Monthly Archives

July 2010

2010, جريدة النهار, مقالات

لماذا أكتب؟ / السبت 31 تموز 2010

لمن أكتب؟ لمن يستطيع أن يقرأ، لمن يريد أن يحرّر ذاته من فكر له مغلوط او شبه مغلوط، ليرتقي بروحه الى الله الذي ينبثّ اليه من خلال ما يقرأ او الى المسيح الذي لم يكتب، ليرصف نفسه مع الذين فهموا، ليقدر أن يتوثّب الى روح الذي يكتب ومنه الى كل العقول التي تجيء من قلوبها لأن القلب هو المصدر الحق للعقول والمتخيّل. ومجموعات العقول في كل الحضارات المتلاحمة في الحق وبالحق هي مطرح العقل الإلهي الذي هو المحبة. أقول هذا طاعة مني لما جاء في رسالة يوحنا الجامعة الأولى في العهد الجديد القائل ان الله محبة. وحدسي أمام هذا التصريح اليوحنائي أن المحبة ليست صفة من صفات الله التي تملأ كتبنا المقدسة ولكنها اسم الله، الاسم الكامل الذي لا يعلوه اسم اذ الله يُنشئك من كونه يحبّك وقبل انعطافه عليك تتلقّى انت خبراتك بالفكر. اما خبرة الله لنفسه فهو أنه يحبك ويُلهمك المحبوبية. وعيك البشريّ لنفسك يأتيك من ذوقك لمحبوبيّتك فتصير واحدا مع الإنسانية كلها المكوّنة لرؤيتها نفسها محطّ الانعطاف الإلهي.

ومهما اختلفت وجوه الناس ودياناتهم ولغاتهم فالأمر الأكيد أنها واحدة كيفما عقلت الوجود. والمسيح لم يمُتْ لفئة او فئات متبعثرة ولكن للكتلة البشرية الكاملة، والإنسانية هي التي تزوّجها المخلّص لنفسه واحدةً مهما كان انتسابها اليه في معرفتها اذ الحقيقة في تصرّف الله تجاهها من حيث إنه ينسبها الى ذاته او الى أفعاله وأفعاله ضياؤها وما عندها من نور الا النور الذي يُشرق به عليها. لفتني مرة أن يسوع قال لأتباعه: «انتم نور العالم» (متى 5: 14)، ولكنه ما قالها إلا لكونه قال في مطرح آخر «أنا نور العالم» (يوحنا 8: 12). كلّ منا يجيء من إشراقة له عليّ وعليك.

من هذا الاتحاد بيننا وبينه أكتب لأُوقظ الناس الى الحق الذي فيهم، ليعرفوا أنفسهم إلهيين او متألهين، وهذا حوار لأن القارئ يتلقّى الحقيقة الصادرة عن الكاتب ويكُونها اذا الكاتب كانها أي أن القارئ يكتب نفسه بما قرأ، هذا إذا تواضع ليتقبّل هذا الذي نزل عليه. وفي نهاية التحليل الكاتب والمكتوب وما يصدر عنهما في التفاعل شيء واحد.

حُبّا بمن يُطالعني أُعطيه نفسي ولكني أُحاول ألا أُعطيه خطاياي. ومن هنا أنك لست بكاتب حق الا اذا تحررت من وطأة نفسك عليك اذا أتتك الوطأة من هذه الدنيا . ولكن اذا اخذ ربك أصابعك حينما تضع سطرا او مقطعا فهو المؤلّف وانت مكتوب. بكلام آخر لا تضع حرفا على الورق، حرفا مقدسا الا اذا نزلت عليك الحرية من نفسك الموطوءة او المدنّسة لأن هذا لا يحرّر من يقرأك بل يسجنك في الدنس الذي فيك. من هنا أن ليس الفن للفن، ليس للجمال المسطّح لغة او زخرف. الجمال ليس الجماليات المتعارف عليها. انه جمال الحقيقة التي تعرف دائما أن تنتقي منك ما يُطهّرك ويُطهّر الآخرين. الجمال جلال وبهاء من فوق حتى لا تقع في عبادته اي في عبادة نفسك والانتحار فيها. الجمال الذي تظنّه أدبيّا اذا لم ينتقل بهاءً الى نفوس الآخرين إغراء ووقوع الكاتب وقارئه في هذا الإغراء.

# #
#
مسألة الكتابة الأدبية أنها ليست وعظا اي تعليما دينيا مكررا بألفاظ تختلف. الموعظة يمكن أن تكون جميلة أدبيا لأنك تحتاج الى أن يعبُر النص إلى القلب. والشكل التفه لا يعبُر. الوعظ يجوز فيه التفنّن ولكن دائما للحقيقة التي يحيا بها حافظها ويحيا بها المتلقّي. الخطر في الوعظ عبادة الكلمات القديمة المكرورة، والقديم لا ينزل على الإنسان الذي يعيش عصره. تغيّر له الكلمات ليقتبل الحقيقة الأبدية الكامنة في الكلمة الموروثة. ولكنها لا تصبح روحا إلا اذا التقت روح المستمع. الكلمة هي الحقيقة المختبَرة (بفتح الباء) حتى تقدر أن تنشئ نفسًا تذوق وتتحول.

أُمّة الله او الكنيسة كما يسمّيها المسيحيون هي مجموعة المتحوّلين وبالتعبير الدينيّ مجموعة التائبين الذين يعرفون لكونهم خاطئين أنهم ليسوا بشيء إن لم يأكلوا الكلام الإلهي الذي ينسكب عليهم من بشر أحياء حاولوا أن يهتدوا ليصيروا وسطاء الكلمة القديمة، اذا تحوّلت أشخاصهم وليس فقط أسلوبهم. فالأسلوب تقانة اي انه آلة في يد من أعطى كلاما جديدا ولكنه أمين. من لم يصبح وليد النعمة ينقل اليك كلاما ميتا، وهذا ليس ببليغ. مهما اقتبست من علوم اللغة، لا يستخدمك الله إن لم تخدمه انت بالرجوع اليه. لست وسيطا إلا في طاعتك له، ومن سمعك يبقى ميتا لأنه يأخذ كلاما ميتا، اما اذا غدوت إنسانا جديدا تصنع به ناسا جددا. والجديد قديم اذا نقلَتْه نفسٌ تجدّدت بالحب والتواضع.

# #
#
لماذا أكتب اذًا؟ الجواب الأصحّ أني أكتب لأتطهّر، لأقترب من الله الذي أعرف أنه يستكتبني، لأقول كلمته لا كلمة صادرة من رغبات بشر. أكتب لأنقل ما جعله الله على قلمي وليس لي فيه شيء، فإذا لم أصر واحدًا مع المكتوب أكسر قلمي، وإن لم أسعَ الى أن أصير واحدا مع من يقرأني، من أحسبه قابلا لله أكون مخطئا إلى القارئ، أكون قابلا لخطاياه، متآمرا وإياه على ربي، مؤلفا وإياه كتلة متفذلكة تدعى المثقّفين. هذه الكلمات تكون «أزهار الشر» كما سمّاها بودلير اي أزهارا سامة.

هذا يجلب عليّ دينونتي، والصمت في هذه الحال نجاتي من السمّ. انا كاتب مسيحيّ واذا أحسست نفسي متمرّسا بالمسيحية يكون عندي شيء أقوله لجميع الناس لأن المسيح يمسّ كل القلوب فتأخذ ما تستطيع أن تأخذ والنفس البشرية مؤهلة للمسيح. ولكن هذا لا يعني أني تنقّيت بالكامل. لذلك قد لا يكون المسيح عبر بكماله الى هذه الكتابة التي أستخدم. القديسون يحيون حياة الرب وما استطاع الكثر منهم أن يكتبوا. إنهم أنارونا واستضأنا بنورهم. الكاتب عنده دائما شيء من بشرته فإذا كان مؤمنا هو معذب بسبب من ذلك. يحاول مع هذا أن يكون رسولا ويغفر له الغفّار اذا أخطأ وينتقل ما ينتقل. ولكن وُضع النير على كاهل من أُعطي أن يكتب، ويكتب لأنه يطيع. ومن لم يُطِع يكون قد بدّد الوزنة التي عليه أن يستغلّها ليتمجّد الله به.

الكاتب الأمثل هو اذًا مَن تطهّر كليا، مَن وصل الى الفرح الإلهي. والفرح يكتب كما يكتب الوجع. ولكن الوجع يأتي من الخطيئة احيانا او يأتي من صعوبة التخلّص منها. هناك دائما خضّة في النفس نؤتاها من سقطاتنا او من محاولة التوبة عن سقطاتنا.

الحزن يكتب والتهليل يكتب. وفي كل حال تأتي الكتابة من الدهشة، وعند القديسين تأتي من الذهول، ذهولك امام المجد الإلهي. هذا يعني أنك تجاوزت ألم المعصية. من غرق فيها لا يبقى له قلم لأنه لم يبقَ شاهدًا او مُشاهدا للجلال. اما من بقي عنده شيء من المحبة فلا بد له أن يحب قارئا لا يعرفه.
من كتب لا يعرف قارئيه. يكتب كما يكتب، كما يسري قلمه لأنه هكذا يعيش وهكذا يتحد. قيل لأبي تمّام: «لماذا تكتب ما لا يُفهم؟» أجاب: «لماذا لا تفهمون ما أكتب؟». انت تكتب بطريقتك لأنك هكذا تحب وتصل الى المجاهدين في الفهم، واذا أَحسّوك بعض المرّات يصلون الى ما أردتهم أن يتبلّغوه، وعزاؤك في هذا أن بعضا من الناس صاروا من أُمّة الله.


Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

بطرس على الماء/ الأحد 25 تموز 2010 / العدد 30

في قول متّى «الى العبر» قصَدَ أن التلاميذ ذهبوا الى القرية المسمّاة بيت صيدا على البحيرة ما يعني أن أعجوبة إكثار الخبز جرت على الضفة الغربية من بحيرة طبريا، فكان على السيد أن يصرف الجموع التي أكلت من الخبز.

«صعد الى الجبل وحده ليصلّي». متّى لا يسمّي الجبل. يسوع صلّى في بشريته الى الآب. هذا صنعه مرارا. هبّت ريح مضادة للسفينة. هذا كان يحصل في بحيرة طبرية فإنها كانت كبيرة (طولها 12 كيلومترًا). مشى السيّد على البحر ليصل الى تلاميذه. كان هذا عند الهجعة الرابعة من الليل اي ما بين الساعة الثالثة والساعة السادسة صباحا. اليهود كانوا يقسمون الليل الى أربع هجعات.

«فلما رآه التلاميذ ماشيا على البحر اضطربوا ومن الخوف صرخوا» اذ ظنّوه شبحًا. هناك خوفان: خوف الذين يشكّون اذ هذا يُحدث خللا في النفس، وخوف الذين يؤمنون بسبب من الهيبة التي تستحوذ علينا عندما نواجه الله. بهذا المعنى نقول في القداس: «بخوفِ اللهِ وإيمان ومحبة تقدّموا». هذا طبيعيّ اذ لم يشاهَد إنسانٌ يمشي على المياه. اذ ذاك، قال لهم: «انا هو». هذه عبارة وردت في سفر الخروج إذ تكلّم الله هكذا عن نفسه، ووردت مرّات في انجيل يوحنا.

لما رأى بطرسُ الربَ، قال له: «إن كنتَ انت هو فمُرني أن آتي اليك على المياه»، فسمح له السيد بذلك، ولكن «لما رأى شدة الريح خاف». الواقع أن الإنسان لا يرى الريح ولكنه يسمعها. لماذا قال متى رأى؟

نفهم من هذا الكلام أن بطرس لما كان يتطلّع الى وجه يسوع قدر أن يمشي على المياه، ولكن لمّا تحوّل نظره عن عينَي السيد لخوفه من العاصفة غرق. عند ذاك، قال له «يا رب نجّني». انت اذا غرقت في بحر الحياة وهمومها تغرق. ألا نقول في القداس «لنطرح عنّا كل اهتمام دنيوي»؟ النفس يجب أن تكون دائما منشغلة بيسوع وحده. وبّخ يسوعُ بطرس لأنه شكّك بالمعلّم. هدأت الريح لمّا دخل الرب الى السفينة والى تلاميذه. إنهم اطمأنّوا إليه. لا شيء في الطبيعة بعد وجودهم مع المخلّص يُقلقهم لأنهم باتوا فوق كل ما يُقلق. «سجدوا له» اي عرفوا أنه الرب. لمّا استعمل متّى كلمة «سجدوا» وحّد بين يسوع والله، اذ لا سجود عند اليهود إلا لله، وقالوا جميعا «انت ابنُ الله». هذا ما سيقوله بطرس في ما بعد.

إيمان التلاميذ هو ذاته إيمان بطرس. لا ينفرد هذا الرسول عن بقية الرسل في هذا الاعتراف. كلّ حياتنا قائمة على أنّ يسوعَ ابنُ الله. هذا ما يُميّزنا عن قوم آخرين. هذه هي حياتنا. يسوع لم يبدأ بولادته من مريم. كان ابنَ الله منذ الأزل قبْل أن يصير ابنا لمريم. سرّه أنه إلهنا الكامل والإنسان الكامل والمخلّص الذي كمّل الخلاص وليس مِن مخلّص سواه. ورجاؤنا هو اليه وحده.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الصبر / السبت 24 تموز 2010

يرى الكثيرون اذا تكلّموا على الصبر أنه الجمود او الاستكانة عند مرض او ملمّة او موت بما هو شعور سلبي او غياب لردة الفعل، وفي أحسن حال هو برودة أعصاب عند الألم جسديا كان أَم معنويا، وبهذا يقتربون من الموقف الرواقي العملي. واذا نفذ الصبر فهناك الغضب او التشنّج او الانتفاضة. ويأتي الصبر كما يُحسّون به استسلامًا او انهزامًا امام العيش اليومي اذا تخلّف البلد او ساد فيه الفساد عندما لا يبدو أمل في الإصلاح او النهوض.

إن انعدام التأثر وضع لم تدعُ اليه الديانات التوحيديّة ولكنه أساس في البوذية التي تدعو الى موت الرغبات. التوحيد يقول بتطويع الرغبات لا الى إبادتها إن كانت جيدة اذ يفرّق بين هذه والرغبات الفاسدة.

الإنسان حركة وانت إن شئت ما هو صالح لنموّك تكون متحركا الى الله الذي فيه تُحقّق ذاتك والبوذيّة كما تعلمون لا إله عندها. للمفارقة نقول إنها ديانة إلحادية من حيث إنها تسعى الى الإنسان الحر الذي يكتسب حريته -اذا جاز التعبير- مما قد ننعته نحن انحصارا بالأنا التي لا تأثّر فيها.

وددت في هذه العجالة أن أستهلّ كلامي على الصبر في الإسلام لأنه يُكثر من ذكره. اللافت فيه أنه يرفض معنى الاستكانة اذ يقول: «فاصبر كما صبر أُولو العزم من الرسل» (سورة الأحقاف، 35). نحن اذًا مع صبر حركيّ. ويُكثر القرآن من تذكّر الذين عملوا الصالحات اذ أُوتوا هذه الفضيلة اذ «صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة» (الرعد، 24). بلا إله تطلبه وتتوخّاه لن تكون صبورا. هذا ليس فيه رواقية. الرب هو الذي يكافئ أي ان المسلم يطلبه بهذه الحسنة والرب يعضده. والصبر حركة يؤتيها الله الإنسان فيتوكل هذا عليه. هي حركة تقوم على التقوى والصابرون يواجهون الفتنة.

من الآيات التي لفتتني: «واتبع ما يوحي اليك واصبر حتى يحكم الله» (يونس، 109). لي أن أفهمها على أنك في الشدة والاختلاف تتسلح بالصبر حتى يحكم الله بينك وبين خصمك ما يدعم ما قلته سابقا انك في رجاء الى الله الذي يُنهي الخصومة الفكرية او غيرها متى شاء او في اليوم الآخر. في هذا الموقف يقول: «فاصبر لحكم ربك» (القلم، 48). ولعل إحدى ذرى هذا الكلام قول القرآن: «وما ضعفوا وما استكانوا والله يحبّ الصابرين» (آل عمران، 146) للدلالة على أننا بالصبر في مجال الحركة القائمة على الهدوء الداخلي الذي يمنّ الله علينا به. وهذا هو السلام بمعناه الأخير.
# #
#
تري المسيحيةُ أن الصبر مرتبط بالفضائل الثلاث التي ذكرها بولس أعني الايمان والرجاء والمحبة. فالصبر يسبق الإيمان ويتبعه (ترتيليانوس في كتابه عن الصبر). كذلك يولّد الرجاء ويولّده الرجاء (القديس يوحنا السلمي). ويساعد الصبر على تنمية المحبة وفي آن هي ثمرته (يوحنا الذهبي الفم في مواعظه على الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس). آباؤنا ربطوا الصبر بالهوى المؤذي وبالسلام الذي تزول به الانفعالات ونتجاوز به المحن.

هنا ايضا الاتجاه هو الى الله: «انتظر الرب وأصبر له» (مزمور 37: 7)، وهو غير محدود المدى: «انا أصبر على كل شيء لأجل المختارين لكي يحصلوا هم ايضا على الخلاص الذي في المسيح يسوع مع مجدٍ أبدي» (2تيموثاوس 2: 10). هنا تتبيّن التماسك في فكر بولس بينه وبين المؤمنين بحيث انك اذا اكتملت بالصبر يُحدث هذا خلاصا للآخرين.

ذروة الصبر في العهد الجديد صبر المسيح عند آلامه وقبوله للموت وينتج عن هذا ما يسمّيه سفر الرؤيا «صبر القديسين». هؤلاء فضيلتهم لها ركيزتان: النعمة الإلهيّة. هذه المشاركة الإلهية الإنسانية هي خلفية كل التعليم عن الخلاص. والمسيحية لا تستنكف فكرة المشاركة بين الله والإنسان. إنها نزول العطاء الإلهي للإنسان.

الصبر، إنسانيا، وقفة محبة إزاء من أبغضك واضطهدك وهو مصدر الشهادة، مشاركة الكلمة وشهادة الدم. وما كانت كذلك الا لأنها كانت رؤية. عندما اجتمع بعض من اليهود ليرجموا استفانوس، وهو أول الشهداء عندنا، «شخَصَ الى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس فرأى مجد الله» (أعمال 7: 50). ما من صبر يدخل الى قلبك ما لم تَنظُر مسبقا الى حضرة الله قائمة في قلبك. هذه الحضرة الإلهية وحدها تجعلك قادرا على احتمال المصاعب كلها (الخسارة المادّية، المرض، العجز الدائم، موت عزيز، الهجاء، الشتائم). الحضرة الإلهية وحدها تجعلك متغلّبا على كل حركة غضبيّة، محتملا كل ثقيل وعدوّ لأنك بذلك تخلّص نفسك (متى 10: 22).
أخذ آباؤنا توصيات الكتب المقدسة وصاغوها تعليما. وذهب كاسيانوس البارّ حتى القول «إن أفعل دواء للقلب البشري هو الصبر».
ليس المجال لأذكر كل ما قاله آباؤنا في بهاء الصبر وقوته. غير أن القديس كبريانوس القرطاجي علّم أن الصبر ضروري لكل البشر بعد أن جعلت خطيئة آدم الوضع البشري خاضعا للألم. في الحقيقة أن الأحزان الكثيرة التي تنتابنا تشدّنا الى اليأس وتاليا الابتعاد عن الله.

منذ أيام معدودة جمعني عيد مار الياس الى أستاذ كبير في علاج السرطان في الولايات المتحدة ووصف لي الأطوار المعنوية المتناقضة التي يمر بها الواقع في هذا المرض. من الوقعات أن يتساءل لماذا أصابه المرض ولم يُصب غيره. بعد هذا يتصالح والوجود. ما من شك أن السؤال عن إصابته هو من أصعب الأسئلة التي نواجهها. امام هذه الأزمة نفهم عظمة الصبر وإلهيّة مصدره.

في هذا قال القديس مكسيموس المعترف في الفصول المئة عن المحبة: «الصابر هو من انتظر نهاية المحنة وتلقّى مجد المثابرة».

كثيرا ما ترى توقف سير الأمور التي تهمك، أن الأبواب موصدة امام جميع الناس في الوطن او الكنيسة، وكثيرا ما تلاحظ أن الأشرار كثروا وأن الصالحين أضحوا حفنة صغيرة فتشاهد أن الحلول قد ولّت وأن لا مستقبل منظورا تتوقّعه لأي شيء أنت تحبّه.

أجل يجب أن تسعى لتغيير الأوضاع مع المُخْلصين، وسرعان ما تُدرك أنهم حزانى على الأوضاع وعلى أنفس كثيرة فتفهم أن الله وحده مُمسك بمفاتيح الحياة والموت. يكشف لك الرب ساعتئذ أنه هو القدير وحده وأنه سيكسر أبواب الجحيم ليُصعد منها أحياءه ويرمّم الصالح للترميم أو يبني من جديد بنعمته ما تهدّم. لا يبث فيك صبرا جميلا إلا ذاك الذي عرفك على الرجاء. ليس للموت الكلمة الأخيرة.


Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

الخصومات في الكنيسة/ الأحد 18 تموز 2010 / العدد 29

يقرّر بولس الرسول في مطلع هذا المقطع من الرسالة الى تلميذه تيطس أننا نأتي من كلمة الله، واذا استلمناها نقوم بالأعمال الصالحة. الرسول لا يفرّق بين ما هو تعليم وما هو سلوك.

مقابل الأعمال الصالحة يتشكّى بولس من المباحثات الهذيانية اي الجنونية التي لا ترتكز على شيء وهي تُنتج الخصومات في كنيسة حياتها المحبة وتُعطي المماحكات ومنها البحث عن ناموس موسى (هل نصير يهودًا قبل انتمائنا الى المسيح؟) وقد بتّ هذه المسألة مجمع أورشليم الذي نقل الوثنيين مباشرة من وثنيّتهم الى المسيحية دون تبنّي الناموس الموسويّ. كل هذه المناقشات عنده «غير نافعة وباطلة».

بعد هذا يقول «رجل البدعة بعد الإنذار مرة وأخرى أَعرضْ عنه». وهو في هذا تكلّم عن البدع التي يعتنقها أولاد الكنيسة وتسرّبت اليه من خارجها. كل انحراف عن استقامة الرأي لا تجعله يبقى في ذاكرتك طويلا. أصحاب البدع او الهرطقات يحوّلونك عن الأرثوذكسية مستندين الى الكتاب المقدس إذ يبتُرون الآيات او يُؤوّلونها بما ليس معناها.

من أمثال هؤلاء اليوم «شهود يهوه» الذين يرفضون بوضوح أُلوهية المسيح ويُعلّمون تعاليم شاذّة عن الحياة بعد الموت كما يُنكرون أهمية العذراء في الكنيسة والقديسين والأسرار المقدسة. هؤلاء لا يجوز اعتبارهم مسيحيين، وفي أشياء كثيرة هم أقرب الى اليهود.

بعد هذا ينتقل بولس الى ترتيب أُموره العَمَليّة فيقول لتيطس الذي كان راعيا لجزيرة كريت انه أَرسل اليه مبعوثين من عنده هما أَرتيماس وتيخيكوس ليُبلّغاه أمورا تتعلّق بالتعليم والرعاية. كذلك يطلب اليه أن يأتيه الى مدينةٍ تُدعى نيكوبوليس. قد تكون هذه المدينة مكانًا في أبيرس على شاطئ بلاد اليونان الغربي. طبعا عندما يقصد بولس أن يُشتّي هناك يكون هذا حسب برنامجه التبشيريّ وافتقاد كنائس المنطقة. ثم يوصي بتشييع أَخوين هما زيناس وأَبلوس، وهذا نعرفه كثيرا من العهد الجديد معلّما كبيرا ومفسّرا للكتب المقدسة. بولس يهتمّ جدا بمعاونيه في البشارة اهتماما شخصيا وبأمورهم الحياتية.

بعد هذا يعود ليُذكّر بالأعمال «الصالحة للحاجات الضرورية». يهمّه ان يعيش أَعوانه وأُمناء سرّه الذين كان يُلقي عليهم الرسائل اذ -على ما يبدو- لم يكن قادرا أن يكتب بيده. ولا ينسى أن يبعث الى تيطس بسلام الذين يرافقون الرسول في رحلاته. يكلّف هذا وذاك بأعمال تبشيرية وإدارية في الكنائس. وهو بدوره يُسلّم على الذين يحبّوننا في الإيمان اي لهم ولنا إيمان واحد مستقيم الرأي. ثم يشمل بالمحبة جميع المؤمنين بقوله: «النعمة لكم أجمعين، آمين». النعمة الإلهية هي ما يغتذي بها المؤمنون.

هنا تنتهي رسالة اليوم. ثم يبقى في الرسالة الى تيطس سلامات أخرى على الذين هم في جهادهم حول تيطس.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الهوية / السبت 17 تموز 2010

في لغة الناس انت معروف بالنسَب لأن حياة الإنسان علاقة او علاقات. انت دائمًا الى الآخر او تكون دفين قوقعتك، فردًا معزولا اي غير قابل للكسر، للفتح، للانفتاح. اما اذا انكسرت شوقا يدخل اليك آخر. تصير واحدا به. الدنيا انتساب ليس الى أبيك وأمك ولكن الى من أدخلتهم النعمة اليك.

ولو تداخلت وانسانًا آخر لن تكونا واحدًا حقا او نهائيًا لأن كلا منكما يعوزه شيء. والناقص لا يكمل الناقص. اما اذا رأينا الى الله فيقول الفلاسفة او اللاهوتيون انه غير منسوب بمعنى ان كماله في نفسه ولكن ان نظر هؤلاءالى تجسد الابن أمكنهم القول ان غير المنسوب بطبيعته اختار ان ينتسب فصار الإنسان اليه وصار هو الى الإنسان. صلتك به باتت الهوية وعندي ان الهوية -وهي لفظة مستحدثة- مشتقة من «هو» بحيث تعرف عن نفسك بالآخر الوحيد الذي هو الله. تصبح ذا هوية اذا عرفك فتكون آتيا منه ومتكونا به.

بصورة مطلقة يصير الإنسان بكون الله يحبه. وما عدا ذلك مصطلحات دنيوية. يقال هوية لبنانية مثلا لتمييزك في الدنيا عن انتسابات اخرى. ولكنك لا تجيء من بحر بلدنا او جباله وان جاء بعض من طبائعك من تاريخه او مكوناته المجتمعية. ولكن هذا كله نسبي لأنك واحد مع البشر جميعًا وكلكم ينتمي الى لحم البشر وعظامهم وعقلهم وما فيهم من مخلوقيّة.

اما اذا عرفت نفسك محبوبا الهيا تكون واحدا مع المحبوب الآخر لأنه لم يأخذ محبوبيّته من لحم وعظام وعقل وما فيه من مخلوقية. حقيقة ما فيه او حقيقة ما هو (هوية) نزلت عليه من فوق.

ما قلته لكم الآن مؤسّس على ما نزل من فوق. على جبل سيناء يقول الرب لموسى: «رضيت عنك وعرفتك باسمك» (خروج 33: 17). اسمه النازل عليه هويته. ولما أراد النبي ان يرى مجد الله اي ان يعرف جوهره قال له الله: «واما وجهي، فلا تراه» اي لم يكشف له اسمه ولكنه قال: «واتخذكم لي شعبًا وأكون لكم إلهًا» (خروج 6: 7). يعرف الله عن نفسه بالحركة الى شعبه. هكذا تبدأ الجملة العربية بالفعل، بالحركة. في الصحراء، لا يكشف الله عن هوية له قائمة بذاتها ولكن عن رؤيته للشعب.

# #
#
هذا يؤيد مشهد العليقى الملتهبة حين قال موسى لله: «اذا ذهبت الى بني اسرائيل وقلت لهم: إله آبائكم أرسلني اليكم، فان سألوني ما اسمه: فبماذا اجيبهم؟ فقال له موسى: أكون ما أكون» (خروج 3: 13 و14). هذا ليس اسمًا، هذا فعل. الله يعرف نفسه بأنه يقوم بعمل رحمة لشعبه.

يأتي ارمياء بعد هذا ليقول الله له: «أكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا» (7: 23) ويتكرر هذا القول عند ارمياء وغير نبي ويوضح بطرس في رسالته الأولى ان الشعب هو من ينال رحمة (1بطرس 2: 10). الشعب ليس اذا عرقا او كتلة مجتمعية. انه تلك الجماعة التي خصصها الله لنفسه وارتضت ان تطيعه ليكون اليها وتكون اليه وتاليا له. فاذا قلنا «شعب الله» نعني ان المضاف اليه الله هو بمعنى الفاعلية اي هو الذي يجعل تجمعا بشريا جماعة إلهية، اي مملكة كهنة حسب تعبير العهد القديم او كهنوتا ملوكيا وفق تعبير العهد الجديد. الله والشعب حركتان احداهما الى الأخرى.

انت، شخصًا مؤمنًا، يهبك الله هوية. ولو كنت ضعيف الإيمان يهديك هويتك لأنه راحمك ويعرف انك لن تستجيب. لقد جعلك الآب ابنا له وهذه هي هويّتك. انت مسمّى كذلك منذ الأزل وقد تمّمت هذه الهوية نفسها فيك لمّا خلقك ربّك على صورته ومثاله. في بنّوة المسيح لله الآب يرفعك الرب من رتبة المخلوقية المحدودة الى المخلوقية المتحركة بالروح.

الـ «هو» يجعلك الـ «أنا» واذا انتسب اليك تنتسب اليه وتحيا حياته. – غير هذا انتماء أرضي له منافعه في الأرض- بهذا المعنى وضع امين معلوف كتابه: «الهويات القاتلة». هو عرف محدودية ان يكون من عين القبو ومن طائفة من طوائف لبنان وصفات أخرى كل واحدة منعزلة تقتل واذا اجتمعت حسنة الى حسنة تنتج، مجتمعة، انسانا حضاريا «آدميا». في اجمل حال تبقى الحسنات لدنية ولا بد من رصفها في مكان، في مديرية احوال شخصية مثلا او في نادٍ او في نقابة او في عائلة او انتخابات. وهذه كلها آتية بعضها من بعض وليست منحدرة من الـ «هو» اي من الذي يتحرك اليك بحبه ويجعل فيك حبا يحركك اليه والى أحبائه.

وهنا تبدو محدودية الأوطان والمؤسسات والعائلات واصطفافها وقرباها وتباعدها الواحدة عن الأخرى. كل ما في الأرض حيز له كلماته ومصطلحاته وعلوه وهبوطه. كل ما في الدنيا عبور من مجد الى هوان او من هوان الى مجد. ولكن مجد الدنيا باطل وهوانها باطل حتى تأخذ قوامك الداخلي من الذي يراه وتؤتى اسمك عنده من برّك. وقد لا يكون لك اي اسم هنا الا ذاك المصطلح عليه اي يحشرونك في صنف اجتماعي.

اذا كانت هويتنا تصنعها المحبة الإلهية لنا لا يبقى من فرق عنا بين الناس ما دامت المحبة توجدهم دائما من ذاتها. انت تراهم على درجات ولكن المحبة التي تشملهم تجعلهم جميعا ابناء الله أَآمنوا بهذه البنوة ام لم يؤمنوا.

هذا يؤدبه ربه ويلاطفه لأنهم جميعا واحد في عينيه.  كيف تكون مكافأته عند ذاك، هذا امر لا ندرك كنهه. الله دائما يغفر ودائما يرحم حتى ننوجد امامه في نصوع كبير وهو انعكاس نصوعه.

نقاوتنا ميراث منه. النقاوة النازلة منه تصنع الهوية.



Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

توصيات بولس الرسول/ الاحد 11تموز 2010 / العدد 28

هي توصيات الرسول في رسالته الثانية الى أهل كورنثوس (اليونان) يبدأها بالتأكيد أن الوقت الآن وقت مقبول أي أن المؤمنين في هذه المدينة هم تحت النعمة. كما يلحّ على أن القائمين بالخدمة يجب أن يسهروا على ألاّ يلحق بالخدمة عيب اذا كان المسؤولون هم بلا عيب.

ثم يؤكّد بولس على الفضائل التي ينبغي أن يتحلّى بها المسؤولون الروحيون إزاء صعوبات الحياة ويصرّ أولاً على الصبر واحتمال الشدائد والضيقات ويُلمح على أنه احتمل ضيقات وجلدات في السجون وواجه اضطرابات وأتعابًا وأسهارًا، وقام بأصوام، وبقي في الطهارة ومعرفة كلمة الله، وعنده طول أناة و«رفْق في الروح القدس» الذي يمدّ الرسول المجاهد بقوة الرأفة والحنان ومحبة بلا رياء، وهو ثابت في كلمة الحق ومتشدد بقوة الله وحامل أسلحة البر أكان هذا بمجدٍ او بضعف.

ويتّهمه بعض الناس بأنه مضلّ، والحقيقة أنه صادق ويصبر على كل شيء، كأنه مائت والحقيقة أنه حيّ بالمسيـح. ويحسـب بعض أنـه حـزين والحقيقـة أنـه يعيش في الفرح. ويحسبه قـوم على أنـه فقير وقد كان كذلك فعلا إذ لم يكن يتقاضى مالاً من الرعية. وبالرغم من رؤيتهم له على أنه فقير، ففي عمق وجوده هو يُغني كثيرين بالنعمة التي تسكنه والتي تمتدّ إليهم بقدوته وتعليمه وقدسيّة حياته.

يتصرّف السيئون معه على أنه لا شيء وهو يملك كل شيء. يملك المسيح الذي هو غنانا جميعا.

سوف يقول بولس في هذه الرسالة إنه في «أخطار من الإخوة الكذبة». في أماكن مختلفة من رسائل بولس يوضح أن ناسا من الكنيسة كانوا يرفضونه ويرفضون ما سمّاه إنجيله وحجّتهم أنه لم يكن من الإثني عشر أو أنه كان يتخطّى اليهودية ويُعلّم أن التبرير لا يأتي من ناموس موسى ولكن من يسوع المسيح.

في كل جيل من الأجيال المسيحية، المُحبّون ليسوع، الطاهرون في مسالكهم يُفترى عليهم وتحصل مشادّات في الكنائس وانقسامات، وكثيرا ما يحصل أن الأتقياء يضطهدهم غير الأتقياء. والاضطهاد يتمّ باسم التقوى، وغاية هذا الاضطهاد أن يُعزَل الصالحون ليبقى النفوذ لغير الأتقياء. وذلك يحصل بسببٍ من التعلّق بالسلطة، ولا يريد الأشرار سلطة من الله يُعطيها أحباءه، ولكنهم يريدون سلطة بشرية لأنفسهم.

لم يخلُ زمن من محاولة قمع للأطهار والودعاء وذلك بتصوير الأشرار أنفسهم على أنهم هم الأطهار. وهذا الخصام يجري أحيانا بين علمانيين وإكليريكيين او بين خدّام الهيكل أنفسهم.

يبقى على الذين هم متسلّحون بالحقيقة والفضائل أن يُدافعوا عنها بالصبر وبالكلمة الصحيحة والصريحة دون تجريح. أحيانا يبدو لك أن الشيطان يُحرّك بعض الناس في الكنيسة على من هم الأفضلون في كل شيء.

ينبغي ألاّ نخشى مَن يعمل نفسَه «قبضاي» ولا من يصرخ او يشتم، وردّنا على القبضاي يكون بالاستمرار في الحق وطهارة الحياة. فالنصر في الأخير هو للحقيقة وللبر.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الكاهن والنبي / الجمعة 10 تموز 2010

جدلية العلاقة بينهما قائمة في المسيحية فقط وقد زال الكهنوت في اليهودية بزوال الهيكل السنة السبعين ميلادية وما من كهنوت في الإسلام. المسألة في المسيحية ان فيها مدبرين ورعاة يمارسون باسم الله سلطة وتجب لهم الطاعة وينطق الكتاب بهذا ما يجعل الكنيسة في جانبها البشري تتسم بطابع المؤسسة وهذا يعرضها لأخطار لا حد لها ليس أقلّها الاستبداد.

كيف تعامل الرئيس الروحي ان نطق عن هوى او وجّه الرعية بما هو ضد الفكر الإلهي او قادته «شهوات الخديعة»؟ احتاطت الكنيسة الأولى للأخطار نسبيا بإيجاد مؤسسة المشيخة حول الأسقف بحيث يشاور الشيوخ وعلى صعيد أعلى وُجد مجلس شورى سمي المجمع او السينودوس. لكن لا شيء يضمن احتضان الروح القدس لأي تجمع بشري. يمكن أن يُجمع البطريرك والأساقفة على خطأ او خطيئة او بدعة. وهذا حدث مرّات أرّخ لها المؤرخون. ولكون الكنيسة تبغي الحقيقة لا يصح أن نعمل كمؤسسة على صورة الدولة او الجيش. ولا يؤخذ فيها مفهوم الطاعة على مقياس الطاعة في الجيش. هي لا تُشبّه بأية جماعة أخرى.

المبدأ الأساسي الذي ينقح فيه المبالغة في المأسسة او يرفع عنها روح التحكم هو «حرية أبناء الله». والمعنى ان الروح القدس يمد المؤمنين بنفحات منه إذ «يهب حيث يشاء» فإنه غير مقيد بالكهنوت او الأساقفة وهم مقيدون به. إذا أردنا تعبيرا ورد في المجادلات المسيحية الغربية لقلنا ان الروح القدس ينقي الكنيسة بناس ليس لهم مقام ولا درجة او رتبة لأن الروح القدس حرّ هو من المؤسسة وله أن يختار لكلامه أداة من بين أصحاب الرتب العليا والدنيا او من عامة الناس الذين اعتدنا مؤخرا أن نسميهم علمانيين.

إذا صح هذا اللاهوت يتراجع اي مسؤول عن قرار اتخذه لما لم يستلهم الروح ونطق كبشر او تصرف كذي هوى ويكون بذا عاد الى «الجماعة التي هي حافظة الإيمان» حسب الرسالة الشهيرة التي كتبها البطاركة الأرثوذكسيون الى بابا رومية في منتصف القرن التاسع عشر. أنت آمر مبدئيا ان كنت ذا مقام ولكنك لست أمارًا الى النهاية الا بروح الرب الذي يدلك عليه الأنبياء.

# #
#
نحن ليس عندنا إمام معصوم. ماذا يعني ان الكنيسة معصومة؟ عند خلاف عقدي أين تكون الكنيسة؟ الروح القدس يدل الأتقياء عليها. اما «انا ربكم فاعبدون» فهذا غير موجود في الكنيسة بما فيها الكثلكة. ليس عندنا تحديد حقوقي للكنيسة او مؤسسي. عندما نقول في رسامة انسان: «النعمة الإلهية التي للمرضى تشفي وللناقصين تكمل هي تنتدب فلانا من الشموسية الى القسوسية» نوضح ان القيام بمسؤولية احدنا يتحدر من حركة الروح الإلهي اي انه موهبة وكذلك التكلم باسم الرب في الجماعة موهبة اخرى سماها بولس الرسول وسفر الاعمال النبوءة ولا تختلف بطبيعتها عن نبوءة العهد القديم من حيث قوة الروح الا ان الموهبة في العهد القديم كانت متجهة الى المسيح وفي العهد الجديد تأتي منه الى الجماعة.

هنا يمكننا تصور اصطدام بين «الكاهن» والنبي اذا كانت كلمة الكاهن صادرة عن هواه. النبي، عند ذاك، يصلح الكاهن. او اذا كان المسؤولون الروحيون سقطوا الي دركات اللامبالاة والجمود او التحجر او ما الى ذلك من اهتراء واخذوا الجماعة الى دركاتهم فالله يرسل من يتكلم لاستعادة سلطان كلمته من المفروض انهم حفظتها.

هذه المواجهة مُرة أحيانا ولكنها من بنية الكنيسة ومن مسيرتها. غير صحيح ان الكهنوت بُعده تكويني وان العوام (العلمانيين) غير تكوينيين. ليس صحيحا ان هناك كنيسة معلمة وكنيسة متعلمة. التعليم موهبة من مواهب الروح القدس كما يذكر بولس في الرسالة الى اهل رومية والرسالة الأولى الى كورنثوس. غير ان من استلم موهبة التعليم او موهبة الوعظ يُجعل كاهنا لأنه خادم الكلمة. ومن لم يوهب شيئا يبقى متلقيا. العلماني ليس بالتحديد من يتلقى ويعجنه الكاهن عجنا ببشرية الأول والثاني.
+ +
+
كل هذا لا يعني اننا نتفرج على الجمود والسقوط والجهل العلمي تفرجا. لكنه يعني ان نصلح كل انسانا ايا كان مقامه بروح الوداعة كما يقول الرسول بلا استكبار وفي بكاء لأن البكاء هو المعمودية الثانية. وهذا لا يعني ان الدعوة الى الإصلاح صادرة من نفس مجروحة او اساءت اليها الغطرسة او الفوقية بالاستناد الى الله. ذلك انه من السهل جدا ان تخضع الله الى الهوى في مزاعمك.

ما يفرح ويؤلم معا ان روح التجديد ينبت في الكنيسة فانها هي حاملة الكلمة بمجموعتها. وهذا يفسر ان دعاة الإصلاح أرادوا أن يبقوا في الكنيسة او الا يؤلفوا جسما آخر يبثون فيه دعوتهم لأن هذا الجسم ليس الكنيسة ولا جزءا منها.

كما ان مشكلة التجديد لا تحل بالانفصال للذهاب الى مكان آخر لأن هذا المكان الآخر يقع فيه المسؤولون في الأخطاء نفسها التي يقع فيها المسؤولون الذين كانوا يحيطون بك.

في كنيستك تتسلح بالصبر لأن الصبر هو لله وتجهد في سبيل السلام والوحدة ومتوخيا الحقيقة بآن. المسؤولون مدعوون الى ان يصغوا الى الذين يدعون الى التجديد وإعادة كل الأشياء الى الروح القدس او استمدادها منه. هذا سلام في الروح وليس في البشرة لأن هذا تسويات على حساب الحقيقة.

اعرف ان ثمة توترًا بين وحدة الرعية والحقيقة. لا يُضحى بالحقيقة التماسا للوحدة. ولا يُضحى بالوحدة بالرعونة والكبرياء. السؤال الرئيس هو فقط هذا: ماذا يقول الروح. هو الذي يرعى الكنيسة وانت تأخذ منه ان كنت قادرا على طاعته وتسوس فقط بالكلمة. هل يعرف الكثيرون ان من نرسمه اسقفا ارثوذكسيا يضع البطريرك او المطران القائم بالخدمة على رأس هذا المدعو الراكع عند المائدة المقدسة الإنجيل مفتوحا ليقول ان من نجعله اسقفا انما لا كلمة له ولا رأي الا هذا النازل من الكلمة الإلهية.

نحن لسنا متسابقين على مواقف بشر او كلمات لهم. نحن ساعون معا الى فكر المسيح. لذلك نشاور الإخوة قبل اتخاذ قرار لأن الشورى وان لم تكن ضامنة للحقيقة فانها تقربنا منها.

هذه جدلية المحافظة والتحرك. المحافظة يمكن ان تكون فهيمة والتحرك واعيا حتى يرتسم نور وجه المسيح على الكنيسة في ديمومة حياتها على الأرض.


Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

الطوباوي اسطفان نعمة / السبت 4 تموز 2010

السبت الماضي لمستْني نعمة الاستماع الى جوقات اجتمعت بقيادة غير راهب احتفاءً بتطويب الأخ اسطفان نعمة. الجو جو انتظار فرح او انتظار الفرح في الغد عند إعلان التطويب البابوي في كفيفان في القداس الذي كان سيقيمه غبطة البطريرك الكاردينال نصرالله بطرس صفير ويتلو فيه الكاردينال أنجلو أماتو الوثيقة البابوية التي تعلن فيها طوباوية الأخ نعمة.

ألوف من المؤمنين أحيوا الليل تأسيسًا على الترنيم وإكمالا له في صلوات الأفراد والجماعات متوقّعين كلامًا في القداسة في اليوم اللاحق. كان في هذا خشوع شاركناه في القلب داعين للمصلّين بالتبريك والنموّ الروحي اذ جاؤوا لالتماس التوبة وتقديس النفس.

لعلّ في هذا رمزًا لسلوك الكنيسة المارونية على دروب روحانية معمّقة ومثابرة تستمدّ ذكر الأبرار المطوّبين منهم وغير المطوّبين. ثلاثة او أربعة قديسين تعلن روما قداستهم إنما هو رضاء علوي عن الكنيسة المارونية.

الى هذا لفتني أن الأخ اسطفان نعمة اللحفدي كان إنسانا بسيطا لم يطلب العلوم العالية مع أن ثمّة من قال: «عالِم كراهب ماروني» لا سيما بعد تأسيس الكلية المارونية في روما التي أنتجت الحاقلاني والصهيوني والسمعانيين والدويهي ومن إليهما. ولا يزال كبار الرهبان يجيدون التاريخ الكنسي والطقوسيات والقانون ولم تنكبّ الا قلّة عزيزة على البحث العقدي. البحث عن الهوية الخاصة وتاريخ الملّة والليتورجيات دعامة من دعائم الهوية كان ما ميّز الكنيسة المارونية وأنا لست مؤهّلا لتقويم البحّاثة الموارنة في التاريخ ولكني التمست من كبارهم منذ عشرات من السنين أن يذيقونا الروحانية السريانية وباتوا قادرين على تقصّي الروحانية اليونانية اللغة أفي أنطاكية كان هذا أم في الاسكندرية. وعند التعمّق ترى أن الكنيسة في هذه البلاد تقوم على أعمال الآباء في اللغتين اذ ليس صحيحًا أن نتحدث عن كنائس بيزنطيّة التراث وكنائس سريانيّة التراث في هذه المنطقة من العالم. أنطاكية واحدة في الأصل ومسعانا أن نترسخ على هذا الأصل مع إطلالنا على حداثة التعبير ونقل هذا التراث الى أهل هذا العصر.

هل نحن راغبون في التشريق؟ صارت محاولات إصلاح ليتورجيّ في الكنيسة المارونية وليس فقط للقداس الإلهي. مرة حضرت رتبة المعمودية عمّد فيها طفل من أنسبائي المقرّبين. فرحت لها بسبب اقترابها الكبير من التراث. وكلما أُنعى الى مأتم مارونيّ مقول في شعر مقفّى وموزون أجد أنه مُركّز على لاهوت الآباء وليس فيه أثر للأُخرويات اللاتينيّة. الكنيسة المارونية ذات هيكلية ذاتية sui juris.  وهذا تنظيم أرادته روما لبطريركات الشرق الكاثوليكية ما يفتح لها مجالا في التشريق إن أَحسّت بضرورته لبنيان روحانية لها ممارسة في اللاهوت من جهة وفي الطقوسيات من جهة.

هل يحقّ لأخ مثلي أن يذكر بخفر أننا جميعا نوقّر مار مارون ونقيم له عيدا ولم تبادر روما إلى إعلان مجده وقد اقتبلنا جميعا مجده قبلها وبدونها. ألا يستطيع المقام البابوي أن يتوسع بمفهوم ذاتية الكنائس الشرقية بحيث يُفسح لها في المجال مثلا في تطويب القديسين المحليين في بلادنا؟

لقد دعانا غير مرجع ديني الى إقامة حوار بين الكنائس الأنطاكيّة كلها. كيف يتم هذا إن لم تتشرق الكنائس الكاثوليكية الى أقصى حدّ ممكن؟ إن كان الأثر اللاتيني عالقا بها فماذا تكون مساهمتها في هذا الحوار؟ اذ ذاك، يكتفي الأرثوذكسيون بمحاورة روما مباشرة كما نفعل الآن. والى هذا فالحديث يدور في الأوساط اللاهوتية الأرثوذكسية منذ سبعين سنة ودار في المجمع الفاتيكاني الثاني على الكنيسة المحليّة التي تتحقق فيها الكنيسة الجامعة. الكنيسة الواحدة المقدسة الرسولية الجامعة قائمة في كل كنيسة متّسمة بطابع استقامة الرأي. الكنائس الكاثوليكية الموصفة بذاتيتها في أمور كثيرة من المدى الروحاني ماذا تعني ذاتيتها؟

ما يبدو واضحًا مما تركه لنا الذين تابعوا مسألة تطبيق التوصيات التي صدرت عن مجمع الفاتيكان الثاني أن روما هي التي بدت راغبة في ذاتيّة الكنائس الشرقية الكاثوليكية اكثر مما هذه راغبة في هذه الذاتية في ناحية او في أخرى. هذا ليس مشكلة كاثوليكية وحسب. هذه مسألة تتعلّق برصانة الحوار القائم بين الأرثوذكسية والكثلكة كلها.

ملاحظة أخيرة أرجو ان تُفهم بالأخوّة الإنجيلية التي تجمعنا وهي تتعلق بأفراد من صحافيين وغيرهم. انا لم أُحبّ عبارة «قديس من لبنان» ولم أذق كثيرا الحديث عن يوم التطويب على انه يوم وطني بامتياز للمسلمين والمسيحيين. لماذا إقحام المسلمين بشؤون لا يتحسّسونها على الإطلاق؟ ولماذا لبننة القديسين ووطنهم السماء كما يقول بولس الرسول؟ انا لا أفرح بقديس من بلدنا أكثر من فرحي بقديس من الصين. هذا مأخذي على الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي خصّصت يوما تُعيّد فيه لقديسي الأرض الروسية. الوطنية اللبنانية لا تخضع لها القداسة. إنه خفض لهذه إن جعلناها جزءًا من تلك.

يبقى القديس اسطفان نعمة ساطعًا. هنا أقول لإخوتي الأرثوذكسيين انهم اذا شاؤوا أفرادًا أن يُكرّموه في منازلهم فلا شيء يمنعهم من ذلك وأن يضعوا صورته حيث شاؤوا دون دور العبادة بسبب الانقسام القانوني القائم بيننا وبين روما.

أهلا وسهلا للأخ اسطفان نعمة ولبهائه وتواضعه في قلوبنا. ما من جامع مثل القداسة.


Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

الفضائل في رسالة اليوم/ الأحد 4 تموز 2010 / العدد 27

عادة بولس الرسول أن يختم رسائله بنصائح أخلاقيّة. لا ينحصر بولس في شرح العقيدة، ولكن يستنتج منها الفضائل لأن الإيمان عنده مصدر السلوك. ويسمّي هذه الحسنات مواهب لأنها من الروح القدس. الجهاد الروحيّ عنده هو دائما ثمر النعمة. ذكر في البدء النبوءة اي النبوءة في العهد الجديد. في العهد القديم هي إشارة الى المسيح. في حياة الكنيسة تنطلق من السيد خطابًا الى الكنيسة لكي تتقوم.

بعد هذا تأتي الخدمة، وهي بآن خدمة الأسرار وخدمة الفقراء. ثم يشير الى موهبة التعليم وهي عرض حقائق الإيمان فيما هي مترابطة. الوعظ هو الكلام الى الرعية ولاسيما أثناء الصلاة للحضّ على التوبة أولا. ثم يذكر التصدّق او الإحسان كموهبة مدعوّ اليها كل مؤمن حسب قدرته. أما من سمّاه المدبّر فهو الذي ينظّم الشأن الاقتصادي لمنفعة الرعية كلها. وهذا تلازمه الرحمة التي تعطى لكل أبناء الرعية. وروح كل هذه المواهب المحبة التي هي قمّة الفضائل التي يجب أن تكون بلا رياء اي واجبة على الجميع بلا تمييز فلا يبقى أحد لا تصل اليه المحبة.

واذا ظهرت نكون ماقتين للشر وملتصقين بالخير، محبّين بعضُنا لبعض حبا أخويا. يقول هذا ليوصينا بالإكرام، إكرام الجميع، بلا احتقار لأحد لأن المؤمنين لكل واحد منهم كرامة التي هي من المسيح بلا تفريق بين غنيّ وفقير وبلا استعلاء أحد على أحد.

ثم يصل الى الاجتهاد في العطاء والدائمين في العطاء بلا كسل وحارّين بالروح، غير متباطئين بالعطاء ومتضامنين فيه. وهكذا نقوم بعبادتنا للرب. العبادة للرب ليست فقط أداء الصلوات في الكنيسة. بلا اهتمام بالإخوة تكون العبادة باللسان فقط وليست صادرة عن القلب.

ثم يذكر الفرح وقد قال: «افرحوا وايضا أقول افرحوا»، فالفضائل تُنتج فينا السرور والبهجة وتجعلنا صابرين في الضيق، غير متأففين ونداوم على المشاركة ولا ننقطع عنها في اي يوم. ولكون الصلاة حافزا على العطاء يطلب إلينا الرسول أن نكون مواظبين على الصلاة أفي الكنيسة كانت أَم في بيوتنا أَم في الطريق. واذا انكببنا على الصلاة لا يمكن إلا نوآسي القديسين في احتياجاتهم، ويعني بالقديسين المؤمنين جميعا ولا سيما فقراء اورشليم لأنهم كانوا معوزين جدا في أيامه ولا سيّما بضغط اليهود عليهم.

ودائما يذكر الغرباء الذين هم كالمقيمين أعضاء في كنيسة المسيح. وفي أية رعية عيب علينا أن نهتم بالأصليين في المدينة او القرية مفضّلين إياهم على الوافدين اليها. فكل من اعتمد بالمسيح أخ لنا إذا كان أصله من الرعية أَم جاء اليها وسكن فيها. كلهم يوحّدهم جسد المسيح الذي يتناولونه في كنيسة واحدة. ثم يذكر ما قاله السيد في موعظة الجبل ووصل الى بولس من باقي الرسل الذين استمعوا الى هذه الموعظة فيقول: «باركوا الذين يضطهدونكم، باركوا ولا تلعنوا». نحن لا نردّ على من يلعننا بلعنة. نحن نصلّي من أجله لعلّه يتوب.

هذه كلها مترابطة. فمن مارس فضيلةً ممارسةً حقيقية صادقة تجذب هذه الفضيلة فضائل أخرى. الحسنات السلوكية مجتمعة تدفع المؤمن أن يصير إنسانا كاملا.

Continue reading