Monthly Archives

December 1962

1962, لسان الحال, مقالات

رأس السنة! / الأحد 30 كانون الأوّل 1962

عيد لا أثر له في التقويم المسيحيّ. لكنّه ذكرى مدنيّة اصطلحت الناس عليها، ليستقبلوا السعادة، وكأنّهم ينتظرون في غدهم ما فات ماضيهم. إنّهم يقفون في نقطةٍ من الزمن تجمع بين عام ينقضي وعام يُدشّن، ونفوسهم مأخوذة بين حنين وشوق. إنّه اغتراب عن حقيقة الآن، عن المشاكل الحاليّة التي في كلّ ذات، ونتباعد عنها بالذكرى حينًا وبالاقتراب أحيانًا. والأمل الذي يدغدغنا إن هو إلاّ حلم ربّما لا يتّصل بواقع النفس أو الدنيا وليس الله مرتكزه. ذلك لأنّ الله لم يَعِدْ بأن يملأ غدنا بما لم يكن في الأمس. وما المقامرة، في هذه المواسم، إلاّ من باب هذا الارتماء في المستقبل، وسبيل من سبل الضياع عن الحاضر القاسي. إنّها، ككلّ هوًى، هرب من صراحة المواجهة. وما الكسب، في القمار، الغايةَ الأولى، لكنّه فقط صورة من صور المغامرة كما أنّ الفريسة ليست غاية القانص.

وحيث إنّ العيد قائم، فلنجدّد معانيه، ونربطه بما يتسامى عن الاصطلاحات الاجتماعيّة. فبالنسبة إلى الماضي، لا يكن وداعه عندنا حنينًا، بل شكر وإرادة. أمّا الشكر، فللَّه الذي أنعم بما أنعم عليه. وأمّا الإرادة، فالبقاء على هذه الخيرات الروحيّة التي نلنا. هذا يفرض أنّ الليلة الفاصلة بين سنة وسنة ليلة نمتحن فيها القلب، لنعرف فيها العطايا التي أمدتّنا السماء بها، فنحمد ربَّ السماء عليها، ونحفظها بالعزيمة والابتهال. هذا يعيّن موقفنا بالنسبة إلى غدنا. فالغد، أيضًا، هبة إذا حمل إلينا نعمًا. وإذا لم يكن تكاثف نعم وتواصلاً في استمداد البركات، فإنّما هو زمنٌ منثور، فارغ من كلّ قيمة. بذا يختلف الأمل عن الرجاء بمعناه الدينيّ، أنّ الأوّل مجرّد توق إلى الأفضل ولا سيّما بسبب تفاهة الحاضر أو نقصه. وأمّا الثاني، فلا يبنى على شوق إنسانيّ إلى الآتي، بل هو التعبير عن توقنا إلى الله صاحب الأزمنة كلّها. فنحن لا نرجو شيئًا من المستقبل، ولكنّا نرجو كلّ شيء من الله ربِّ يومنا وغدنا. وما الغد سوى إمكان وضعه المولى أمامنا، ليكشف فيه وجوهًا عن محبّته لم نكن لنعرفها، أو ليديم علينا نعمًا قديمة، فندرك أمانته ودوام فضله.

ليس الرجاء بشريًّا بوجه من الوجوه. إنّه مبنيّ لا على مفاضلة بين زمن وزمن ولا علاقة له بالتطوّر، لكنّه نابع فقط من الإيمان بأنّ الله قادر على أن يهب ما لم يهب إذا انفتحنا إليه بالبساطة، والتمسناه متواضعين. في فضيلة الرجاء، يكمن هذا التعالي عن الوقت المفتّت الكئيب مع المواجهة الرصينة لكلّ المعضلات، والثقة بأنّ المحاولة الإنسانيّة كلّها تؤول إلى الإخفاق إن لم يكن الله في وسط المحاولة.

لا حنينًا غنائيًّا إلى الماضي، لا اغتيابًا خائفًا عن الحاضر ولا ارتماء خياليًّا في المستقبل، بل شكرًا على الخير في الهنيهات البارّة التي ألَّفت وجودنا الروحيّ. وإذا ولَّت ليلة وأصبحنا، فطلبًا لأويقات مثيلة.

Continue reading
1962, لسان الحال, مقالات

الحرّيّة الكبرى / الأحد 16 كانون الأوّل 1962

هل نحن أحرارٌ أم لا، هل نخلق أعمالنا أم تراها تفرض علينا؟ أمسيّرون نحن أم مخيّرون؟ سؤال تنازع الناس في الجواب عنه في أكثر من دين. وكان أبسط جواب، على المستوى الدينيّ، أنّ الثواب والعقاب يفرضان المسؤوليّة. فالحرّيّة، إذًا، نقطة الانطلاق المستترة لكلّ بحث كتابيّ في سلوك الإنسان، كائنةً ما كانت حرفيّة النصوص واجتهادات المفسّرين.

ولعلّ المسألة تعقّدت بعد ظهور التحليل النفسيّ والقول بالمركّبات التي تقيّد سلوكنا، وكلّها تولد مع الطفولة البعيدة. لقد بتنْا عارفين أنّ تصرّفاتنا غارقة في هوّة اللاوعي السحيقة، حتّى ليخيل إليك أنّ عملك ينبع من غيرك، من كيان تأباه يحكم فيك. هذا، بلا شكّ، يلقي ضوءًا جديدًا على حدود مسؤولّيتنا: بحيث تخفّ هذه بمقدار ما تحدّ حرّيّتنا.

ولكنّ النجاة من وطأة ماضينا ممكنة، وأمامنا هذا الآتي المديد القادر على أن يحمل إلينا طاقة جديدة من الحرّيّة. وما قيل إنّ الحقّ يحرّرنا إلاّ للإشارة إلى أنّ الحرّيّة انفتاح يأتينا الآن، لنبدأ به حياة جديدة أكثر ممّا هي قدرة سُلمت إلينا دفعة، وكبّلتها الوراثة وما يليها من قوى مستعبدة. الحرّيّة أمامنا وفي غدنا. هذه هي القادرة على إعتاقنا من السلاسل. ولذا، أفضل من السؤال عن حرّيّة قديمة أُعطيناها أن نسأل عن حرّيّة حديثة نخلقها فينا. والجواب هو بالإيجاب إن كنّا نؤمن بأنّ الإنسان، ولو غرّقه شرّ كثير، قادر على تخطّي نفسه وعلى خلق روحيّ غير متوقّع.

هو الجهاد الروحيّ يجعلنا مؤمنين بهذه الحرّيّة الآتية، ويكشف لنا طاقات في الإنسان لا تُحَدّ. صحيح أنّ الحرّيّة تُنشئنا وأنّنا قبلها ما كنّا موجودين، ولكنّنا نريد تلك التي تهبها إلينا معرفة الله، لأنّ تلك التي تعني الانفلات من الخلقيّة تعود بنا، في النهاية، إلى عبوديّة أين منها عبوديّة النفس التي اعتراها داء.

التحرّر السيكولوجيّ هدف ولا أشرف. إنّه عتبة الانعتاق من الخطيئة، وإن كان لا يقود إليه حتمًا ولا يستدعيه. هذه الحرّيّة الكبرى، إذا دخلت النفس، صارت فيها مصدر شفاء وطاقات على الإبداع الروحيّ مذهلة. فليس غريبًا إن رأى علمُ النفس الحديث، في الحياة الروحيّة، علاجًا لكلّ داء.

Continue reading
1962, لسان الحال, مقالات

أنثور؟ / الأحد 2 كانون الأوّل 1962

في كتاب «موت الآخرين»، طرح الشاعر رياض نجيب الريّس سؤاله الكبير: على من نثور؟ وتساءل إن كان يجب أن نثور على أحلام، «على الزخم الذي في صدورنا» على تفاهة عقول تحجّرت، «على الزمن». لقد صيغ سؤاله خطأ لغويًّا. فإنّ أجوبته كانت عن هذا: علامَ نثور؟ وكأنّه أدرك أنّ الثورة لا على أشخاص هي، بل على أوضاع أشخاص، ولم يجابه السؤال الأكبر: كيف نكون نحن الثائرين من هؤلاء؟ ما هو مصير الإنسان في ثورة تقوم عليه أو ثورة يقوم بها؟

الثورة على حقيقة الوثبة التي فيها وعلى نشوة الثمرة التي تحمل، تنقصها أبدًا رصانة الاكتراث للأشخاص، ويفوتها دائمًا وقت البحث عمّا إذا كانت المكاسب المتوقّعة خيرًا من القيم المهدورة. لتكون ثوريًّا، يلزمك فعل إيمان بأنّ الآتي هو خير من الحاصل، فعل إيمان من أجله تضحّي بأرواح. وهذا كلّه إلى جانب الطاقة الكبرى من أحقاد لا حدّ لها تجعل العبد سيّدًا والسيّد عبدًا. وبين السيّد والعبد جدل لا ينتهي إلاّ أن نقرّ أنّ المكاسب، مهما عظمت، مؤذية إذا تجاوزت تقديسنا للكرامة الإنسانيّة.

عندما يتساءل شاعرنا الريّس: «أنثور… أم نكبت ونحقد»، أيجهل أنّ في موقف محبّي السلام أو المحافظين كما يسمّونهم – والتسميات اصطلاح – ليس التخاذل دائمًا يسود، لكنّ بطولةَ الصبر وشجاعةَ الشهادةِ والإعلانِ التي تدفع الجماعة إلى إصلاح لا تُزهق فيه روح ولا قيمة؟ ضخامة الثورة في أنّها تطفح ولا تجابه، فيها عنف المراهقة، لا كبر المقاومة السلميّة الناضجة. الاختيار ليس بين الثورة وعدمها، لأنّنا يجب أن نثور دومًا على «تفاهة عقول تحجّرت»، لكنّ الاختيار هو بين العنف واللاعنف، بين التمرّد المراهق وتمرّد الراشدين، بين وثبة خالعة ووثبة بانية لمن يثب بها ومَن تثب عليه. أجل، نحن مع رياض الريّس عندما يقول «لن تخمد النار، لن نطفئ ما في الصدور إلاّ ساعة تموت جفوننا». السلام البنّاء هو حاملٌ تلك الطاقة الثوريّة التي تتحقّق دون تحطيم. إنّ شيئًا في الدنيا لا يتحرّك بغير هذه الطاقة. الإنجازات الروحيّة الكبرى لم تتمّ بدون نار المحبّة الآكلة. والمحبّة هل من زخم ثوريّ أعظم منها إزاء برد الإنسانيّة العميم؟ لن تخمد نار الشهوة إلاّ بنار الروح إذا تأجّجت. هذه هي ثورة الأنقياء التي لا يراها أحد. لا، أيّها الشاعر، أيضًا ساعةَ تموت جفوننا يجب ألاّ تموتَ في نفوسنا النار، ويجب ألاّ يرقد الحبّ. سوف تموت الشهوة، سوف يرقد هذا الحبّ الترابّي الذي يتغذّى من جموحها. ولكنّ الحبّ، الذي لا أنانيةَ فيه، هذه غبطتنا به أنّه لا يرى الموت إلى الأبد.

Continue reading