Monthly Archives

June 2010

2010, مقالات, نشرة رعيتي

الله هو كل شيء/ الأحد 27 حزيران 2010/ العدد 26

زارني الأسبوع الماضي 34 شابًا أردنيًا ناشطين في كنيستنا في بلادهم، جامعيين، وكانوا قد خيّموا في بكفيا، وطرحوا عليّ أسئلة في الإيمان. ومما قالوه ما يعني لك أن الله كل شيء. خلاصة جوابي هو الآتي: عندما يخضع المسيح لله الآب في النهاية في بشريّته حاملا البشر معه «سيكون الله الكل في الكل» (1كورنثوس 15: 21).

قلت لهؤلاء الشباب: سيكون الله كل حياتنا في اليوم الأخير. ولكن ما سيحصل في الأخير يبدأ هنا عندما يُنزل علينا الرب نعمته. والخطيئة تكون حاجزًا بيننا وبينه ونحن لا نرحب به أن يكون كل شيء فينا. وأما الذين يعيشون بالتوبة فيُكثّف الرب حضوره فيهم ويَسُودهم أي يصير مَلِكًا عليهم وتصبح أفكارهم وأشواقهم لله ولا يَقبلون في ذواتهم فكرًا غير فكر المسيح.

قال الشباب: كيف نحصل على فكر المسيح؟ قلت: هذا يحصل بأمرين: أن تقرأ الإنجيل كل يوم لأن هذا هو فكر المسيح، فاذا ملأ هو روحنا نستمدّ فكره ونصير من فكره. والأمر الثاني أن نصلّي على الدوام لأن الصلاة تُبدّد الفكر المغلوط وتُعيد إلينا استقامة الرأي.

ثم قلت لهم: هذا الاتحاد بيننا وبين المخلّص يتم في النفس ولا يطلب منا أن نصير جميعا رهبانا. هذا غير ممكن اذ يريد الرب أن ينشئ معظم الناس عائلات. فإذا أنت أحببت زوجتك وأولادك حتى النهاية كما أَحَبّ المسيحُ الكنيسة تكون مرضيا للرب وتكون عائلتك مرضية للرب، والعائلة التي تحيا هكذا كنيسة للرب.

الى جانب عيلتك، مهنتك تتعاطاها باستقامة وفهم وضمير حيّ وبها تُرضي الله. فلك أن تكون فلاحا أو نجارا أو تاجرا أو محاميا أو طبيبا وما الى ذلك ويَحضُر الله في حياتك المهنيّة تقوم بها بإشراف الله. وكل مهنة شريفةٌ إلا إذا قامت على السرقة والكذب، ولكن ليس من مهنة جوهرها السرقة والكذب اذا قمت بها حسب الأصول وراعيت فيها مصالح الناس واحترمتَهم وخَدمتَهم.

ففي الكنيسة إذا كنت تصلي، وفي دنيا العمل إن كنت مستقيما في أدائه، أنت إنسان واحد، وفي هذا الإنسان الواحد يسكن المسيح. اذكروا، قلتُ لهم، قول بولس: «انتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم». والتفتّ الى أحد الشبان الذي كان يرتدي قميصا قلتُ له: القميص هذا ملتصق بجسمك، هكذا إن أَحببت يسوع وتبنّيت فكره يكون ملتصقا بروحك كما هذا القميص ملتصق بجسمك.

ثم طرحوا عليّ أسئلة متعلّقة بالعلم. قالوا ما رأي الكنيسة في الإجهاض. أجبتهم نحن الأرثوذكسيين نؤمن أن الروح والجسد معا منذ لحظة نشوء الجنين. فمن قتله يقتل إنسانا بدأ تكوّنه. نحن لا نؤمن بجسد مهما كان صغيرا ليس فيه روح. وسألوني عن «الموت الرحيم» أي هل يجوز لأهل المريض أن يقتلوه لكونه متوجّعا كثيرا. قلت: لا لأن للرب وحده أن يسمح بإنهاء الحياة. فهذا المريض مهما بلغت آلامه من الشدّة يمكن أن يصلّي وأن يتحدّث الى أقربائه ويُعطيهم أحيانا فكر الله.

وتحدّثنا عن الكنيسة في بلادهم، وشكرتُ الله في داخلي أنه أعطانا شبيبة كهذه مُحبة للمسيح. وانصرفوا.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

التواضع / السبت في 26 حزيران 2010.

ما همّني لو اسمي / امّحى من مهجة الأرض

ما همّني لو سارت الدنيا / إياي ناسية

حنان عاد

         كيف أُعرّف التواضع وهو حسنة لا تعرف ذاتها. هي لا تتكلم إذًا. ليس لها أنا. وجودها يقول ويضع في النفوس عوالم. تبكي لأنها مجروحة إذ تُقيم في المظلومية. لا تعترف لنفسها بالبهاء. هي ثملة بالجمال الإلهي الذي يُخفيها فيه. تراه وحده ولا ترى نفسها فيه لأنها باتت كمريم نسيًا منسيًا. الخفاء سكنها. لم يمحقها أحد. لا يستطيع.

         يدخل الناس إلى الله من بوابتها. مأخوذة هي بهم جميعًا. تراهم قامات من نور ولا تعي أنها تعكسهم. يعبرون بها، لا تستوقفهم، واذا وقفوا يؤخذون إلى جلالها. اذ ذاك يعرفهم ربهم ويحسبهم أنهم اليه. ينقلهم إلى المجد لأنهم مرّوا بقربها وأدركوا المذهل وسكنوا شعره وعزفوا على قيثارته متى غارت منهم الملائكة وسكتوا. هل صعدوا إلى السماء أم هي نزلت؟ هذه الحسناء في فضائل ربك جعلها الرحمن عرشا له وعليها استوى. كل ما في دنياك ليس بشيء إن لم تتلألأ له وجها اختاره الرب لسطوعه. التجلّي أساسيّ اذا العلم اختفى. التجلّي يصبح النطق أو لغة بين مجد ومجد. الذين عندهم هذه اللغة يسكنون الدهر الآتي الذي يدين فيه الله المستكبرين الذين حسبوا أنهم آلهة فماتوا اذ لم يعرفوا أن الرب هو الإله وأنه كان عليهم أن يفهموا أنهم نسيٌ.

         كتب مرة أمير في البلقان إلى ولي عهده: «لا تشته أن تصبح كاهنا أو رئيس دير أو أميرًا (وكان سيخلف أباه على الإمارة) لأن كل هذا من مجد العالم». خلافه طبعًا مجد الله إن ابتغيته تشاركه. ولا شيء يجمع بين هذا وذاك لأنك إما أن تأتي من السماء فتسوس بها الأرض أو تأتي من الأرض فتموت بها. أهل السماء يُدفنون فيها ولكنهم ليسوا منها. إنهم لقد صعدوا.

         «مجّدني يا أبت بالمجد الذي كان لي عندك قبل إنشاء العالم». عندما قالها يسوع كان في طريقه إلى موته الظالم. المظلومية شرط التواضع. الناس قهّارون للناس. القلة التي تقبل المقهورية تحبّ قاهريها. واذا وقع عليهم استرحام المقهورين قد يدخلهم الفهم فيستغفرون. ولا نصل إلى عالم الفهم ما لم يحبّنا أحد. ولا يحبّ إلا من توارى. المتواري وحده يعترف بالآخر. يعترف بأن الآخر، كل آخر أفضل منه. هذا شرط انتشار التواضع. هذا شرط لإثبات ملكوت الله.

*                  *

*

         عندما تقول مريم: «حَطّ المقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين»، كانت تشير إلى عظماء الأرض الذين رأتهم يستعظمون بأشيائهم. والملك ليس كيانا. أما اذا رفع الله المتواضعين فيُمتّعهم بكبر منه أي بما هو غير مخلوق، وحسب كتابنا يجعلهم آلهة وهو يدري وهم لا يدرون. وفي هذا يتألهون.

         ليس عند من رفع نفسه قدرة لبلوغ الله لأن الله لا يحب المنتفخين فيتفجرون من تضخمهم. اما الذين جعلوا أنفسهم على مستوى التراب فيرفعهم ربهم لينحتهم نحتا جديدا ويستطيبهم هو ولا يستطيبون أنفسهم اذ جوهر حُسْنهم ألا يعرفوا أن لهم حُسنا. عن هذا يقول باسيليوس: «لم نصنع شيئا صالحا على الأرض». هذا صدى لقول المخلّص: «لا صالح الا الله وحده». لذلك نبقى في جهل حسناتنا حتى ذلك اليوم الذي «يدين فيه اللهُ سرائر الناس». واذا أعلن الله آنذاك برّ الأبرار فهؤلاء ينسبون برّهم إلى الله ولا يتمجّدون بأنفسهم.

         كل القضية أن تعرف الله واهبا واحدا احدا، وأن تتخشّع له بسبب هذه المعرفة وتكون من الشاكرين. التواضع هو اعترافك بمركزية الله اي بأحديته في تقديسك. والقداسة فيك هي في اعترافك بأنك خاطئ. هذا بدء اتّكالك على الله الذي هو التماس لعطائه.

         كلّ ما قلناه هنا لا يلغي كلمة سقراط: «اعرف نفسك»، اذ يجب أن تعلم قدراتك لكي تعمل وتعاشر الناس وتُقيم معهم اتصالا. لا ينحصر هذا في قدرتك العقلية وتأهّلك لهذا النشاط أو ذاك. الحياة المدنية تتطلب أهلية وعلوما وخبرات. والإنسان يجب أن يقدر المواهب التي فيه فلا يتنطّح إلى ما ليس هو معدّا له ويلتزم المجتمع الذي هو عضو فيه وله رؤيته السياسية وربما العمل السياسيّ. وفي هذا لا يجوز أن يستصغر نفسه وأن يهمل تنمية مواهبه، وليس في هذا استكبار.

         أين تدخل مزيّة التواضع في وعي الإنسان مواهبه العلمية والمهنية؟ يمكن أن يكون أحد الناس كبيرا في عقله الأكاديمي أو الاحترافي ويعي بآن أن الرب عونه في هذا، وإن أدرك جهاده الطويل يبقى عليه أن يشكر لله هذه المواهب الطبيعية أو المهنية. نحن نعلم أن الشائع عند العلماء محبتهم للحقيقة وقبول بعضهم لبعض اذا اختلفوا على الصعيد النظري وعبّر عن هذا القرآن بقوله: «إنما يخشى الله من عباده العلماء» (فاطر، 28).

         لك أن تكون لامعا جدا وفقيرا إلى الله معا. الذي يُنكر مواهبه وقدرته العقلية أو العملية يتجاهل عطاء الله اليه. أن تدّعي العلم الذي عندك أو تدّعي جهلا ليس فيك تمسكُن أقرب ما يكون إلى الكبرياء.

*                         *

*

         التواضع يحسّ به الناس توا ومباشرة. ولكن لا يبتغي أن نفهم أن المرء المتواضع يُسلّم لك بكل ما تقول أو لا ينافسك أو لا يجادلك. يمكن أن يكون إنسان مواجهةٍ ونضالٍ حتى المخاصمة الفكرية ولكن يحبّه الآخرون لرؤيتهم صدقه وإخلاصه للحقيقة.

         الامحاء لله لا يعني امحاء فكرك أمام إنسان آخر أفي الوضع المجتمعيّ كان هذا أم في الحياة الشخصية. جمال الانسان المتواضع أنه يقبل الحق من آية جهة أتى. لا فرق في هذا أن يكون من تُواجه حادّا وأن تكون قناعاته مخالفة لقناعاتك لأن المتواضع يرى أن الحقيقة اذا أتت منك تكون رسالة اليه نازلة إلى خصمه أحيانًا من الله. في هذا وجب القول إن المتواضع لكونه يستلهم الله لا ينحاز في خياراته وليس عنده جعبة أفكار معلّبة. هو لا يحيا بما جمعه من ذاكرته أو من أصحابه. من هذه الزاوية هو إنسان دائما جديد أو متجدد. يأتيك من الفجر وينصب عليك من الضوء الذي استنار به ويُحررك من التفه ويحفزك على ألا تنتفخ لأنه يكره الترّهات. يُذكّرك أن خلاصك يأتيك مما هو صحيح لتُقيم فيه على البركات. التواضع يمحو عن الانسان كل خطيئاته.

         من عادى التبجّح والادّعاء يمدّ بالسلامة كل من صادق ومن مال إلى السكينة، والله يقيم في السكينة.

Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

قائد المئة / الأحد 20 حزيران 2010/ العدد 25

بعد أن ألقى يسوع عظة الجبل التي رواها متى في الإصحاحات 5 و 6و 7 نزل الى ضفاف بحيرة طبرية ودخل كفرناحوم، فدنا منه قائدُ مئةِ جنديّ -وهذا تنظيم عسكريّ- رومانيّ أي وثنيّ، وتوسّل يسوع أن يشفي خادما له طريح الفراش مشلولا و«يُعذّب بعذابٍ شديد». توّا أجابه يسوع «أنا آتي وأَشفيه». الّا أن الضابط الذي كان غالبًا متأثرا بالتعاليم اليهودية بسبب من وجوده في فلسطين قال له: «يا ربّ (أي يا سيّد) لستُ مستحقًا أن تدخل تحت سقف بيتي، ولكن قلْ كلمة لا غير فيبرأ فتاي».

لا بدّ أنّ هذا الرجل علم من صداقته مع اليهود أنّ يسوع له سلطان على المرض ويقدر على شفائه. الى هذا يحسّ هذا الضابط أنه خاطئ ولا يستحقّ دخول المخلّص الى بيته. إنه يعبّر عن إيمان كامل بالمسيح اذ يقول: «قلْ كلمة لا غير فيبرأ فتاي».

من أين له هذا الإيمان؟ لا بدّ أنه سمع أنّ يسوع يصنع معجزات، ولكن كلّها كانت تجري في حضور يسوع. هذا الوثنيّ يُصرّح أنّ أعجوبةً ليسوع ممكن أن تتمّ بغيابه عن المريض، بمجرد قولة له. وهنا يقول هذا الضابط إنّ قدرة يسوع على المرض شبيهة بمهنة الضابط الذي يقول لهذا الجنديّ «اذهبْ ويذهب، وللآخر ائتِ فيأتي». الذي في منصبٍ عالٍ يأمرُ الذي في منصبٍ أدنى.

هذا التشبيه جعل يسوع يتعجّب اذ أظهر إيمانًا كاملًا بالسيّد حتى قال المعلّم: لم أجد إيمانًا كهذا في كل إسرائيل المؤمن بالله ومع ذلك يشكّ بقدرة يسوع.

بعد هذا يؤكّد الرب أنّ من الوثنيين مَن يتكئ مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات، وأمّا من يعتبرون أنفسهم أبناء الملكوت اي اليهود «فيُلقَون في الظلمة البرّانية» أي في جهنّم.

هنا يُشرف متى الإنجيلي على موضوع البشارة التي يختم بها إنجيله: «اذهبوا وعلّموا جميع الأمم». هذا الإنجيل الذي كُتب خصوصًا للعبرانيين المهتدين الى المسيح، والكتابة كانت بعد انهيار الهيكل وزوال اليهودية، هذا الإنجيل يقول هنا إن ثمّة رجاء لخلاص الأمم.

عند متى، الخلاص هو بالإنجيل، بالانضمام الى يسوع. وكان الرسل يتوقّعون أنّ البشارة تعمّ العالم الذي كانوا يعرفونه والذي سيستلم الإنجيل منهم ومن الأجيال اللاحقة. وكانوا يَحسبون أنّ الناس الذين كانوا يُشْبهون الضابط الرومانيّ في روحانيّته مهيأون لاقتبال الإنجيل. عندهم أنّ الخلاص هو في المسيح، في معرفة فدائه ومحبّته للبشر وأنّه هو الذي يكشف وجه الله أبيه.

حسبوا أن البشارة ممكن انتشارها بالرغم من القلوب المتحجّرة في الوثنية. ولاحظت الأجيال اللاحقة أنّ قداسة المسيحيين وأداءهم شهادة الدم قادرتان أن تجلبا العالم الى المسيح. وهذا تمّ الكثير منه فعلا.

هل نحن يهمّنا أن يعرف الناس المسيح؟

بالأقل هل نتحرّك في الكنيسة ليأتي أبناؤها اليها بحرارة وعمق وإيمان؟ الضابط الرومانيّ الغريب آمن بيسوع أكثر من بعضنا.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

السلطة / السبت 19 حزيران 2010

ليس لأحد من سلطان الا اذا أُعطي له من فوق اي اذا مارسه وهو في رؤية الحقيقة التابعة المحبة لها. في المبدأ ما كان أصحاب النظام الملوكي على خطأ في الغرب عندما كانوا يتكلّمون على أن الملك هو من حق إلهيّ، ليس بمعنى أن الملك اذا أمر من عندياته يكون الرب هو الآمر، ولكن بمعنى أن الحاكم المطلق ليس كذلك الا لإيمانه بأنه ينقل الى الناس سيادة الله عليهم بما يراه إلهيا. وعندما رفضت الثورة الفرنسية مطلقية الملك كانت ترفض أن سيادة الله منتقلة آليا الى الحاكم. بكلام آخر لا يبقى الرجل ملكًا الا اذا كان إلهيّ الإرادة.

اما الشعار الذي أطلقته الثورة بأن السيادة هي للشعب فخطأ كسيادة الملوك ما لم نؤمن أنّ الأمّة لا تُجمع على خطأ. البشر لا يُطاعون الا إذا جلسوا على أرائك الحقيقة والإخلاص للإنسان بالعدل والمحبة. السلطة تبقى لله كائنة ما كانت وسائل النقل. الإنسان تراب والتراب لا يحكم.

عندما يقول القرآن: «قلْ اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع المُلك ممّن تشاء» (آل عمران، 26)، لي أن أفهمها ليس بمعنى تقلّب الحكام وحسب ولكن بمعنى أن الملك يبقى عند الله ولا يملك إلا من مارس حق الله فيزول اذا زالت عن قلبه حقيقة الله. اذًا ليس هذا الجالس على العرش مليكا الا اذا كان يتعاطى حقيقة الله في شؤون الأرض. ليس هذا الجالس مركز الحكم. الله وحده المركز. بالمقابل لست أقول ان الله وراء إجماع الشعب او ما يسمّى في لبنان التوافق اذ من الإمكان أن تُجمع الأمّة على بغض او ظلم. الحكم يبقى اقترابًا من الفكر الإلهي وواقعيًا هو دائمًا محاولة دنوّ من البهاء الإلهي. ومَن كان حاكمًا بأمره دون الرجوع الى ربه يقع في الشرك وليست له طاعة وجدان. لذلك كانت السياسة اجتهادًا بشريًا تحمل طابع الخطيئة لأن البشر يقومون بها فيما هم غارقون في خطاياهم.

اذا انتقلت الى الحيّز الدينيّ لا نرى كلامًا في السلطة الا عند المسيحيين. لا يختلف هؤلاء على اختلاف مِللِهم ونحلهم على أنّ السلطة هي لكلمة الله القائمة في الكتاب وعند بعضهم يوضحها التراث. ولكن كيف تتركّز بشريًا؟ عند أول نقاش في عهد الرسل حول اقتبال الوثنيين في الإيمان أيتهوّدون قبل معموديتهم أَم لا، عُقد مجمع أورشليم وفيه ليس فقط الرسل بل الإخوة ايضًا اي عامّة الناس. المعنى الواضح أن الخيار النابع من الحقيقة ينزل على الجماعة المؤمنة والممارِسة. انت تحتاج الى طريقة تكشف لك ما يلائم حقيقة الله. الانصياع هو لمشيئة الله. لا أحد يأمر وينهى بأمره. لذلك يؤتى الى الرئاسة الروحية بمَن كان أهلًا للقيادة وذلك اذا كان الرجل وفق قلب الله في معايير ذكرتها الكلمة بلسان الأوائل. يُطاع الرئيس لأن هذه المعايير اكتُشفت فيه وهي التي دعت أن يُجعل قسا او أسقفًا.

# #
#

وقالت كتبنا إنه ينبغي أن يكون تائبا، وفي درجة أعلى أن يكون مستنيرًا. اما في درجة الأسقفيّة وهي العليا فينبغي أن يكون مؤلَها اي انسانا إلهيا لا عيب فيه ولا لوم عليه ومدركا مقام اللاهوى اي التنزّه عن الغرض والشهوة المؤذية وغير منفعل او غضوب ولا طامعا بالمال ومخلصا لزوجة واحدة، غير شرّيب للخمر، عفيفًا على كل صعيد.

وفهم المسيحيون الأوائل أن تطيع انسانا كهذا لأنك تطيع فضائله ولست منصاعًا للحم ودم. مرة سألت كبيرا في كنيستي: «كيف تعلم أن الكلام الذي تقوله صادر عن الله أَم صادر عن شهواتك؟». تتصوّرون أن السؤال كان محرجًا ولكن هو السؤال. لذلك يجب أن يسمع الأسقف صوتا نبويا يهزّ ضميره ويدعوه الى التوبة لئلا يكون مستبدّا بخراف يسوع ويعطيها ما وسوس به له الشيطان.

إنه يقترب من المبتغى لو قرأ قول المعلّم: «ما جاء ابنُ الإنسان ليُخدم (بضم الياء) بل ليَخدم (بفتح الياء) ويبذل نفسه فداء عن كثيرين» (مرقس 10: 45). المطران خادم وغاسل أرجل. من هنا، بعض التدابير يَعرفها أهل الدنيا: أن يُحاط بمستشارين، بمجالس شورى . هذا هو الحد الأدنى، غير أنّ تقواه تقتضي أن يحيط به الأتقياء الذين ملأهم الروح بالحكمة ونزّههم عن الغرض. اما أن يتصرّف وكأنه يقول: «انا ربكم فاعبدونِ» فهذا شرك وضلالة.

أما اذا اختلطت عند الرئيس الديني المسيحي تقواه بشهوة التسلّط والتسلّط بغض فما علينا إلا أن ندعو له بالهدى ومخافة الله وأن تقوى محبته. دائما التعاطي بأمر الله رهيب. فهو إما تبليغ لأمره او تطويعه لشهوة المسؤول. من هنا أن المحلّ الممتاز للاستبداد هو الكنيسة. الدولة ايضا مكان الاستبداد ولكنه استبداد بشريّ عاديّ -إن لم تكن دولة قائمة على مشروع- أسهل تحمّله لكونه لا يدعم نفسه بالله.

الدنيا كلها استعظام الإنسان لنفسه أيا كان مقامه وأيا كان عمله المفترض، والمتواضعون قلّة، اولئك الذين يعتبرون ربهم كل حياتهم ويرون أنفسهم لا شيء. هؤلاء يُصلحهم ربهم ويُنقّيهم اذا زلّوا، ولكن التواضع الأصيل فيهم ينجّيهم من كل ادّعاء. ونحن علينا بالصبر إذ به وحده يواجه استعباد الإنسان للإنسان . من تشكو على هذه الأرض والضغوط تنزل عليك من كل صوب؟ لازم وجه ربك وحده لأن الوجود كله زائل وزائل معه المجد الباطل، وأنت تُعطى مجدا من فوق، مجدا غير منظور وتفرح بمن يعطيه لا بنفسك.

كيف نتعلّم أن البشر جميعا إخوة وأن كل أخ لك خير منك؟ الوحدة البشرية ليست ركام أجساد. انها فقط وحدة الودعاء الذين رفعهم ربهم على الملائكة وجعل قلوبهم عرشه.

التسلّط هي تلك الرذيلة التي يجعل الإنسان نفسه فيها بديل الله الذي له وحده سلطان السماء والأرض. فيها يعبد الإنسان نفسه أولاً، ويريد الناس كلهم عبيدا له، ويعيش كأن الكون كله مخلوق لممارسته نفوذه. كل خطيئة تصدر من شهوة ما. شبق السلطة قتل للناس جميعا بالفكر، إلغاء كيانهم في نفسك.

انت لا تستطيع إلغاء المتسلّطين اذ عندهم كل الوسائل ليكبروا أنفسهم ويثبتوا وجودهم. طريقك الوحيد الى التحرّر منهم أن تتمرد عليهم. أن تجعلهم يحسّون بأن الله مُلغيهم من الوجود الحقيقي. تمرّد بالمقاومة السلميّة دائما لأنك إن استعملت العنف تكون قد تبنّيت رذيلتهم. العنف كبرياء وجود. لعلّهم بالمقاومة السلميّة يتوبون. تمرّد على الأقل في قلبك. هذا يُحييك وقد يُحييهم.

الى هذا اصبر الى الله. اتّحد به وارفعه عليك مليكًا وحيدًا. لا تُساوم إن صبرت. هذا خنوع والذل لله لا لمخلوق. تخشّع دائمًا في حضرته ليمنّ على أهل الدنيا وأهل الدين أن يتقبّلوا رئاسة الله عليهم ويعترفوا بأنه الرب الواحد الأحد.


Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

الله والمال / الأحد في 13 حزيران 2010 / العدد 24

سراج الجسد العين. هذا يعني أن العين تضيء الجسد كله (كانوا يفكّرون أن العين فيها نور). هنا لا يقرر الإنجيل أمرًا فيزيائيا، ولكن لفظة جسد تعني الكيان كلّه. بساطة العين التي هي نور تعني ألا تشتهي ما لأخيك ولكن أن تعمل الصلاح في بساطة الروح. العين كلمة مستعارة لتدلّ على الاستنارة الروحية أو قوة التدين. فإن كانت روحك سليمة «فجسدك كلّه يكون نيّرًا» أي كل كيانك يستضيء.

بعد هذا ينتقل السيد الى كلام شديد عن المال ويقرّر أن الإنسان لا يستطيع أن يعبد الله والمال. الإنسان قادر أن يجعل المال إلها له أي أن يعتبر حياته متعلّقة برزقه، بما يملك إذ هو لا يرى حياته الحقيقية إلا ناتجة عمّا في جيبه أو في المصرف أو في عقاراته أو سياراته. هذا الإنسان يجعل المال فوق كل قيمة، يرى فيه وحده القدرة. الحياة عنده طعام وشراب. أجل هناك ناس يرون في المال وسيلة لعيشٍ كريم، بلا عوز أو عيش فيه رفاهة ولكنه ليس كل شيء، ليس ما يحيي القلب وليس ما يعطي الفرح. بعض الناس لا يملكون المال. هو يملكهم ويعيشون فقط ليجتنوه. أما العدل والمحبة والإخاء والصداقة فهذه عندهم ثانوية لا تُحرّك قلوبهم.

هل إذا قال الرب نتيجةً لتحذيره من عشق المال: «لا تهتموا قائلين: ماذا نأكل أو ماذا نشرب»، هل هذا قول يدفعنا فيه المخلّص ألا نُنظّم شؤون حياتنا الاقتصادية، ألا نترك شيئًا لمستقبلنا؟ ما يدعو إليه المعلم هو ألاّ نقلق، ألاّ نقع في خوف الأيام الآتية. هذا من جهة، ومن جهة ثانية أنْ نثق أن الحياة الآتية في الملكوت هي التي تُنقذنا من الجزع.

لذلك قال: «اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذا كلّه يُزاد لكم». أنت لك أن تضطرب من الخطيئة وأن تطمئنّ الى الرحمة، أن تجعل خلاص نفسك شغلك الشاغل، والباقي يأتي. الخوف أن تأتي الممارسة الدينية عندك شيئا نافلا، ثانويا وأن تجعل أمور الدنيا هي الأولى مستحوذة على قلبك فيتركك الروح القدس.

طبعا أنت تعمل في دُنياك لا من أجل غناك أو نفوذك. تعمل فيها لتتطهّر نفسك وتكسب حضور الله فيك بحيث يبدأ ملكوت الله فيك، في هذا العالم. هذه هي حاجتك الأولى إذ عليك أن تختار بين أوليّة هذا العالم وأوليّة الملكوت لأنك وإن كنتَ في العالم إلا أنك لست من العالم كما قال السيد في خطبة الوداع.

أنتَ روحانيّ ليس بمعنى أنك تقضي كل وقتك في الكنيسة إذ عندك عيال. أنتَ روحانيّ أي، فيما تتعاطى شؤون هذا العالم وتستعمله، تبقى مشدودًا الى وجه المسيح. تكون سماويًا هنا فيما تأكل وتلبس وتهتمّ بعائلتك وبالبلد. ما هو رأس اهتمامك؟ هل هو المسيح؟ إذ ذاك أنتَ خالص.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

المحبة والشوق / السبت 12 حزيران 2010

ليس مِن تقابُل بين المحبة والحب كما زعم كبير بين شعرائنا. هما واحد في اللغة. لكن اذا تتبعتُ الكتاب المقدس وأدب الآباء ألحظ أنّ التقابل هو بين المحبة الإلهية او التي يسكبها الله والشوق او العشق الفائض من قلب بشر الى قلب بشر والذي عبّر عنه قدماء اليونان، ومن تبنّى استعمالهم في الأدب المسيحي بلفظة Eros.  هذه الكلمة ليست محصورة بمدلول جسدانيّ ولكن لها دائمًا مدلول تأثّريّ أو انفعاليّ. هي شعور تلقائيّ على صورة الينبوع. وعلى أنها تنبثق من أعماق النفس إنما تُقال ايضا -ولو قليلا- عن الله. واذا قيلت انه هو احيانًا مصدرها الا أنّ الشعور الصادر عن الله (خارجا طبعا عن الانفعالية) يسمّى المحبة.

الى هذا المحبة النازلة الى القلب البشري بفضل من الله وكرمه أي بحركة نعمة كما نقول في المسيحية تنسكب ايضا في قلب آخر او في حركة من هذا القلب. الإنسان، اذ ذاك، محب كما الله محب.

على صعيد البشر، العهد القديم وحده يتكلّم عن العاطفة القائمة بين رجل وامرأة بدءًا من كلام الله الى حواء بعد السقوط اذ يقول: «والى رجلكِ يكون اشتياقكِ» (تكوين 3: 16) وفي الترجمة السبعينية (الترجمة اليونانية للعهد القديم) لفظة اشتياق تحمل معنى الرغبة والشهوة.

اما العهد الجديد فلا يحتوي كلمة واحدة تعني الاشتياق او حتى كلمة حب بمعناها البسيط. لا يتحدث عن علاقة عاطفية بين رجل او امرأة. يتكلّم على الزواج فقط الذي قد يرتكز على العاطفة قليلا او كثيرا وقد لا يرتكز. الزواج مرتبط بالله بطريقة او بأخرى ولو انعقد على أساس عائليّ او اجتماعيّ. ليس صحيحا تاليًا أنّ المسيحية تتطلب الحب بمعناه المألوف عند الإنسان العصريّ او في رومنسيته. ليس في العهد الجديد ما يشبه نشيد الأناشيد او ما يشبه قول هوشع في مطلع كتابه عن التملّق والملاطفة.

# #
#
هذا الإعراض عن الحديث في الحب في العهد الجديد سببه -فيما أعتقد- أن الإنجيل ما جاء ليصف الطبيعة اذ تُعاش ولا يحتاج المؤمن أن يعلّمه الله عن أمور قائمة في تكوينه الجسدي والنفسي. هذا ما يسمّيه بولس الإنسان الطبيعي اي القائم على صعيد الخَلْق، ثم يصير انسانًا روحانيًا اي مستمِدًا نفسه من الروح القدس ولو لم يفقد صفاته الطبيعية. تصير ذات اتجاه إلهيّ. الرسول لم يتنكّر للرغبات البشرية الحميدة كالجنس الممارَس حسب الشريعة ليبقى الإنسان غير مدمّر ويستطيع الارتفاع الروحي. المؤمن يتعاطى الجسد المرتبط بالنفس السائرين معًا نحو الروح القدس.

هذا الإنسان المتجدّد بالروح الإلهي يستلم من الله المحبة التي تفوق الأشواق بمعنى أنها تُشرف على الشوق وتُهذّبه وتنقّيه. بدء البدايات أن الله محبة وإذا جئت منها تكون نازلًا من عند الله. وتحيا لاهوته في إطار طبيعة لك هي مدعوة دائما أن تبصر القوى الإلهية التي تُقدّسك. وبالقداسة انت في الأرض تتحرّر من نير الأرض وليس من صعود جغرافيّ الى السماء.

هذا يقودني الى ما يقوله الرسول في رسالته الى أهل أفسس متحدّثا عن الزواج اذ يقول: «أيها الرجال أَحبّوا نساءكم كما أَحبّ المسيح الكنيسة» (5: 25). فعل أحبّ، يُحبّ، هو لفظًا، كما في اليونانية «أغابو». وهذا يعني أَحبّوا نساءكم بالمحبة التي ترثونها من الله. هذا لا علاقة له بالعاطفة الطبيعيّة ولا العلاقات الزوجية. بولس لا يدعو المسيحيّين الى تأجّج عاطفيّ اذ يَعلم أنّ هذا لا يحتاج الى وصيّة منه. أنت تبذل نفسك عن زوجتك كما جاد يسوع بنفسه عن الكنيسة اي حتى الموت وهذا ينزل عليك من فوق.

بولس ينقلك حتى تصبح انسانًا روحانيًا في الزواج بحيث تبقى في العلاقة الطبيعية ولكن ترفعها بالمحبة (لا بالأشواق) الى أن تصير مع الناس كما انت مع الله اذ تصبح معطاءً كالمسيح. تصبح مع زوجتك كيانًا واحدًا (جسدا واحدا حسب تعبيره). هذه الوحدة يستحيل على الأشواق وحدها ان تُتمّمها لأنها تهبط وتصعد. فيها برودة وسخونة وفتور، والمبتغى أن تصبح في حدود طبيعتك انسانًا روحانيًا. ويتابع الرسول قوله: «هذا السر عظيمٌ ولكني أنا أقول من نَحْوِ المسيح والكنيسة» (5: 32).

ليس المراد عند بولس أنّ الزواج سرّ من أسرار الكنيسة. ما يريده أنّ حياتك الزوجية كلّها تصبح سرًا إلهيًّا إن عشتها على غرار العلاقة بين المسيح والكنيسة أي حتى منتهى العطاء.

العطاء هي الكلمة المفتاح. في الحضارة الإغريقية الحبّ استيلاء، سلطان على الآخر. هذا أفلاطون. في المسيح الحبّ بين الرجل والمرأة قربان تضمحلّ معه قوة السؤال عمّن هو الرأس في العائلة. صاحب السلطان في العائلة أو في أيّة إدارة هو من أَحَبّ ليس من أَمَر. الآمر عنده شوق السلطة حتى الشغف بها. المحب يطاع بلا أمر يأمر به. المحب يموت فيحيا هو والمحبوب.

الأشواق تذهب الى حيث تشاء، فإذا استطعت أن تقودها بنور المحبة الإنجيليّة تُنقذها، وإذا لم تستطع تُدمّرك. الاشتياق لا يتبنّى الآخر. المحبة تبنّانا الله بها وهي تتبنّى الناس جميعًا لأنها مبذولة من أجل من أوصى بها أَعني الله. انها تغمر كل وجود، كلّ وضع بشريّ وتجعله مقرًا لله. إذ ذاك، يزول الفرق بين السماء والأرض.


Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

دعوة لبعض الرسل/ الأحد في 6 حزيران 2010 / العدد 23

عاش يسوع على الأرض خصوصًا في الجليل حول بحيرة طبريّة المسمّاة ايضا بحر الجليل فرأى أخوين وهما سمعان الذي سمّاه يسوع في ما بعد بطرس لمّا اعترف هذا بأن المسيح ابن الله الحي فأعطاه اسمًا مشتقًا من الصخرة «بيترا» لأن إيمانه كان قويا مثل الصخر وهذا الإيمان بالمسيح هو الصخرة التي بُنيت عليها الكنيسة. سمعان كان معه أخوه أندراوس، وكان هذان يلقيان شبكة في البحر. هذه شبكة يقع فيها السمك. فقال لهما السيّد «هلّم ورائي فأَجعلكما صيادَي الناس». لم يفهم هذان آنذاك هذا الكلام. فهماه بعد العنصرة لما انصرفا الى البشارة وصارا يأخذان الناس بالإنجيل.

عند ذاك تركا الشباك وتبعاه. أَحبّا كلامه. شَعَرا أنه من الله. السير وراء المسيح كلّ حياتهما يتطلّب ترك الشباك. غير أن الإنجيل يدلّنا أنهما وبقيّة الرسل الصيادين كانوا من وقت الى آخر يصطادون اذ لم يكن لهم دخل إلا من هذه البحيرة. غير أن قلوبهم لم تكن في البحر ولكن مع المسيح. كل منا يحبّ أن يترك اشياء هو متعلّق بها ليحبّ يسوع حبا كاملا. المؤمن يتعاطى عائلته ومهنته. غير أن قلبه مفتوح ليسوع فقط. هناك أشياء تتعارض مع حياتنا المسيحية. هذه يجب إلغاؤها. وهناك أشياء نحملها معنا فيما نحن سائرون مع المسيح.

بعد هذا رأى أخوين آخرين هما يعقوب بن زبدى وأخوه يوحنا، وقد ذكرهما الإنجيل مرات، ويوحنا هو صاحب الإنجيل الرابع. كان هذان يُصلحان شباكهما في حين أن الأولين أي أندراوس وبطرس يصلحان شبكة واحدة. اي أن أعمال يعقوب ويوحنا كانت أقوى اقتصاديا ولعلّ لهما أكثر من سفينة. ثم يقول الإنجيل انهما تركا السفينة وأباهما الذي كان معهما في الصيد وتبعا المعلّم لأنهما توّا آمنا بالمعلّم. كان هذا إلهاما من الروح القدس. ايضا قاما بعملية ترك ليس فقط لشيء ماديّ اي الشباك، ولكن قاما بترك عاطفيّ أي الانسلاخ عن أبيهما.

ثم يقول الكتاب: «وكان يسوع يطوف الجليل كلّه يُعلّم في مجامعهم». المجمع هو قاعة كبرى في كل مدينة وقرية في فلسطين وخارج فلسطين يصلّي فيها اليهود يوم السبت ويتلو فيه أحدُ الناس العهدَ القديم ثم يشرح هو أو سواه ما قُرئ باللغة الدارجة التي هي الآرامية.

يسوع كان يدخل الى هذه المجتمعات ويكرز ببشارة الملكوت انطلاقا من النص الذي تُلي. هذا كان مسموحا عندهم اذ لم يكن عندهم إكليروس. اما الكهنة فكانوا فقط يخدمون في هيكل اورشليم ويقدّمون الذبائح. عبارة «يكرز ببشارة الملكوت» تعني ان يسوع كان يقول للناس: «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات». هذا هو المعنى الأساسي ليسوع في كلّ مرة يُبشّر بها. كلّ تعليمه في هذه المرحلة كان دعوة الى التوبة، التي تعني تغيير أذهانهم ليلتصقوا بالفكر الإلهي، ومن كان عنده فكر الله يتحوّل سلوكه. الأخلاق تأتي من التعليم.

ثم يذكر إنجيل متى أن السيد كان يشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب. هذا كان يجيء من حنانه على المرضى، وكان يدفعهم الى الإيمان والتوبة. يسوع معلّم وصانع عجائب. وقد أعطى السيد في ما بعد قوة للتعليم وقوة للشفاء، وبقيت الكنيسة على هذا المنوال تُعلّم وتعظ وتهتمّ بالمرضى، وأخذ العالم المسيحيّ يَبني المستشفيات ليعرف المريض حنوّ الله ويعود الى الصحة.

Continue reading
2010, جريدة النهار, مقالات

اللبناني المرجوّ ظهوره / السبت 5 حزيران 2010

حزني لم يدرك بعد درجة اليأس لأن من أبناء شعبي من بلغ القداسة حقا. عندنا حياة روحية كثيفة. هذه تنزل من الله في كل الشعوب ولا يصنعها تراب بلد ولا مناخه ولا تاريخه. الأخلاق الحسنة ثمرة لها ولكن أعماقها تفوق الأخلاق. هناك ناس فيهم دين حقيقي والله يعرفهم ويغذّيهم. هؤلاء يتخطّون كل عقل ووصف. لذلك لا يقعون تحت قلمي. غير أن الكثيرين يصدمون بمقدار ما هم يطلعون من هذا البلد الشقيّ، من تاريخه وسقطات تبدو ملازمة له. حسبي أن أشير إليهم وألتمس من الرب شفاءهم.

يلفتني في البحث عن المرض قول الكنيسة الأرثوذكسية انها مستشفى اي يتحكّم في أبنائها أمراض روحية اذ تُقابلهم بالمسيح وتراهم على ضعف كبير. قد يصحّ هذا الوصف على الكثيرين من المواطنين. قال لي مرة أستاذ في الأمراض العقلية: لبنان بمراعاة النسبة العددية اكبر مصح في العالم. سألته عن السبب قال: مجانين البلدان الراقية يفحصهم الأخصائيون في مستوصفات للأمراض العقلية بعد خروجهم من المصحّ لمعرفة ما اذا انتكسوا. نحن ليس عندنا مثل هذه المصحّات.

أعرف لاهوتيا أرثوذكسيا كبيرا وضع كتابا في الأمراض الروحية. ليس المجال لمناقشته هنا. ولكن ما لا يترك مجالا للشك أمراضنا النفسية ولست كبيرا في فحصها. ولكن ما هو بمتناول تأملاتنا جميعا هو المرض المتصل باجتماعياتنا وأعني بذلك موروث تقاليدنا وما هو الوقوع الفردي في الخطيئة، في الإغراء وذلك في مجتمعات راقية تحسب أنها على الرقيّ نفسه في الأخلاق، واذ بك تصدم بأن الأخلاق لا علاقة لها بالعلم. هنا يظهر لك أن حامل دكتوراه في أية مادة من المواد وماسح الأحذية واحد. وبعد التدقيق يظهر لبنان مستشفى تتكدّس فيه أمراض كثيرة لست أعرف من يعالجها.

انا لست عالم اجتماع او أنثروبولوجيا لأحلل أسباب أمراضنا. ولكن روي لي ان رشوات كثيرة ارتكبت في الانتخابات الأخيرة ما يدلّ على أن عددًا من أهلنا ضعفاء امام المال اي انهم لا يُقدّرون قدسية الخدمة العامّة وأهمية بلدتهم ولا فرق عندهم بين الذين يرئسون مجلسها البلدي اي لا يأبهون بجمال القرية وحسن السير فيها ونظافتها وصحتهم وصحة أولادهم. ببساطة القول هم غير جدّيين في العمل العامّ وكأنهم محصورون في ما هو كسبهم الفرديّ فقط وهو نفسه مرتبط بوضع البلد والبلدة او المدينة او القرية. اي ان عددا رهيبا من المواطنين يظن نفسه وعائلته قلعة محصّنة من كل جانب. لا يعرف على انحصار في الفردية أن ثمة ما يؤذيه وأنه اذا ارتقى خلقيا ترتقي عائلات أخرى وربما مجموعة عائلات.

# #

#
قد لا تحتاج الى تحصين مناقبيّ لتفهم ذلك. نوع من التربية ينعش فيك هذا الوعي ليجعلك تمتدّ منه الى الرؤية الاجتماعية.

غير أن ما جعلني في حالة صداع فكرة العائلة في الانتخابات. لماذا بدءًا تصطفّ مع العائلة. هل تقول »عائلتي دائما على حق«؟ هل، بالضرورة، عائلتي ضد عيلة الجيران؟ جسامة الخطأ هنا -على صعيد التحسّس الاجتماعي- أني لست أرى أن اختلافي مع أهلي قد يفرضه الله عليّ لأن الله مع الصالحين وانت مع مرشح قد تعرفه تافهًا ولكنّ ذويك اختاروه.

بكلام آخر أنتم قبيلة. كتبت كثيرا في هذا وأخشى أن أُكرّر نفسي. ولكن ما يَحضرني الآن أن القبيلة هي تلك الكتلة التي لا أثر فيها للفرد الا اذا انسلخ عنها وارتمى في حضن قبيلة اخرى او تبدّى في الصحراء وسُمّي صعلوكا. اللبناني مرشح للصعلكة اذا ساقته حريته أن ينسلخ عن جماعته او يبقى وحيدا. ولكن بعد أن اكتشفت الثورة الفرنسية مقولة الفرد وقالت انه مساوٍ لأي فرد آخر لم يبقَ مبرر للقبائل بطاقة العدواة التي فيها. انت، فردا مستقلا، تبقى ضمن ذاتك في أُمّة الله وفي المجتمع السياسيّ عضوا في الأُمّة السياسية التي تشكّل بلدك.

كيف الخروج من الجمعية الى الفردية، اي كيف الاستقلال وأن يستوعب دماغك وقلبك الوجود ولا يستوعبك أحد؟ أعرف أن هناك تشاورا بين شخصية وشخصية وليس بين عشيرة وعشيرة.

شغف المال هو عشق الخطيئة بامتياز، والجهاد فيه ليس بالأمر السهل، ولكن إن لم نعفّ عنه على المستوى الاجتماعي (صفقات سياسيين، رشوات انتخابية وإدارية) لن تقوم للبلد قائمة. ولكن القيامة ممكنة اذا حلّت النعمة الإلهية علينا -وهذا بيد الله- واذا ربّينا أنفسنا على احترام الإنسان الآخر في عفّته ليستقيم رأيه ويستقيم سلوكه.

# #

#
تكوين مجتمع سليم عمل المؤسسة الدينية أولا، ولكني أراها محتجبة عن هذا الموضوع وهي منهكة فقط بالعبادات الظاهرة، والله نعبده بالروح والحق كما جاء في إنجيل يوحنا. تحريك النفوس لتطهر لا أراه كثير الانتشار في الأوساط الدينية. اذا استعرت الصيغة الإسلامية في الكلام أقول انت لا تقفز من دنياك الى آخرتك بسهولة العبادة المفروضة ولكن بتقويم النفس في هذه الدنيا، فإذا انت طوّعت فيها نفسك للرب تفتح لك الآخرة أبوابها.

المجال الثاني مجال العمل الوطنيّ في ما يتعدّى إطار الطوائف. روابط ثقافية مسيّسة، أحزاب، جماعات ضاغطة في سعي الى ظهور المجتمع المدني الذي من شأنه أن يقوّي الفرد من جهة وأن يُظهر الجماعة المتماسكة عضويا بلا قبليّة. هذا المجتمع نظريا بوتقة تنصهر فيها القبائل ليطلع الوطن.

المجال الثالث الذي يساعد على تكوين الأُمّة السليمة هو الدولة المفروض فيها عدم الانحياز للوجوه وإقامة العدل الذي يربّي على استقلال الفرد والثقة بأن الحاكم أب لجميع بنيه. الحكم يربّيك وانت بفضائلك تربّيه. ما يحزنني أن شعبنا لا يؤمن بالدولة لعدم إيمانه بالبنية او الهيكليّة. هو شعب ينتشي بالزجل والغناء ويعتقد أن ما يجري في خياله وأساطيره يكفي حياته النفسية. قليل الإيمان بالانضباط، بالكلمة الوافي والدقيق معناها. لا يحب حكم الله في شهواته. يحصّنه ماله او نفوذه او العيش في ظلّ الأقوياء. شعب دائم الخوف. طمأنينته الى الله لا تتجاوز حد ذكرها لأنه يظنّ أن الله يستره دون أن يبذل هو جهدا لوضع نفسه حقيقة تحت جناحيه.

هذا انسان مهزوم امام مرارة الواقع ويؤثر الوقوع على بنيان نفسه من جديد لأنه يحب أن يبكي وله في هذا انتعاش، ولم يسمع أن الحياة تقويم للنفس في جهاد مستمر اي انها تعب ووجع، ولا يعرف أن الفرح يأتي من الصبر على الملمّات وتجاوزها بالإيمان العظيم والنسك العظيم.


Continue reading
2010, مقالات, نشرة رعيتي

أحد جميع القديسين/ الأحد في أول حزيران 2010/ العدد 22

الى جانب الأعياد السيدية، كلّ يوم في السنة نعيد لقديس أو أكثر. هؤلاء ليسوا كل القديسين في السماء. هناك مَن مَجدَهم الله ولم تفكر الكنيسة بتطويبهم. لذلك نجمعهم في يوم واحد هو هذا الأحد.

إعلان القداسة لأحد المؤمنين لا يعني أنه كان خاليا من بعض الضعفات، ولا تَشترط القداسةُ عندنا صُنْع العجائب، ولكنها تشترط قداسة الحياة واستقامة الرأي. مَن كان رأيه يخالف الإيمان الأرثوذكسي في ما عَلّم وكَتب، أو مَن ارتكب خطايا جسيمة معروفة لدى أهل عصره لا يمكن إعلان قداسته.

إعلان القداسة يتمّ في الكنيسة المحلية التي كان ينتمي اليها (الكنائس القديمة مثل أنطاكية او الكنائس الجديدة نسبيا مثل كنيسة موسكو او كنائس البلقان) وذلك بعد فحص دقيق يقوم به المجمع المقدّس، فيتخذ قرارا رسميا يعلنه البطريرك او رئيس الأساقفة في الكنيسة. ويصنع له أيقونة وتُكتب له خدمة (غروب، صلاة سَحَر) ويدخل في التقويم المحلّي.

بعد هذا يمكن لأية كنيسة أن تتبنّى من أُعلِنت قداسته في كنيسة أخرى. لا شيء يمنع أن نعتمد ذكرى قديس غير أنطاكيّ نرفع له الصلوات يوم عيده.

في رسالة اليوم حديث عن آلام بعض القديسين في العهد القديم وعن نسكهم. هذا ينطبق ايضًا على بعض قديسي الكنيسة المشهود لهم بالإيمان والطهارة، في الكتابة اللاهوتية او رعاية الفقراء. القديسون منهم ملوك وكهنة ورؤساء كهنة وكهنة ورهبان وراهبات وعسكر وعلمانيون رجالا كانوا أَم نساء.

في إنجيل اليوم شرط القداسة الاعتراف العلَنيّ بالمسيح: «كلّ من يعترف بي قدّام الناس أَعترف انا به قدّام أبي الذي في السموات». هناك أحوال وظروف تضطرّك أن تعترف بالسيّد مخلّصًا وربًا وإلهًا. والاعتراف الأكبر هو الاعتراف بالدم أي الشهادة. الشهيد قدّيس حُكمًا لأنه أَحَبّ حتى النهاية، حتى بَذْل الدم.

الشيء الآخر الذي يقوله يسوع: «مَن أَحَبّ ابنًا او بنتًا او أُمًا أكثر منّي فهو لا يستحقّني». كلّ عاطفة بشريّة، حتى تكون سليمة وطاهرة، يجب أن تكون مستمَدّة من محبّتنا للمسيح وغير متناقضة معها.

«قد تَركْنا كلّ شيء وتبعناك» التي قالها بطرس للسيد هو الشرط الكامل للقداسة. هذا لا يعني أن تترك عملك او مهنتك، وطبعا لا يعني أن تهمل عائلتك وأصدقاءك. هذا يعني أن تكون حرًا وأن يكون قلبك مستقلًا بحيث يسكنه يسوع كله، وينضمّ الى حبّك ليسوع كلّ من سكن قلبك. الإنسان لا يأخذ لنفسه حصّة في قلبك الا اذا كانت مِن ضمن حصّة المسيح. حصّته هي كلّ قلبك.

يعود يسوع ويكرّر نفس الفكرة بقوله: «مَن تَركَ بيوتا من أجل اسمي يأخذ مئة ضعف ويرث الحياة الأبديّة». دائما هناك انسلاخ. المرأة السامريّة لمّا انضمّت الى يسوع تركت جرّتها، وهي من أجل استقاء الماء جاءت. ترك بلا إهمال. ولكن إن لم تكن متّحدًا بالمسيح لا تستطيع أن تخدم الناس. أَمّنْ وحدتك بالسيد واذهبْ حيث تشاء.

Continue reading