يوم طرابلس[1] / الأحد 19 أيّار 1963
[1] لمناسبة سقوط طائرة في مصر كانت تُقلّ وفدًا من بلديّة طرابلس وبعض من مهندسي المدينة، فأودت بحياتهم، ونُقلت جُثثهم، بعد التعرّف إليها، إلى طرابلس، واستقبلتها المدينة بصمت.
استقبال طرابلس لأبنائها الذين صُرعوا في مصر كان لقاءها مع سرّ الصمت في شهادة مهيبة. ذلك لأنّ الألم العميق لا يواجهه الإنسان في تفاهة التعبير. ثمّ الموت أبلغ كلمة الوجود، لأنّه درب اليقين، كائنة ما كانت وسيلة غيابنا عن مسرح الدنيا.
أمام عنف الفاجعة، وهذا الانسلاخ الجذريّ الذي ينتزع الأحبّة انتزاعًا من الكيان، كانت بعض تساؤلاتي هكذا:
- لماذا نقتتل في هذه الدنيا؟ هذا السؤال، على سذاجته، يبدو لي غاية في الأهمّيّة لو علمنا أنّ أكثر ما نختلف عليه يتلاشى في لحظة واحدةٍ، وأنّ جلّه يفنى عند عتبة القبر. هذا ليس لأقول فقط إنّ الشيء الكثير فيها يجب أن يُنظر إليه من حيث هو فانٍ. بعضٌ من الظرف أو بعضٌ من التندّر جدير أن يطبع أرصن ما نعالج. وهل يفيد النقاش وهو، في أغلب الأحيان، يخفي ذلك العنفوان الذي ليس مثله يعني شقاء الإنسان وهزالته؟
وإذا كان الإنسان هذا الشيء اليسير، نطفة ثم جيفة، فلماذا ننصبّ على تحطيمه؟ أفلأنّه يستعلي؟ ولكنّ آلةً لا تعقل كافية حتّى يتناثر وجوده. فلنعطِ هذا اليسير فرصة، ليتجاوز العضويّ فيه ويكتنه نفسه، إمكان توثّب، فيمسي موته بالآلة صنع هذا العقل المتحفّز ووليد روح أرادت اختصار المدى، لتمتدّ، وتبني.
- أحقًّا نبكي موتانا أم تتفجّع النفس لأنّها صارت إلى عزلةٍ وخشيت ألاّ يُترك لها شريك؟ العزلة قبرٌ وليس منّا من يريد أن يحيا وحيدًا. النفس خيوط مترابطة حتّى اللانهاية، وكأنّها لا تستقرّ إلاّ إذا لاقت الآخرين، كلّ الآخرين في شركة حبّ. شديد الإيمان وضعيفه، كلّ منهما ينشد وحدة النفس. يرى المؤمن أنّ الرابط بين الأحياء والأموات ما يزال قائمًا، فيصطبر حتّى اللقاء. وضعيفنا يلمس قربى لا تتحقّق في المنظورات. إنّه يحيا تضادًا يجمع بين قربى وغياب. أصحيح أن يبقى الإنسان إلى الأبد ضحيّة غياب أم تُستعاد وحدة البشر ما وراء الحُطام؟ أتظلّ الإنسانيّة خائبة تتلقّى كلّ جنين ليكون فقط هذا اليسير المتكسّر في ترحاله بين رحم وقبر؟ إن كانت هناك حادثة بعث واحدة، فهي كافية لتحلّ معضلة، مجرّد طرحها أزمة اختناق.
- أيّ هو معنى الصبر؟ هل هو استسلام أمام حادثة لا تُردّ، قبول الجثث على أنّها جثث، لأنّ الأرض تدور على الرغم من أيّ موت؟ وحتّى إذا أُرسي الصبر على قاعدة الدين، فهل نحن متأكّدون أننّا نقرأ فيه الفحوى الصحيح؟ أليس الصبر أن نستلهمه حيويّة لنا نستمدّها، بالضبط، من تواري عزيز؟ ليس الموت مفيدًا إن خطفنا إلى ماضٍ بات ظلاًّ، لكنّه حقيقة إن أحضر خيرات الراحلين ميراثًا في نفسنا. ليس الصبر في القبول، بل في التوثّب.