فخامة الرئيس / السبت ٣١ أيار ٢٠٠٨
انتظرناك طويلا فجئت ففرحنا ورجونا أن يتّسع لنا جميعا قلبك الكبير. أدعو الله ان يضع لبنان بين يديك لأنك تحبّه حبًا كبيرًا وهذا الحب يوحي لك الحكمة والصبر وينشئ فيك الحذق السياسي. أخيرًا لنا بك رئيس يرمز الى وجودنا تحت الشمس الطالعة عند كل فجر من وراء جبالنا. ولك من الرؤية والقدرة على العطاء لتستلم لبنان عند صلاة الصباح من الرب وترفعه الى السلامة.
بلد تصيبه جراح زمنا بعد زمن واعتبر قرّاء التاريخ ان تركيبتنا المجتمعية مصدر الجراح او كنا لشهواتنا لا نستحقّ هذا البلد. وقد توالت في ذهني منذ اندلاع الحرب الأهلية تساؤلات تتعلق بوجود لبنان نفسه وقدرته على العيش المشترك الذي التمسناه في الدستور الأخير اي اننا تعاقدنا على ان نبقى معا ونرذل التفسّخ. غير ان هذ إيمان يحتاج الى تفعيل ولك يا سيّدي الرئيس دور في التفعيل الكبير بعد ان أجمع شعبنا على اقتبالك رئيسا وليس فقط نتيجة لآلية حكم أتت بك الى السدّة الأولى.
انت في وسط العاصفة. انا عرفت العاصفة في سفينة عبرت بنا المتوسّط منذ ستين سنة في طريقي من بيروت الى باريس وكانت تهتز جوانبها الأربع مدة أربع وعشرين ساعة وبعد هدوء العاصفة أخبرنا القبطان اننا اوشكنا حقًا على الغرق. كنت وحدي على السفينة غير خائف اذ كنت أصلي وأنشد على الألحان الثمانية التي عندنا. اجل الله مخلّص لبنان ولكن لعقولنا أن تستنير وقلوبنا أن تهدأ لتقبل العطف الإلهي.
يبدو ان لبنان لا تنقصه العقول ولكن فيه قلوبًا مريضة كثيرة تحتاج الى ان تُحِب وأن تُحَب. هي مثقلة بالذاكرة التاريخية وفي كل ذاكرة خطر لأنها تؤبّد التاريخ الدامي. تعرقلها بشريّتها المجروحة. وهذا يؤذي كثيرا لأنه إخلاص للدم المراق في الماضي والماضي طواه الله في رحمته ونحن توّاقون الى مستقبل سلام نرجو ان ينزل علينا من فوق ونبنيه ايضا بأيدينا.
وفي هذا المسار نحتاج الى من يذكّرنا بأننا واحد او يعيدنا الى وحدة تصدّعت وهذه مهمّة من مهامك سيّدي. قانون العلاقات الرسميّة بينك وبين الحكومة والمجلس لا يحلّ وحده المشاكل. الى هذا نحن في حاجة الى ان يكون الرئيس مرشدا روحيا للأمّة. لولا الخطيئة لما كانت الشريعة. انت اذًا لا تعيد المسؤولين الى القانون وحسب ولكنك تعيدهم الى البِرّ او ترجو لهم البِرّ ليطلع لبنان من قلوبهم المطهّرة.
# #
#
وطهرهم يذهب الى الفقراء وهم أحباء الله بامتياز فاذا كانت السياسة تصنع الاقتصاد فالاقتصاد بالمقابل يصنع السياسة. فاذا أكل شعبنا وشرب واقتبل الطبابة والدراسة يضمحلّ الخلاف حول أولية هذه الطائفة او تلك. فليحكم الفاهمون. واذا اردت الكمال في الحكم أقول فليحكم القديسون لأن عندهم قلوبًا تجعلهم لا يقبلون الجوع والجهالة.
أرادتك النصوص حَكَمًا لأن البلد في حاجة دائمة الى التوازن. ولكن هذا فيه هشاشة السياسة ولا بد من معطوبية السياسة. انت أعلى من أن تكون حَكَمًا. أنت أب لنا جميعًا وأولادك ليسوا على سوية أخلاقية واحدة. مع ذلك يعطف الأب على أولاده جميعا ولو تفاوتت أخلاقهم. ما أتحدّث عنه ليس نظام القبائل ولكنه نظام التقوى الساكنة فيك الى جانب الفلسفة السياسية التي تعلّمتها في الجامعة. المبتغى أن تتلاقى في نفسك حكمة بشريتك وحكمة الله المتعالية فيصير حكمك مميّزا. عند ذاك، تقضم الأنانيات الطائفيّة ومقولات العشائر وتبني من الأساس لبنانا جديدا.
والانسان قادر على ان يتربّى. اذا اعترف بأنه في حاجة الى ذلك. ولن يقتصر جهدك على ترتيب المعادلات في الحكم وعلى تنقية الإدارة. فهناك من أحبّ الفساد او عشقه وهؤلاء يجب تأديبهم بالطرق المتاحة والممكنة ولكن لا يسعك ان تغض النظر عن سقطات الموظفين في الدولة وهذا من شأنه أن يربي الكثير من المواطنين لأن دول العالم التي تنمو مؤهلة ان تهذّب المجتمع. مجتمعنا نحن يبدأ إصلاحه من رأس الهرم لأنه يخشى السلطة العادلة والقوية التي نرجو ان تتحقق على يديك اذا كشفت للبنانيين ان مصلحتهم هي في الاستقامة والعمل.
البلد الذي استلمناه وارتضته كل أطيافنا مرحلة بعد مرحلة جعلناه وعدا لأنفسنا ولكنا لم نحقق هذا الموعد كاملا. علينا الآن ان ننتقل من مرتبة الوعد وهي رجراجة الى مرحلة البناء تحقيقا للمشتهى. لذلك كانت مشكلتنا حضارية. نحن حسبنا أنفسنا قد بلغنا الحضارة العالمية وهذه أكذوبة كبرى اذ ليس من حضارة لا تقوم على الصدق فظننا ان المدنية تقوم على الشطارة. سيدي الرئيس، دأبك ان تقتلع الشطارة من العقول اللبنانية وان تدعونا الى الحق. يقال عن بلدنا انه جميل. جماله في بحره وسهوله والجبال معطى من الله. وهذا لا يكفي لأن الجمال كما يعرّفه أفلاطون سطوع الحقيقة. فقط اذا تعمّدنا بالحقيقة تزول عنّا قباحاتنا ويصبح الإنسان اللبناني بهيًا بما ورثه من الحق. أدعو الله الا تفتخر بما نحن عليه ولكن بما سنكون وبعض مما سنكون يأتي من حكمتك ونزاهتك وإخلاصك للصورة التي سيرسمها عقلك لوطن جديد.
# #
#
اعرف انك لست وحدك وان الدستور بعد الطائف قد قصّ أجنحتك. ولست هنا في معرض هذا النقاش. غير انني اعرف ان الإنسان القوي يفرض نفسه بالمحبة والحزم معا ولكن اللبنانيين وضعوا ثقتهم بك اي بما ينقذهم من ضيق النصوص وما ينجيهم بالاحتضان حتى ينادوا هم بما ينفعهم تعديله لتحقيق العيش المشترك بالصدق. فالتاريخ تبديل والحق المنجي الآن فالحرف يقتل والروح يحيي وما أكثر من علماء القانون في لبنان وهم الفهماء بالنصوص التي تحيي وتفرضها وحدتنا الوطنية. فالظرف ظرف إخلاص للوطن كله اليوم والقانون ليس تنزيلا إلهيّا ولكنه تدبير بشري في الزمان الذي ظهر فيه. وكلما تعمّقت الثقة بك نظرًا الى ما ستحقق تتحرك النصوص لخير البلد.
واذا ساغ لي ان أقول كلمة عن أولئك المحبطين من المسيحيين فرجائي ان يعرفوا انهم يجيئون من الإنجيل اي من محبة الآخر فاذا عاشوا بكلمة الله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وانت منهم بالإنجيل ولكنك لا تحملهم وحدهم. انك تحمل اللبنانيين جميعا. واللبنانيون كلهم مقتنعون ان المسيحية سوف تستمر برائحتها الزكية في هذا البلد ولو انتقص من حق شعبها في هذا المجال او ذاك فلنفرح انها تقدّم نكهة المسيح. المهم ان يقتنع كل المسيحيين ان لبنان الكامل وطنهم مع كل الذين يعيشون على ترابه وان الكثر واحد بلحمة النور الإلهي على وجوههم.
يا فخامة الرئيس نحن وراءك ما دمت على الحق وسنرفع الصلاة من أجلك حتى لا تعثر قدماك. نعرف ببساطة ان لا عصمة في السياسة ولكن المهم ان تبقى على النقاوة التي يعاين أصحابها الله. انت رئيس على قدر خدمتك وسنحاول ان نكون معك خدّامًا للبنان وعيوننا الى الشمس التي تطلع من وراء جباله.
Continue reading