Monthly Archives

November 2005

2005, مقالات, نشرة رعيتي

خلاص الأغنياء/ الأحد 27 تشرين الثاني 2005 / العدد 48

في اللغة التي كتب فيها الانجيل اي اليونانية، الانسان الذي واجه يسوع في قراءة اليوم كان وجيها او رئيسا اي عضوا في مجمع اليهود وسأل المعلم: “ماذا أعمل لأرث الحياة الابدية”. كان يعلم ما قاله الكتاب عن الخلاص. ربما أراد جوابا اوضح او اكثر تفصيلا من يسوع وسمّاه “المعلم الصالح”.  كان في هذا الكلام مجاملة للسيد او مديح  ولا سيما انه كان يعتبر المعلم بشرا فقط. سؤال لا يخلو من الخفة. لذلك رفض الرب ان ينعته هذا الرجل بنعت يليق بالله فقط.

          ماذا أعمل؟ اجاب عنها السيد بذكر بعض الوصايا المذكورة بالناموس. زكّى الرجل نفسه بقوله انه حفظها منذ صباه. عندئذ قال له يسوع: “واحدة تعوزك بعد، بع كل  شيء ووزعه ثم تعال اتبعني”. هذا كلام قاله يسوع لهذا الشخص بالذات ولم يعمّمه. قال له هذا لأن المال الكثير الذي كان له كان عائقا دون خلاصه.

          بعد ان رفض هذا الوجيه الميسور دعوة المسيح اليه والى التجند في صفوف اتباعه، قال الرب هذا القول الصعب: “ما اعسر على ذوي الاموال ان يدخلوا ملكوت الله. انه لأسهل ان يدخل الجمل في ثقب الابرة من ان يدخل غني ملكوت الله”.يسوع قال انه صعب ولم يقل انه مستحيل. صحّ ان السيد اعطى عن صعوبة الخلاص للغني صورة الجمل والإبرة، والجمل هو الجمل والإبرة هي الإبرة. انها مبالغة في تصوير صعوبة الخلاص. ولكن يسوع لا يسهّل الصعوبات ليجذب الناس الى الجدية. هذا من باب الملاحظة العامة لأن تعلق الغني بماله يدفعه الى الاهتمام المفرط به الى درجة الاحساس ان المال هو المنقذ وقد لا يعرف الغني ان كثرة المال يدفعه الى عشقه وهذا هو السقوط.

          ما من شك ان يسوع لا يرى منفذا من هذا العشق الا بالتوزيع لانه يدل على ان قلب الغني اتسع للفقراء وانه لا يحب المال حتى البخل بل صار يحب الناس ايضا. كيف يكون التوزيع؟ ما مقداره؟ مسائل لم يتعرض المسيح لها، ولكن الدعوة الاساسية هي ان نتخلى عن بعض ما نملك لكي لا يموت الناس جوعا، على الاقل ليتمكنوا من اعالة عيالهم، على ان تكون متواضعا في العطاء وان تجعل نفسك مع المحتاج في حالة التآخي.

          انت لا تعرف كل الفقراء ولا تقدر ان تحل لهم كل مشاكل حياتهم. ولكن تستطيع ان تختار بعضا وان تسعفهم بصورة جدية. ولا يكون الامر صوريا، ولكن تكون المساعدة حقيقية، فعالة. المهم أمران: ان تضرب العشق الذي فيك، وان تحب الفقراء وتنفّذ هذه المحبة بالعطاء. هذا يزعجك ان كنت متعلقا بثروتك، ولكن ليس من عمل صالح بلا تعب او بلا تضحية.

          عندما سأل السامعون المخلص من يخلص اذًا، اجاب: ما لا يستطاع عند الناس مستطاع عند الله. هذا لا يعني ان الرب يخلصك بصورة اعتباطية فيختار بعضا ويهمل بعضا. هذا يعني ما قاله بولس في رسالته اليوم: “بالنعمة انتم مخلَّصون”. فتحل نعمة الله على الغني وتلهمه محبة لم تكن له وهي تفتح قلبه ثم تفتح كفه ليحس بأن الفقير اخوه ويشاركه ما عنده. فالغني يرتاح بالعطاء، والفقير يحس بأن آخر احبه.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

موجوع أبدًا بحب السماء / السبت في 26 تشرين الثاني 2005

أرى نفسي على جهل كثير. ما تعلمت الرياضيات في صباي حسناً وما اقبلت على الحاسوب. خفت. اجيء من حضارة اخرى فيها كلمات. كلمات – رموز تحكمنا اليوم. تعرفها الشبيبة. لا اعرفها. ربما تعود هي ايضا الى الكلمات التي اجيء منها.

يلحنون اذا قرأوا اي انهم يجهلون قواعد اللغة. عقلك انت يجيء من اللغة بعد ان جاءت اللغة منه قديماً. اذا ألحن عندي قارئ في الكنيسة او ألحن مذيع شعوري الاول ان خللاً عقلياً اصابه وسرعان ما ادرك ان عقله لا يحتاج الى نظام اللغة. كانت عندي خادمة اسمها ليلى اخبرتني اول استخدامها انها امية مع انها كانت تفهم اخبار الاذاعة (الفهم له سراديبه). كانت ترتب مكتبي كل يوم وكان يصعب علي ان اصل الى الاوراق التي كانت متراكمة قبل تدخل ليلى بلا ترتيب. فكنت ألحّ عليها باهمال مكتبي لئلا يحجب ترتيبها عدم ترتيبي الذي كنت اعرف ان استدل منه على ما احتاج اليه.

صرت افهم ان حضارة الحاسوب وما يستتبعه من آليات وتالياً من معارف صندوق مقفل لم يبق لدي وقت ولا قوة ولا فضول لالج اسراره. وفي مطلع شبابي لم يكن يزعجني اني لا افهم الرياضيات التي كان يقال في اوساطنا المدرسية انها تروّض العقل حتى ان المتعصبين لها كانوا يذهبون الى انك ان كنت خالياً من عقل رياضي لا بد ان فيك نقصاناً ما. وانا كنت اذهب الى انك قادر على ان تروض عقلك باللغة فقط وان تصقل احساسك بالشعر ثم ان تتربى على الفلسفة حتى التقيت ناساً لا يتحسسون الشعر اطلاقاً ولا تجذبهم الموسيقى الاوروبية ويعيشون مع ذلك عيشاً معقولاً في التجارة والمال والعائلة. ولاح لي من خبرات متنوعة ان الانسان يستطيع ان يحب زوجه واولاده بلا شعر مسبوك وان يكتفي بالطرب الشرقي الذي يصل الى كل الآذان عندنا والى كل القلوب.

غير ان ما هالني من زمان طويل اني لست فقط مقصراً في العلوم الدقيقة الطبيعية واني مقصر في كل علم. ربما بسبب ازدياد اتعابي وتنوّع امراضي بت منجذباً الى الطب كثيراً ويعجب طبيبي الخاص بوصفي الدقيق لاعراض المرض عندي. ولما قوي انشدادي الى الطب تعمق فهمي للانسان ولوحدته وادركت ان العلوم التي تلقيتها وكلها من نطاق اللغة غير كافية. الحقوق لغة واللاهوت لغة. ذلك انك تعالج نصوصاً تعربها فتفهم وتصير من عندك نصاً آخر فيفهمك الآخر.

كل شيء خطاب. واذا عدنا الى البدايات نقول: “في البدء كان الكلمة”. فإذا كان في البدء فهو قبل البدء اي انه خطاب الله. المسيحي يحمل حديث الله اي يحمل الله لان الله لم يكن يوماً بلا خطاب. فإذا ابتغيت الله تذهب الى فكره وفكره في ما قال او في من قال. الله مقول وبمعنى، ابنه نصه والانجيل نص النص.

هنا تواجه مسألة كبرى انك تصل الى الله من خلال نصه. هذا لا يعني انك تصل بعقلك فقط لان النص ليس فقط عقلياً. انه ينزل الى القلب. يقرأ القلب ايضاً بلا لغة. ومن هنا يقيني ان الله ينقلك الى جوفه بلا كتاب الهمه او اوحاه. هذا شأنه مع عباده. ولكني انا العارف بكتبه مقيد بمعرفتها ولست حراً ان اطلع عليها او لا اطلع. انا لا استطيع فقط ان اتصل بالله من طريق الروح او القداسة – واتصالها اعظم اتصال – اني مضطر الى ان اتصل من طريق الفكر الذي ليس مجرد فكر على طريقة “انا افكر، اذاً انا موجود”. انا اعرف اناساً لا يعقلون امراً الا وهم في قلوبهم. هناك كتّاب تأمليون هم بالدرجة الاولى مفكرون اي يسطعون فكراً مبنياً، مترابطاً، عاقلاً ومعقولاً ولكنه مع القلب دائماً في تماس بحيث لا تعرف اذا كان منطلقهم شعوراً بحتاً او فكراً محضاً ولكنك تشهد مزاجاً عجيباً بين مشاعرهم والعقل.

في تصوري انه ليس من فيلسوف محض على لباس الجفاف الذي تراه عليه احياناً، لا شيء يصدر عن الانسان غير مرتبط بالقلب. انا لا اقول ان المفكرين هم الطبقة العليا من الناس البسطاء قد يكونون اعظم اذا كانوا على كثافة رهيبة من المحبة.

قلت لكم كل ذلك لاقول اني لست نادماً على اني لم اقرأ كل شيء. سأموت جاهلاً ليس فقط للعلوم التي ذكرت لكم اني اجهلها ولكني سأموت وانا لا اعرف في بلدي او في غير بلدي من وددت ان أعرفهم اذ كنت أحس بأن عندهم الكثير مما أردت أن أتزوده، ما لم أعرفه أو من لم أتعرف عليهم فراغات في نفسي او فراغات في قلبي. ولكن ما العمل؟

ما المصير انك لم تقرأ كل شكسبير وكل المتنبي او كل دوستويفسكي اذا أخذت الجمال الادبي. قد تهزك جماليا سورة يوسف أكثر من نصوص كثيرة. انا لم أقرأ متصوفين كثيرين وعددا من آبائنا القديسين. ولكني قرأت اشعيا وايوب وانجيل يوحنا. وهذا يسد جوعي الى الحق. صبغتك بالحق هو النور الذي يصل اليك وهو دليلك الى النور الذي لم يصل. ليس من بشر يعرف كل شيء وفي هذا أحد مفاتيح التواضع والتواضع أعظم من المعرفة.

قد تصل الى الكثير من علم التفسير اذا كنت عاشقا لتداول النصوص اي أنك قادر على ان تصل الى دقائق كلمات إلهية، الى ما تكشف والى ما تخفي وقد تصل الى العلاقات بين سفر وسفر من الكتاب الالهي وتفهم تعاقب الاسفار والقصد الالهي من هذه السطور مركبة، متراصة، ساطعة، راقصة ولكن لا تكون بالضرورة واصلا الى عتبات الله لان الله أعظم من الكلمات التي قالها وهو ان كان فيها الا أنه ألهم واحدا ليقول: “ان الله أعظم من قلوبنا”. أي انه يسكنها ولكنها لا تستوعبه واذا أنت انتقلت اليه في اليوم الاخير تسقط عليك أنوار منه فتحيا بها. ذلك انه دائما يتعالى وانت اليه كالمرأة النازفة الدم التي لمست هدب المسيح فشفيت.

لماذا كل هذه العلوم، لماذا كل هذه الآداب وهذه الحضارة؟ الله خبئ في كل هذه وعليك ان تسعى اليه في مخابئه. وان أخطأت هذا القصد يكون تعاطيك هذه الامور مفيدا لمعيشتك هنا وتكون قد ظننت ان الله مكشوف فقط في الكتب المقدسة، لا تكون قد قرأت كل تجليات الله. أما اذا فاتك شيء من المعارف – كما فاتني أنا – فالله يعرفك بلمساته وبحضوره فيك والمهم ان عرفت أشياء ألا تستكبر. ان جهلت أشياء لا تبرر كسلك اذ يخشى ان تفوتك جمالات الهية خفية في العلوم او الشعر والفنون بعامة. تكون قد أهملت الله، ومع ذلك يغفر الله لك جهلك كما غفر لي جهلي على ما أحسب. انه يعوضك بملاطفات لا يسوغ النطق بها. وفي كل حال الله يغنيك ان كنت من العارفين او من الجهلاء.

إذهب عن هذه الحياة مطمئنا الى الرحمة التي هي تكملك. ذلك ان الجهل جهل الفضائل والمتع السموية. بعد كل هذه النواقص والتحولات في دنياك المهم ان تحس أنك “موجوع أبدا بحب السماء” كما تقول حنان عاد في “لؤلؤ الروح على صهوة القيمة”. اذا بقيت على هذا الوجع تبدأ رحلتك الى القيامة.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

الغني الغبي / الأحد 20 تشرين الثاني 2005 / العدد 47

انجيل لوقا إنجيل الفقراء. الكلام الرئيس  عند لوقا عن الفقراء هو في التطويبة الأولى :”طوباكم ايها المساكين لان لكم ملكوت الله” (6 :20). وهو الفقر بالمعنى الحسي يقابله بالتطويبات نفسها عنده “ويل لكم ايها الأغنياء لانكم قد نلتم عزاء كم” (6: 24). غير ان معرفتنا لجماعة كانت تسمى “الفقراء الى الله ” توضح لنا ان المحتاج  غالبا ما كان محتاجا الى الله ايضا بحيث كان ينتظر منه “خبز الغد” وقد ورد عند بعض الشراح ان لفظة خبزنا الجوهري في الصلاة الربية قد تعني الخبز الذي يحتاج اليه في الغد لا بعد الغد.

          نحن امام مَثَلٍ سبقه قولان للسيد: اولا، انظروا وتحفّظوا من الطمع. وثانيا، متى كان لأحد كثير فليست حياته من امواله. بعد هذا يأتي المثل ومعناه تاليا من هاتين الكلمتين ليسوع.

          “انسان غني أخصبت ارضه” :ليس في هذا شيء سيء ولا سيما اذا كان قليل المورد. ويحق له ان يفرح. يقال اليوم عن هذا إنه تنمية اقتصادية.

          هذا الرجل يقول في ذاته: اوسّع املاكي اذ انا في حاجة الى ان اجمع الغلات الكثيرة في مخازن حنطة اكبر. ليس من مأخذ على هذا الرجل في هذا. يبدأ التلميح الى اللوم عندما قال هذا الغني لنفسه: “لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة” (كيف يعرف؟). من قال له انه يعيش طويلا او ان احدًا لن يسرقه؟ ليس من ضمانة لدوام المال. يزداد لوم يسوع ليس بشكل صريح ولكن باستعمال الإنجيلي لكلمات تدل على ان الرجل ارتاح الى كنزه الجديد بقوله لنفسه: “استريحي وكلي واشربي وافرحي”. شهوة النفس عند هذا الرجل هي الدنيا وما فيها. الفرح عنده في الأشياء المادية والطمع بها. وعند ذاك يهمل نفسه اي عمق نفسه وحاجتها الى الله والى محبة الآخرين، وهاتان الحاجتان لا ينفع المال بهما. المهم الشوق الى الله ومعاشرته بالكلمة. كان المطلوب من الغني ان يجعل فرحه في غير الحنطة التي ازدادت وقوَّت الشهوة.

          نفسك لن تقدر ان تتمتع بشيء ايها الغني لأن الليلة تُطلب نفسك منك ولن يبقى لها شيء من دنياها. لذلك ينهي يسوع هذا المثل بقوله: “هكذا الذي يكنز لنفسه وليس هو غنيًا بالله”.

          لا ينبغي ان تحس يا انسان ان الذي عندك يكبرك او يزيد على قامتك ذراعا واحدة. لهذا بعد المثل يقول السيد: “لا تهتموا بما تأكلون ولا للجسد بما تلبسون. الحياة افضل من الطعام”. هنا كلام يشبه كثيرا ما ورد في العظة على الجبل عند متى، ويسميه الشراح العظة على السهل عند لوقا، وهي منتشرة في انجيل لوقا وليست في موضع واحد كما عند متى.

          ان يسوع لا يكره الغنى بحد نفسه ولا الاغنياء اذا كانوا لله. لا يريد الافتخار بالمال والتعلق به وتشهيه. هو وسيلة لا ينبغي ان تعشقها انت او تعبدها لئلا تصير لك مثل رب. ما تشتهيه من هذه الدنيا يستعبدك. استعمل كل شيء وكن حرا من كل شيء لتصير حقا مع يسوع.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

تحب قريبك كنفسك / السبت 19 تشرين الثاني 2005

هذه الوصية التي يرجع بها الى يسوع الناصري هي في الحقيقة من العهد القديم ولكنها جاءت في سفر اللاويين هكذا «لا تنتقم ولا تحقد على ابناء شعبك بل تحب قريبك كنفسك» (18: 19) ما يشير الى انك تحب فقط بني قومك. وسع العهد الجديد الوصية بجعل كل الناس محبوبين. غير ان الصيغة التي وردت فيها الوصية «تحب» أو «أحبب» توضح ان المحبة امر الهي وانها ليست فقط مجرد تحرك عاطفي فقد يحس قلبك او لا يحس. فالمحبة اذا شريعة معناها هو هذا:يجب ان تحب قريبك كنفسك.

الفكرة الظاهرة في العهد العتيق هي ان هناك ما يربطك بالمحافظين على الشريعة وهم من امة الابرار. هذا هو رباط المقدسين. انت ان احببت تدعم الكيان الالهي-الاجتماعي القائم في امة اليهود.

مع المسيح انت لا تنتمي الى امة. تشكل انت بالحب امة المحبوبين. لذلك عندما سأل احد اللاهوتيين يسوع من هو قريبي حكى له حكاية معروفة بمثل السامري الشفوق الذي تحنن على جريح يهودي كان ملقى على الطريق فأقبل عليه وآواه وطببه. فعن هذا السؤال من هو قريبي اجاب السيد بسؤال: من ترى صار قريبا للذي وقع بين اللصوص. قال الذي صنع معه الرحمة فقال له يسوع اذهب واعمل كذلك. والمعنى ان كل انسان غريب عنك حتى تطل على اوجاعه وعزلته. لا يسأل اذا عمن ترحم. انت ترحم ببساطة. ومن ساعدته يصبح من الاحبة. وتتشكل هكذا امتهم بالمحبوبية.

لماذا قالت الشريعة يجب ان تحب؟ لا تترك الشريعة احدا على مزاجه. الشريعة لا تعرف حب الهوى فقد تهوى وقد لا تهوى. والذي تخاصمه قد يموت او انت تموت. واذا مات الانسان على الخصام فهو مفصول عن الآخر وتكون عرى الوحدة قد تفككت في الامة المقدسة. واذا اخرجت احدا عن المحبوبية تكون انت ايضا خرجت عليها وما بقي الله مشرقا على وحدة الوجود بينك وبين عدوك والكلمة هي «احبوا اعداءكم». فاذا احببته تزيل العداوة عن نفسك وقد تزيلها عن نفسه وفي كل حال لا تبقيه على غربته.

#  #

#

واذا كانت محبة الانسان للانسان شرعة لهما ومنهاج عيش فهذا يعني انها غير نابعة من صفات من كان عليك ان تحب. فقد يكون قبيحا بكل المعاني ومن كل الزوايا اذ لم يزين كل انسان بالبهاء الالهي ولا بالتهذيب البشري ولم يلحظ عليه احد لمسة من لمسات الحضارة. مع ذلك يجب ان تحبه لتنشئه نشأة جديدة. انت لا تحب احدا لكونه يستحق ذلك او لكونك تتوقع ان يبادلك العطاء فقد تكون نفسه بخيلة، جافة ولم تلطف بأحد. انت لا تنظر الى شيء من هذا لانك تحيا بالنعمة تنزل عليك وحسبك هي وهي وحدها تحول صحراءك الى جنات. فاذا كفاك الرب تحيا بملىء كيانك تدغدغك مودات او تحييك بدفء او تعكس عليك انوار الله ولكنك قد تحيا في صحراءالحب كما يقول مورياك وتحيا مليئا اذا عرفت نفسك حبيب الله.

انت تنجو بمحبة الله اذا قرأتها نازلة عليك وحسبك اياها. احيانا تحس ان احساس احد بك انعكاس لاحساس الله بك ولعل كل قيمة الحب العاطفي ان يجعلنا نشعر بابوة الله لنا. كل ما في الدنيا يمكن ان يصبح قراءة من الله فكل هذه الدنيا كتاب. طوبى لذاك الذي يعرف ان يهجىء اسم الله على سطور.

#  #

#

اذا ما توسعنا بالوصية على ما اراده المسيح فقلنا ان القريب هو من نبادر الى رحمته وخدمته حتى النهاية فاحبب قريبك كنفسك ينبغي ان تعني احبب قريبك على نفسك. اذ نقع في التفاهة لو قلنا انك تغذي القريب بالطعام مثلا كما تغذي جسدك اذ يفترض الوضع احيانا ان تنزع اللقمة من فمك لتطعم الآخر وان تعري جسدك لتكسو جسد الآخر. فالتوازن الحسابي بين طعامك وطعامه او كسائك وكسائه يعني انك لا تحب بالحقيقة حتى النهاية. يعني انك تريد ان تعيش بكل الوسائل وتعطي مما لا يمنع عنك العيش. التوازن يعني لك انك موجود وقد تعني المحبة احيانا انك تنكر وجودك ليحيا الآخر.

ان الوصية لم تأخذ كل مداها الا مع ذاك الذي احب البشر جميعا على نفسه فبذلها حتى الموت موت الصليب ولكونه اعتبر الناس بموته افضل من نفسه يؤهلنا هو ان نصوغ الوصية التي ابتدأت بتوازن اليهودي هكذا: أحبب قريبك على نفسك. فأنت لادراكك محبة الله اياك في المسيح متّ ام امت العالم فيك فلا تشعر انك قائم بذاتك وان فيك شيئا حسنا ولكنك تؤمن ان المسيح يوجدك لانه مات فتحول هذا الوجود المجدد فيك الى كيان الآخر فينوجد بعد ان كان في هزالة الوجود. انك تحب الشخص بغض النظر عن خصاله او عيوبه. فقد يكون قبيحا كما كان وجه المسيح على الخشبة. ليس المهم ان ترى جمال احد لتحبه. انت لا تضمه اليك انت تضمه الى صدر المسيح. انت لا علاقة لك بمن تحبه في المسيح. فقد يحتاج اليك اليوم ولن يكون في حاجة اليك غدا. تحول وجهك عنه لتذهب الى وجه آخر لترحمه. قد تساعده كثيرا وقد تساعده طويلا. ان وجهه صار وجه المسيح. «كنت جائعا فأطعمتوني» وطبعا كان يتكلم عن جوع الجياع لا عن جوع نفسه. فلكونك صرت خادما بالانتباه تلازم من تخدم. توآسي. تعزي. تطعم. تكسو. ترشد  كل هذا تعمله بسبب ظرف جعلك تعرف الحاجة فتقترب وتنسكب.

من اعطيته قد يتأثر بانتباهك وقد يرد لك عطاءك بعاطفة وقد يدخلك قلبه. انت لا شأن لك بذلك. خطر العاطفة هذه ان تجعلك تحس بأهمية العطاء عندك. انت لا تتخذ بالعطاء مقاما في نفسك. انت لست بشيء امام عينيك. انت تحب ليدرك الآخر محبوبيته لدى الله. فاذا رد اليك المحبة تكون قد نلت مكافأة. لا مانع من ذلك ولكن ليس هذا مهما. الاهمية الوحيدة في انسكاب الناس في الناس ان يجاوروا الله جميعا بانشدادهم الى فوق.

في الحقيقة انك تعطي المسيح، لان الآخر يقيم فيه المسيح، بسبب من العوز. المسيح هو الفقير الكامل، المطلق الذي لم يأخذ من الانسانية الا الرفض. فأنت اليه ومعه في المتألمين جميعا. المحب والمحبوب صارا واحدا بسبب وحدانية المسيح الذي بدد بدمه العطاء النابع على الدوام من قلب الله. المقيم في الله يقيم وحده الله في البشر. واما ان اقمت نفسك في الآخر فأنت لا تقيم فقط حلاوتها ولكنك تقيم ما فيها من قباحة ايضا. لك ان ترتضي القليل ولكن هذا لا يشبعك. طبعا العاطفة تغتذي من العاطفة وقد يكون فيها قبس الهي. ولكن الشعور الالهي المجرد من الانا يبذل الانا وعندئذ ينكشف الله للآخرين. المهم ان تنقل الله وايمانك بالله. انا لا انكر عليك شرعية تحركك العاطفي وسرورك بالتبادل بين قلب وقلب. هذا لك أجر فلا تتمسك بمن تعطيه لان مبتغاك ان يحول وجهه الى وجه ربه ليشكر ويحيا.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

نَقْلُ الكاهن/ الأحد 13 تشرين الثاني 2005 / العدد 46

معروف عند الشعب قوله: الكاهن فلان مرسوم على كنيسة هذه القرية أو تلك. وقد أوضح القانون ٦ من المجمع المسكوني الرابع (451) ان الكاهن يعيَّن لخدمة كنيسة في مدينة أو قرية أو مقام شهيد أو دير. وكان اسم المدينة أو القرية يُذكَر علنًا في السيامة فيقال «النعمة الإلهية فلتنتدب الكاهن فلانا لكنيسة كذا في مدينة كذا أو قرية كذا». أي لا يُرسم الاكليريكي بصورة مطلقة، وكانت رغبة المجمع ان تمنع تجول الكهنة بسهولة من مكان إلى آخر بخلاف القوانين.

أحيانا إذا كانت أحدى الكنائس قليلة العدد، يُعيَّن الكاهن عليها وعلى كنيسة أخرى. وكان المألوف عندنا والمتبع ان يلازم الكاهن قريته حتى مماته أو عجزه الصحي ما لم يجرِ في حقه تأديب أو بدا انقسام أو مشاكل في الرعية فيُنقل إلى مكان آخر، وتُظهِر الوقائع ان من لا يوفَّق هنا قد يوفَّق هناك.

أحيانا يرغب الكاهن لأسباب متعلقة به ان ينتقل إلى أبرشية أخرى فيستأذن رئيسه لذلك، فيعيّن تاليا على كنيسة لم يرسم عليها. إلى جانب هذا، علّمتنا الخبرة الرعائية ان نقل الكاهن الذي انكشف نضجه وتقواه في رعية صغيرة جدا قد تستفيد منه رعية كبيرة. في الأخير، المطران هو الراعي المسؤول عن الجميع ويعرف أحوال الأبرشية ويعرف من أي كاهن يستفيد هنا ويستفيد هناك، أي يعرف أي كاهن قادر ان يدبر رعية سلسة أو يدبر تلك التي فيها بعض الصعوبات.

الأبرشية هي كنيسة واحدة ولها إدارة واحدة في التشاور بين الجميع ولا سيما بين الكهنة والأسقف، وتقوم على الثقة بأن المطران هو أبو الجميع إذ ليس عنده مصالح دنيوية، ورغبته الوحيدة ان يصبح المسيح سيد الجماعة، وفي هذا الإطار يأتي تثبيت الكاهن في مكانه أو نقله إلى مكان آخر.

ما حدث عندنا في الحرب ان كهنة اقتُلعوا من قراهم أو مرضوا أو ماتوا وفي بعض الحالات شغلوا كنائس كانت شاغرة . كل هذا جعل تبديلا في الأشخاص. اما وقد عادت الأوضاع إلى ما كانت عليه فكان لا بد من ترتيب بعض الأوضاع من جديد ليقلّ عدد الكنائس المسلَّمة إلى شخص واحد. ان حصر عدة رعايا بيد راع واحد لا يمكّنه من الانتباه الواحد المكثف لكل الكنائس. هذا ليس في طاقة إنسان. هذا يجعل الرعاية شيئا إسميًا. يكاد العمل يصير طقسيا فقط بتأمين القداس والصلوات هنا وهناك. اما هل من يسأل عن العائلات، وهل من يُعلّم ويعنى بالصغار؟ فإن شيئا من هذا لا بد ان يضعف.

القاعدة هي هذه أنه كلما صغرت الرعية تعظم الرعاية أي ننتقل من الكمّ إلى النوع. نحن نحتاج إلى نوعية عالية من الاهتمام وإلى حضور دائم للكاهن في شعب معين، في قرية معينة في هذا الجبل.

إلى هذا عندنا عدد كبير من طلاب اللاهوت لا بد لمطران الجبل ان يضع كل واحد في مكان. فليس من المعقول ان أُسلّم كنيستين أو ثلاثا لكاهن وأَرمي هذا الطالب بعد تخرجه في الشارع ولاسيما إذا كان محبا للمسيح وفهيما وشابا ناشطا.

سياستي ان تضيق الرقع الواسعة وان أُكثر عدد الخدام للهيكل حتى تُسمَع كلمة الحق في كل مكان ونحتضن أولادنا ونبني معابد جديدة. أكثر من كنيسة جديدة تنتظرنا. وبعضها أرضها عندنا (الحدث) أو اشتريناها (النقاش) والآخر سنشتريه لأن هناك مئات من العائلات لا راعي لها. تذكروا قول الله: «اضرب الراعي (أو أَلغِ الراعي) تتبدد خراف الرعية». ويرزق الله الكاهن الذي ضاقت رقعته وتكون نفسه قد كبرت لأن أخًا له يكون استلم مكانه بجدية.

إلى هذا نواجه اليوم قضية شيخوخة الكاهن الذي يحتاج إلى زميل مساعد. نحن لا نريد ان يترك احد كنيسته الا إذا تعذرت عليه الخدمة جسديا. ولكن لا بد من ان يزامله كاهن آخر أو شماس وان يقبل هذا بمحبة.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

الإناء وعطره / السبت في 12 تشرين الثاني 2005

يعاني المؤمن هشاشة نفسه كل حين اذ يرى جمال الله دوما فيحس انه لم يدرك هذا العلو الذي دعي اليه. فهذا العلو وعد ولن يحقق كله في هذه الدنيا اذ لا ينزل من الوجه الالهي الا انقشاعات تلطف بنا ما دامت ويعزينا رجاء عودة مثيلاتها في الايام المرجوة.

وما كشفته الخبرة الروحية من هذا اكده الوحي على لسان الرسول: “ولنا هذا الكنز في آنية خزفية” (2كورنثوس 7:4). فالذهب يضاد التراب. والتوّاقون الى التوبة يرون الاثنين معا، يرون الذهب في وجه الله والتراب في كل كيانهم ولكنهم يعرفون واجب وضع الذهب في الآنية الترابية التي هي هم حتى يطرح الرب عنا الطين في اليوم الاخير.

وعلى ترابيتنا نؤمن اننا خلقنا على صورة الله بحيث يكون لنا بهاؤه مرسوما فينا كما يكون الشمع مطبوعا بالختم. غير ان الختم يدلهم احيانا كثيرة ويكاد يختبئ. ان تركيبتنا الطبيعية على صورة الله لا تضمن بقاءنا احرارا من الخطيئة لان الكتاب نفسه يؤكد الشبه في المنطلق بيننا وبين الله كما يؤكد السقوط والسقوط قد يأخذ الانسان الى الدرجات الدنى منه. ومع ذلك يؤكد آباؤنا اننا في كل حال نلبث على صورة الله ونتوق الى ان نصير الى مثاله. ولكن حتى اذا احسسنا بالقربى وان النعمة تهبط علينا كثيرا ينبغي في آن واحد الا ننسى اننا نحمل هذا الجسد اناء خزفيا معرضا للكسر وان النعمة وحدها قادرة على جبره اذا انكسر.

وهنا لا بد ان نجتنب الخوف من الكسر اذ نحن مدعوون الى القيامة الاولى في هذا العالم المحققة بالتوبة. كذلك لا بد من اجتناب الاغتباط الذي يقع فيه بعض الاتقياء لكونهم يؤدون الصلاة في أوانها ويشعرون ان قلوبهم امست في حالة الطوبى. الخطأ ظنهم انهم لا يتزعزعون والويل لهم اذا وقعوا في الخطأ الاكبر اعني الاستكبار اذ يفنى عندهم، اذ ذاك، الفقر الى الله.

اما الخطأ الذي يتعرض له الضعفاء او الذين نستضعفهم هو ان يحسبوا انهم فقط آنية خزفية وان ينسوا الكنز الذي تحتويه. ذلك ان الخطيئة تسمرك ان انت حدقت بها كل حين وتجعلك احيانا تستصوبها فتنسى قدرة الله على ان ينيبك اليه ويضمك بحنانه.

واعلم ان الله عطر وانه يعطر الآنية التي انسكب فيها وانها اذا ما انكسرت فتذكر به والاصل العطر لا الإناء. غير ان بعض الناس شديدو الحس بوضعهم الخزفي كما ان بعضاً منهم شديدو الحس بالعطر الذي يحملون.
ليس الانسان قادرا على التشوه الكامل او البشاعة الكاملة. هناك دائما بصيص نور، حضور الهي في كبار المجرمين. لذلك هم قادرون على العودة. ولا يعلم إلا الله العائدين اليه. ان الشرق البيزنطي يقف بقوة ضد من يقول ان الخطيئة افسدتنا كليا. هناك دائما بذرة انبعاث وتجديد الخلق فقد اضحى الانسان بالمسيح خليقة جديدة وما سيكون في حالة البلورية الكاملة في اليوم الاخير انما باشر الله الآن وهنا عملية تبلوره وهذا هو الايمان العامل بالمحبة.

اجل الخلاص شيء جدي لا يتم الا بالعرق والدم ومكانه الصليب الذي منه تسير الى القيامة الكاملة بعدما ذقتها فيه. الخلاص غير مكتمل ههنا لتستريح فيه. لا، انت تكد وتكدح ولكن على الرجاء لأن الخطيئة شيء جدي لا بد من استئصاله. هناك خطأ اول ان تعيش في رعب الخطيئة كأنك بلا رجاء وهناك خطأ ثان ان تعتبرها امرا سهلا مرميا على نعمة الله ورأفته. ولا تعبأ بجسامتها. وقد راعني في حياتي الرعائية ان بعض المسترشدين لا يولون اهمية كبرى لمعاصيهم كما ان ناساً آخرين يستعظمون من ذنوبهم كأنها لا تفنى في طول الاناة الذي يحيطنا به الرب.

لماذا ترك الله الإناء خزفية على خزفيتها مع انه اجرى للانسانية الخلاص في يسوع المسيح؟ بكلام آخر لماذا لم ينه الله التاريخ عند الجلجلة حتى لا يبقى في بشري خزف؟ هذا سر لا يسبر غوره. لماذا لم ينقضّ الحب الالهي نهائيا ليحرق الخطيئة مع ان السيد ابطلها في جسده؟ يقول كولمن وهو احد اكابر المفسرين للكتاب ما مفاده ان الشيطان بعد موت المخلص يشبه عسكراً مهزوماً لا يزال يضرب سهامه مؤخر العسكر المنتصر.

لعل بقاء التاريخ مرده الى ان الله أراد ان نكون شركاءه في الخلاص بحيث نقوم نحن بدورنا فيه، بحيث نقبله. مثل على ذلك مائدة الطعام. هناك من يهيئه ويضعه على المائدة (هذا هو دور الله، هذا هو الخبز السماوي) ثم هناك من يأكل وهذا هو دور الانسان. انت لا تنشىء الخلاص وبهذا المعنى ليس لله شريك فيه ولكنك انت ترتضيه بالايمان ومكافحة الخطيئة. المعنى الاساسي للزمان ان تأتي البشرية كلها معاً الى الخلاص الذي تم. ربما كانت الأزمنة في تعاقبها ومكاشفتها وما قالته تؤتي الانسانية النضج. هذا لا شك فيه على مستوى الثقافة. ولكن على مستوى القداسة لا يعطي تقادم الزمان شيئاً. نحن في الجهل الكامل لحكمة الله في هذا الباب.

ولكن اذا اعتبرنا الانسان الفرد وليس الانسانية بأكملها فماذا يعني له زمانه؟ انت تفهم فائدة العمر للنضجح أعني فائدة الخبرة وعند بعض تكون التوبة اوضح أو أعمق ولكن ليس ذلك بالضرورة فقد ترى الحقد والبغض والتسلط وما اليها كبيرة عند الشيوخ. لماذا طال العمر ربك وحده يعلم. انت عليك ان تفيد من الوقت لتطلب لنفسك السلام.

عند الأسقام والضعفات والهبوط النفسي في سن متقدمة ترجو من ربك التواضع الذي لا يحل عليك الاّ من بعد انكسار. ربما كان من الضروري ان يرضّ هذا الجسم ليدخل الى النفس شيء من السلامة أو شيء من الطراوة اذ القسوة رهيبة في كل حال. والقسوة تحطم الآنية الخزفية الى ان تجبرها وداعة يسوع والذين هم له.

هناك جروح لا تندمل. مع هذا قال غير كبير عندنا ان الذي ارتكب خطيئة تكون هدايته عظيمة. طبعاً لست في حاجة الى ان أبين ان هؤلاء الأباء لم يدعوا الى الارتكاب ولكن دعوا الى الافادة من السقوط اذا حصل. ذلك ان الوجع الحاصل لك من الذنب يبكيك ويرض عظامك. طبعاً ليس حسناً ان تكسر الآنية ولكنها عند تحطمها يذكر الانسان انها كانت تحوي عطراً الهياً فينسى ما تكسر ويبقى على ذاكرة العطر.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

المسامحة/ الأحد 6 تشرين الثاني 2005 /العدد 45

أن تسامح الآخر بوجوده، الا ترفض خصائصه وما يختلف فيه عنك هو الإقرار بأن الله سمح له ان يكون كما هو كائن أي قد يكون أسوأ مما تتمناه له ان يكون. ولكن الدنيا هي هكذا وفيها الناس كما خرجوا من بطون أمهاتهم وكما نموا في مجتمعهم وحسب خبراتهم العديدة.

ان يكون كما هو يجعلك تتوقع ان يتصرف كما عرف ان يتصرف وقد لا يروقك هذا. وأنت لا تكتفي بقبوله على الرغم عنك، ولكنك ترتضيه على رجاء إصلاحه، فالبشرية لوحة كل لون فيها مختلف عن الآخر، وارتضانا الله جميعا مختلفين إذ نحن أحرار وليس مِن قالب يتقولب البشر فيه. فإذا قبلت الآخر تكون قد قبلت ارادة الله في عبيده، وارادته التي لا نسبر غورها هي التنوع.

الشيء الذي ينتج عن القبول ان تتعاون مع الآخر إذا كان قريبا منك، اعني إذا كان في بيئتك أو اضطرتك مهنتك على التعاون. طبعا لا بد لك ان تعرف ان كان مستقيما أو سارقا، صادقا أم كذوبا. لك حق في الا تتعامل وإياه في مهنتك. المعاملة في دنيا العمل لا تضطرك على عشقه، وأنت تبقى في الاستقامة والصدق.

المسامحة تقضي بألاّ تقتل الآخر لأن المسيح حاضر في كل من تعامله، ولأن الذي أعطى الإنسان الحياة هو وحده الذي له حق استردادها. معنى ذلك انك لا تغضب أبدا فالغضب مصدر الشتيمة والضرب فالقتل. ومعنى ذلك ألاّ تحقد وان تبقى رفيقا بهذا الذي تعامله لأن الرفق جانب من جوانب المحبة القادرة على كل شيء.

من مظاهر المسامحة ان تتقبل في الرضاء الذي ليس على دينك ولا من كنيستك، فالناس هم حيث هم دينيا منذ ولادتهم، وعليك أن ترحمهم وألا تهزأ بمواقفهم الدينية، وإذا جادلت ففي احترام كامل. لا توافق باللسان على مواقف لا تقبلها كنيستك، ولا تتملق ولا سيما أنك قد لا تكون من العارفين بما هم عليه من معتقدات.

وبلدنا مجتمع متعدد. فأنت تواجه ولا تتحدى. وتفرح في أعيادهم وللفكر الصالح الذي هم عليه، وتتحفظ حيث ينبغي ان تتحفظ. ولا تجادل كثيرا، وان جادلت فبالحسنى إذ علينا ان نرعى المودات وان نقيم معهم وحدة إنسانية بعد ان تعذرت الوحدة الدينية أو المذهبية بيننا.

أنت لا تثأر من احد ولا تتعاطى النكاية أو الكيد، وقدِّم خدمة حيث استطعت لأن الخدمة تليّن القلوب. وإذا مرض من قررت ان تقربه منك، فأن تعوده يقرّبه منك ان لم يكن من الشرسين. وربما زالت عداوته لك إن رسب فيه شيء من العداوة. أَحرق سيئاته بمحبة واضحة، فاعلة. اذكرْ قول المعلّم: «مَن لطمَك على خدك الأيمن فحوِّل له الآخر» أي بَدّدْ عداء نفسه بلطف غير محدود. حافظ على مكانته وصيته وامدحه في غيابه إذا رأيته صالحا إذ يتشجع بهذا فترقى أخلاقه. ولو افترضنا انه بقي شريرا فاذكر قول السيد: «أحبوا أعداءكم، باركوا لأعينكم» لأن المبتغى ان نكون بالمحبة على هذه الأرض بدءا لملكوت الله.

السماحة من قبلك تصير تسامحا متبادلا بينك وبينه ويكون الله الجسر بينكما. هذا يكون انتصارك على نفسك ودعوة إليه ليدخل في نطاق المسيح.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

أشياء تخضّنا / السبت في 3 تشرين الثاني 2005

قد لا تجد في هذه البقعة العربية بلدا مثل لبنان يتشابك فيه الديني والتاريخي والسياسي بحيث لا تعرف قدر السياسة وقدر الايمان وما يخالطه من تعصب في هذا الانسان او ذاك. ولعل هذا ينسحب على الطوائف جميعا. قد يختلف مقدار التلاقي بين هذه العناصر من طائفة الى اخرى. قد تكون احدى المجموعات ادنى الى الالهيات الصافية او الاخرويات وقد تتساوى النخب في معظم الجماعات بضعف ديانتها واقبالها على الشأن الدنيوي. وهذا يجعل الرعاة الادنى الى الروحيات منهم الى الدنيا في حال ضيق وحزن وهذا يجعلك في اصطفاف مع ناس لا علاقة لك الا بما هو خارجي عندهم وكأن في كل طائفة حزب الروحيين وحزب المسيسين ومن هم في منزلة بين المنزلتين وقد يأتيك الزمان بمن يبتر قسريا وقانونيا بين هذه المجالات.

المشكلة في لبنان انك لا تستطيع ان تسمي الاشياء باسمائها الا اذا انتقدت طائفة وكنت منها. لا احد يعتقد انك قادر على ان تقوم بدراسة انثروبولوجية (اناسية، اقول) او اثنولوجية او سيكولوجية لاي عنصر مجتمعي في هذا البلد اذ تقول عنك كل الناس انك منحاز او مسيس اذ لا يتصورونك الا انفعاليا اذا تكلمت على الآخرين. مرة سألني احد لماذا غمزت من قناتي في العظة. اجبته هل اعرفك انا؟ قال لا. ثم اردفت قبل دقيقتين وانا مغادر طرح علي سواك السؤال نفسه. السبب يا ابني ان كلمة الله هي التي مستك ومسته. كثيرا ما يطرح على الاصدقاء سؤالا عن مقالاتي في “النهار” قائلين من قصدت وأشتم انهم لا يصدقونني عندما اقول لهم لا اضع صورة احد على مكتبي لاكتب عنه مرة واحدة. في الحرب كتب شاب ماروني صفحة كاملة في احدى الصحف عن الارثوذكس اخطأ فيها مرة واحدة في الوقائع ومرة اخرى في التفسير او الرؤية وكان المقال علميا وهنأت الرجل. طبعا الارثوذكس اقلية لا تنافس احدا وانا لا اعرف مطامعها او حتى طموحها ولكنها ليست بالضرورة “مهضومة” وانا عليم بعيوبها وبالتحليل التاريخي لعيوبها.

غير ان الطوائف الكبرى الالصق بالفعل التاريخي هي المدعوة الى ان تنقد نفسها او تنتقدها. سمير عطاالله وهو من أكتب الصحافيين وأثقفهم اجترأ ان ينتقد الموقف الماروني من مقام رئاسة الجمهورية لكونه مارونيا. اظن اننا نحتاج الى ماروني عميق الروحانية ومتجذر في تاريخ كنيسته ولبنان، صافي الذهن وهادئ القلب كلما يقول المتصوفة الارثوذكس ليبين لنا السبب ليس فقط التاريخي ولكن الروحي للمسالك السياسية عند الموارنة. غير الموارنة يجب ان يصمتوا عند ورود هذا الموضوع.

يعسر موضوعيا ان يوحد المسيحيون موقفهم لو تسيس المسيحيون غير الموارنة في مشاركة معقولة فيها شيء من التوازن وربما شيء من الجديد تحمله هذه الاقليات المسيحية، نوع من التناضح بين الموارنة وسواهم من المسيحيين فلا يأتي الفعل املاء من احد على احد. هذا يعني اننا مصلوبون معا وقائمون معا بلا احساس مرضي باننا ضحية احد. ان الصلاة من اجل وحدة المسيحيين يجب ان تلقي هذه “الشعوب” المسيحية في قراءة واحدة لتاريخها في لبنان والعالم العربي. واريد بذلك تاريخها المدني.

غير ان هذا لا يعني بالضرورة ان المسيحيين مدعوون دائما وفي كل مناسبة الى اتخاذ موقف “مسيحي”. ذلك اننا لسنا معا في مواجهة المسلمين او تلاقيهم. قد يوثر بعضنا موقفا اسلاميا على موقف فريق مسيحي.

جل ما استخرجه من هذا التأمل ان يبرهن المسيحيون مرة اخرى انهم لا يبغون امتيازات لانفسهم بل يسعون الى تعظيم لبنان كله. غير ان الله منّ على المسيحيين بعد هذه الحرب انهم تخلوا عن كل رافعة اجنبية وهم لا يلازمون دولة كبرى او وسطى الآن وان التقت المصالح فلا مانع في بعض الظروف واريد بذلك مصالح لبنان. واذا تعلم المسيحيون ولاسيما الموارنة انه لم يبق لهم مجال ليكتسحوا البلد ففي المنطق نفسه رجائي ان تتعلم كل طائفة كبيرة ان اكتساحها الصاعق للآخرين سيؤذيها. العدد من شأنه ان يؤذي. كذلك الشعور بالتفوق المالي او السياسي يؤذي. لا توازن بين الطوائف اذا استكبرت طائفة على اخرى.

ليس عندنا نحن المؤمنين بالله استقواء الا بالله. واذا استغنى في مجموعتك بعض فعلمهم على محبة الفقراء ولا تجعل هذا الغنى يصير مالا سياسيا لان هذا باب التسلط وافقار الآخرين والتفسخ الجديد اعني التفسخ بين الطوائف فديمومة الصراع والعجز دون الوحدة الوطنية التي تقوم على العدالة بين الطوائف تخل بالتوازن. هذا افظع بكثير من ظلم الطوائف في توزيع المناصب. هذا دائما يكون قليلا وهذا لا يحدث فقرا اجتماعيا.

اظن ان المسيحي اقتنع بان ليس له رافعة خارجية لعلمه ان الدول الغربية وعلى رأسها اميركا باتت علمانية ليس فقط بشكل مبدئي ولكن مسلكيا هي لا تتصرف بأي قربى عاطفية من المسيحيين ولا يهمها الا منافعها وهذه تؤمنها الدول الاسلامية الى جانب اسرائيل. المسيحيون العرب اخرجهم الاميركيون من الدور السياسي وترك لهم الاوروبيون مكانة شعورية لا تحسم شيئا خارج التحرك الاوروبي في الملعب الدولي. اذا كان تحليلنا صحيحا هذا يعني ان المسيحيين ليس عليهم ان يأخذوا درسا لا في الوطنية ولا في القومية. فالدور المسيحي اصبح كبيرا خارج الصفوف المسيحية من حيث انه دور تجميع القوى الوطنية في لبنان الواحد. العزلة لا تهدد المسيحيين اليوم، نحن اليوم امام دعوة الى المعية التي تعني الا يقوى احد منا منعزلا عن الآخر او على حساب الآخر. ليس التوازن ان تأخذ كل جماعة حقوقها كما هو منصوص عليها في الطائف ولكن ان تقوم بما عليها لتتلاحم في ما بينها في الخدمة والعطاء الثقافي والانتاج الاقتصادي. هذا هو التوازن الجديد، توازن واجبات الجماعات.

في الحياة اللبنانية العديدة عناصرها الدينية والمتواجهة في تأريخها كيف نحقق وحدة المسيرة؟ انت لا تجعل مستقبلك رهينا لماضيك بل تنظر الى مستقبل واحد لشعب لبناني موحد الحركة اي مهيأ في وحدة تطلعاته الجديدة بحيث لا تبحث عن ايام المسلمين الآتية ولا المسيحيين الآتية ولكنك تبحث عن نشوء امة واحدة بالعمل المشترك.

قد يتضمن هذا الكلام مفهوما لم نألفه في لبنان وهو العيش المدني وليس فقط الحكم المدني. كل ما هو مجتمعي انا اشطرك فيه واحدا معك وليس لاحد منا انتماء طائفي بمعنى التحرك السياسي. ديانتي واخلاقي وتراثي الروحي فاعلة فيّ وآتي منها جميعا لاخدم هذا الوطن معك بلا امتياز لمجموعة ولكن بضمان الكل للكل، بتماسك الكل.

هنا ينبغي ايضاح العيش المشترك بقولنا انه عيش مدني مشترك لا يتراكم فيه الواحد والآخر ويبقى كل منا على موروثه. اعني ملازمة الموروث وترجمته سياسيا. وهذه هي العصبية. كل ما امكن ان يكون مشتركا اي ما كان خارج العقيدة الدينية والعبادات نقوم به معا او لا يكون. وسعوا حلقات المشاركة في المجتمع المدني لتظهروا امة واحدة ناحتة لأيامها الآتية.

Continue reading