Monthly Archives

February 2004

2004, مقالات, نشرة رعيتي

جهاد الصوم/ الأحد 22 شباط 2004 / العدد 8

الصوم ان تتخصص لإخراج كل الشياطين المعششة في قلبك وقد حالفتها بطريقة او اخرى. ليس الشيطان ذلك الكائن خارجا عن نفسك. انه الساكن فيك بوسوسات مخيفة، تحركك في النهار وفي الليل. وما كانت الحِمية المرتبة في هذه الكنيسة او تلك الا لتدفعك الى التأهب والحذر من ان يعود اليك هذا الروح الشرير الذي طردته يوما او ساعة او لحظة فاستعدت براءة الطفولة والكيان الأصيل.

         يعجبني ان تأتي الكنيسة المارونية بمؤمنيها وتمسح جبين كل منهم في اول يوم من الصيام بالرماد قائلة: “اذكر يا انسان انك تراب والى التراب تعود”. تقول لك ذلك جهرا لتفهم انك لا شيء وانك مدعو الى إحلال يسوع في نفسك ليصبح اياك او تصبح انت اياه. ويعجبني عشية الصيام في الكنيسة الارثوذكسية وهو المدعو احد الغفران ان تأتي بمؤمنيها ليركع كل واحد امام الآخر حتى قدميه ليعني انه عند قدميه ويقول له: “اغفر لي يا اخي انا الخاطئ”، ثم ينتصب ويقبّل احدهما الآخر كأنهما دخلا القيامة منذ الآن. ان أصوم عن اللحم رمز تذكري اني اصوم عن كل معصية باتت فيّ متأصلة.فإذا تبت اقتلع ما كان متأصلا ليبقى فيّ المسيح اصلا.

         الصيام وجود مع المسيح، في الفرح. ولذلك نكثر فيه من الترتيل “الليلويا” اي هللوا لله. ولستَ جائعا جسديا الا لكونك جائعا الى الطعام الإلهي، الى الخبز النازل من السماء. لذلك تتناول في ترتيب خاص جسد الرب ودمه في يومي الأربعاء والجمعة ما خلا الآحاد. وفي صبيحة الأحد تتجدد فيك قيامة المخلص. ولئلا تحسب انك وصلت، تكثر من صلوات التوبة وتسمى الخطايا التي تريد التحرر منها: “روح البطالة والفضول (اي طلب الأشياء الدنيوية) وحب الرئاسة والكلام البطال”. ثم تقابلها بالفضائل وهي: “روح العفة واتضاع الفكر والصبر والمحبة”. والذروة: “هب لي ان اعرف ذنوبي وعيوبي وألا ادين إخوتي”.

         وأقف عند اتضاع الفكر واليه نفتقر كثيرا. لأن الانسان يتذاكى ويستعلي بذكائه اذ يظن ان الآخرين دونه فطنة. الصوم اذًا لقاء مع الآخرين، مع المتواضعين منهم. “انت تراب” وقد ترتفع عن التراب بتمجيد الرب. الامساك رياضة ليس الا لأن الرسول يقول: “الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة والله سيبيد هذا وتلك … ولكن الجسد ليس للزنى بل للرب والرب للجسد… ألستم تعلمون ان اجسادكم هي اعضاء المسيح… ام لستم تعلمون ان جسدكم هو هيكل للروح القدس”. بولس يتخذ الزنى هنا صورة عن الخيانة، كل خيانة للرب وللاخوة.

         انت في هذه الفترة المباركة المملوءة بالصلاة تضرب كل شهوة مؤذية فيك لئلا تستعبدك: شهوة الجسد وشهوة التملك وشهوة السلطة او التسلط على من هم لك اخوة في المسيح. والتروض على ذلك منه الإمساك عن بعض الأطعمة والامتناع عن الطعام ساعات طويلة في النهار. الإمساك ترويض في الكنيسة ومع الكنيسة. فأنت تعمل ما يعمله الإخوة مجتمعين في حضرة الله ولا تقول هذا لا ينفعني. آباؤنا قالوا هذا ينفعك فاقتف آثار آبائك ولا تصنع لك ديانة خاصة بك. انت تنجو بما نجا به الأقدمون وبما ينجو به الطائعون اليوم لهذا المسلك. هكذا تبيد اهواءك ولا يصطادك مجتمع الاستهلاك وفيه منافع قليلة ومضار كثيرة. واذا عرفت الأضرار تحرر منها. المهم ان تعرف انك فقط حر بالمسيح.

         “ليس ملكوت الله طعاما وشرابا بل برا ونسكا مع قداسة”. هذا ما نقوله في الأحد الخامس. نفهم من هذا ان الغاية من الإمساك ان نصبو الى البر والقداسة. هذا هو الحضور الإلهي فينا يكثفه الرب يوما بعد يوم في الأربعينية المقدسة والاسبوع العظيم ليؤهلنا الى رؤية ابنه الحبيب معلقا على الصليب وخارجا من القبر. نحن نعرف ان هذه هي حياتنا كلها ولكنا نذوق ذلك بقوة في حقبة الصوم حتى ان الأتقياء لا يحتملون ان تنتهي. ولكنا نتمرن حتى تبقى ثمارها حية فينا على مدى الحياة. نحن في الروح صائمون ابدا، وفي الترويض صائمون فترة. ولكن المبتغى ان نصير رفقاء المسيح في حبه لنا وإنهاضه ايانا من موت الخطيئة حتى لا نبقى الا قامات من نور.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

الانقسام/ الأحد 15 شباط 2004 / العدد 7

الشيطان يقال له باليونانية diabolos (ذيافولوس) أي الذي يقسم الناس في ما بينهم ويزرع الفتنة. والفتنة في العربية الثورة بحيث يقوم الناس على الناس. وهذا يبدأ بسوء الظن، وقالت العرب: «بعض الظن إثم»، وأنا أقول كل الظن إثم ذلك لأنك تتلقى من بعض القوم أخبارا عن الآخرين، فيقال لك هذا كذب مثلا أو هذا سرق، وما لست متأكدا منه تجعله حقيقة. ويضاف إلى هذا تعصبك للعائلة، وقد تكون لهذه خلافات قديمة فترثها أنت. وهذا منتشر في المجتمعات الصغيرة التي لا تقبل فيها عشيرة عشيرة أخرى.

هذا طبعا يطرح على الراعي سؤالا كيف يوفق بين نزعات مختلفة حتى لا تتحول إلى نزاعات وأحقاد صريحة أو مبيتة. تتفحص أنت بعين المحايد الغريب ولا ترى شيئا وتحس بأن البغض قائم بلا مبرر. وقد قال الكتاب: «انهم ابغضوني بلا سبب» (مزمور 35: 19). وإذا انتشر هذا الشعور بين أبناء الكنيسة تصبح هذه مشتتة، مفتتة. والذين هم إخوة في المسيح لا يستطيعون ان يتفاهموا على مشروع أو عمل، وترفض أنت فكر الآخر لمجرد انه ينتمي إلى بيت آخر. ويقضي المسؤولون في الكنيسة وقتا طويلا ليحلوا النزاعات ويقيموا التوازن، والتوازن مستحيل ان لم تتحد القلوب وتتجاوز صراعات قديمة ولا نتقدم معا فتبقى الأشياء في محلها في حين ان الرسول الإلهي بولس قال: «تمموا فرحي حتى تفتكروا فكرا واحدا ولكم محبة واحدة بنفس واحدة مفتكرين شيئا واحدا لا شيئا بتحزب» (فيلبي 2: 2 و3).

كم أتمنى الا يعترضنا التحزب في القرية دون تشكيل مجالس الرعية وسيرها. أكثر من مجلس استغرق مني تشكيله عدة أشهر لتتوافق العيل. كم من وقت نحتاج إلى إقناع المؤمنين ان كلاً منهم شخص كامل ويعيَّن في المجلس بسبب حسناته وتقواه ورقيه وليس بسبب من انتمائه إلى احد البيوت. ما من شك اننا في حاجة إلى ان تمطر السماء علينا نعمة كبيرة لئلا نسعى إلى توازن عائلي بل نسعى إلى تجمع ناس فاضلين أمناء قادرين ان يسندوا الرعية بخوف الله. انتسابك إلى عائلة لا يعني المسيح شيئا. في عينيه أنت انتسبت إليه بالمعمودية، وتبقى له بالإيمان أأتيت من عائلة كبيرة أو صغيرة، راقية كثيرا أو أقل رقيا.

بعد اكتساب عضوية المجلس أنت لا تعظم. تبقى كما كنت. والعضوية ليس فيها وجاهة بل فيها خدمة، والخادم متواضع ولا يفتخر ولا يتسلط على أحد، وقبل كل شيء يظل أمينا، وأهم وجه في الأمانة، الأمانة على المال لأن هذا مال الله، والكاهن والفقراء في حاجة إليه. ولهذا لا بد من مسك دفاتر على الطريقة العلمية حتى تتمكن المطرانية من مراقبتها. المحاسب، أيّ محاسب يصعب عليه ان يعرف المختلس الذكي. ولذلك بنيت علاقتنا على الثقة. فلو، لا سمح الله، عرفنا سارقا فالواجب الأخلاقي يقضي بأن نشكوه لنا. من سكت عنه يكون شريكه.

لا وقف يمكن ضبطه بصورة كاملة. ولذلك إذا اقترحت عائلة أحدا منها عضوا ليخدم معنا فلتقترح من كان نزيها كليا وفهيما بحيث يستطيع ان يناقش بتهذيب وروح مشاركة وهدوء.

يتعبني ان اكرر هذه الأمور ولكني أرى من واجبي ان انبهكم إلى ضرورة الاستقامة الكاملة وفحص الأمور بروية وان يصلح الروحانيون الآخرين بروح الوداعة لئلا يهلك احد. وهكذا تكونون في الرعية وفي المجلس طردتم الشيطان المفتن من وسطكم.

لا شيء يصلحنا يا إخوة سوى المحبة التي تتوخى كمال الجميع والكمال بالتكامل والرفق والتأني وسلام يقصي الحدّة ويجعلنا متكئين على صدر المعلم. فليعمل من استطاع ان يعمل، إذ لا يقدر ان يعمل شيئا من لم يكن كبيرا في المحبة. ولا يتساوى مع غيره الا من غفر ولم يحفظ ضغينة وكان شأنه ان يرفع قدر الآخر. انه لمهم جدا ان نُظهر أصحاب الفضيلة بيننا وان نجعلهم المتقدمين في كل شيء. وإذا أقصينا الفتنة يحل الرضا الإلهي بيننا ونكون أبناء الله. الوحدة، الوحدة. هي التي تعطينا العزيمة وتنجز المشاريع وتكشف للناس وجه يسوع.

Continue reading
2004, جريدة النهار, مقالات

شهوة السلطة / السبت في ١٤ شباط ٢٠٠٤

الذي يتخذ لنفسه إلها كالمال والجنس خطيئته اقل بكثير من الذي اتخذ نفسه إلها. والناس يعتقدون ان هذا الكلام مبالغة كاتب ديني ولكن الصادق بين المستكبرين يرى نفسه كذلك. الصراع الحقيقي ليس بين إله اسرائيل القبلي وآلهة الأمم الغريبة ولكنه بين رب العالمين وبينك، وانت لا ترى غيرك في العالمين. ولأن المستكبر ليس سخيفا لا يتوقع ان يسمع له أحد لو قال “انا ربكم فاعبدوني” ولكنه يتصرف كذلك اذ لا يرى له منافسا في الكون ولا عديلا.

في اللغة وفي بعض مدلولات السلطة القهر. ولكن الجذر ورد بمعنى ان من سلطه الله يتسلط وفي ما نحن متأملوه الآن ان للخطيئة سلطانا على الناس وانها لا تصل الى ذروتها الا بالظلم. ذلك ان الذروة ان تمحو الآخرين ليتسنى لك ان تلعب ألوهيتك. في اعمال الرسل يتكلم الكتاب عن «سلطان الشيطان» (18:26). وفي سفر الرؤيا (9: 10) حديث عن سلطان يؤذي الناس.

القهر منتشر في كل مجال: في السياسة، في الدين الذي يشبه السياسة، في دوائر المعرفة. وقد أشار يسوع الى اخطار السياسة بقوله لتلاميذه: «أنتم تعلمون ان الذي يُحسبون رؤساء الأمم يسودونهم وان عظماءهم يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من اراد ان يصير فيكم عظيما يكون لكم خادما. ومن اراد ان يصير فيكم اولا يكون للجميع عبدا. لأن ابن الانسان ايضا لم يأت ليُخدم بل ليخدم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين» (مرقس 10: 42-44) بمعنى ان عظماء الشعوب الوثنية هم في حالة التسلط وتقبل الخدمة من رعايا. اما قول المسيح فهو اننا مدعوون على مثاله ان نبذل أنفسنا عن الآخرين حتى الموت واننا ننال بذلك السلطان الذي تغدقه علينا المصلوبية. انت في نسيان نفسك يذكرك الله وتصبح في ذكراه شيئا. وهذا يعفيك من ان تلتمس من أحد مجدا لأنك ان فعلت لا تكون طالبا مجد الله. وتقع عند ذاك، بخدمة مألوهيتك.

أنت، انسانا سياسيا، راهب منذور لا تمدح احدا ولا تدغدغ مشاعر أحد لأنك تكون استعملت انسانا وسيلة للاستمرار في مكانتك ولعلك أتيت اليها بوسيلة غير شرعية او لعلك تستحقها فأتيت وتربعت واستلذذت نفسك جالسا على مقعد وكان ثمنه ان بعت نفسك لمن كان اقوى وأفعل. لم تكن خدمتك هي المبتغى وكنت انت وما تجنيه من وجاهة منتهى مسارك. وتكون قد سقطت في جحيم الأنا وما فيها من ظلم وظلام. ويصير البلد مغلولا لكل من سادت عليه في السلطة أناه وتزول دولة الله في دولة الناس. السياسة كما تعاش هي منفى الله. وقبل التفتيش عن الله في متروكيته نكون في حالة الترميم لأمور من دنياكم باهتة تافهة لا تروي غليلا ولا تكافح الموت. وهكذا يتحول ميدان السياسة الى كفر بالإنسان فيما رآه الأقدمون مسرحا للحكمة.

إذا عيشت السياسة هكذا تسمى في تصنيف الرذائل المجد الباطل ولكن في كثرة من البلدان ليست منفصلة عن اشتهاء المال. ان عشق الترف والأبهة المتفرعين من المجد الباطل لا يغذيان الا بمال. وقد عرف آباؤنا القديسون رذيلتين متلازمتين يسمونهما حب السلطة من جهة وروح التسلط من جهة. ويرى الروحانيون القدامى ان روح التسلط تخامره احيانا المواهب العقلية (المعرفة العلمية، الأدب، اللغة، الخطابة). فكثيرا ما أتت المعرفة سلطانا على البسطاء وتحكما.

المعرفة كانت خدمة وانت تمدها الى الناس في تواضع وليس لتنتفخ فيها وتتعاظم فقد جعلتك موهبتك حاملا اياها ليكمل الناس بها فاذا استطبت انت قدراتك العقلية باعتبارها زينة فلا بد لك ان تستكبر وبدل ان تعزز الناس بها تكون قد استصغرتهم في إذلال. وإذا كنت خطيبا قد تتحذلق وتلمس قوتك فتتباهى داخليا ولو قلت العكس بدل ان تفرح بتبليغ الحقيقة وكان عليك ان تحس انك مجرد معبر ليصير الناس الى القناعة التي كنت عليها. كل حسنة فيك زرعها الله لتمجيده تؤول تمجيدا لفذلكاتك. هذا المجد الباطل يصير عليك ثوبا كاذبا لعريك وانت غافل عن انك “تزور الطبيعة والفضيلة نفسها” كما يعلم مكسيموس المعترف. في عميق الأعماق هذه صنمية يقول عنها القديس مكاريوس المصري: “الناس الذين يمدحونك هم آلهتك “بعد ان اقنعوك بهتانا انك بت، في عظمة لك موهومة، إلههم. طبعا هذيان جماعي بين الممدوح ومادحيه اذ يولي الإنسان وجودا لما ليس له وجود. وفي هذا ينخدع المادح والممدوح. لذلك قال الكتاب: “ويل لكم اذا قال عنكم جميع الناس حسنا” (لوقا 6: 26). والقلب الذي يدغدغه الإطراء تختلط عليه الرؤية البسيطة ويتشوش. فالإطراء يزيدك نهما له فتسعى الى مادحين جدد حتى تثبت نفسك في هذا اللهو الدائم. وفي حقيقة المداحين انهم يهزؤون بك وهمهم الوحيد ان يظلوا محيطين بك ليكون لهم هم ايضا ظهور. ومن تنطح للزعامة واعترفوا له بها يكون في نفسه محتقرا لمن بايعه وتبقى له كبرياؤه لكونها كثيرا ما تولدت من المجد الباطل.

الكبرياء يعتبرها الروحانيون أعظم معصية لكونها استعلاء على البشر كلهم او بعضهم. وقد يستعلي الإنسان لسبب او لعدم سبب. انه ينظر الى الناس من فوق. يعتقد ان عنده أكثر مما عندهم او أهم أو أجمل. “اللهم انا اشكرك اني لست مثل باقي الناس الخاطفين الزناة” (لوقا 18: 11). ما من كبرياء الا بالمفاضلة. لذلك كان المستكبر دائما ظنونا ومهيأ دائما للنميمة. انه كما قال باسيليوس الكبير “ينشر دائما ما عنده ويجتهد ان يبدو أفضل مما هو عليه”. انه دائما مقتنع بنفسه وبما يقول، مدع، عالم بكل شيء، مدفوع ابدا الى تزكية نفسه مناقض للغير، متعامٍ عن عيوبه، رافض لكل نقد، لكل لوم، يأبى ان يأمره احد.

ويشتد هذا الرفض إذا كان من مجّد نفسه صاحب مقام في الكنيسة. انت تأمر الآخرين في الكنيسة بتفويض إلهي. اي انك تقول كلمة الله وتفصلها في استقامة بسيف الروح وتعدل بين الناس اي تقول الكلمة الواحدة لاثنين وجدا في ظرف واحد او في الخطأ ولا تدلي برأي الا اذا استقيته من الله بحب ونفسك في سلام. ولا تؤتي احدا برأي عن انفعال او غضب او تشفيا منه لأنك قائم كوكيل على اسرار الله كما يقول بولس. ذلك ان ليس لك من أحد منفعة لشخصك لكونك في مقامك لمنفعة الناس. وفي هذا قال اوغسطينس للمؤمنين: “انا اخ معكم وأسقف ازاءكم”. وترجمتي لها اني لا اقدر ان اكون عليكم رقيبا الا اذا كنت لكل منكم أخًا. واذا تحققت اخوّتي لكم آمركم بنعمة المحبة التي تتوخى فقط بنيانكم في المسيح.

فلهذا من كان مسؤولا كان عليه ان يجمع ما امكنه من المعطيات بحكمة وان يقابل هذه المعطيات بفكر المسيح كما يقول الرسول. فاذا لم تتغير معطيات الواقع يكون الجواب واحدا ان أتاك المؤمن اليوم او أتاك غدا. واذا جاءك مؤمن اخر حاملا وضعا شبيها فلا تحابي انت الوجوه ولا تفرق بين من رأيته قريبا لك بالعاطفة ومن كان بعيدا لأنك توزع الخبز السماوي على كل جائع بالاندفاع نفسه اذ ان همك ان ترفع الناس بأعظم قدر من الغذاء ولو كان مكلمك مجحفا لك او ظالما بظن السؤ فيك او برغبة مجانية في التحدي او التمرد. “فذكر انما انت مذكر. لست عليهم بمصيطر” (سورة الغاشية، الآية 22).

لك ان تلوم وان تكون شديد اللوم حتى التوبيخ لأنك تريد ان يقيم الآخر في الحقيقة. وحسبك انه يعود الى الحقيقة. ويكون، اذ ذاك، قد عاد الى ربه لا اليك. ولا تسعَ ان تكسب عطف أحد ولكن ان يكون الله على من تلومه عطوفا. فالأمر امر الله والتوبة اليه وحده. لك ان تدل من تلوم على خطيئته ولكن ليس بالمقدار الذي يجعله يائسا من إصلاح نفسه. لك ان تحلل لأخيك او من كان دونك مرتبة الدوافع الكامنة وراء معصيته حتى يعي جسامتها وهذا ما تفترضه الأبوة الروحية الحكيمة ولكن فوق كل ذلك وأعظم قدرا ان تبين جمال الحق الذي لم يره من انت تؤدبه. ذلك ان النور يصلحنا أكثر مما يصلحنا كشف الظلام. ثم لازم المتابعة او المراقبة لأنك رقيب اذ ائتمنت على استقامة الرأي واستقامة السلوك وقل الشيء ذاته ان تكررت الخطيئة ونفسك في سلام لأنك لست مكافح احد ولكنك مكافح خطيئته.

غير ان هذه الرياضة مستحيلة ان لم تروض نفسك كل يوم على كلمة الله ليقيم الناس جميعا في النور وإذا لم تحاول ذلك تكون خالطا بين كلمة تصعد من مزاجك وكلمة تجيء من قلب الله. وهذا عمل شاق ولكن عليك ان تقوم به لئلا تصبح متسلطا مثل رؤساء الأمم وتنسى انك قائم في مقامك لتسير الى الموت فإلى القيامة.

وقد يكشف لك الزمان ان هذا الذي لمت او وبخت كسب الكثير مما بذلته من اجله وهذه ذروة فرحك.

وأنت والآخر تجيئان من الله الذي جعلك راعيا للنفوس.

ألم تسمع قول حزقيال: “أليس على الرعاة ان يرعوا الخراف. الضعاف لم تقووها والمريضة لم تداووها والمكسورة لم تجبروها والشاردة لم تردوها والمكسورة لم تجبروها والضالة لم تبحثوا عنها، وانما تسلطتم عليها بقسوة وقهر. فأصبحت مشتتة بغير راعٍ” (حزقيال 34: 2-5). أمام هذا المشهد الذي يصفه النبي يقول السيد: “انا الراعي الصالح والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف” (يوحنا 10: 11).

كل رعاية في الأمة او في كنيسة الله متركزة على قول المخلص: “تعالوا اليّ جميعا ايها المرهقون المثقلون، وانا اريحكم. احملوا نيري وتتلمذوا لي فإني وديع متواضع القلب” (متى 11: 28 و29). في كل علاقة بين البشر اللطف هو المدخل الى ملكوت الله والحقيقة.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

أين نحن من التقارب مع الغربيين؟/ الأحد 8 شباط 2004 / العدد 6

يظن متتبع فكر الكنائس انه قابض على الوحدة قريبا، واذ بالآمال تتبدد فترة تطول أو تقصر. نحن الآن نعبر عاصفة هوجاء يشير إليها أنّ المحادثات الرسمية بيننا وبين روما انقطعت على مستوى اللجنة المشتركة، وبلغ الاختلاف أوجه بسبب النشاط الكاثوليكي المتزايد في بلدان أرثوذكسية مثل روسيا وأوكرانيا. كانت المشكلة بيننا قائمة على وجود الكاثوليك الشرقيين في أوربا الشرقية الذين اعتبرهم الأرثوذكس لا يتمتعون بشرعية كنسية حتى اعترفت اللجنة المشتركة المنعقدة في البلمند السنة الـ1993 انهم غلطة تاريخية ولا يمثلون نموذجا للوحدة.

غير انهم ازدادوا نشاطا في اوربا الشرقية ما عدا رومانيا حيث ضعفوا كثيرا. ولكن التأزم ازداد حدة لسببين بين الكنيسة الروسية والفاتيكان: اولهما ان روما انشأت اربع ابرشيات في روسيا وهيأت حوالى اربعين كاهنا يتقنون اللغة الروسية ليبشروا في روسيا. فاعتبرت موسكو ان تأسيس هذه الأبرشيات يدل على رغبة روما في التوسع على الأراضي الروسية، كما رأت ان الروسي المهتدي الى المسيح ولو عن طريق مبشر لاتيني ينبغي ان يندرج في كنيسته الروسية، كنيسة آبائه وأجداده. وهذا هو السبب الذي يجعل زيارة بابا روما لموسكو مستحيلة الآن.

الا ان انقطاع المحادثات لم يمنع العلاقات الثنائية بين الفاتيكان وهذه الكنيسة او تلك بما في ذلك اتصالات مع الروس. ويدور الحديث الآن على رغبة روما في استئناف هذه المحادثات، ولكنا لا نعلم مدى استعداد الارثوذكسية مجتمعة لقبول هذه الفكرة.

ولكن الى جانب هذه الصعوبات العملانية صعوبات لاهوتية. فالنصوص الصادرة عن الفاتيكان بدءا بوثيقة «الرب يسوع» والرسالة الأخيرة للبابا عن سر الشكر (القربان) تبدو عقبة كأداء دون التفاهم. وثيقة «الرب يسوع» تصرح ان كنيسة المسيح قائمة بكليتها فقط في الكنيسة الكاثوليكية، وهو أشد تصريح حتى الآن يدل على عزل الارثوذكسية من كون كنيسة المسيح قائمة ايضا فيها. اما في ما يختص بالرسالة البابوية عن سر الشكر فقولها ان القرابين يقوم بها اسقف متحد بالبابا، الأمر الذي يوحي بأن القداس الارثوذكسي فيه شيء من الخلل اذ يقيمه اسقف غير متحد بالبابا. أضف الى هذا ان اللقاء الذي عقده «المجلس البابوي لوحدة المسيحيين» عن «الخدمة البطرسية» كان مخيبا لكل الآمال اذ لا تحتوي الوثائق الرومانية فيه ايّ ما يدل على تغيير في الموقف الكاثوليكي المتعلق بمكانة أسقف روما.

هذه الأمور كلها تشير الى ان كنيسة روما في وضع فكري غير متحرك نحونا.

من جهة اخرى هناك تصادمات بين بعض الرئاسات الروحية عندنا. فالروس واليونانيون اختلفوا على من يرئس كنيسة استونيا أهؤلاء ام اولئك، ثم وجدوا صيغة مصالحة. غير ان البطريركية المسكونية مختلفة مع كنيسة اليونان حول من يرئس أبرشية سالونيك. الى هذا يصرّ البطريرك المسكوني على انه هو الذي يرعى المهاجر، وفي هذا هو مختلف مع معظم الكنائس الارثوذكسية. العالم الارثوذكسي لا يؤلف اليوم جبهة متراصة لملاقاة الكنيسة الغربية بفم واحد. اجل لو قبلنا الاجتماع معا الى روما لمباحثات جديدة سنكون واحدا من ناحية العقيدة في مواجهة روما. غير انه يزين لي ان الكنائس الارثوذكسية لن تلبي كلها الدعوة.

الوضع المسيحي العالمي متأزم جدا ويحتاج إلى نعمة إلهية كبرى لتغييره. غير اني لست ارى الآن كيف يمكن لروما ان تلين او كيف تعود الثقة المتزعزعة الآن بين الشرق والغرب.

في هذا المناخ لا يبدو ان احدا يحرّك قضية الفصح لأنها تبدو للرئاسات الروحية ثانوية بالنسبة إلى الوضع العقائدي المتأزم. ثم لا يبدو لي ان شعوبا أرثوذكسية هامة مثل الروس واليونانيين والصرب مستعدون لخوض غمار هذه القضية ولو اراد الرؤساء الروحيون بحث هذه المسألة.

إلى ان يأتي الفرج، علينا ان نحب بعضنا بعضا وان نتعاون في الشؤون العملية كل مع الآخر في بلده بحيث لا نتصادم عملانيا ونقرّب القلوب بعضها إلى بعض ريثما ينقل الله الجبال.

Continue reading
2004, مقالات, نشرة رعيتي

خواطر رعائيّة/ الأحد أوّل شباط 2004 / العدد 5

انتهى «أسبوع الصلاة من أجل وحدة المسيحيين». وبحث الموضوع يتطلب مقاربة نظرية قد أعود اليها. غير اني اليوم اود ان أنظر في الوضع العملاني المرميّ عليه الكاثوليكي والارثوذكسي. وأرجو الى القارئ ان يوسع صدره عسى يفهم انني اتوخى ما هو بناء وليس في نيتي انتقاد الاخ الآخر ونحن في مسعى التقارب الصادق. ولكنّ للتقارب شروطًا لتكتمل الثقة بيننا.

من اول هذه الشروط ان يلتحق كل منا بكنيسة رعيته في الآحاد. هذا الكلام مردّه إلى ما عرفته من كثيرين ان شغور كنائسنا من عدد من المؤمنين ان منهم من يفضّل الكنيسة القريبة إلى بيته ايا كان مذهبها. انا عارف اننا لا نغطي بعض المناطق الساحلية قرب بيروت. مع ذلك ليست المسافات طويلة بين منزلك وسن الفيل وانطلياس وجل الديب والمطيلب وما الى ذلك. ربما كان هذا في مناطق اخرى جبلية. انها قضية انتماء وهوية أن تلازم كنيستك، وقضية مشاركة في الأسرار الإلهية، وكنيستنا والكنيسة الغربية لهما الموقف نفسه في تأكيد أن كل واحد يتناول في كنيسته. ومَن يمارس خلاف ذلك يكون «فاتح على حسابو»، والكاهن الذي من غير كنيسته اذا ارتضاه في المناولة قد يريد ان يبيّن ان كنيسته منفتحة واننا مغلقون. ارى انه من واجب الكاهن الكاثوليكي ان يشير على الأرثوذكسي الذي يمارس عنده بالعودة الى كنيسته لا سيما اننا وقّعنا مع الكنيسة الكاثوليكية وثيقة البلمند السنة الـ1993، وقلنا فيها ان الراعي يرعى القطيع الذي سلّمه الله اياه ونتيجة ذلك انه لا يرعى قطيعا آخر. الأخوّة تبدأ من التعامل على الأرض.

في المنطق عينه ان الكاهن بعد عيد الغطاس اذا دار على الرعية لينضحها بالماء المقدس انما يرش منازل أهل رعيته، فلا يقرع الكاهن الكاثوليكي بيتًا ارثوذكسيا ويتطوع لرشه بحجة أننا صرنا واحدًا. نحن في الواقع لم نصر بعد واحدًا وليس أحد منا مفوضًا من الله ليقيم للآخرين خدمة مقدسة. واذا كان لسبب من الأسباب اضطر احدنا للاتصال ببيت من كنيسة اخرى فليكن بمعرفة كاهن هذه العائلة ما عدا علاقات الصداقة وموائد الطعام وما الى ذلك. الأرثوذكسي العادي يخجل من رد كاهن آخر، ولا ينبغي لهذا ان يتجاوز خدمة رعيته. اذ ذاك نسمّي ذلك اقتناصًا ونحن اتفقنا مع الرئاسات الكنسية الاخرى ان هذا يخالف مشيئة الرب.

ثم عندنا تفاهَمَ البطاركة الارثوذكسيون والبطاركة الكاثوليك ان ما يُسمّى «اول قربانة» يتم في الرعية لا في المدرسة. فهمنا ان هذا يتم في الصراحة والصدق الأخوي ولا يلتفّ احد حول هذا القرار. فالمطلوب من المدارس الكاثوليكية الا تأتي بأي عمل ككتاب الى الأهل يطرح قضية «أول قربانة» وموضع تناولها. المطلوب عدم التعاطي اطلاقًا مع التلامذة الارثوذكسيين، مباشرة ومداورة، بهذا الشأن، ولا تأهيلهم بالتعليم لأول قربانة، فهذه تناولها الطفل عند معموديته.

وهل من المستحيل على المدارس الكاثوليكية ان تتبنى جميعًا التعليم الديني المشترك الذي قررناه معا للمدارس الرسمية بحيث يتناول الاولاد نصًا واحدًا ولا يتفرقون؟ يأخذون تنشئة واحدة لا جدل دينيا فيها، هذا اذا تربّى المعلّمون على روح التقارب وان تتسع صدورهم للكل فلا يفاضلون بين كنيسة واخرى ولا يعظّمون واحدة على حساب الأخرى. يجب ان تزول الدفاعيات التي كنا نستعملها في الماضي لنبيّن اننا على حق وان الآخر مخطئ بحيث تكون ساعة الدين وقت استفزاز وتفرقة.

تبقى قضية الصلاة في المؤسسات التربوية. فماذا يعني حضور قداس مفروض على الكل ويتناول القرابين فيه بعض التلامذة ويُقصى الآخرون عنها؟ هل من الضروري في ايام الاسبوع ان نقيم قداسًا ام نتلو صلوات مقبولة لدى كل الكنائس بحيث نقف معًا بلا انزعاج ولا تحفّظ. مشكلة الصلوات الموحَّدة قابلة للحل بروح الأخوّة. يجب ان تفهم ادارات المدارس ان مودتها لتلامذتها تعني احترام عقائدهم بتفاصيل الحياة المدرسية ويومياتها، فتعيدهم الى ذويهم على مذاهبهم ممتلئين من الإنجيل والأخلاق المسيحية. في الإنجيل وسلوكياته طعام كافٍ لكل التلامذة وليس في الإنجيل اقتحام.

Continue reading