Monthly Archives

January 2012

2012, مقالات, نشرة رعيتي

هيكل الله/ الأحد 29 كانون الثاني 2012 / العدد 5

بعد أن فصل بولس بين المؤمن وغير المؤمن في الرسالة الثانية الى أهل كورنثوس، وصل الى القول: «انتم هيكلُ الله الحيّ» مشيرًا الى أن الله لا يسكن في هياكل مصنوعة بالأيدي، والى تخطّي هيكل اورشليم. يؤسس هيكلية المسيحيين الحيّة على وعد من العهد القديم: «سأَسكُن فيهم (اي في الشعب المختار) وأَسيرُ بينهم وأَكون لهم إلهًا وهُم يكونون لي شعبًا». هنا لا يقول ان كل فرد مسيحيّ هيكل الله ولكن الكنيسة، مرتبطة افرادها بالنعمة، هي هيكل الله.

كلام بولس مأخوذ من سِفْر اللاويين: «وأَسيرُ بينكم وأكون لكم إلهًا وانتم تكونون لي شعبًا» (26: 12). وكذلك هذا الكلام مستند الى حزقيال: «ويكون مسكني فوقهم وأَكون لهم إلها ويكونون لي شعبا» (37: 27). يستنتج بولس من هذا أن اخرُجوا مِن بينهم (اي من بين الوثنيين) واعتزِلوا. ليس القصد من هذا التقوقع الاجتماعيّ وتأليف طائفة معادية للوثنيين، ولكن المقصود أن تنفصلوا عن نجاستهم، وإذا أَدركتم هذه النقاوة تكونون لي بنين وبنات. فكرةُ أنّ الله أبٌ موجودة قليلا في العهد القديم. ثبّتها يسوع وتُوضحُها الصلاة التي علّمَنا إياها «أبانا الذي في السموات».

موعد أن نكون بنين وبنات للرب مشروط بأن «نُطهّر أنفسنا من كل أدناس الجسد والروح». غالبًا ما يريد بدنس الجسد الشراهة والسُكر والعلاقات الجنسية خارج الزواج. أدناس الروح تتضمن كل الشهوات المؤذية التي لا علاقة لها بالجسد (الكذب، البغض، الأحقاد، الخبث وكل ما يصدر عن النفس ويؤذي الآخرين).

وإذا عملتم هذا فهذه هي القداسة مقرونة بخوف الله. يطلب الرسول أن نكون قدّيسين كما أن الله قدوس، منزّهين عن كل شر أو شبه شر.

كلمة «قديسين» لم تكن في الزمن الرسوليّ تدلّ على الذين صاروا في السماء وطوّبتهم الكنيسة. إنها تدلّ على كل المعمّدين الذين رجا بولس ألاّ يُخطئوا بعد المعمودية لأنها عهد مع الله وارتباط به جدّيّ.

تتميّزون أنتم بنوعية الحياة الجديدة. انتم في سلوككم تُصبحون على مثال الله وإن كان لا مفرّ من الهفوات. النقاوة الكاملة قبل حلول الملكوت هي شيء نرجوه ونعمل له، ولكن ليس من إنسان لا يخطئ. مع هذا يُصرّ بولس على أننا بتنا خلائق جديدة وأننا بالمعمودية قائمون مع المسيح الآن وليس غدًا. عند بولس حياتنا السماوية تبدأ هنا، وليس من ثُنائية بين سلوك أرضيّ وسلوك في الملكوت. «ملكوت الله في داخلكم». ليس عندنا من تفريق بين الحياة الدنيا والحياة المُقبلة علينا بعد الموت. كل وجودنا مملوء بالمسيح منذ اليوم. حُبّنا للمسيح يُنزل علينا حبّه لنا. وهكذا نكون معًا هيكل الله الحيّ.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

النور الذي لا يُدنى منه / السبت في 28 كانون الثاني 2012.

كل ما اختلج فينا من فكر او رغبة او شهوة اما ان يكون استدخال كل شيء الى الذات لتحيا او إخراج الذات لتستمتع. كل ما فينا علاقة نحيا بها او نموت فيها فإذا دخل الخير او المحبة نكون وإذا دخل الملل او دخلت الخطايا نتفتت. نحن في تحرك الى زيادة وجود او اقتراب من الموت. ما من جمود في الكيان. هناك هدأة الفضيلة ان شئناها او هناك التدرج الى اللاشيء والاندراج في العدم حتى يرى الله في يوم دينونته ان كنا تحت الإدانة او كُشفنا في اللامحاكمة. هو لا يحاكم الا اذا رأى فينا سوءا ولذلك كان السعي عند الجادين ان يتحرروا من المحاكمة منذ البدء حتى يتحولوا في وجه ربهم الى قامات من نور.

«الله نور السموات والأرض». يراك مثله او يراك ظلمة. وإن أصررت في اليوم الآخر الا تكون مثله يتكثف فيك الظلام وكأنك أشبه باللاشيء. اما إذا أحببت نوره الذي فيك تصبح لغة، لغة الله فيناجيك الأعلون في المجد اذ صرت من المجد.

طبعا ليس نور الله كالنور الحسي مخلوقا اي ليس شيئا من الأشياء. هو منه قبل ان تكون الأشياء. يجيء منه ولا تدركه اذا نزل عليك اي لا تدركه بالعقل لأن العقل مخلوق والجوهر الإلهي غير مخلوق ولكنك تشارك القوى الإلهية الصادرة عنه.

ما الفضائل او أين الفضائل من هذا الكلام اللاهوتي؟ هي ليست أعمالا. انها صفات أعمال بمعنى انك اذا أتممتها تكون حقيقتها النور الإلهي الذي فيك. هي إذًا إشعاع من النور الإلهي. انت نيّر ونتيجة ذلك انك بارّ بحيث انك تساهم في برّ الله وبمعنى ما تجالسه. وإذا كثرت فيك الخطيئة فهي في ظاهرها عمل او تراكم سيئات ولكنها في حقيقتها ظلام اي طرد لله نفسه من نفسك لتغرق في ادلهمام ما ليس من نور.

في السلوك العلاقة ليست بينك وبين اعمال لك. هذا هو الظاهر. انها علاقة شخصية بينك وبينه. هو يستقر فيك نورا او تتهالك في العتمات فلا ترى وجهه. أنت دائما تعود الى بدء الضياء او الى بدء العتمات فيك. فإذا كنت في دوام العودة تكون كالكلمة الذي قال عنه يوحنا: »في البدء كان الكلمة«. وكما عبر الكلمة عن الله أزليا بصورة كاملة تأتي فضائلك لتقول الكلمة. فأنت ان استنرت لا تقول الا المسيح. وان انطفأت لا تقول شيئا. يديم الله عليك صورته وان تشوهت ليخاطبك في يوم رضاه ويزيل عنك العتمة ويرسل اليك إحسانه فضيلة فتتحرك به من جديد وتناغمه بنغمة منه.

#   #

#

أن تكون هادئا، مسالما، صابرا، وديعا، متواضعا، عفيفا، مطيعا للأحبة هذا شيء واحد. طلبا للإيضاح او الاستيضاح نقول: هذا يتمتع بهذا البهاء او ذاك تميزا للظاهر وتعبيرا عن هذه القوة او تلك فيك ولكن في الحقيقة كل الفضائل متماسكة كما ان الرذائل متماسكة. بكلام آخر اذا حلت النعمة عليك فهي توحد شخصيتك وتضم حسناتك الواحدة الى الاخرى فيقوى مثلا التواضع بالوداعة والصبر بالهدوء وتتتشدد بالمسالمة. وما يبدو فيك فضائل هو في حقيقته حضور إلهي فيك.

كلامي هذا يقودني الى التأكيد ان الطهارة واحدة في كيانك وانها قادرة ان تعود بالرضاء الإلهي لأن الرب ليس بغافل اياك ولا هو يتوارى عنك بالكلية اذا انت ألححت ان تتوارى عنه لأنه يحبك اكثر مما تهوى خطاياك. لا يوضع المحب البشر كما نسميه بموازاة مع الخطيئة التي يمكن ان تمحوها الرحمة. غير ان مكافحة الخطيئة تتطلب ترويضا رهيبا غير منقطع لأنه إماتة شيء ضخم وهو الخطيئة.

وهذه لا تموت الا عند نزاعك اذا أهل الله في آخر لحظة من وجودك سلامه فيك. في هذا جاء في أدبنا الروحي: لما كان القديس سيسوي (ساسين بالسريانية) يحتضر تحلق حوله الرهبان الذي كان يرئسهم فقالوا له: «يا سيسوي اعطنا كلمة حياة». أجابهم: «انى لي ان اعطيكم كلمة حياة ولم أتب بعد». هذا البار الكبير كان يخشى انه لم يتطهر بصورة كاملة وانه تحت الحكم الإلهي. صراع لا بعده صراع يومي في النفس حتى يتسرب النور الينا ويملأ القلب في لحظة الرضاء لتستطيع ان تموت بهناء. لحظة الرضاء الإلهي نتهيأ لها بفضائل لا رجوع عنها تجلب علينا كثافة من نور. الحضور الإلهي تطلبه وليس الله ضامنك به الا بوعده. اما ان استلمت صادقا متواضعا هذا الوعد الإلهي فلا تعرف عنه شيئا الا في اليوم الأخير اذا تلفظ المسيح بهذا الكلام: «تعال يا مبارك أبي رِث الملكوت الذي أعددته لك».

هو معد لك قبل إنشاء العالم. هل تؤمن بذلك هل أحسست انك حبيب الله؟ انت تمشي في كلام الله وتعرف بالإيمان ان المسيح تنازل اليك ولكنك لا تعرف كل المعرفة انك استقبلته. لأن الله وحده «يفحص القلوب والكلى بعدل».

انت تعيش في الرجاء والرهبة معا يداخلهما الفرح اذا كنت مجاهدا مصلوبا اي باكيا على خطاياك سائلا النعمة المجانية التي تخلصك. كلمة الله اليك شيء واذا استقبلتها فأمر عظيم. انت تستقبلها اذا انكسرت وقبّلت قدمي المصلوب ومسحتهما بدموعك. قبل ان تتسلق تلك الجلجلة انت مجرد طاقة. يبدأ وجودك هناك.

واذا ادركت جراح المسيح تذهب الى الإخوة وتبشرهم بحبه علهم يتوبون لأنك ان لم توزع حبه عليهم لا تراه في نفسك ولا هم يخلصون واذا بكوا معك لأنهم احسوا بسقوطهم تتألف منك ومنهم كنيسة الرب.

هذه ستبقى حفنة صغيرة ولكن الآب يتمجد بها. دائما كان الخطأة التائبون القطيع الصغير الذي اذا فهم ان المسيح وحده حصتهم يناله بالبركات. هذا هو السلام الكامل الذي يجعلك تنقاد الى المخلص انقيادا كليا ويتفعل إيمانك فيك بالرجاء.

الرجاء وحده يمدك الى لحظة الموت الذي هو مدخلك الى الرحمة. عش من اجل لقاء الموت. هذه قيامتك منذ الآن. ان فعلت هذا ينسى الرب كل هفواتك ويغض النظر عن كل تقصير لك في حياتك ويكملك بالغفران فترى نفسك محضونا.

احتضانه هو النور الذي كنت تنتظره. في حضنه ينسكب النور عليك كاملا ويكون ربك قد رضي وأخذك على صدره لتفهم الفهم الأخير.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

تيموثاوس / الأحد 22 كانون الثاني 2012/ العدد 4

تيموثاوس هو الابن الروحي لبولس ومندوبه الى أفسس ليخدم فيها. كتب اليه هذه الرسالة الأولى من مقدونية، وفي سجنه الأخير كتب اليه رسالته الثانية. يمكن اعتبار تيموثاوس أُسقفًا على أفسس، والرسول مُشرف على الأسقف في المنطقة التي وضعه فيها. بهذه الصفة الأبوية أخذ بولس ينصح تلميذه فيقول له: «لا يستهن أحد بفتوّتك» إذ كان المؤمنون يوقّرون، بخاصة، الرئيس الروحي اذا كان شيخًا، والكهنة سُمّوا شيوخًا في العهد الجديد. ثم يطلب أن يتحلّى ببعض الفضائل مثالا للفضائل كلها.

يذكُر «الكلام» أولاً اي الكلام اللائق العفيف، وغالبًا ما أراد ايضًا ان يكون تيموثاوس نموذجًا في حُسن الوعظ، وهذا ما سوف يذكُره بعد قليل.

ثم يذكُر التصرّف اي الأخلاق الحسنة. بعضها كلام، وبعضها سلوك، فلا تُعثر أحدًا بسلوك مُخلّ. العفّة، الصدق، الاستقامة جزء من هذا السلوك، والذروة هي المحبة، وعنها جاء قبل هذه الرسالة نشيد في الرسالة الأولى الى أهل كورنثوس (الإصحاح 13).

ليس عنده هنا ترتيب للفضائل اذ يذكر الإيمان بعد المحبة وهو مُنشئها. بعد هذه اللائحة يقول: «واظب على القراءة». يريد بذلك قراءة العهد القديم وما كتبه هو من رسائل إذ لم يكن الإنجيل قد دُوّن بعد. ثم يُلحّ عليه أن يعظ وأن يُعلّم. الوعظ هو في الخدمة الإلهية ولا سيما القداس. أمّا التعليم فليس له إطار مُعيّن. هو أمثولات منظّمة، متتابعة.

«لا تُهمل الموهبة التي أُوتيتَها بنبوّة بوضع أيديِ الكهنة». النبوّة تعني هنا أن احدًا لا يأخذ كرامة الكهنوت إلا بوحيٍ من الروح القدس. إن احدًا في الكنيسة يعبّر عن وحي الروح. وضع الأيدي هو الرسامة. في وقت قريب من هذه الرسالة نرى الجماعة كلها تنتخب الأساقفة والشمامسة. غالبًا أن بولس هو الذي رسم تيموثاوس بمشاركة كهنة أفسس.

بعد هذا الكلام، يجعل بولس هذه الفضائل رزمةً واحدةً ليكون تقدّم تيموثاوس ظاهرًا في كل شيء (ليضيء نورُكم قدّام الناس). ويطلب الرسول العظيم ان يعكف تلميذُه على هذه المواهب ولا يُهمل واحدة منها، وكأنه يقول إن لم تتزين بالفضائل كيف يمكن أن تستمرّ في الأسقفية، فهذه تكليف إلهيّ. كيف تستجيب لهذا التكليف إن كنتَ شاغرًا من الإحسان الإلهي؟ ماذا تعطي للرعية والناس إن لم يكن الرب ساكنًا فيك بالروح القدس؟

أيّ منّا له الحق أن يُذكّر كل عضو له رتبة إكليريكية بالواجب الذي يطلبه الله منه «حتّى لا يُجدّف على اسم الله بسببكم».

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الله محبة / السبت 21 كانون الثاني 2012

الكلام في ذات الله غير وارد في المسيحية الشرقيّة اذ يقول عنه كل تراثها انه فائق الجوهر وغير قابل للإدراك وإدراكه هو الوصول إلى جوهره واذا وصلت إلى هذا تصيره فيختلط الخالق بالمخلوق وهذا محال ومع هذا ينبغي ان تتصل فاذا انتفى هذا تنتفي الربوبيّة فبلا تواصل الرب ربَّ من يكون.

قبل ان نصل إلى التوحيد  يجعل افلاطون الإله «فكرة الأفكار» فيجعل لكل موجود مثالا أو فكرة في «السماء» ويأتي الله جامعا لهذه الفِكَر أو ذروتها. اما عند تلميذه أرسطو فالله هو علّة العلل ولكنه لا يتحرّك. التوحيد العبري ينقلنا إلى جو آخر يعبّر عنه قول سفر الخروج: «قال موسى لله: «ها أنا ذاهب إلى بني اسرائيل فأقول لهم: إله آبائكم أرسلني اليكم فإن قالوا ما اسمه. فماذا أقول لهم؟» (خروج 3: 13). فقال الله لموسى. أنا يهوه. في الترجمة اليونانية: «أنا الكائن». أعود إلى الأصل العبري لأن يهوه (الاسم الذي اتخذه الله) فعل مضارع وليس اسما ويعني «أنا هو من هو» أو أيضا: «أنا هو من سأكون» اي انه يعرّف عن نفسه بالحركة في شعبه. هذا ليس تعريفا للذات ولكن للعمل الالهي. بهذا المعنى قال الله لإبراهيم: «وأقيم عهدًا بيني وبينك… فأكون لك إلهًا» (تكوين 17: 17). ليس هذا كلاما عن الذات القائمة في جوهرها. انه حديث عن مرافقة الله لإبراهيم ضمن العهد في هذا السياق «فأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا» (ارميا 7: 23). وأمثال ذلك في حزقيال ولوقا والأعمال، والمراد بما ورد في ارمياء ان كينونتي لكم إلها اني التفت اليكم اليوم وغدا واذا عرفتموني الها لكم تصيرون لي. اي كما أنا متحرك اليكم بعنايتي ورفقي وحناني تصيرون أنتم متحركين نحوي بالطاعة. وحدكم بلا إله عاطف أنتم مجرّد جمهور بالمعنى المجتمعي ككل جمهور آخر وليس لكم كيان الا برحمتي. في عبارة شعب الله المضاف اليه الله. الله يُعرف في علاقته ولا يُعرف في ذاته. كل هذا يتكرّر بعبارات مثل إله إبراهيم واسحق ويعقوب أو إله اسرائيل أو إله الجنود أو إله آبائنا.

#   #

#

في سلوك الله مع شعبه تفهم صفات الرب (بار، عادل، مقتدر، راعٍ، عريس، أب، أم). كل شيء يقوم به الله علاقة. حتى صفة «الخالقية» صفة علاقة اذ يفتتح سفر التكوين بقوله: «في البدء خلق الله السماوات والأرض». لعلّ من أفصح ما قيل عن الله انه «أبو ربّنا يسوع المسيح» (أفسس 1: 3 و2كورنثوس 1: 3). هذا تعريف حركي أيضًا.

هنا نواجه ما يمكن اعتباره لأول وهلة وصفًا لله وهو قوله: «الله محبة». في رسالة يوحنا الأولى الجامعة بعد ان يقول: «المحبة من الله سيقول: الله محبة» 4: 8.

زعمي ان المحبة ليست صفة من صفات الله. هي اسمه. هي اياه. انها تعطي مضمونا لكلمة الله وتعبر عن حركته بالمسيح وبالقداسة.

المحبة هي البداءة في الآب التي منها جاء الابن والروح القدس الآب هو الكائن قبل الأزل وهو مع ابنه وروحه في وحدانية هي المحبة. والوحدانية عمق الإله وليست رقما ولا يقع عليها الحساب. المحبة هي الوحدانية المتحرّكة التي تحيي البشر والله لصيق بالبشر منذ خلقهم وهم به يقومون اذا أحبوه من جهة وأحبوا بعضهم بعضًا. فاذا سكنوا فيها يكونون سالكين في الله فلا يعوزهم الا ان تسكنهم ويسكنوا اليها فتزول الهوّة بين السماء والأرض.

ولكون المحبة كاملة يلغي الله الآلهة الكاذبة التي اصطنعتها شهوات الإنسان. وهذه هي الصنميّة بالذات انك تعتمد شهواتك مصادر للحياة فتصبح أوثانا قتالة فتقول مع نيتشه «الله مات» وهو الحيّ القيّوم الذي يحيي الوجود.

ولكن حياة الله المتجددة فيك تقتضي ان تحارب الآلهة الكاذبة التي قبلت أنت ان تتكون منها وهي تزرع الموت الروحي فيك لأنها تمنعك عن المحبة.

هذه اذا ذقتها حقا تصبح عشير الله. نحن في معاشرته في الكلمة التي ينطق بها فينا فنصبح اياها وتصبح ايانا فاذا بمعاشرتنا الله نغدو روحا واحدا معه كما يقول بولس ولا نبقى مشتهين لغير وجهه هذا الذي ما تقناه ترتسم علينا أنواره.

اذا فهمت أنت ذلك تبطل الصفات الكاذبة التي نسبتها الأجيال إلى الله عن طبيعة سلوكه مع شعبه وتبدأ بفهم المحبة النازلة عليك وتنفي عن الله كل ما يناقضه. لا تبقى أسير كلمات مألوفة تنتج فيك الموت الروحي لا تنظر إلى الله معاقبا كشرطي أو باعثا اليك بأمراض أو قاتلا اياك بحادثة على الطريق.

أنت تموت بسبب من الخوف. والخوف يجعل الله عدوّ الحياة. الحياة في معناها الجسدي والروحي هبة من الله ليس فقط منذ خلقه ايانا ولكن باستمرار محبته جيلا بعد جيل.

إلى هذا ليس الرب ما يصوّره الانسان. هو يصوّر الانسان. ولذلك الخطأ في ان نرى إلى صفات البشر السيئة ونعكسها على الله كإرادة الموت. أنا اعرف ناسا ينسبون اليه تصميم اذى حل بهذا أو ذاك. الله لا يؤذي أحدا ولا يدخل جرثومة في انسان. كل ما يصدر عنه خير وصلاح وحق وإحسان.

الرب نقي ويجب ان تنقّي عقلك من كل ما يسيء إلى اقبالك عليه لأنك لا تكون قد استمتعت بالمحبة التي تنزل عليك منه.

كلّ ما عدا المحبة مملكة الخطيئة «وأجرة الخطيئة هي موت». أقصِ عنك الموت بالمحبة لتصير ابنا للنور فالمحبة وحدها ترميك على النور.

قرّر صادقًا الا يصدر عنك ما يحرج المحبة فيك وفي الاخرين. هذا هو الضياء كله بعد هذا لا تسأل عن تعب يداهمك أو عن تجربة تغريك. المحبة تغسل كلّ السيئات الصادرة عن الفساد الذي يحيط بك وعن الفاسدين.

أحبب هؤلاء أيضا واغفر لهم لأنهم اذا ذاقوا الحب الإلهي المعطى لهم منك يكتشفون شيئا لم يحلموا به من قبل. هناك إمكان لإنسانية جديدة ينزل أهلها بيننا من السماء.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

الأخلاق عند بولس/ الأحد 15 كانون الثاني 2012 / العدد 3

بدء هذا الفصل «متى ظَهرَ المسيحُ حياتُنا» يدلّ على المجيء الثاني. ينتج من هذا أنكم أنتم أيضًا تظهرون معه في المجد بعد قيامتكم من بين الأموات. المجد هو أن تسكن فيكم قوى الله غير المخلوق، القوى الأزلية التي تسطع من جوهره. ولن تصيروا إلى المجد إلا بإماتة «أعضائكم التي على الأرض». هذه عبارة من بولس يريد بها أن الخطايا هي كأنها جسم داخل أجسادكم. يشبّه الرسول الخطايا في مجموعتها إلى كيان غريب متّصل بعضه ببعض.

بعد هذا الكلام يذكر بعض الخطايا، بعضها متعلق بالجسد أو يُرتكب في الجسد، وبعضها قائم في كل الكيان البشريّ مثل ما يُسمّيه «الشهوة الرديئة». ولكنه يُخصّص مكانةً للطمع بالمال أو بأي شيء يملكه الإنسان مثل حب السلطة، ويشبّه الطمع بعبادة وثن.

ويذكر أن هذه الخطايا ينزل على أصحابها غضبُ الله، ويؤكّد أنهم بعد أن تركوا عبادة الأصنام تركوا أيضًا المعاصي التي تسوق اليها عبادة الوثن. ثم يرى أن لائحة الخطايا التي ذكرها يجب أن تكمل فذكر الغضب والسخط…الخ. وينتهي بذكر الكذب وقليل ذكره في الكتاب بعد أن قال الرب: «ليكن كلامكم نعم نعم ولا لا»، لأن ما في القلب يجب أن يكون على اللسان، وليس عندنا نحن المسيحيين ازدواج أو فصام في الشخصية. لذلك كان الصدق قاعدةً عندنا أساسية.

هذه الخطايا وغيرها اذا أصابت الإنسان يبقى الإنسان العتيق كما كان قبل المعمودية. ثم إزاء هذا الإنسان العتيق الإنسان الجديد، وقد استعمل الرسول هذا المعنى بقوله: «أنتم الذين (أو يا جميع الذين) بالمسيح اعتمدتم المسيحَ لبستم». هنا الإنسان يتجدد للمعرفة ويعني بها معرفة الله، المعرفة الحميميّة التي تجعل تداخلا بينك وبين الخالق بواسطة المسيح.

وبسبب من الاختلاط في كولوسي بين التيّارات الدينية المتأثرة بعضها باليهودية، وبسبب ما سمّاه الرسول الفلسفة، رأى أن يقول لمؤمني كولوسي: «ليس يونانيّ ولا يهوديّ»، وكان الجنس اليهوديّ يبغض اليونانيين والأُمم بعامة ويستعلي عليه. أما عبارة «ختان وقلف» فتعني الشيء نفسه. ما يدلّ على الوثنيّ في العقل اليونانيّ أنه غير مختتن، وفي المسيحية لم نبق متعلّقين بهذا، وليس عندنا فرق بين المختون وغير المختون. كذلك «البربريّ» اذا آمن فله الكرامة التي كان يعتدّ بها اليوناني. «الإسكيئثيّ»، وهو من شعب كان ساكنا في شرقيّ أوروبا، وهذا يدخل الخلاص كالشعوب كافة. كذلك لم يبقَ من فرق بين «العبد والحُرّ». فمع أن العبودية في عصر بولس كانت باقية في الشرع الروماني، الا أنها ليست دونيّة. والعبد كالحُرّ يشترك في الخلاص. قبل إلغاء العبودية في التشريع المدنيّ كان للعبد في الكنيسة الكرامة التي كانت للحُّر. المهم أن «المسيح هو كل شيء وفي الجميع». لا فرق عنده بين الأجناس والأوضاع الاجتماعية والطبقات. الوحدة أعطاها السيّد بالخلاص الذي أتمّه بموته وقيامته.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الأعياد / السبت 14 كانون الثاني 2012

العيد كسر الزمان المكرور، خروج الي المطلق، الى المأمول، الى الفرح، الى مشاركة اهل الأمة احتسابا لما تصير اليه اذا عانقت الله. الثياب الجديدة واكل الطيبات صورة عن الجمالات الروحية التي تنزل علينا بالتعييد.

كل الشعوب على مختلف اعيادها تقطع زمانها المتكرر بأعياد. غير ان المسيحية أعطت العيد سعة ورحابة نادرتين. بادئ بدء تقحم الحياة الأبدية في كل يوم من زيام السنة اذ ليس من يوم واحد ليس فيه احتفال بما يتعلق بسيرة المسيح او قديس او مجموعة قديسين. وكل قديس مروية اعماله في كتاب يُدعى السنكسار تعود اليه ان اقتنيته كل يوم لمعرفة السيرة وتتقدس بها. من هذه الزاوية في كل يوم خروج عن زمنيته لتعود الى عظمة التقوى ووجوه البر الذي مارسه المُحتَفل به في عبادة ذلك اليوم. لا تطيق انت شبه اليوم بما يتلوه او يسبقه. تشد نفسك الى القداسة التي لا يحبسها زمان.

العيد اذا يمنحك حرية من يومياتك وايامك لتلتقيه، اذا تحررت من وطأة يومك تذهب الى يوم الذكرى التي تقيم. هذه مسيرة لك في التاريخ. تجعل الماضي حاضرا فيك وفي الجماعة. هذا ما اعتدنا مؤخرا ان نسميه تأوينا وهي ان تقيم الماضي في الآن الذي تحياه كأنه ليس بينهما زمان. وهذا ليس مجرد تذكر او تخيل. انت تعيش الماضي في الحاضر فلا يبقي في وجدانك ماضيا. انت تختبر الواقع اليوم.

هذا لا يمكن حصوله الا في تحرك روحي فيك. ولذلك كان العيد حدثا تذوقه الجماعة اليوم. جملةً، هذا يحتاج الى قداس او احتفال يشبهه. وتتوق انت الى عودة الموسم طلبا للتجليات في كل سنة. والاساس عندك ان عودة التجليات هي الوحدة التي تفوق الزمن اذ تأبى ان تستأخر الابدية.

#   #

#

الفرح مولد الفرح فكما كان العيد تلقيا يكون ايضا سباقا في الذوق لما يأتي اي كما كان تأوينا يصير ايضا اخرويا لأن الاتي هو الملكوت دائما فإن وجه الله سوف يطل عليك. اذ ذاك الأعياد حضور الله في الآن الذي يتجدد فيك وفي الجماعة.

انت تحيا الموسم مع الجماعة التي في تماسكها تتلقى المعنى الأبدي وتمتد الى المستقبلات التي تصير سماوية.

لا بهاء لعيد لا تكون مشاركا فيه بالتوبة فالموسم حاصل في القلب اذ القلب مكان لقاء الله والمواسم الله مضمونها او ليست بشيء.

هنا يختلف العيد الديني عن العيد الوطني او المدني بعامة فهذا اصلا مجرد انتقال بالذاكرة الى الماضي وحقيقته هي الحنين. اما الذكرى القائمة على الإيمان والتي تعيش بالإيمان فحقيقتها الذوق الالهي فينا فاننا معيدون بالنعمة. بكلام آخر الرب الذي فينا يعيد لنفسه.

#   #

#

ماذا يهدد الأعياد؟ غياب الله عن قلوب الناس يشوه الأعياد ويغير طبيعتها. عندما يصير عيد الميلاد عيد الأولاد او العائلة لا تبقى له علاقة بمولود بيت لحم. يكون جاءنا عيد آخر. ليس عندي اي اعتراض على عيد للأولاد او للعائلة ولا على سهرات هذه مع طيبات الطعام. أقول فقط هذا لا علاقة له بالميلاد. في الكتاب: »اسهروا وصلوا« (متى 26: 41).

لا تعرف المسيحية سهر اللهو سابقا للعيد. هناك أطعمة مرافقة للأعياد. هذا لم تمنع الكنيسة أبناءها عنه لأن الحياة المجتمعية العادية تحمل فرح العيد على الا يكون على الطعام التركيز. كل شيء جميل محاط بالخطر. لذلك يجب ان نحرص حرصا شديدا على ان تأتي علينا اعيادنا إلهية اي فرحا بالله وقديسيه حتى لا ينزل عليها اللهو سلطانا ويفسدها ويفسدنا بها.

#   #

#

أجيء من بيت بسيط ومتواضع يقيم الأعياد الكبرى والصغرى لئلا يفوته تقديس. والتقديس في هذه العائلة مكنون في الأيقونات وفي ترتيل اصولي رخيم ورثته امي عن والدها واورثته في الكنيسة.

الى ذلك كان والديّ يتلوان الصلاة الربية بما كان يُسمى في ذلك الجيل اللغة الروسية التي تعلمها فريق من ابناء كنيستنا المتواضعين وكان اولاد الأكابر كما نسميهم يدرسون على الفرنجة من الرهبان ونحن صغار القوم تأصلنا في مشرقية العائلة ولو تفرنسنا بعمق ما أتاح لنا ان نعبر بفرنسية بليغة عن تراث انطاكية عاصمة بلادنا القديمة وقلب المسيحية قبل فتح العرب لأراضينا.

ولدت في هذا الجو في البيت حسب الأعراف القديمة. وكانت امي ملازمة الفراش لما دخل عليها أبوها مرة بين اواخر تموز وأوائل آب ورأى بيت اهلي مملوءا امتعة معدة لنقلها الى الجبل فسأل امي ما هذا فأجابت نحن صاعدون الى المصيف فقال لها عني: ولكن هذا الولد غير معمد فأجابت: قررت تعميده في تشرين عند عودتنا. قال لها: هذا كلام من الدنيا، هبي ان الصبي أصابه عارض صحي. »كيف نرنم للرب في ارض غربة« (المزمور 136). اضطرت والدتي ان تطيع ونودي للكاهن فحضر مع كل مستلزمات العماد وعمدني على استقامة الرأي.

حاولت ان أفهم طوال حياتي اني جئت من هذا الوقت مع اعياده.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

مواهب الروح القدس/ الأحد 8 كانون الثاني 2012 / العدد 2

عنوان هذه الفقرة الوحدة في تعدد المواهب التي يوزّعها الروح القدس فتأتي متعدّدة ولا تفرّق بيننا. المسيح موزّع النعم. هذا له هذا المقدار، والآخر له مقدار آخر. موهبة هذا تُكمّل موهبة ذاك من اجل وحدة الكنيسة.

رجوع بولس في كلامه «لمّا صعد الى العُلى إلخ» مأخوذ من المزامير وينطبق على صعود موسى الى جبل سيناء حيث أخذ الشريعة وأعطاها الناس. يوحي الرسول هنا أن مراده في اقتباس كلام من المزامير يُراد به صعود المسيح الى السماء. ثم يشرح المقاصد الإلهية فيقول ان الذي صعد هو الذي نزل في التجسد. نزل الى نهر الأردن. لذلك يُقرأ هذا الكلام الأحد بعد الظهور الإلهي. وكونه قد تجسد واعتمد غايته أن يملأ كل شيء.

بعد هذا يعدّ الرسول الوظائف التي يقوم بها المدعوون اليها في جسد المسيح. النزول الى «وسائل الأرض» الى جانب التجسد تعني النزول الى الجحيم بالموت.

«رسلا وأنبياء» تبدوان الوظيفتين الأساسيّتين في كل كنيسة محليّة. الرسل لا تعني هنا أحدا من الإثني عشر. إنها تدلّ على من بشّر الأُمم ويضُمّ اذًا ناسًا جددًا الى الكنيسة. الأنبياء هم من ينقلون مشيئة الله الى الجماعة المجتمعة بإلهام إلهيّ. لا يستعمل لفظة أساقفة بل رعاة. لا يذكر وظيفة الأسقف او الشيخ (الكاهن). هذه صارت أوضح عند القديس إغناطيوس الأنطاكي واقليمندس الروماني بعد زمن كتابة الرسالة هذه (حوالى السنة 90 و100).

المعلّمون ليسوا الوعّاظ. الواعظ يعمل في القداس. المعلّم يعطي دروسا نظامية بينها تنسيق وتتابُع.

«بُنيان جسد المسيح» اي الكنيسة هو الغاية لوجود هذه الوظائف المتحركة. الكنيسة مجتمعةً غايتها أن ننتهي جميعا الى وحدة الايمان الذي هو يجمعنا ويجعلنا واحدا وهو معروف بمعرفة ابن الله اي الدخول في أعماق المسيح. كلمة معرفة تعني الاتّحاد الكبير.

هكذا نصير معا إنسانا كاملا، إنسانًا واحدًا بالمعنى الجمعي. وهكذا نحقق «قامة ملء المسيج». قامة السيد هي قامتنا. هذا اتحاد كامل.

في هذا المقطع من الرسالة الى أهل أفسس، صورة الكنيسة ليست الكرمة ولا الهيكل كما في مواضع أخرى. انها صورة الإنسان المؤلّف من ناس عديدين والذين يصيرون بالمسيح إنسانا واحدا قامته قامتهم. هذه هي الروحانية العُليا فلا نُفرّق عند ذاك، بين المسيح والكنيسة.

لا يجوز بعد هذه الصورة التي اقتبسناها من الرسالة الى أهل أفسس القول أنا جالس في بيتي صباح الأحد ولا ضرورة أن أَجتمع الى الآخرين. افهمْ أنك والآخرين تؤلّفون المسيح الواحد.

Continue reading
2012, جريدة النهار, مقالات

الأذكياء والأغبياء / السبت 7 كانون الثاني 2012

الدنيا في كل مكان مقسومة الى أذكياء وأغبياء. يولد الانسان ذا فطنة او هي شبه غائبة ولا حيلة لنا في ذلك. وتنمو المواهب بالتربية ولكن من أُعطي القليل لا يمكن ان تطلب منه الكثير وليس عنده في ذلك مشكلة لأنه لا يعرف انه لم يتلقَ الحدّ الأدنى من الفهم لينتج ويبدع. فقط الذي عنده الكثير يشعر بحاجته الى الأكثر وهو وحده في دوام السعي اي في دوام التعب اذ يحتسب انه قادر على ابتلاع المعرفة في توقه الى إدخال الكون الى رأسه.

غير ان اهمال الدراسة والكسل يدمّران المعرفة ولو بقي الالتماع الأساسي. تسأل عن شيء ولا تجيب اذا جفّت فيك الينابيع. المعرفة شرطها النسك اي انها ذات بعد خلقي فيه الكثير من الجهد. قوة التحصيل الى جانب الفرح تؤتاها من غيرتك على ضعفاء المواهب لترفعهم الى مستوى أعلى ما قدروا. احيانا كثيرة يصطدمون بفراغ او جمود ويبقى التواصل عسيرا بين اصحاب المستويات المتباينة فتبقى القسمة بين ما ورثوا المعرفة الكبيرة والذين ورثوا القليل اذ الإرث جيني كما بان لنا.

قد تكون الوزنات مطمورة وهي قابلة النمو وصاحبها لا يعرف ولكن المجتمع الذي حولنا قامع احيانا ولا يستنهضنا اذ لا يحلو له الذكاء الكبير. وتبقى الشرائح العقلية منفصلة حتى الاختصام او الاستعلاء او الكراهية والجهل يثير عند المدركين عصبيّة مستكبرة ولا رجاء في الاكتساب عند اهل الضحالة وكاد يكفيهم بصيص نور.

دائما هناك سر جفاء عند من كانت له في العقل حصة كبيرة وسر حزن عند من ضعفت حصّته اذا ذاق استكبار اقوياء المعرفة. غير ان العظام الكبار لا يستكبرون وقد دعاهم نصيبهم ان يعرفوا ما يوزعون ولو بأمل قليل.

الأذكياء ايضا على درجات والأغبياء على درجات. الذين يغيرون وجه التاريخ عندهم من الفطنة مقدار عجيب التصور ولكنهم جميعا فريق واحد يفهم افراده بعضهم بعضا ولكن بعضا يحتكرون المعرفة العليا ويعترض بين هؤلاء ومن دونهم جدار بسبب من الاختصاص. الاختصاص يولّد انغلاقا لا مفرّ منه. خذ الأطباء. كل مختص بينهم يرفض التكلّم على اختصاص آخر لأن الطبقات العليا من المعرفة لا تتداخل . من هنا التواصل بين الأذكياء انفسهم يضيق جدا وانت مستسلم لأهل المعرفة العالية جدا وتتباين هنا مفردات العلوم المستقلة وتبقى انت على فرط علمك خارج حلبة العارفين.

#   #

#

وقد لا يرى من درس كثيرا ما يجب ان يراه ليكون انسانا سويا فالانسان ليس كله علم. هل يبقى للعالم قلب؟ هذا يحصل مرات عديدة. فعلى سبيل المثال الكثير من العلماء مؤمنون والكثير غير مؤمن. وعندي ان خط العلم وخط الايمان متوازيان وليس لنا ان ندعم الايمان بالعلم. فالعلم متغير والنصوص الإلهية يتغيّر فهمها اذ تفسيرها نفسه خاضع لعلوم اللغة والآثار والتاريخ.

اما جهل الأميين للدين فقليل وهكذا ننجر الى مجاورة الأميين ان كنا حريصين على الايمان. ولكن ان حرصنا على استقلال المجالين يبقى الايمان مكانه والجهل مكانه والمعرفة العلمية مكانتها والإنسان منفتح على الحقيقة السماوية او غير منفتح حتى ينزل الله العلم به علينا برحمته الواسعة.

ما يخيفني غي دعم الايمان بالعلم هو اني ارى في هذا الموقف هزالة الايمان الذي لا يحتاج الى قوة خارجة عن ذاته. كذلك من يرى من المدافعين عن العلم انه مكتف بذاته يقوّلونه ما ليس فيه لأن العلم لا يوصلك الى الايمان او الى الجحود اذ الايمان والجحود خارجان كليا عن نطاق العلم.

لذلك نحتاج الى ذكاء كبير لئلا يضللنا الذكاء القليل وهو وحده يذهب في كل الاتجاهات ويخلط الأشياء فيما بينها.

#   #

#

ان لم يكن من لقاء على صعيد العقل بين ممتازي الفكر وضعافه يجب ان يلتقوا بما هو اعمق من الفكر واعمق من الفكر المحبة. ولست اشير هنا الى الوحدة المجتمعية بل الى وحدة القلوب. ففي الاجتماع لكل من الناس ما يقدّمه للآخرين والبناء المجتمعي يقوم به المواطنون كلّ حسب قدرته او مواهبه.

المهم ان يرحم ذو العقل الثاقب الانسان العادي وان يتقبّله شريكا له في مكانته. البناء لا يقوم بالمهندس وحده. العمال اساسيون كالمهندس.

يجب أن يفهم العارف كثيرا ان العارف قليلا له عائلة وانه قادر على عطاء القلب وان اتحاد القلوب هو الذي يبني الناس. ذلك ان الفضيلة ليست ملكا لفئة او طبقة ثقافية. الفضيلة هي حال الفرد والجماعة معا. والضعاف على مستوى الدماغ لهم ان يصبحوا قديسين ومضمار القداسة لا يتطلب حجما دماغيا رهيبا. وليس المهم ان تجمّل الحس الخلقي بالكلمات ولكن المهم ان تكون انت كبير الروحانية.

جميل هذا المنظر في هذا الدين او ذاك، ان المتفلسفين والجهال يصلّون معا ولهم الكرامة الواحدة ويحاول الكل ان يتواضعوا ويتحدوا بطاعة الله واستماع الكلمة الحلوة التي ترفع الكل الى لقاء الرب ولقاء كل الإخوة على مستواياتهم. ان الله يتمجّد بالفاهمين وغير الفاهمين.

Continue reading
2012, مقالات, نشرة رعيتي

الحياة الجديدة بالمعمودية/ الأحد أوّل كانون الثاني 2012 / العدد 1

«انظروا لا يسلبكم أحد بالفلسفة». لفظة فلسفة واردة هنا مرة واحدة في العهد الجديد. لا تعني الفلسفة اليونانية التي جاءت من أفلاطون وأرسطو. تعني الأرواح الكونيّة التي كان الناس يعتقدون بها. هذه الفلسفة تُغريكم او تخطفكم او تتسلط عليكم انتم الذين سقطوا في الهرطقة في كنيسة كولوسي.

الأرواح الكونيّة المتّصلة بمادة الكون مرتبطة بالاعتقادات الفلكية ومحظورات نسكية وعبادة الملائكة. الهرطقة المتفشيّة في كنيسة كولوسي هي نوع من التلفيق (اي امتزاج عناصر عقائدية مختلفة). مقابل ذلك المسيح وحده. هذا حلّ فيه كل ملء اللاهوت جسديًا. المسيح القائم من بين الأموات يجمع في شخصه كل الألوهية الموجودة فيه قبل التجسّد والعالم المخلوق الذي اتخذه مباشرة من العذراء، كما يجمع الكون الى ذاته بقيامته من بين الأموات.

إن كان من رئاسة او سلطان في الكون المادّي فالمسيح رأس كل العناصر، وهنا ينتقل بولس الى عقيدة المعمودية، وكما تجاوز الفكر الوثني المتعلّق بالأركان الكونيّة يتجاوز هنا الختانة اليهودية. في المسيح خُتنتُم ختانًا غير مصنوع بيد، ليس هو خلع القلفة او الغرلة ولكنكم خلعتم «جسم خطايا البشرية» بختان المسيح. هنا يُشبّه الخطايا الى جسم موضوع في كياننا. هذا تخلعونه بختان المسيح اي بالمعمودية، والمعمودية هي قيامُكم مع قيامة المسيح. هذا صدى كما ورد في الرسالة الى أهل رومية: «فدُفنّا معه بالمعمودية للموت حتى كما أُقيم المسيحُ من الأموات بمجد الآب هكذا نَسلُكُ نحن ايضًا في جدّة الحياة».

يتّضح من كل هذا المقطع أن بولس كما تخلّص من الوثنية، من أركان هذا العالم، يريد أن يتخلّص من الختانة اليهودية. وهذا ما صار في المجمع الرسوليّ في اورشليم. عندنا تجاوُز لليهود وللأمم ما لم يأخذوا المسيح. القيامة تُخلّصنا من كل شيء عتيق والوقوع في اليهودية من جديد وفي أي نوع من الوثنية يُداهِمُ المسيحيين ولو تعمّدوا كأهل كولوسي.

هذا وارد في كل جيل. الوثنية واليهودية تتجدّدان بأنواع مختلفة. مَن تمسّك بقيامة المخلّص على أنها حياة جديدة وحده يصمُد أمام كل التجارب الفكرية والفلسفية التي إليها انضممنا يومًا فيومًا. نحتاج أن نُجدّد المعمودية فينا بفحصنا لكل فكر يُهاجمنا والوقوف إزاءه في الحياة التي يعطينا إيّاها المسيح.

كل من مزج المسيح بغير المسيح او بما هو ضد المسيح يرتكب هرطقة ولو ظن أنه في الكنيسة. هو فيها جسديا، وعقله ينتمي الى شيء آخر. المسيحية ليست معمودية فقط. هي استمرار المعمودية اي هي موت دائم مع المسيح وقيامة دائمة معه. المُحزن أن قلّة من المؤمنين تُقارن ما تقرأه او تسمعه مع الإنجيل. المؤمن الحق يرجع الى الإنجيل ليفحص كل فكر ويسأل العارفين إذا كان قليل المعرفة في المسيحية.

المهم أن تعيش كل فكر بالإنجيل الذي بين يديك.

Continue reading