة الحكم. يحملون شهادة البرّ وببرهم أنت تتزكى. الذين لا يحسبون لأنفسهم حسابا بالمال او الزعامة او تبؤ المناصب يقول عنهم الكتاب انهم قلة عزيزة. انهم دائما في حالة الإصغاء الى الآية الكريمة: بفذكّر انّما انت مذكّر. لست عليهم بمسيطرا (الفاشية، الآية ٢1). متى يبيد المسيطرون بسبب من وداعة الودعاء؟ متى تصبح الأرض سعيا الى ملكوت الله او بعضا منه لنكون وحدة حب ب فالحب ديني وايمانيا كما قال عظيم من عظمائنا!

          أينشأ الحب في الناس ويثبت؟ جاء ابن الانسان ورتب عيد مولده مع نمو ساعات النهار إشارة الى ان خطة الله أن يزداد كل منا نورا على رجاء ان تزول عتماته ويصبح كله قامة ضياء. هذا الميلاد دعوة على رجاء سمع السامعين. هكذا يبدو ان تاريخ الناس بعضهم مع بعض هو بسبب من كثرة الأشرار تاريخ الخطيئة وان تاريخ الله مع الناس هو تاريخ حبه لهم وحبهم له وهذا هو النور يكشف بعضه ولا يكشف جله حتى يدين الله سرائر الناس على قدر المحبة التي بذلوها.

#                      #

#

          مرة تكلم بولس الرسول عن بسر الإثما ومن الطبيعي ان يستوقفه هذا السر. لماذا كل هذه الكثرة من المعاصي؟ لماذا الايغال في التمرّد على الرب؟ لماذا القلب البشري وكر للأفاعي؟ من مكامن هذا السر ان الخالق لا يضرب حرية  العصاة. لماذا هم قادرون على حكم الناس الذين يهوون لذاتهم.

          هذه الرؤية الرهيبة لا تُنهي الرجاء للعام القادم وربما لكل الزمان الآتي. يقول اسحق السرياني الذي كان اسقف نينوى بالقرب من الموصل في القرن السابع: بلكم تمنح كل الخيرات وكل شرف للكافر، للقاتل لأنه هو ايضا اخ لكا. ثم يردف: بمتى يعرف الانسان ان قلبه بلغ الطهارة؟ عندما يعتبر ان كل البشر صالحون فلا يبدو له احد دنسا. هو، اذ ذاك، نقي القلب!ا.

          هذا لا يعني بالتأكيد ان البار لا يرى المآثم ولكنه لا ينسبها الى الأثيم نفسه. يبصر الأعمال ولا يدين الشخص لكون الرب وحده هو الديان الذي لا محاباة عنده للوجوه. اجل تعذبك مشاهدة البشرية المذنبة وانت تكافح ذنبها وعليك ان تقتحم بنى البلد والعالم بالضياء الذي يخرج منك وبالكلمة الطيّبة الحلال ومشاركة اهل الخير ليعظم نضالك وتؤثر في كل المجالات بما فيها مجال السياسة. هذا يفرض ان تدرس وسائل السياسة الطاهرة ويمكن اهل السياسة ان يكونوا طاهرين.

          نحن نعتزل الشر ولكن لا نعتزل مرتكبيه اذ نرجو لهم الخلاص والهدى واذا اقتحمت في مجتمعك زاوية من زوايا الضلال فأنت ناشر لملكوت الله. وهذا يتطلّب جهدًا موصولا وحصول قلبك على حركة إلهية فيك. حذار ان يتعرّض فكرك وعملك للكبائر حتى لا ييأس الناس من الطاهرين اذا وقعوا. وهذا يتطلّب منك تطهّرا دائما ورجاء لا ينقطع.

          هذا رجاؤنا لمضمون السنة الـ 2009 عسى تصير سنة لله مقبولة.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

أحد النسبة/ الاحد 21 كانون الأول 2008 / العدد 51

الأحد السابق للميلاد يسمى أحد النسبة وهي والنسب واحد في العربية. هذا فصل عن أجداد المسيح منذ ابراهيم الذي يبدأ به الشعب العبري من حيث له ذاتية ايمانية.

تنتهي السلالة بيوسف لأن النسب هو للأب او المظنون أبًا ولا يُنسب الولد لأمه الحقيقيّة. يوسف كان الأب الشرعي وليس الأب الفعلي. وبما ان العهد القديم وعد بأن المسيح سيكون من نسل ابراهيم فلا بد من ذكر ابراهيم، وكذلك وعد بأنه من داود فكان لا بد من ان تعبر السلالة بداود ايضا.

ان متى كتب انجيله لليهود اولا. كتابة كل من الأناجيل الأربعة لها ظروفها وهي موضوعة حسب خطة تبشيريّة، ولكل من الأناجيل خطته. وكان متى الرسول مضطرا ان يوضح لأبناء جنسه ان يسوع سليل ابراهيم وداود حتى يؤمنوا انه المسيح.

كلمة مسيح تترجم اسم «خريستوس» اليونانية التي تعني الممسوح اي الممسوح ببشريّته بالروح القدس. يسوع هو الاسم والمسيح نعت او صفة لهذا الاسم بعد ان اتخذ الجسد.

يثبت متى ان يسوع كان الابن الشرعي لداود لأن يوسف هو سليل داود. فلكون المخلّص ابنًا بالقانون ليوسف كان ابنا شرعيا لداود. مريم كانت ايضا من عشيرة داود. ويؤكّد لوقا: هو من لحم مريم ودمها. ويؤكّد بولس في مطلع رسالته الى أهل رومية انه «في الجسد جاء من نسل داود». ولما تكلّم متى عن الآباء قال ان فلانا ولد فلانا ولم يقل ان يوسف ولد يسوع ولكنه قال ان يوسف كان «رجل مريم التي ولدت يسوع».

كلمة يسوع تعني «الرب يخلّص» فيسوع سوف يخلّص شعبه من خطاياهم.

ام يسوع تسمى عذراء اذ لم يتدخل أب بشري بالحبل. ويدعى يسوع ايضا عمانوئيل اي «الله معنا» ليوكّد النبوءة التي وردت في إشعياء الذي قال هذا الكلام مع ان اسم عمانوئيل لم يُستعمل في ما بعد في الإنجيل.

إشعياء ومتى ولوقا مجمعون على ان هذه الفتاة كات عذراء وانها حبلت بالروح القدس لأن الله الآب وحده هو «أبو ربنا يسوع المسيح» كما يقول بولس.

اما عبارة ان يوسف «أخذ امرأته» فتعني انه جاء بها الى بيته. وعبارة «لم يَعرفها حتى وَلدت ابنها البكر وسمّاه يسوع» تعني لغويا ان متى نفى العلاقة بين يوسف ومريم، ولا تقول شيئا عن انها اتصلت به برباط زوجيّ فعلي في ما بعد. ان ينفي شيئا مِن قَبل لا يعني منطقيا انه يؤكّد عكسه في ما بعد. ونحن الأرثوذكسيين نقول في تراثنا في المجمع المسكوني الخامس انها «الدائمة البتولية».

اما لفظة «بكر» التي نقرأها في ترجمتنا في الكنيسة فلم ترد في المخطوطات القديمة وربما تسربت الكلمة من عبارة «بكر كل خليقة» او البكر من الأموات التي وردت عند بولس.

ومهما يكن من أمر ففي الكلام العادي تطلق لفظة بكر على أوّل ولد يشاهده الناس ولو لم يأتِ آخر بعده.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

العيد / السبت 20 كانون الأول 2008

غدا هذا الأحد يسمّى في كنيستي أحد النسبة تُقرأ فيها أسماء مَن اعتبرهم متى الإنجيلي أجداد يسوع الناصري ثم يأتي سر مولده من العذراء. الخط يبدأ من ابراهيم لأن متى وجّه إنجيله الى العبرانيين ولا سيّما الى كهنة الهيكل الذين اهتدوا الى المسيح فعزلتهم سلطات شعبهم عن الهيكل فافتقروا وكانوا في حاجة ان يتوطّدوا في ايمانهم ان يسوع الناصري سليل أبيهم ابراهيم وملكهم داود. نحن اذا مع اطروحة لاهوتية قد لا تكون كاملة الدقة من الناحية التاريخية وما كان هذا همّ متى الرئيسي ولكنه لم يخترع الأسماء. انها جميعًا في العهد القديم. ركّز الكاتب على النسب الإبراهيمي للمعلّم.

لوقا يورد لائحة اخرى على طريقة اخرى يمكن ان نسميها صاعدة اذ يبدأ من السيد ليصل الى آدم. كان همّ لوقا عالميًا او كونيا اكثر مما كان يهوديًا. هو ومتى أرادا ان يكشفا ناسوتية المسيح متأصّلة في التاريخ القديم. كلاهما مع ذلك يؤكّدان ألوهية المخلّص.

كلمة عذراء المأخوذة من الترجمة السبعينيّة (اليونانية) هي استشهاد متى من اشعيا وفي النص العبري لإشعيا تسمى العذراء في سن الزواج علماه ولم تستعمل هذه اللفظة في العهد القديم لأية حالة غير العذراوية. تاليا اشعيا ومتى ولوقا ينسبون العذراوية الى ام يسوع. اما قول متى: «لم يعرفها حتى ولدت ابنها البكر» فيؤكّد ان صلة جنسيّة لم تكن بين يوسف ومريم قبل ولادة يسوع ولا تؤكد اطلاقا انه عرفها فيما بعد. هي تنفي العلاقة ولا تقول شيئًا عن علاقة متأخرة. اما عبارة «ابنها البكر» فليست واردة في النص الأصلي. يسوع لم يكن بكرا لأحد واما عبارة «اخوة يسوع» في الإنجيل فهي أوسع من المدلول العربي وتُطلَق على ابن الخال او العم او الخالة او العمة عند العبرانيين وينفي التراث المسيحي وجود أبناء آخرين لمريم. والمجمع الخامس يؤكّد أن مريم دائمة البتولية. في التقليد الشرقي هؤلاء منسوبون الى يوسف من زواج سابق له.

لم تتوقف الكنيسة عند نسب يسوع الناسوتي الوارد عند متى ولوقا عندما قررت ان تعيّد للميلاد والمعمودية في يوم واحد ورأت انها تعيّد للأصل الإلهي ليسوع بتسميتها هذا التعييد الظهور الإلهي استنادا الى قول الآب في المعمودية: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررت». هذا الكلام كُرِر يوم التجلي. لذلك لا نعرف اليوم ولا الشهر ولا السنة التي وُلد فيها المخلّص. هو وُلد غالبًا ست سنوات قبل التاريخ الميلادي الذي نحن فيه. الذي وضع التقويم الميلادي قرونا بعد الحدث الراهب دنيسيوس الصغير أخطأ بخمس او ست سنوات.
# #
#
لم يخطر على بال المسيحيين في البدء ان يضعوا تقويمًا لأنفسهم لأن البدء عندهم لم يكن ميلاد السيد بالجسد اذ كانوا يؤمنون ان المسيح من حيث هو كلمة الله كان بلا بدء. لذلك اتخذوا تقويم الامبراطورية الرومانية التي كانوا فيها يعيشون وهو التقويم اليولياني. والتركيز على يسوع كان عندهم التركيز على الصليب والصليب مولد الانسانية بالحق وإعلان الحق كاملا كان بالقيامة. ولذلك في الأيقونة جاءت صورة المذود شبيهة بمغارة القبر التي دُفن فيها المخلّص. عتمات كاملة والصبي مقمّط بأقمطة بيضاء ومريم ممدودة طويلة، تنظر الى الكون الذي ينتظر إنجيل هذا الطفل اذا حان أوان بشارته.

والزمان الذي تهتم له روما يجري زمانا للملوك ولكن الزمان الحقيقي الذي يقرأه الله هو ذلك الذي قال عنه الرسول: «ولما حلّ ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبنّي» وقد كنا قبلًا أبناء الغضب الذي هو الخطيئة ولكن لما جاء ذاك في جسد من أجسادنا حلّ رضاء الله علينا فجعلنا أبناءه وبِتنا نهتف لله: «افا» وهي اللفظة الآرامية التي نسمي بها الآب يا «بيّي» (بصورة التصغير) لأننا بتنا أمامه أطفالا لا ننمو الا بنعمته علينا ونجالسه كما جالسه المسيح بعد قيامته من بين الأموات.

هذا العيد الذي نحن مُقبلون اليه ليس عيد مولد Birthday  او anniversaire  لأن ظهور يسوع بالجسد لم يكن بدء الذي لا بدء له. فاذا أقمنا العيد ولا بد من أعياد تجدّدنا ننتقل الى اللابداءة وننتقل بها الى الحياة الأبدية التي فيه. لذلك نرنّم في سحر العيد: «إن مملكتك الأبديّة تجدّدت أزليّتها». ليس عندنا اذًا في العيد بدء. إن هذا الطفل قائم في أزليّته. والآن هي تسطع لنا نحن المؤمنين به. العيد يبدو نزولا وهو كذلك في جسد هذا الصبي ولكن العمق هو ان نصعد ونرسم منذ الآن صعوده الى السماء بعد القيامة وبه يتم وعد صعودنا.

الأطفال يلتهون بالهدايا لحسبانهم انها بطريقة ما هدايا يسوع لهم ونحن الذين بلغنا قامة الإيمان نعرف انه هو وحده الهدية وأن أزليته تخترق زماننا لتجعله من الأزليّة.

مع ذلك لنا عيد لا بد له من حنان وهذا ليس من شعور بشري محض لأنه حنو الله الذي يحرّك قلوبنا. امام مذود بيت لحم عندنا هذا الملفوف بخرقة، المشلوح على كومة قش الذي سوف يهدّده سلطان بلاده. انه مكتوب على الدم منذ ظهوره وعلى الظلم ومحسوب بين الفقراء حتى لا يدين الى أحد او شيء من هذا العالم. منذ الآن مكتوب عليه من أبيه ما سطّره اشعيا: «لا صورة له ولا جمال فننظر اليه ولا منظر فنشتهيه. محتَقَر ومنبوذ من الناس، وموجع متمرس بالحزن» (إشعياء 52: 1و2). الآن في هذه اللحظة نقرأ ايضا في النبي: «كان كنعجة تُساق الى الذبح، وكخروف صامت امام الذين يجزّونه ولم يفتح فاه» (إشعياء 53: 7). نحن في الفصح يا إخوة، نحن فقط في الفصح، مع انكسار الجلجلة وظفرها. لذلك نرتّل في الميلاد ترتيلة جديدة اي التي لا تأخذ معناها كاملا الا عندما يسيل من جنبه دم وماء.

لذلك قال آباؤنا: هذا هو العيد الصغير. ليس لكونه قليل المعاني ولكنه يحبل بالمعاني التي تتفجّر فيما بعد ليكمل الفرح.

قال عظيم في المسيحيّة (باسكال): «أحببت الفقر لأنه هو (اي يسوع) أحبّه». السؤال الشرعي الوحيد في هذا العيد هو هذا: هل انا قابل مثله ان أكون مشلوحا في هذا العالم لا املك منه شيئا على رجاء الا يتملّكني بانتظار الحلّة البيضاء التي يمنحني الله اياها عند قرعي باب الملكوت وانا اعرف، اذ ذاك، اني لا أملكها فهي هبة من الآب لأنه يريد ان يراني مكسوًا. المسيح وحده لم يَستعر النور الإلهي. في ثابور او حرمون انبلج النور منه انبلاجا ولم يعرف التلاميذ انه منه حتى رأوه على هذا الضياء لمّا دخل عليهم وهم في العليّة.

فاذا أقمتَ العيد في الأسبوع القادم اعلم انك عارٍ وانك مرميّ على هشاشة هذا العالم كما كان السيد في المذود واطلب الحلّة البيضاء لكي تتمكّن من الدخول. هذا العيد اذًا ترجمة السماء بشكل أرضي، تصوير لله بشكل طفل. واذا انت أدركت الطفولة التي تحدث عنها، تقدر ان تخترق سر يسوع وأن تقيم العيد.


Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

ظهور المسيح/ الأحد 14 كانون الأول 2008 /العدد 50

في هذه الرسالة الى أهل كولوسي يكلّمنا بولس على مجيء المسيح الثاني ويسمّيه ظهورًا. هذا عند حدوثه «تُظهرون أنتم حينئذ معه في المجد». ظهوركم في المجد وليس في الظلام يفترض انكم قضيتم على شهواتكم وبالفضائل حلّ عليكم النور.

وهنا يعدد فئتين من الرذائل: الفئة الأولى تتضمّن بخاصة ما يُرتكب في الجسد، بالإضافة الى الطمع الذي يقول عنه الرسول انه عبادة وثن لأنه عبادة المال الذي يعتبره الكاتب وثنا.

ثم يهدد بنزول غضب الله على أبناء العصيان ومنهم مسيحيون اذا سقطوا فيها بعد معموديّتهم. ويفترض ان المهتدين الى الإيمان لا يرتكبونها كما يعرف انهم سلكوا قديما فيها. يؤمن بولس ان من اهتدى الى المسيح يهتدي ايضا الى فضائل المسيح.

بعد قوله هذا ينتقل الرسول الى فئة أخرى من الشهوات: الغضب والسخط والخبث والتجديف والكلام القبيح والكذب. هذه خطايا تُرتكَب خارج الجسد. بعضها باللسان كالتجديف والشتائم والكذب، وغيرها بالفكر مثل الخبث.

ليس ان هذه الشهوات هي كل الشهوات. آباؤنا النساك قاموا بعد العصر الرسولي بتصنيفها وطرق مكافحتها.

الانسان الغارق فيها يسميه بولس الإنسان العتيق اي الذي لم ينل بعد نعمة المعمودية، واما الذي لبس المسيح فيسمّيه الإنسان الجديد الذي يتجدّد دائما بالنعمة للمعرفة اي لمعرفة الله وذوقه ومحبته وطاعته فيصير بشكل ساطع على صورة خالقه، وعند هذا التجديد لا يبقى فرق في الكنيسة بين يوناني ولا يهودي. تزول العنصرية والانتماءات القديمة. وما يرادف هاتين الكلمتين لفظتا الختان (اليهود) والقلف (الوثنيّين).

وكذلك يزول الفرق بين بربريّ (لا ينطق اليونانيّة) واسكيثيّ وّهؤلاء كانوا قوما لهم حضارة كبيرة في جنوب روسيا بنوع خاص.

ثم يزول الفرق بين العبد والحر الذي كان قائما في الامبراطورية الرومانيّة، وانضمّ الى الكنيسة عبيد وأحرار وهم في الكنيسة إخوة ولو بقي التفريق القانوني بينهم. بعد ذلك بكثير زال نظام الرق،ّ واليوم يعتبرون انه ضدّ حقوق الإنسان.

طبعا ما بشّر بولس لإلغاء نظام الرق. فقد كان قائما. انّما قال نحن لا نعتبره في الكنيسة، ونساوي بين العبد والحر. وبقي بعض المسيحيين عندهم عبيد ولكنّهم كانوا يعاملونهم كإخوة.

لماذا تزول هذه الفوارق؟ لأنّ المسيح، يقول الرسول، هو كل شيء وفي الجميع.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

أحد الأجداد / السبت ١٣ كانون الأول ٢٠٠٨

هذا الأحد في كنيستنا يدعى أحد الأجداد أي أجداد المسيح لكونهم أعدّونا للميلاد. أرادت الكنيسة به ان تكشف تواصل الإنسانية التي هيأت ظهور المخلّص ليس لتقول المسيحية ان يسوع الناصري سليل البشريّة منذ بدئها ولكن لتقول، بخاصة، ان البشرية القديمة، بصورة او بأخرى، تحمل بذار المسيح ولو كان مباشرة وليد مريم وعندما يقول الإنجيل انه نزل الى الجحيم في موته لينقذ الذين سبقوه من عبودية الموت فلكي يعني انه مخلص العالم مذ وُجد العالم لأنه ليس فقط الكائن الكامل ولكنه ايضا المخلص الكلي، الشامل لأزمات الناس جميعا. ومن هذا المنظار ليس هو بدءًا كليا الا بمقدار انه انصباب كل خير وحق تجليا في الانسانية القديمة كما سيكون منطلقا للإنسانية الجديدة اذ يتعمّد فيه الذين سبقوه والذين تبعوه.

        بهذا المعنى يمكن ان نفهم قول بولس عنه انه “باكورة الراقدين” (١كورنثوس 15: 20). وكذلك يقول الرسول نفسه: “في المسيح سيحيا الجميع”. واذا حيا الجميع فيه “يكون الله الكلَ في الكل” (١كورنثوس 15: 28).

        سؤال شرعي بسبب من بشريّة يسوع ان تفتش عما اذا كان المسيح في عقله البشري مدين للحضارات الدينيّة التي سبقته ولا سيّما ان البلد الذي نشأ فيه يسمى “جليل الأمم” اي منطقة وُجد فيها وثنيون يتكلّمون اللغة اليونانية. وما من شك ان من بين تلاميذه من كان يحمل اسما يونانيا مثل اندراوس وفيلبس. هناك أسطورة اخترعها كاتب انكليزي في القرن التاسع عشر ان المعلّم سافر الى الهند. الأكيد انه ليس من وثيقة هندية او يهودية تثبت ذلك وان ليس من تعليم هندوسي او بوذي ظاهر في الإنجيل. كثرة الآلهة في الهندوسية والتقمّص ان اكتفينا بذكرها يناقضان الأناجيل. وعدم وجود الله في البوذية يجعلها غريبة كليا عن المسيحية. فاذا كان الناصري لم يقتبس من ديانات الهند شيئا ماذا يكون قد عمل فيها.

        الى هذا ان تكون الفلسفة اليونانية ببعض أبعادها الروحية قريبة من المسيح فلا يعني هذا انه قرأها ولا سيّما ان فلاسفة اليونان يتكلّمون عن عدة آلهة. الفلسفة اليونانية تلمّست الحقيقة ولكن هذا لا يعني أن السيد استمد منها شيئا. ولا شيء يدل على أن يسوع تكلم غير الآرامية. ربما عرف بعض الكلمات اليونانية ولكنها لم ترد على لسانه وما كانت كافية لتطلعه على نصوص يونانية. الى هذا ورد في انجيل يوحنا بعد اقامة لعازر ما يأتي: “وكان بعض اليونانين يرافقون الذين صعدوا الى اورشليم للعبادة في ايام العيد، فجاؤوا الى فيلبس، وكان من بيت صيدا في الجليل، وقالوا له: “يا سيد نريد ان نرى يسوع. فذهب فيلبس وأخبر أندراوس، وذهب فيلبس وأندراوس وأخبرا يسوع” (12: 20-22). لماذا توسط هؤلاء اليونانيون التلميذين الوحيدين اللذين يحمل كل منهما اسمًا يونانيًا؟ ولا سيّما ان يسوع ما كان محتاجًا الى بروتوكول ليكلّمه الناس. أليس لأنه لم يكن يفهم اليونانية؟

        من الأناجيل الأربعة لنا ان نعرف ان السيد كان يقرأ العبرية وتكلم بالآرامية المحكية في فلسطين. يقول لوقا انه دخل مرة الى مجمع الناصرة “وقام ليقرأ فدُفِع اليه سفر اشعيا”. طبعا هذا من التوراة وفي العبرية. بعد هذا توجه الى الناس ليعظهم اي ليفسّر لهم هذا الذي قرأه. هذا لم يكن ممكنا الا باللغة المحكية آنذاك في فلسطين وهي الآرامية.

#              #

#

        بقي لنا بعض من التراث الآرامي وكان منتشرًا جدًا بين القرن السادس والقرن الرابع قبل الميلاد ولكن لم تكن مكتبة آرامية في ايام السيد ولا يعقل ان يطمح ابن النجار كما كان يُسمى الى معرفة عالية. هذا ما يخوّلني ان أقول ان يسوع الناصري كان يعرف التراث العبري فقط أعني العهد القديم وذلك الأدب اللاهوتي الذي بدا بعد الانتهاء من وضع اسفار التوراة. من الواضح أن يسوع يعرف جيدا العهد القديم وانه مفسر مبدع له ولك ان تتبيّن خلافه مع هذا المذهب التفسيري او ذاك كما لك أن تتبيّن قرباه اللاهوتيّة من مذهب الفريسيين ولو قاوم سلوكهم الخلقي وربما قرباه من فرقة الأسينيين دون التصاق بهم كما قد يُظن.

        لا غرابة ان يكون المسيح في خط الأنبياء القدامى اذ كان يعتبر ان كلمة الله انسكبت في “موسى والانبياء والمزامير” وبعد هذا تحققت فيه فمضمونها مضمونه ولو تجاوز الحرف القديم بتجليات كبرى. “ما جئت لأنقض بل لأكمل”. الحقيقة قديمة ولكنها لا تتخذ مداها الا بموته وقيامته ولا تتحقق الا بمحبته. من ظلال العهد القديم نهتدي الى القائل: “انا نور العالم” وعند سطوع هذا النور نعود الى هذه الظلال لنفهمها تداعيات لهذا الضياء.

        بالنسبة الى العهد القديم يتحتم القول ان يسوع لم يأخذ تراثا غريبًا. انه لقد أخذ من نفسه. هذا وقد حافظت الكنيسة على المسيح غير مختلط بشيء آخر. لقد أخطأ هارناك قديما وأخطأ كتاب عرب بزعمهم ان المسيحية هي مزيج بين الإنجيل والفلسفة اليونانية. لقد أردنا ان نستعير ألفاظا يونانية لتبليغ الشرائح المثقّفة في الامبراطورية اليونانية فحوى الإنجيل ولكنا لسنا مدينين في جوهر تعليمنا للفكر اليوناني. ليست بذار الأقدمين مزروعة فينا. نحن زرع الله فقط.

        فاذا أقصينا التمازج العقدي بيننا وبين من سبقنا لسنا ننكر أن هناك افكارًا او صورا في الحضارات القديمة شبيهة بما عندنا وهذه ما سماها احد كبار آبائنا يوستينوس الفيلسوف الشهيد الكلمات المزروعة وكان من نابلس وقد رأى وجه الشبه بين حقائق قديمة والحقيقة الساطعة في المسيح دون ان يكون هناك تلقيح. قال الكلمات المزروعة بمعنى ان الله نفسه زرع في الحضارات القديمة ما يهيئها لاستقبال المسيح. بهذا المعنى فقط للمسيح أجداد. ولكن كل فكر قديم يجب ان يقتبل صبغة الله التي هي معمودية الفكر فيجمع بين الصواب الذي كان فيه والصواب الكامل الذي في الانجيل. وكما ان الانسان البالغ يتحرر من خطاياه بالمعمودية هكذا يتحرر الفكر القديم من أخطائه ليتعمد بالفكر الجديد، الدائمة حقيقته. بهذا المعنى يصير القديم جديدا.

#                 #

#

        السؤال الأخير هل للمسيح أحفاد بالمعنى الفكري اذا اعتبرناه مركز التاريخ او اذا اعتبرناه هزة أرضية دون ان نؤمن به. لست أريد هنا ان أتبنى مجانا حديث هنري برغسون مع ريسة ماريتان Maritain زوجة جاك ماريتان وريسة اليهودية كانت قد تمسحنت وبرغسون مستعدا للاهتداء. هنا برغسون قال لها ما مفاده ان كل شيء عظيم وجليل جاء بعد المسيح نحن مدينون به للمسيح.

        طبعا هذا يحتاج الى توضيح. فالماركسية عندي بحد نفسها فيها شيء من مسيح. كارل ماركس اليهودي الأصل كان مسيحيًا معمّدًا. السؤال هو مَن محرّك القلوب لتحب الفقراء؟ ولئن كان فيها شفقة من دفع تاريخيا الى هذا الاشفاق. من دفع روسيا في آخر القرن العاشر الى الحضارة سوى رهبانها؟ هناك الشأن ملموس. مَن مدّن أوربا بعد سقوط روما وهجمات البربر سوى الرهبان الايرلنديين؟ هل يمكن ان تُفهم الحضارة العربية الاسلامية دون مساهمة المسيحيين في بنائها في تكوين الأبجدية والطب والعمارة ونقل الفلسفة اليونانية وما الى ذلك؟ روح العطاء الكبير في كل المجالات بلا كلل في سبيل استمرار الحياة واستقامة الفكر مع كونه نزعة في الوجدان كان يجب تفعيله تاريخيا والسهر عليه والتذكير به في التربية. ان تذهب فتاة ارستوقراطية غنية تاركة أهلها واي خطيب متوقع او موجود لتهتم بأطفال الأفارقة ولكن من دفع يسوع الى هذه النفس حتى تحقق انجيله هناك.

        ليسوع أحفاد او أبناء او إخوة عاشقون له يقترفون معجزات في كل مكان وفي كل أزمنة الناس.

        أحد الأجداد هذا استعدادا للميلاد ينبغي ان نفهمه ايضا على انه احد الأحفاد ليبقى السيد مركز القلوب.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

بولس في السجن/ الأحد 7 كانون الأول 2008 / العدد 49

يكتب الرسول الى أهل أفسس وهو في السجن في رومية. لذا سمّى نفسه «الأسير في الرب» او بسبب الرب يسوع. هنا طلب الى هؤلاء المسيحيين ان يسلكوا حسب «الدعوة التي دُعوا بها» اي وفق الإنجيل الذي تعلّموه من بولس، وهو طبعا يقصد التعليم الشفهي الذي أخذوه من الرسول.

بأيّة روح يطبّقون الإنجيل؟ «بكل تواضع ووداعة وبطول أناة». التواضع والوداعة كان السيّد قد أشار إليهما بقوله: «تعلّموا مني اني وديع ومتواضع القلب».

بولس يعتقد أن الفضيلة تَشَبُّه بالمسيح. ثم يزيد على هذا انه ينبغي ان يحتملوا بعضهم بعضًا بالمحبّة، وفي هذا المعنى قال في الرسالة الى أهل رومية: «احملوا بعضكم أثقال بعض، وهكذا أتِمّوا ناموس المسيح».

غير ان ذروة الكلام في قوله: «حفظ وحدة الروح برباط السلام». هي وحدة الروح القدس الحالّ فيكم والذي ينُشئ فيكم سلام المسيح. وفي هذا عود الى كلام السيّد نفسه لما ظهر للتلاميذ عشيّة القيامة: «سلام لكم، سلامي أعطيكم». المصالحة مع الله تُنشئ السلام الداخلي الذي يتجلّى في سلام المؤمن. وحدة الروح القدس تجعلكم جسدا واحدا اي كنيسة واحدة فيها الروح القدس الواحد.

ثم أيضاحًا لهذا يؤكّد «رب واحد (المسيح) وإيمان واحد به» اي ايمان بأنه المتجسّد من الروح القدس ومريم وأنه مات وقام وجلس عن يمين الآب. هذا الإيمان الواحد يؤسس لمعمودية واحدة التي تدل على الايمان الواحد، الثابت والتي هي عهد أبدي مع الله. لذلك يقول دستور الايمان: «وبمعمودية واحدة لمغفرة الخطايا». غير ان الايمان واحد هو ايمان «بإله واحد آب واحد للجميع».

ويوضح بولس أكثر عندما يقول عن الله انه فوق الجميع وبالجميع (اي عامل بواسطة المؤمنين) وفي جميعكم (اي حالّ في قلوبكم).

كيف يكون حالا عندي وعندك؟ يجاوب بقوله: «لكل واحد منّا أُعطيت النعمةُ على مقدار موهبة المسيح». وبولس كان القائل في هذه الرسالة مرتين: «بالنعمة أنتم مخلَصون». «كل عطيّة صالحة وكل موهبة كاملة منحدرة من الآب ابي الأنوار». انتم اذا نزلت عليكم النعمة تطيعونها. حياتكم الروحية تنزل عليكم من حنان الرب الذي يقوّيكم ويؤيّدكم بالروح القدس.

المألوف عند بولس أنه يضع أولا في كل رسالة تعليما لاهوتيا ثم يتكلّم عن الأخلاق المسيحية مُظهرًا ان الأخلاق ثمرة التعليم اللاهوتي.

مَن قال إنه يتمسّك بالأخلاق المسيحية ولا يتمسّك بالعقيدة يكون خارجًا عن رؤية الإيمان. الأخلاق متشابهة في كثير من الأديان، ولكن عندنا رؤية عميقة للأخلاق متّصلة بالتعليم. فمن رأى اللاهوتي جانبا، لا يرى ما هو خصوصي في الأخلاق المسيحية. يجب الاّ يغشّنا الشبه بيننا وبين غيرنا في الحديث الأخلاقي. هناك دائما ميزة للأخلاق المسيحية ناتجة من ميزتنا اللاهوتيّة.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

الدينونة / السبت 6 كانون الاول 2008

صورة من صور الله انه قاضٍ لأن الإنسان جاءه تكليف ليرعى هذه الأرض لتعود خيراتها رزقا للإنسان وتاليا قربانا لله اذ كل ما خلقه يعود اليه بقوة وتعزيز. وما كان ترابا يلبس النور في اليوم الآخر ليعترف الرب ان هذا كان خلقه. ما يقوله الخالق للمخلوق ان أدِّ حسابك عن نفسك وعن حراثتك للأرض بما فيه كم الجهد ونوعيّته ولانهائية إنتاجه فيظهر الانسان بذا انه اقتنع على انه خلق على صورة الله ومثاله.

الإنسان والخليقة واحد والسؤال المطروح عليه في اليوم الأخير هو: ماذا فعلت بنفسك وبأخيك وبالأرض التي سلّطك عليها تخدمها حتى تخدمك؟ والسؤال يتضمّن هل أهملت نفسك وأخاك والعالم ليحلّ الجدب في هذه الخليقة التي لما خلقتها ذقتها.

هل تذكر هذا: «وقال الله ليكن نور فكان نور. ورأى الله النور انه حسن» (تكوين 1: 3 و4). وفي تأويلي ان هذا لا ينحصر فيما بدا ضوءًا محسوسا. ولكنه نعمة هذا الضياء على الخليقة كلّها فاذا استنارت الدنيا تأتي منها الخلائق التي يذكرها سفر التكوين. وما ينزل على الخلائق حسن لأنه يتنزّل من فوق وبعد هذا تجبله بالتراب الذي انت منه وبالتراب الذي منه الخلائق.

والإنسان يتحوّل الى نار اذا قبل ان مخلوقيّته هي بالكلمة. في سرد قصة الخليقة ظهرت الموجودات كلّها بالكلمة وبعد رقي كبير جاءت النبوءة بالكلمة بحيث تصير انت انسانا آخر مكوّنا من هذه الأرض ومن السماء معًا. وترابيّتك تسقط اذا عرفت ان توظّف النور الذي انسكب عليك. غير ان العتمات قد تهاجمك لتطرد النور الذي فيك او تدفع نورك ليطارد العتمات. انت مسرح الظلمة والنور فاذا قبلت ان تصبح مسرح الله فقط، تجاهد جهادًا حسنًا ليبقى الله وحده صاحب المكان. كل نعمة الله هي فيك فقط. ولكنك لن تجاهد جهادًا شرعيا الا بأسلحة النور اذ لا تعلم الله شيئا عن فنون الحرب الروحية التي يجب ان تخوض. هو يعلّمك كلّْ شيء وهذا نسمّيه النعمة. فإن رفضت ان تخوض حربه تكون سلّمت نفسك الى العدو.

في هذه الحرب التي نخوضها ولأنّ الرب سلّمك نفسك تصبح مسؤولا عن استعمال السلاح الإلهي فيك فتمسك به او تهرب الى اللاشيء.

وما نسمّيه الدينونة هو سؤال ربّك ايّاك : هل استعملت السلاح الذي سلّمته ايّاك ام هربت من المعركة فاستولى العدو عليك. هل كنت أمينا على تفويضي؟ وانا سلّمتك ما كنت تستطيع ان تحمله ولن أسألك عن أكثر منه. هناك من كان أعلى منك قامة فوهبته ما كان قادرا على احتوائه. هذا أسأله كثيرا والفرق بينك وبينه أمر لا يعنيك. انا وحدي عارف بالأحجام.

يبقى اني سأقاضيك لأن الأشياء التي كانت فيك هي لي. انها ودائعي. واذا فرّطت بها ففي قوانين البشر هذا يسمى سوء ائتمان. أرجو الا تتكل على حناني بدون معرفتك بقضائي. اما كيف أجمع بين القضاء والحنان فهذا أمر لا تعرفه ولن أكشف لك الا عند حصوله في اليوم الأخير اذا حصل.

ليس من حقّك ان تقول للملاك الذي يسوقك الى يوم الدينونة: لماذا لا توفّر عليّ هذا المثول؟ ان واحدا من أحبّتي كتب: «هائل هو الوقوع بين يدي الله الحي». كيف لا تكون من الواقعين اذا انا مددتك بالنور وعدت اليّ بالظلمة؟ كيف أقرأ عتماتك نورا وهي ليست بذلك. هل تسمي هذا حنانا ورأفة ومغفرة؟ انا تحدثت عن الغفران لئلا تقع في دنياك في غيبوبتك اذا شاهدت نفسك مفتّتة. انا استطيع ان أرحمك في دنياك ولكني لا اقتحم نفسك اقتحامًا. يجب ان تدعوني اليك وهذا يسمى التوبة. ولكن غفلتك عن نفسك تجعلك ترجئ التوبة لكونك توكّلت على غفراني. انت مدعوّ ان تعمل معي. شيء من مطواعيّتك مطلوب. ولكونك مخلوقا انا أعطيتك حريّتك وما قلت لك اني بديل عنها. اذا ذقت محبتي فهي ترشدك الى جميع الحق ولكن اياك ان تعتقد اني أجرّك اليك جرًا لأن في هذا اقتحاما لحرية فيك انا ابدعتك عليها لتفهمها وتعرف كيف تلقاني بها. واحد قال اني دفعت اليك وزنات لكي تستثمرها. سوف أسألك عن الوزنات فاذا أغفلت عن توظيفها على طريقة اهل الدنيا الذين يعرفون كيف يوظفون اموالهم لن يبقى لك مني ميراث، هذا الذي اعددته لك لو كنت طائعا.

سأسألك عن كل خير وعن كل شر لأن الخير منّي والشر منك وكان يجب ان تبدده. لا تقل جاءتني ظروف فاضطرتني على الخطيئة. هل نسيت اني جعلت لك ظروفا افضل وهي ظروف النعمة واني احببتك كما لم تحب نفسك؟ ولكنّك لم تعرف ان تحبّ نفسك وأحببت عليها خطاياك.

لا تظنّ اني دفعت لمن ارسلتهم وصاياك ليضيقوا الحياة عليك. فأنا ليس من طبعي تعذيب من أحب وأحببتك ولم تفهم وخدمتك ولم تحس. خطيئتك انك لم تحس بي وأحسست فقط بخيالات رأسك وشهوة بطنك. واستكبرت بجمالك وما ظننته جميلا فيك وكل هذا من صنع البشر.

ستحضرك الملائكة امامي وأذكّرك بما فعلت لأنك لا تحب ان تنسى اللذائذ التي استسلمت لها وما أحببت ان تستسلم للفرح الذي تؤتاه من الفضائل التي حدّثتك عنها لتعظمك.

سوف أقول لك هذا لأنهضك من الغيبوبة الطويلة التي وقعت عليك، لتقرأ نفسك وما أحببت ان تقرأها. سأكشف لك ذاتك بما اقترفته بالفعل وبالقول وبالفكر اذ كنت تغمض عيني نفسك لكي لا تراها.

في اليوم الآخر سأريك نفسك كما انت. غالبا ما ترتجف لأن الإنسان لا يستطيع ان يرى القباحة ويحيا. انا إله الفهم ولا أخلّص إنسانًا غبيًا. لذلك كان لا بد لك في اليوم الأخير ان تقرأ نفسك كما أنا أقرأك.

وبعد أن تشاهد بشاعتك واستطعت ان ترى عليّ لمحة من نور وتطلب مني ان أبدّد بشاعتك فسأنقيك بماء كلمتي الأخيرة: أنا أحبّك لأنك ابني على رغم انك سهوت كثيرا وأردت ان تؤذيني. سأخلق فيك من جديد محبّة لجمالات السماء.

انت الآن امامي واقف عاريا. سآمر ملاكك ليلقي عليك الحلّة الذهبيّة التي تجعلك مؤهّلا لمجالسة القديسين الذين أرضوني وأوحّد بينهم وبينك مع انك لم ترضني على الأرض واذا رأيتك وانا أعبر طرق السماء لن أشاهدك الا لابسا الحلّة الذهبيّة وقد أيقنت الآن اني انا القيتها على عرائك.

تعال الآن ايها الحبيب فإني ولو جلبتك الى محاكمة الا اني لن أجلبك الى الدينونة.


Continue reading