إن أطللت على السنة القادمة لا بد ان تودع العام المنصرم في كل بشاعاته. تودعه بالغفران للذين قتلوا وأتلفوا الجمالات التي رأوها جمالات ولكنهم ظنوا ان قبائلهم تدوم بالميتات اذا اقترفوها. انا أبقى وأنت لا تبقى لأن الدنيا لا تتسع لنا كلينا اذ ينبغي لي ان أسكت الآخر بإهراق دمائه. قطرة دم باقية في الآخر تهددني.
ظاهرة الإبادة من خصائص العالم الحديث فالحرب العالمية الثانية لم تنته. تشرذمت في أقطار عديدة. تغيرت الأعداء فقط. عداء يفنى وعداء آخر يبدو. نلازم قلوبنا الشريرة هنا وثمة. يصغر عدد المقاتلين وتستيقظ البغضاء بين عناصر قديمة او دينية ويبدو انها كالمغطاة تحت تعددية طلبت الوحدة ولم يتوفر صدق الوحدة لأن الوحدة كانت تفترض زوال الأنا المقوقعة ولكن هذا الزوال لم تتوفر شروطه فانكفأ القوم الى القبائل يطمئنون اليها وما من طبع القبائل ان تتشارك. وقد تبقى الاوطان على أعلامها وحدودها ولكن القلوب تصدّعت وتناثرت موداتها.
الموت كان الصورة الصارخة في العام الذي ينصرم. واذا لم يوجد مصدر سلاح تشتريه وتفتقر فقد تقتل وتجوع معا اذا كانت الجريمة غذاءك العاطفي والجريمة أبقى فيك من غذاء الجسد. لم يبق في الحياة الا بطولات الموت والبطولة، صحيحة كانت ام كاذبة، دائمة فيها استكبار.
الفاجعة الكبرى في التشنجات الاثنية المركبة على التشنج الديني فاجعة روحية كبرى لانها تكشف في جماهير كثيرة ان ايمانها كان سطحيا للغاية كما تكشف انها ليست مجموعات روحية تطلب الله ولكنها تطلب طوائفها حيث يكون المعتقد الديني قشرة تبث احقادا عتيقة راسخة في منافع الذي يغذون عداء الجماعات بعضها لبعض حتى بات كثير من الناس يذهبون الى ان الأديان مصادر عداء. هذا سؤال ليس سخيفًا اذ بان حقيقة تاريخيّة والأمر الرهيب ان اهل كل دين توحيدي ينسب الى أهل الدين الآخر طاقة موت وينبش حوادث الاقتتال التي التبست بالدين. هذا ما يغذي الخوف. ما يجعلنا نشكّ في ان المسؤولين روحيا عن الامم قاموا قليلا بتأكيد العدل الواجب لكل امة وبتثبيت المحبة في كل أمة. وما يعزز الشك ان الامم الوثنيّة القائمة في افريقيا وآسيا كانت ولا تزال أقل الديانات هجوميّة او تحرّشا.
وتنتهي السنة بالمجزرة المالية التي عمّت العالم وهبوط المستوى الاقتصادي في بلدان من العالم عدّة وانتشار الحاجة بصورة مروعة بسبب من الرأسماليّة المتوحّشة ورمي الفقراء في قعر العوز ويقول العارفون ان معرفة ما قد يحصل في الأزمة كان متوقعا عند اهل الاختصاص مما يوحي بأن ثمة جرائم بلا سفك دم.
# #
#
مقابل هذه الفظائع عندنا وعند سوانا لا ريب ان المجتمعات عرفت ايضا بهاء كبيرا في حقول العمل الاجتماعي والتعاضد والأدب والفنون الى جانب حياة روحية صافية، هادئة، مقدسة وان ناسا كثيرين لم يتدنّسوا. طبعا الأعمال الصالحة لا تدون لأن الكثير منها على مستوى شخصي. في هذه الدنيا أبرار كثيرون ولكنهم يؤثرون الخفاء والخفر وحسبهم ان الله يراهم وهم يحلّون بالبكاء خطايا الآثمين. وجود القديسين في الدنيا يعزينا والخيرون منا يحاولون التشبّه بهم كي لا يلعن الله اهل الأرض.
غير ان الصالحين لا يؤلفون جمهورا ولا فاعلية لهم ملحوظة في أنظمة الحكم. يحملون شهادة البرّ وببرهم أنت تتزكى. الذين لا يحسبون لأنفسهم حسابا بالمال او الزعامة او تبؤ المناصب يقول عنهم الكتاب انهم قلة عزيزة. انهم دائما في حالة الإصغاء الى الآية الكريمة: بفذكّر انّما انت مذكّر. لست عليهم بمسيطرا (الفاشية، الآية ٢1). متى يبيد المسيطرون بسبب من وداعة الودعاء؟ متى تصبح الأرض سعيا الى ملكوت الله او بعضا منه لنكون وحدة حب ب فالحب ديني وايمانيا كما قال عظيم من عظمائنا!
أينشأ الحب في الناس ويثبت؟ جاء ابن الانسان ورتب عيد مولده مع نمو ساعات النهار إشارة الى ان خطة الله أن يزداد كل منا نورا على رجاء ان تزول عتماته ويصبح كله قامة ضياء. هذا الميلاد دعوة على رجاء سمع السامعين. هكذا يبدو ان تاريخ الناس بعضهم مع بعض هو بسبب من كثرة الأشرار تاريخ الخطيئة وان تاريخ الله مع الناس هو تاريخ حبه لهم وحبهم له وهذا هو النور يكشف بعضه ولا يكشف جله حتى يدين الله سرائر الناس على قدر المحبة التي بذلوها.
# #
#
مرة تكلم بولس الرسول عن بسر الإثما ومن الطبيعي ان يستوقفه هذا السر. لماذا كل هذه الكثرة من المعاصي؟ لماذا الايغال في التمرّد على الرب؟ لماذا القلب البشري وكر للأفاعي؟ من مكامن هذا السر ان الخالق لا يضرب حرية العصاة. لماذا هم قادرون على حكم الناس الذين يهوون لذاتهم.
هذه الرؤية الرهيبة لا تُنهي الرجاء للعام القادم وربما لكل الزمان الآتي. يقول اسحق السرياني الذي كان اسقف نينوى بالقرب من الموصل في القرن السابع: بلكم تمنح كل الخيرات وكل شرف للكافر، للقاتل لأنه هو ايضا اخ لكا. ثم يردف: بمتى يعرف الانسان ان قلبه بلغ الطهارة؟ عندما يعتبر ان كل البشر صالحون فلا يبدو له احد دنسا. هو، اذ ذاك، نقي القلب!ا.
هذا لا يعني بالتأكيد ان البار لا يرى المآثم ولكنه لا ينسبها الى الأثيم نفسه. يبصر الأعمال ولا يدين الشخص لكون الرب وحده هو الديان الذي لا محاباة عنده للوجوه. اجل تعذبك مشاهدة البشرية المذنبة وانت تكافح ذنبها وعليك ان تقتحم بنى البلد والعالم بالضياء الذي يخرج منك وبالكلمة الطيّبة الحلال ومشاركة اهل الخير ليعظم نضالك وتؤثر في كل المجالات بما فيها مجال السياسة. هذا يفرض ان تدرس وسائل السياسة الطاهرة ويمكن اهل السياسة ان يكونوا طاهرين.
نحن نعتزل الشر ولكن لا نعتزل مرتكبيه اذ نرجو لهم الخلاص والهدى واذا اقتحمت في مجتمعك زاوية من زوايا الضلال فأنت ناشر لملكوت الله. وهذا يتطلّب جهدًا موصولا وحصول قلبك على حركة إلهية فيك. حذار ان يتعرّض فكرك وعملك للكبائر حتى لا ييأس الناس من الطاهرين اذا وقعوا. وهذا يتطلّب منك تطهّرا دائما ورجاء لا ينقطع.
هذا رجاؤنا لمضمون السنة الـ 2009 عسى تصير سنة لله مقبولة.
Continue reading