Monthly Archives

May 2008

2008, جريدة النهار, مقالات

فخامة الرئيس / السبت ٣١ أيار ٢٠٠٨

                      انتظرناك طويلا فجئت ففرحنا ورجونا أن يتّسع لنا جميعا قلبك الكبير. أدعو الله ان يضع لبنان بين يديك لأنك تحبّه حبًا كبيرًا وهذا الحب يوحي لك الحكمة والصبر وينشئ فيك الحذق السياسي. أخيرًا لنا بك رئيس يرمز الى وجودنا تحت الشمس الطالعة عند كل فجر من وراء جبالنا. ولك من الرؤية والقدرة على العطاء لتستلم لبنان عند صلاة الصباح من الرب وترفعه الى السلامة.

                      بلد تصيبه جراح زمنا بعد زمن واعتبر قرّاء التاريخ ان تركيبتنا المجتمعية مصدر الجراح او كنا لشهواتنا لا نستحقّ هذا البلد. وقد توالت في ذهني منذ اندلاع الحرب الأهلية تساؤلات تتعلق بوجود لبنان نفسه وقدرته على العيش المشترك الذي التمسناه في الدستور الأخير اي اننا تعاقدنا على ان نبقى معا ونرذل التفسّخ. غير ان هذ إيمان يحتاج الى تفعيل ولك يا سيّدي الرئيس دور في التفعيل الكبير بعد ان أجمع شعبنا على اقتبالك رئيسا وليس فقط نتيجة لآلية حكم أتت بك الى السدّة الأولى.

                      انت في وسط العاصفة. انا عرفت العاصفة في سفينة عبرت بنا المتوسّط منذ ستين سنة في طريقي من بيروت الى باريس وكانت تهتز جوانبها الأربع مدة أربع وعشرين ساعة وبعد هدوء العاصفة أخبرنا القبطان اننا اوشكنا حقًا على الغرق. كنت وحدي على السفينة غير خائف اذ كنت أصلي وأنشد على الألحان الثمانية التي عندنا. اجل الله مخلّص لبنان ولكن لعقولنا أن تستنير وقلوبنا أن تهدأ لتقبل العطف الإلهي.

                      يبدو ان لبنان لا تنقصه العقول ولكن فيه قلوبًا مريضة كثيرة تحتاج الى ان تُحِب وأن تُحَب. هي مثقلة بالذاكرة التاريخية وفي كل ذاكرة خطر لأنها تؤبّد التاريخ الدامي. تعرقلها بشريّتها المجروحة. وهذا يؤذي كثيرا لأنه إخلاص للدم المراق في الماضي والماضي طواه الله في رحمته ونحن توّاقون الى مستقبل سلام نرجو ان ينزل علينا من فوق ونبنيه ايضا بأيدينا.

                      وفي هذا المسار نحتاج الى من يذكّرنا بأننا واحد او يعيدنا الى وحدة تصدّعت وهذه مهمّة من مهامك سيّدي. قانون العلاقات الرسميّة بينك وبين الحكومة والمجلس لا يحلّ وحده المشاكل. الى هذا نحن في حاجة الى ان يكون الرئيس مرشدا روحيا للأمّة. لولا الخطيئة لما كانت الشريعة. انت اذًا لا تعيد المسؤولين الى القانون وحسب ولكنك تعيدهم الى البِرّ او ترجو لهم البِرّ ليطلع لبنان من قلوبهم المطهّرة.

#                           #

#

                      وطهرهم يذهب الى الفقراء وهم أحباء الله بامتياز فاذا كانت السياسة تصنع الاقتصاد فالاقتصاد بالمقابل يصنع السياسة. فاذا أكل شعبنا وشرب واقتبل الطبابة والدراسة يضمحلّ الخلاف حول أولية هذه الطائفة او تلك. فليحكم الفاهمون. واذا اردت الكمال في الحكم أقول فليحكم القديسون لأن عندهم قلوبًا تجعلهم لا يقبلون الجوع والجهالة.

                      أرادتك النصوص حَكَمًا لأن البلد في حاجة دائمة الى التوازن. ولكن هذا فيه هشاشة السياسة ولا بد من معطوبية السياسة. انت أعلى من أن تكون حَكَمًا. أنت أب لنا جميعًا وأولادك ليسوا على سوية أخلاقية واحدة. مع ذلك يعطف الأب على أولاده جميعا ولو تفاوتت أخلاقهم. ما أتحدّث عنه ليس نظام القبائل ولكنه نظام التقوى الساكنة فيك الى جانب الفلسفة السياسية التي تعلّمتها في الجامعة. المبتغى أن تتلاقى في نفسك حكمة بشريتك وحكمة الله المتعالية فيصير حكمك مميّزا. عند ذاك، تقضم الأنانيات الطائفيّة ومقولات العشائر وتبني من الأساس لبنانا جديدا.

                      والانسان قادر على ان يتربّى. اذا اعترف بأنه في حاجة الى ذلك. ولن يقتصر جهدك على ترتيب المعادلات في الحكم وعلى تنقية الإدارة. فهناك من أحبّ الفساد او عشقه وهؤلاء يجب تأديبهم بالطرق المتاحة والممكنة ولكن لا يسعك ان تغض النظر عن سقطات الموظفين في الدولة وهذا من شأنه أن يربي الكثير من المواطنين لأن دول العالم التي تنمو  مؤهلة ان تهذّب المجتمع. مجتمعنا نحن يبدأ إصلاحه من رأس الهرم لأنه يخشى السلطة العادلة والقوية التي نرجو ان تتحقق على يديك اذا كشفت للبنانيين ان مصلحتهم هي في الاستقامة والعمل.

                      البلد الذي استلمناه وارتضته كل أطيافنا مرحلة بعد مرحلة جعلناه وعدا لأنفسنا ولكنا لم نحقق هذا الموعد كاملا. علينا الآن ان ننتقل من مرتبة الوعد وهي رجراجة الى مرحلة البناء تحقيقا للمشتهى. لذلك كانت مشكلتنا حضارية. نحن حسبنا أنفسنا قد بلغنا الحضارة العالمية وهذه أكذوبة كبرى اذ ليس من حضارة لا تقوم على الصدق فظننا ان المدنية تقوم على الشطارة. سيدي الرئيس، دأبك ان تقتلع الشطارة من العقول اللبنانية وان تدعونا الى الحق. يقال عن بلدنا انه جميل. جماله في بحره وسهوله والجبال معطى من الله. وهذا لا يكفي لأن الجمال كما يعرّفه أفلاطون سطوع الحقيقة. فقط اذا تعمّدنا بالحقيقة تزول عنّا قباحاتنا ويصبح الإنسان اللبناني بهيًا بما ورثه من الحق. أدعو الله الا تفتخر بما نحن عليه ولكن بما سنكون وبعض مما سنكون يأتي من حكمتك ونزاهتك وإخلاصك للصورة التي سيرسمها عقلك لوطن جديد.

#                        #

#

                      اعرف انك لست وحدك وان الدستور بعد الطائف قد قصّ أجنحتك. ولست هنا في معرض هذا النقاش. غير انني اعرف ان الإنسان القوي يفرض نفسه بالمحبة والحزم معا ولكن اللبنانيين وضعوا ثقتهم بك اي بما ينقذهم من ضيق النصوص وما ينجيهم بالاحتضان حتى ينادوا هم بما ينفعهم تعديله لتحقيق العيش المشترك بالصدق. فالتاريخ تبديل والحق المنجي الآن فالحرف يقتل والروح يحيي وما أكثر من علماء القانون في لبنان وهم الفهماء بالنصوص التي تحيي وتفرضها وحدتنا الوطنية. فالظرف ظرف إخلاص للوطن كله اليوم والقانون ليس تنزيلا إلهيّا ولكنه تدبير بشري في الزمان الذي ظهر فيه. وكلما تعمّقت الثقة بك نظرًا الى ما ستحقق تتحرك النصوص لخير البلد.

                      واذا ساغ لي ان أقول كلمة عن أولئك المحبطين من المسيحيين فرجائي ان يعرفوا انهم يجيئون من الإنجيل اي من محبة الآخر فاذا عاشوا بكلمة الله فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وانت منهم بالإنجيل ولكنك لا تحملهم وحدهم. انك تحمل اللبنانيين جميعا. واللبنانيون كلهم مقتنعون ان المسيحية سوف تستمر برائحتها الزكية في هذا البلد ولو انتقص من حق شعبها في هذا المجال او ذاك فلنفرح انها تقدّم نكهة المسيح. المهم ان يقتنع كل المسيحيين ان لبنان الكامل وطنهم مع كل الذين يعيشون على ترابه وان الكثر واحد بلحمة النور الإلهي على وجوههم.

                      يا فخامة الرئيس نحن وراءك ما دمت على الحق وسنرفع الصلاة من أجلك حتى لا تعثر قدماك. نعرف ببساطة ان لا عصمة في السياسة ولكن المهم ان تبقى على النقاوة التي يعاين أصحابها الله. انت رئيس على قدر خدمتك وسنحاول ان نكون معك خدّامًا للبنان وعيوننا الى الشمس التي تطلع من وراء جباله.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

هل نشارك الغربيين القدسات؟/ الأحد 25 أيار 2008 / العدد 21

كنيستنا لم تنكر على أن الكنائس ذات التأسيس الرسولي عندها الأسرار المقدسة. ولذلك اذا قبلنا في الأرثوذكسية كاهنا من كنيسة أخرى لا نعيد رسامته.

اما السؤال المتداوَل هو لماذا الأرثوذكسيون والكاثوليك (روم كاثوليك، موارنة وما الى ذلك) لا يتناول واحدهم أصلا الا في حالات استثنائية عند الآخر (مثلا في حالة الإشراف على الموت ان لم نجد كاهنا من كنيستنا). هذا لا يتضمّن إنكارًا لقدسية الأسرار عند الإخوة الآخرين. وهذا لا يعني بالضرورة انهم هراطقة ولا هم ينعتوننا بذلك. ولكن المقاطعة تعني ما نسمّيه «قَطْع الشركة» حسب أهم علماء القانون الكنسي عندنا اليوم.

«قطع الشركة» تعني اننا لم نبقَ كنيسة واحدة الآن. لقد تمّ الانفصال الرسمي بيننا السنة الـ 1054 وتجذّر بعد الحملة الصليبية الرابعة السنة الـ 1204 عند احتلال الإفرنج القسطنطينيّة فتباعدنا بعضنا عن بعض، ومنذ ذلك الحين لم نجتمع حول المائدة المقدسة الواحدة. لا نحن ذهبنا إليهم ولا هم جاؤوا الينا، غير اننا لا نزال نطلب الى الله ان يمنّ علينا بالوحدة.

لا يفتكرنّ أحد بسبب من هذا الوضع ان هذا هو موقف أرثوذكسي فقط. هذا موقف كاثوليكي أيضًا وهم قد كتبوا في أيام البابا الراحل انهم لا يقبلوننا في المناولة. والبابا الحالي في قدّاسه يشدّد على هذه المقاطعة. امّا لماذا يسترضي احيانا غيرنا بقبولنا عند المناولة التي يوزعها؟ هذا شأنه ولكن ليست هذه تعليمات البابا او الرؤساء له. بالعامية نقول هو «فاتح عَ حسابو». اما نحن فنحترم موقف كنيسته الرسمي وهو لا يحترمها.

انقطاع العلماني عن المناولة عند إخوتنا الكاثوليك ناتج من انه ينتمي الى كنيسته. العلاقة مقطوعة بين الكنيستين، ولا يعمل كل منا على هواه. يتصرف كإخوته الذين من كنيسته. ليس في الكنائس تصرف فردي. هناك فقط تصرف جماعي. فإذا اتّحدت الكنيستان ينتهي «قطع الشركة» التي رمزها الكأس الواحدة.

طبعا الكاهن يأتيه من يأتيه أمامه وهو لا يعرف الجميع ولكن المبدأ هو انه يجب أن يتعلّم الجميع ان المشاركة لم تبق قائمة. اما اذا وجدنا لأسباب عائلية راهبة او راهبا من غير كنيستنا فيجب ان نقول لهم باحترام او محبة اننا لا نستطيع أن نخالف قوانيننا ولا قوانينهم. فاحترامًا لقراراتهم هم لا نقرّبهم من الكأس المقدسة، اذ يكون قد قام في أذهانهم اختلاط بين الكنائس، وهذا الاختلاط لم يحصل.

قلت هناك استثناءات مثل وضع الإشراف على الموت. كذلك مثلا اذا سكن أحد الإخوة الغربيين في قرية او مدينة ليس فيها كنيسة كاثوليكية فنرحّب به لأنه عارف بأنه يبقى كاثوليكيا ولا يخلط الأوضاع. هكذا لمّا تهجّر اللبنانيون في الحرب الى اليونان او قبرص كنا نخدمهم ونحافظ على ولائهم لكنيستهم.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

رحلة يونانية / السبت ٢٤ أيار ٢٠٠٨

كان عليّ أن أحاضر في ألمانيا عن الإسلام غير أن إغلاق المطار حال دون ذلك، وفي يوم فتحه تمكّنت من الوصول الى اليونان لإلقاء محاضرة أخرى في المسيحية وذلك في مدينة فولس الى شمالي أثينا وذلك في إطار أكاديمية لاهوتية أنشأها أسقف تلك المدينة المطران إغناطيوس.

                        كانت المشكلة أني تكلّمت بالفرنسية وكان اليونانيون الذين اجتمعوا هناك يسمعون الترجمة بلغتهم. ما شدّني الى قبول الدعوة الى أالمانيا هو ان اللاهوتيين هناك يعرفون قليلا عن الإسلام وأرادوا أن يتعلّموا. معرفة الإسلام هي الانعطاف الحاضر في الفكر المسيحي الأوربي. والاضطرار الذي حكمني انه لم يكن ممكنا ان يسمعوا الآيات بالعربية ولكن الترجمة كانت أفضل وسيلة ممكنة والعارفون منهم كانوا يتكلّمون على الترجمة التي أخرجها الى الألمانية الأب تيوفيل عادل خوري كاملة أجزاء عديدة مع التفسير في الحواشي.

                        اما فولس فمدينة بحرية تقع بين أثينا وسالونيك وكان على رأسها رئيس أساقفة أثينا خريستوذولس المتوفّى أخيرا. أهم عنصر في هذه الرحلة كان الأسقف الحالي تأخذك طهارة وجهه ثم تتعرّف الى حكمته وفهمه وحسن ضيافته وبساطة محبته وشفافيّته.

                        الأكاديمية التي أسسها منشأة مستقلة تابعة للأبرشية بخلاف المدن الأخرى حيث كليات اللاهوت أجزاء من الجامعات التابعة للدولة. وعلى رأس الأكاديمية شاب تخرّج من اليونان ومن السوربون يتكلّم كل اللغات الحية وزارنا في معهد البلمند ويحب اهل المشرق وآخر سهرة قضيناها معه أسمعنا صوت فيروز يغني القدس فذكّرته أني شيخ وأن ذوقي الأوّل يذهب الى سيد درويش فأسمعنا منه ما تيسّر. والأكاديمية الى طاقمها التعليمي منفتحة على اللاهوتيين الأجانب من كل صوب وأظن اني اول عربي تكلّم فيها.

                        هذا اللقاء الذي كنّا اليه السبت الماضي تحدّث فيه عالم ايطالي في موضوع خلافيّ بين كنيستي الغرب والشرق، خلاف مرتكز على العبادات وهو دقيق جدا ويدور حول ما نسمّيه «استدعاء الروح القدس». هل استحالة القرابين الى جسد المسيح ودمه مؤسسة على هذا الاستدعاء وهو غير معروف في الكنيسة اللاتينيّة، ام ان فيها صلاة تسبق كلمات العشاء السري: «خذوا كلوا… واشربوا منه كلّكم»، وهل هذه الصلاة تعني معنى الاستحالة؟

                        المهم في كلام هذا الرجل انه وحّد بين «الموقف الأرثوذكسي والموقف الكاثوليكي» بما هو مقنع بعامة وإن كنّا اختلفنا معه في الجزئيات. ما جذبني فيه ليس فقط معرفته العظيمة باليونانية واللاتينيّة وهذا ليس متوفّرًا عند كل اللاهوتيين. ولكن ما جذبني اولا هو البساطة والتواضع. وتبيّن لي أننا نستطيع ان نذلّل هذه الصعوبة وصعوبات أخرى ما تصدّى لها الأخصائيّون بصورة كافية.

#                 #

#

                        قلت له: انتم في المجمع الفاتيكاني الأول الذي حدد السنة الـ ١٨٧٠ رئاسة البابا على الكنيسة جمعاء وعصمته هل أبسلتم (حرمتم) الأرثوذكس الذين يرفضون موقفكم ام انكم اكتفيتم بحرم الكاثوليك القدماء الذين رفضوا هذا التحديد. والأرثوذكس لم يصدروا موقفا قانونيا صريحا في ما انتم تقولون ولو كتبوا الكثير في هذا الموضوع رافضين. ثم أردفت مستشهدًا بلاهوتيّ أرثوذكسي كبير قال: «نحن مع كنيسة الغرب» في حالة قطع الشركة rupture de communion كما كانت مثلا كنيسة بلغاريا وكنيسة القسطنطينيّة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وكلتاهما على استقامة الرأي.

                        لم نوغل في المناقشة أكثر من هذا بعد ان اعترف لي انه ليس اخصائيا في هذا المجال.

                        ثم جاء دوري لأتكلّم على الأفخارستيا (سر الشكر او سر القرابين المقدسة وبالعامية المناولة)، وعلاقتها بالحرية.

                        في العبادة الأحدية عندنا التي هي سر الشكر، ركّزت على انها صلاة الجماعة وليست مجرد عمل تقويّ فردي بحيث ان الجماعة تتأسس او تنشأ من مناولة الخبز الواحد كما علّم بولس. غير أني ذكّرت السامعين ايضًا ان هذه المشاركة الأحدية تتضمّن ايضًا الإحسان الأخوي. انت اذا ارتكبت بعض المعاصي تخرج من الجماعة، وعند التوبة تعود اليها، ولكن لا تكتمل العبادة الا بتوزيع الطعام للمحتاجين. وهذا ليس شفقة أخوية ولكنه جزء من الانتماء الى الأمة المقدسة.

                        ثم بيّنت، بناءً على التراث، ان محبّتنا لغير المسيحيين تُنزل عليهم الروح الإلهي فيلتقون في المسيح علموا ام لم يعلموا ويصيرون جميعًا عروسه في اليوم الأخير. ثم اقتبست من يوحنا الذهبي الفم «ان المذبح الحجري ليس بشيء إزاء مذبح الفقير لأن الفقير هو جسد المسيح. هو اذًا أكثر وقارًا من الذي أنت واقف أمامه» (في الكنيسة). واستشهدت بإنجيل متى حيث يجعل السيد تماهيًا بينه وبين المحتاج والسجين والمريض.

                        كذلك تطرّقت قليلا الى الثورة بمعناها الدموي وشجبتها كما شجبت كل عصبيّة وعدوانية من حيث ان  كل هذا يتنافى وسر الشركة والمحبة الواجبة لكل الناس. وهذا قادني الى ان «النور الإلهي منتشر في كل إبداع عند غير المسيحيين وفي كل مجالات الفكر والفن اذا اقترنا بالعدل». وكان لا بد ان أذكر علاقة المسيحية بالثقافات فقلت ان الكنيسة في كل الثقافات ولكنها تبقى حرة منها. والكنيسة حرة من الشعوب التي تتألف منها. والحرية وحدها تجعل الكنيسة أمة مقدسة (لا بالمعنى السياسي) لأنها جزء من المجتمع السياسي.

                        وبعد تمييزي بين المسيحية والتراث الإغريقي ولو اقترب هذا التراث من باب الكنيسة، انتقلت الى المسيحيين العرب وقلت عنهم انهم في العروبة كثقافة اي في كل جوانبها الأدبية والفنيّة والعيش المجتمعي الواحد، وأضفت: »ان اللغة العربية حملت الإسلام كمصدر إلهام في مرتبة الإبداع البشري ولا يتملك الانسان هذه اللغة ما لم يكن «أليف القرآن». وأحببت أن أضيف أن مهندسًا معماريًا من كنيستي بنى عدة مساجد في المملكة العربية السعودية وهي من أجمل المساجد.

                        وبعد هذا عالجت قضايا داخلية للكنيسة الأرثوذكسية في العالم وركّزت على ضرورة التعاون بين الإكليرس والعلمانيين. أوضحت ان ثمّة أرثوذكسيين إسميين وآخرين روحانيين ورجوت ان يزول هذا الانقسام.

                        لم يبقَ من مجال لأحدّثكم هنا عن موضوع غاية في الأهميّة وهو موضوع الملكيّة الفرديّة واستشهدت بمعلّمنا الكبير باسيلوس القائل: «ما هو لك لم تأخذه لتكون مالكا له طوال حياتك. من هو سارق الجماعة؟ أليس ذاك الذي يحفظ لنفسه ما هو ملك الكل. ان الخبز الذي تحفظه عندك أليس ملك الجائعين، والكساء الذي تضعه في الخزانة أليس ملك العراة؟».

                        هذا أوصلني الى ان أزعم ان النظرة الى الملك في الكنيسة القديمة هي انك مؤتمن عليه. «بدّد، أعطى المساكين فيدوم برّه الى الأبد» (مزمور 112: 9).

                        أخيرا تحدّثت كثيرا عن السياسة وأخطار السلطة والدول التي تستخدم العنف، كما تحدّثت عن سوء العلاقة بين الدول الصغيرة والدول الكبيرة وعن ظلم الكبار والصغار، وأوضحت ان الكنيسة الأولى قبل القرن الخامس كانت ترفض الحرب إطلاقا ثم جاءت التسويات.

                        غير ان تتويج هذا اللقاء كان في القداس الإلهي الذي أقمته مع مطران المدينة أمام جمع كبير واستُعمل فيه اللسان العربي كثيرا الى جانب اليونانية. وربما لم يكن بسطاء القوم يعرفون ان ثمة مسيحيين عربا. وكانت جوقة المرتلين تستعمل ألحانًا من أجمل ما سمعت، وتناولت الجماعة كلها جسد الرب واستضافتنا بعد هذا الرعية ظهرًا ومساءً وأحاطتنا بحفاوة مذهلة وأغدقت علينا الأوسمة والهدايا عربونًا للأخوّة والرهافة المذهلتين.

                        وأهم مما علمت فهمت ان المطرانية تطعم ألف فقير كل يوم في مطاعم خاصة بهم، وهذا كلّه آتٍ من هذا الإمام الأرثوذكسي الطاهر الشفاف الى ان عدنا الاثنين الماضي الى لبنان الراجي خلاصه من الرب.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

امتدادات القيامة/ الاحد 18 أيار 2008 / العدد 20

نعرف أن القديس لوقا بعد أن كتب ما صنعه المسيح وقاله، وذلك في الإنجيل الثالث، رأى أن يكتب في كتاب أعمال الرسل أوائل تاريخ الكنيسة التي رأى فيها امتدادًا للمسيح بالروح القدس. وركّز في قسم من الكتاب على العجائب التي صنعها الرسل وهي امتداد عجائب السيّد، وكأن لوقا يقول: السيّد وتلاميذه روح واحد، فكلّمنا اليوم عن مخلّع نسمّيه اليوم مفلوجًا اسمه أينياس. ما قال له بطرس انا أشفيك، ولكن «يشفيك يسوع المسيح». كان هذا في لدّة.

بعد هذا أكمل طريقه الى يافا وهي ليست بعيدة عن لدّة فعلِم أن فتاة اسمها طابيتا اي ظبية ماتت. ولما قاده الجمع الى بيتها، قال لها: «يا طابيتا قومي». هذا بعد أن جثا وصلّى. نتيجة لذلك آمن كثيرون بالرب.

وضعت الكنيسة هذه القراءة قبل القراءة الإنجيلية المتعلّقة بشفاء السيّد لمفلوج وقد تمّت قرب بِرْكة تسمّى بيت حسدا بلغتهم. كانت في القرون الماضية مطمورة تحت التراب ونقّب عنها العلماء في القرن العشرين، وهي جميلة جدًا ورأيتها السنة الـ1947 في القدس في زيارتي الأولى لها، وهذا لم يبقَ ممكنًا بعد احتلال اليهود للقدس.

كان يبرأ الإنسان المريض اذا استطاع ان ينزل بالماء من بعد تحريك ملاك له.

غير أن المفلوج الذي شفاه يسوع لم يوجد إنسان يساعده لينزل في البركة. اذ ذاك قال له يسوع: احمل سريرك وامشِ. المعنى ان السيّد لم يكن يحتاج الى عمل ملاك ليرمي هذا الإنسان في البركة.

يريد يوحنا الإنجيلي أن يسوع له علاقة مع البشر مباشرة. ليس من وسيط بيننا وبين السيّد. هو الوسيط الوحيد بيننا وبين الآب. القديسون إخوتنا وأصدقاؤنا ونصلّي كلّنا معا لله. ليسوا هم سلّمًا نتدرج عليه لندرك الله. كلّنا بعضا مع بعض ندرك الله. قوّتهم تأتي من أنهم تحرّروا من الخطيئة ويخاطبون الرب كما يخاطب الصديق صديقه.

الكاهن أب روحيّ لنا يساعدنا لنرتفع الى الله وليس هو جسر بيننا وبين الله. لنا اتحاد مباشر مع يسوع ولكلّ قديس اتحاد مباشر مع يسوع وكلّنا دوائر مركزها السيّد. نحن معًا أمّة مقدّسة. وهذه الأمّة كلّها هي حول السيّد متماسكة، الكلّ يصلّي من أجل الكلّ ونرتفع معًا الى حضرة الله.

ولكون القديس يحملك تخاطبه ولا يقوم مقامك في الحديث الى الله ولكنه اذا خاطب الله يذكرك لأنه يعرفك واحدًا من الأمّة المقدّسة ويريد أن تبقى بعيدًا عن الخطيئة وأن تنضمّ في نهاية عمرك الى الأجداد القديسين والملائكة ولا تبقى مفلوجًا بالمعنى الروحي. القديسون يريدونك صحيحًا وأبوك الروحيّ كذلك، ولكن هذا لا يعني انه يحمل عنك جهدًا يجب انت ان تحمله.

المهم في احد المخلّع ان تعتبر نفسك مفلوجًا روحيًا اي غير كامل استقامة القامة الروحية وان جهودا تنتظرك لئلا تقع في الكسل وتتّكل على سواك ليعضدك. النعمة وحدها عضد لك. جاهدْ باستمرار لئلا تهملك السماء فتصير غارقًا في بحر الدنيا ثم ترمي المسؤولية على الله او قديسيه. أنت مسؤول عن خلاصك وكما يُشفى المفلوج احيانا بصورة كاملة لك ان تشفى برحمة الرب.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

بلدنا الأحب / السبت ١٧ ايار ٢٠٠٨

                      البلد لا يُمسّ لأنه في هذه الدنيا هو المطلق وخطأ أهل السياسة في العالم كلّه ظنّهم انهم منقذو البلد والبلد لا ينقذه الا أهله مجتمعين، متحابّين. كان لي أستاذ في باريس وضع كتابًا عن روسيا خلاصته ان الشعب الروسي لا يؤمن بالدولة وان ولاءه للقيصر فقط. أعكس فكره علينا لأقول ان لبنان لا يعيش حقا بالدولة ولكنه يعيش بالقلوب. ففي اعتقادي ان كل ما يُقال عندنا على الرجوع الى الدولة لأنها هي الكليّة ويفترض ان الخلاص بها قول مردود لأن الصراع الدائر عند من ورث الدولة الفرنسية وفلسفة ثورتها يقوم على أن الناس يريدون إنشاء الوطن بالدولة. والحق انه هو الذي ينشئها. عندي ان الخلاف حول الحقائب ومن يرثها وعن توزيعها على الطوائف كله لغو لأن الخلاص ليس في هذا ولكن ان تقبل الآخر شريكًا لك لا في إدارة شعبنا ولكن ان يكون قلبك الى قلبه. لا شيء يقنعني ان توظيف هذه الأرقام المعطاة المعروضة على المناصب هي الحل ولأن هذا كله عابر وتتغيّر الأرقام حسب الظروف المعروضة وهذا تمثيل مشاركة وليس مشاركة. الحكم ليس مكان اللقاء بين ما يسمّى بقلم أحد كبار المحللين شعوبا. الشعوب لا تترجم حقائب ما دامت رؤية كل شعب تحمل طيات استكبار فلا أحد فوق احد الا اذا جعل نفسه إلهًا ونحن كلنا يُجمع على ان «لا إله الا الله».

                      ماذا يعني هذا الكلام وانا لست أدين فئة لأني لست محللا سياسيا ولا أملك كل المعطيات.

                      نحن أمام خطر انقسام حقيقي او أمل مشاركة وليس بينهما تواصل. كل بذور الانقسام قائمة والمطلق الوحيد بوجه الانقسام ان الدم المسفوك معصية كبرى ونهاية لهذا البلد اي ظهور بلدين او ثلاثة او أكثر. ونحن على حجم صغير لا يحتمل ناحية العيش المادي فيه تقسيمًا. نحن أشرفنا على الجوع في الوطن كلّه فكيف اذا انقسم. ما موارده؟ الى هذا ماذا تفكر عند ذاك بالمذهب الذي وراء الحدود الداخلية وأهله. الجواب الوحيد اننا ندخل في مملكة الأحقاد وفي اختراع الخرافات ويكون هذا من حوافز الهجوم على الآخر عند الفرصة الأولى. ليس لنا خيار الا الوحدة التي هي فرصتنا الوجدانية للتلاقي والتفاهم الحضاري وترجمة التعدد الى تعاون وتبلور العلاقات على المثال الذي اشتهيناه منذ اول دستور اعتقادا منا اننا نحمل رسالة يقضي عليها التقسيم توا.

                      الوقت الحقيقي المتبقي لنا وقت الصبر ووقت الفهم واعتبار هذا فوق السياسات العابرة. انا لا احتقر السياسة وجديّتها وأهميّتها ولكني اؤمن بظرفيّتها وتغيّرها والديموقراطية تحديدا نظام التبديل واقتناع ان الآخر قد يكون أفضل منك في حين من الزمن او مرحلة من الفكر. هذا البلد لا يمكن بقاؤه الا اذا  آمنت بهشاشة السياسة اية كانت واذا ايقنت ان طرح هذا الطرف لا يستحق لا الاعتقاد به كأنه فكر إلهي ولا يستحق التغاضي عنه كليا كأنه العدم.

                      والسياسة ينفرط عقدها دائما في حالة استبدادها او حالة لينها. واذا أدركت الحكم فلا حزب يبقى على وحدته الا اذا كان خائفًا من الانشلال او الموت. فالحزب الشيوعي السوفياتي أخذ يضعف منذ تأليفه وقتل الكبار للكبار لأن الفساد يدخل ويفرق بين الذين ليسوا ملائكة. والأحزاب الأكثر ديموقراطية في اوربا الغربية تنشأ فيها الفئويات دائما ويتصارعون داخليا لأن اهل الحزب بشر وليست أصناما جامدة ولأن الإيديولوجيات تركيب بشري مفتوح على كل تفسير ولأن التفاسير تتحول مذاهب فترى نفسك قريبا ممن كان خصمًا اذا زالت الحدّة وتقاربت المصالح. وما بدا فضائل كما قال مفكّر فرنسي تشبه سواقي تتلاشى جميعًا في البحر.

#                 #

#

                      انا ما قلت ان ننأى عن السياسة ولكن ان ننأى عن اتخاذها كأنها عقيدة مُنزَلة وتاليا عوض الانقسام او التقسيم نحن مدعوون الى مشاركة هي نفسها محكوم عليها بالانفراط لئلا تصبح مناسبة لسفك الدماء. هي مشاركة ليست بالمعنى اللبناني الحسابي المتداول ولكن بمعنى الاستمرار باقتراف الأعجوبة اللبنانية اي التوق الى الوحدة بما نحن عليه من تعدد. وهذه جدلية بمعنى ان التعدد المفرط قتال والوحدة المصطنعة قتالة. وهناك نوع من الواقعية يجعلنا نقول اننا اذا ذبحنا بعضنا بعضا من أربعينات القرن التاسع عشر حتى انتهاء الحروب الداخلية التي استهللناها السنة الـ ١٩٧٥ يجب ان يكون فينا شيء غلط. وهذا الغلط لم يدرسه علماء الإناسة عندنا لنصلح أنفسنا فنتفاداه. كلنا يعرف بذور الحرب الطائفية او حروب الطوائف لخدمة الآخرين كما يقول غسان تويني. وما أعرفه أكثر أن ثمّة بغضا دينيا في لبنان والعالم والسؤال كيف نغلبه ليبقى كلّ منّا على الإلهيات التي يؤمن بها ونتشارك الأرضيات التي نحيا بها مع الجميع اذا صممنا على الا تنقضي منا عشرات من السنين متتالية فنعرف الخلاف ونقبل الاختلاف ونطلب الحرية الكاملة لنبقى على مطلق ما نعتبره ايمانًا وعلى هشاشة ما نعتبره سياسة.

                      هل ندرك ذلك الشرف والتهذيب والحب الذي يجعلنا نقيم بيننا ميثاقًا لا أطلب غيره وهو الّا نتذابح ولا ندمّر بعضنا منازل بعض ونحافظ على حرية الكلمة لمن شاءها على الصدق في معاملاتنا بحيث ان جماعة لا تلغي جماعة وتقبلها بقيادة البلد على اساس المعرفة فقط. يعني هذا اقترابا من حكم مدني اذا لم نستطع ان نتبيّنه فورا حتى تدنو التعددية من الوحدانية ذات النكهة الحضارية والحقيقة السلامية.

                      وفي ظل هذا تذوق انت بهاء المسيحية وجمال الإسلام ولو اختلف في هذا بعض العلماء وشيء من الشر يأتي من العلماء الا اني في الفترة الأخيرة بتّ أسمع في وسائل الإعلام كهنة ومشايخ يتكلّمون في ذوق وتهذيب كبير على الجماعات الأخرى ما لم أكن أعرفه منذ ربع قرن وقد تعثر على شعور رهيف في هذا الكلام المتبادَل ما لم تحلم به من قبل. جمعتني مؤخرًا مناسبة مناقشة مع عالِم مسلم، عميق الإسلام، طلّ على المسيحية بشفافية ما كنتُ أنتظر ما هو بقوّتها. وأخذنا نسمع بعضا من المسلمين يقولون عن قساوسة مسيحيين كيف اقترب هؤلاء من الإسلام بعمق لم يشاهَد من زمن قريب. الأغبياء لا يصنعون التاريخ ولكن العقلاء المحبين يستطيعون ان يقتربوا من العقلاء الآخرين بحيث يضعون معًا الأساس الروحي لهذا البلد.

                      مرة جمعتني ندوة مع عالم مسلم في بيروت وقبّل أحدنا الآخر فهلّل لنا الجمع وصفّق لإحساسه بصدق شعورنا.

                      حفاظ أحدنا على الآخر هذا هو السر والحل. هذا قائم أساسًا على الله ولكنه قائم في بشريّتنا. ولكوني أعرف منذ طفولتي عيوب شعبنا ظللت عشرات السنين من عمري لأكتشف أننا شعب طيب واننا قادرون على رغم هذا التعبير المحزن «الوضع الإقليمي والدولي» ان نتعايش بحب. انا لا أعرف مواطنا يعترض على دين هذا او ذاك من المسؤولين والموظّفين. انا مواطن بسيط قلت غير مرة في وسائل الإعلام ان هذا الأمر لا يهمّني. سيأتي يوم يمّحي فيه الخوف وتتشرف قيادتنا السياسيّة بالمسيحي والمسلم على اختلاف المذاهب. تلك هي في العمق المشاركة. وهذه تجد لها ترجمة في هذا الزمن الانتقالي.

                      ستضعف كل الجماعات لا لأني أدعو لأحد بالضعف ولكني لا أحلم بزمان نُسَرّ فيه بالضعف كما لا نُسَرّ بقوّة أحد مفصولًا عن أخيه اللبناني.

                      اللهمّ هَبنا الا تهراق قطرة دم واحدة لنحيا بالثقة بك وببعضنا البعض ونرتب بيتنا اللبناني بكل مداميكه ان يترتّب اي وفق هبة الله وذكائنا. وبعد هذا فقط لنا حظ الحياة.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

الاختصاص في الكنيسة الأولى/ الأحد 11 أيار 2008/ العدد 19

الكنيسة في عهد الرسل كانت تهتمّ بفقرائها. مع ذلك حدث خلل في افتقاد المساكين. يقول الفصل المنشور هنا ان اليونانيين تذمّروا على العبرانيين بأن أراملهن كُنّ يُهملن في الخدمة اليوميّة اي في توزيع الإعاشة. كلمة العبرانيين تعني المسيحيين الفلسطينيين. وكلمة اليونانيين تعني المسيحيين الذين يتكلّمون اليونانيّة وقد جاؤوا من خارج البلد ولا سيما من الاسكندرية ليستوطنوا اورشليم ويشكّلون عنصرًا آخر مع أن كل الفئتين يهود اعتنقوا المسيحية. صار هناك شرخ في الكنيسة ذو طابع عنصري.

عند ذاك وعى الرسل انه لا بد من التمييز بين خدمة الكلمة وخدمة الإحسان، فدعوا ما أمكن من الجمهور المسيحي ان ينتخب سبعة رجال أقوياء في الحياة الروحية ليهتمّوا بالإعاشة.

ما يلفت في ذلك ان المُقامين على توزيع الطعام لا يمكن ان يكونوا فاترين لأن مشاركة الطعام في الكنيسة عمل روحي ايضًا والتقوى متوجبة على كل انسان عنده في الكنيسة وظيفة، ومن هنا تطلّب المجمع الأنطاكي المقدس عندما أطلق فكرة مجالس الرعية ان يأتي أعضاؤه ممارِسين للحياة الروحية.

قرر التلاميذ ان ينصرفوا فقط الى الرعاية وان يُوكلوا رجالاً آخرين لخدمة الجانب المادي. ثم سمّى سفر الأعمال السبعة، وأضاف عن أولهم استفانوس انه كان «رجلا ممتلئًا من الإيمان والروح القدس»، وسوف نقرأ في سفر الأعمال هنا الخطاب اللاهوتي العظيم الذي قاله استفانوس قبل رجمه من اليهود. التقوى العميقة شرط من شروط أبسط وظيفة في الكنائس.

السؤال المطروح هنا هل كان هؤلاء شمامسة؟ هذا وارد في حديث عن استفانوس في طقوسنا، وفي رأي أكثر علماء التفسير ولا سيّما ان النص يقول عن الرسل انهم وضعوا أيديهم على هؤلاء السبعة، والعبارة مصطلح يدل على رسامة وليس على بَرَكة عادية او مجرد قبول الرسل لما قاله العلمانيون الذين استدعاهم الرسل ليبدوا رأيهم في الخلاف الحاصل بين العبرانيين واليونانيين. بعد هذا يضيف لوقا كاتب سفر الأعمال ان كلمة الله كانت «تنمو بسبب نشاط الاثني عشر، وعدد التلاميذ كان يتكاثر في اورشليم جدا» اي ان الرسل كانوا لا يزالون في فلسطين ولم يذهبوا الى الخارج، وكان لهم هاجس تنصير أهل المدينة المقدسة عملاً بقول الرب: «ستكونون لي شهودًا في أورشليم» أولاً.

ثم يقول ان جمعًا كثيرًا من الكهنة أي من كهنة اليهود الذين كانوا في خدمة الهيكل انضمّوا الى الكنيسة، ويعبّر الكاتب عن هذا بأنهم كانوا يطيعون الإيمان المسيحي الذي كان ينحصر بأن الرب مات ثم قام. وعبّر عن هذا الاعتقاد دساتير الإيمان في المعمودية التي كانت مصدر دستور الإيمان النيقاوي الذي يُتلى في خدمة المعمودية وأُدخل فيما بعد الى القداس الإلهي ومستهلّه «اؤمن بإله واحد آب ضابط الكل».

الإيمان المسيحي عبّر عنه اولاً بولس الرسول برسائله ثم عبّر عنه الإنجيليون الأربعة كلٌّ حسب الوحي الإلهي وكلٌّ في عباراته والتصميم الذي وضعه كل من الإنجيليين، وأخيرا لخّصته المجامع المسكونية السبعة في الأساسيات: التجسد الإلهي من الروح القدس ووالدة الإله وموت المسيح وقيامته في ما نسميه العقائد أي العبارات المختصرة في ألوهية الروح القدس وفي الكنيسة والحياة الأبدية وقيامة الموتى. عبارات صِيغت ضد أصحاب البدع. وكانت الكنيسة، بسبب جحود الإيمان، مضطرة ان تردّ عن نفسها هجمات الهراطقة وتحدّد الإيمان بصورة واضحة. واستقامة الرأي نواتها هذا الدستور الأساسي بحيث أن من أنكره يكون خارجًا عن الكنيسة، وانتماؤك اليها شرطه ان تقبل بدستور الإيمان كله وإجماع آراء الآباء في تفسيره وشرح الطقوس له. فاذا سُئلتَ ما المسيحية فتلوت دستور الإيمان وقبلته تُعتبر مسيحيًا. هذا هو التراث الذي كُتب على ضوء الإنجيل. فإذا صدّقت ما ورد في كلّ تراثنا مختصَرًا في دستور الإيمان النيقاوي وفهْمِ آبائنا له لا تكون ملوّثًا بانحراف وتكون مباركًا.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

النور وأنت / السبت ١٠ ايار ٢٠٠٨

لا أود أن أغوص كثيرا على السجالات اللاهوتية التي قسمت العالم الاسلامي والعالم المسيحي كلا في ذاته في موضوع الكلمة. في المسيحية السابقة تاريخيا المقولة الرئيسية: “في البدء كان الكلمة”. اي بدء هذا؟ ما من شك عند أكثر  المفسرين أن يوحنا الانجيلي لما افتتح كتابه بهذه العبارة انما أشار الى مطلع سفر التكوين القائل: “في البدء خلق الله السموات والأرض”. فاذا قال يوحنا في بدء الخليقة هذه كان الكلمة يكون الكلمة سابقا للخلق ويدعم هذا التفسير في آخر الآية الأولى قوله: “والها كان الكلمة”. واللفظة تدل على المسيح قبل نزوله الى العالم وبقيت تطلق عليه حتى جاء آريوس في القرن الرابع وقال ان الكلمة هو المخلوق الأول الوسيط بين الله والكون. وخلاف الكنيسة معه قوله بمخلوقية الكلمة او الابن. وكانت هذه ـ في فهمي لتاريخ البدع ـ  انها كانت البدعة الأساسية التي شقت الكنيسة عشرات من السنوات المتتالية وما عادت عند معرفتي للأمور بصورة قوية الا بظهور شهود يهوه بعبارات متشابهة او بمعنى شبيه.

           ليس في نيتي ولا في قدرتي أن أبرز السجال الذي دار في الاسلام حول خلق القرآن او عدم خلقه باعتباره كلام الله. وحتى تتبين أزلية القرآن كان لا بد من تقرير ان كلام الله قديم لكونه صادرا عن الكائن السرمدي وتاليا هو غير محدَث. وهذا الفريق الأعظم من المسلمين قال بضرورة ربط الكلمات الأزلية بالقالب القرآني اللفظي فأتوا بعلم أسباب النزول التي هي ظروف في حياة النبي ولكنها كانت في علم الله ولا هي تلغي أزلية الكلمة الالهية.

           أزلية القرآن وأزلية الكلمة (او الابن) عند المسيحيين مسألتان متشابهتان كان لا بد للعقل المؤمن أن يواجههما والذين قالوا بأزلية الكلمة عند المسيحيين وأزلية القرآن واجهوا مسألتين حقيقيتين هما مسألة في العقل المؤمن واحدة.

           غير أن المشكلة أعظم تعقيدا في الاسلام لأنها مشكلة العلاقة بين الكلمة والكلمات التي نزلت على النبي بصورة معبر عنها بصوته وكُتبت هذه الكلمات او حُفظت وسُمعت ودُوّنت. السؤال هو ما دور النبي في تجسيد هذه الكلمات لفظًا أو إلقاء. هل هو مجرد انسان يتلقى الكلمات وينقلها ام تنزل عليه المعاني ويجد لها لفظًا. كل هذا أثار تساؤلات عظيمة واختلفت المذاهب فيه.

#                #

           غير اني كما وعدت ليس همي هذا الهمّ في هذه العجالة فاني اليوم لست مساجلا أحدا غير اني عرضت الاشكالية لأصل الى مبتغى بشري بادئًا من أقوال الآباء المسيحيين القدامى ان الكلمة تجسّد (من الروح القدس ومريم) ليصبح الجسد (ويعنون الكيان البشري) كلمة. أهمل الآن اعتبار أزلية صورة الانسان في الطاقة بناء على قول القائلين ان كل مخلوق كلمة اخذت شكلها المخلوق في ما بعد. وهذا تحدّث عنه أهل الشرق والغرب. ولكن لصعوبة الموضوع لن أغوص عليه.

           ما همني ان تصير أنت كلمة إلهية بمعنى أبسط، غاية في البساطة. أريد بذلك أن تتشبه بكلمة الله. أن تصير نطقه او مرآة له في الفعل والكلام والنية وأن تكون خاليًا من كل كلمة بشرية صادرة بطريقة او بأخرى عن إلهامه. في الحقيقة ما جاء في الترجمة الأميركية للكتاب المقدس على أن الكتاب موحى به من الله هو في رأيي اعتماد اللفظة الاسلامية أوحى، يوحي ومشتقاتها ولكن اللفظة في اليونانية تعني ان كل الكتاب فيه نفحات الله والاشكالية تاليًا ليست خلافًا بين المسيحية والاسلام ولكل منهما عبارة تعني علاقة الله بالمكتوب. في المسيحية كلمة الله هي المسيح نفسه وليس مجموعة أسفار والروح أمد الانجيليين والأنبياء قبلهم بقوته ليكتبوا كلمات عن المسيح قبل تجسّده او بعد تجسّده.

           ما أريده هنا هو الحديث عن العلاقات البشرية على ضوء القوة الالهية في الانسان. فاذا كان سلوكك مطابقا بالكلية لما كانه الله ولما قاله تكون انت كلمته لأنك تكشفه للبشر فمن رآك رآه. بهذا المعنى انت ابنه وتسميه أبًا ليس لأنك انبعثت من جوهره وفي الجوهر ليس له شريك. ولكن انعكس فيك ضياؤه وليس من ضياءين في الوجود. يمدك الله بنوره. وبهذا المعنى انت وحدك في هذه الخليقة نور إلهي. المخلوقات غير العاقلة تلهمك عن وجوده كما قال آباؤنا ولكنها ليست الرؤية. والنور في الفيزياء القديمة هو في العين. وعندما تبصر الله ترى النور. هذه هي علاقة الله والانسان.

           اما اذا ادلهمّت نفسك وانطفأ نور عينيك فلا تعاين الرب. هو في الوجود مستقل عنك. واذا عصيته لا ترى شيئًا مطلقًا حسب ما ورد في عظة الجبل: “طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله”. والسماء كما نسمي هذا اللقاء بين الله والإنسان في المسيحية هو أن يتلاقى نور الرب بنوره أي في الأخير ان “يكون الله الكل في الكل” كما يقول بولس. ليس ان ذاته تختلط بذاتك ولكن قوته السرمدية تقاطع قوتك وتضها اليها. السماء اذا بحر من نور يسبح فيه العاشقون لله. وهذا يبدأ هنا من سكنى الله في قلبك. لذلك لا يختلف حقا الـ”هنا” والـ”هناك” وإن كانت الآخرة خيرًا لك من الأولى. اما في العمق الإلهي الذي الله يؤلفه فالله حاضر لاستقبالك ولن تبقى عليك وصمة ولا تذكر خطاياك ولا الله يذكرها. السماء هي ليست فقط امحاء المعاصي ولكن امحاء ذاكرة المعاصي عند الله وفيك.

وزوال المعاصي هنا هو التوبة. غير ان التوبة كدّ وكدح في كل يوم وكل لحظة حتى لا يبقى أثر للإثم. واذا ما زال الإثم عنك تصبح نفسك مرآة امام ناظري الله فيرى نفسه فيك. لذلك تزول عنك العبودية اي الهوة القائمة بين نورك ونور ربك. انا أعرف أن هناك هوّة بين الخالق والمخلوق على مستوى الجوهر او الكيان. وأعرف أن الطاعة مطلوبة ولكن في الملتقى  السماوي الذي هو قلبك. لا يستدعي الحبيب الا الحبيب ويصبح الرب لصيقًا بك.

           انت تختبر هذا ان كنت من العاشقين. انا لا أدعوك الى إهمال كلمة نازلة بتفسير او بآخر عن الله ولكني أدعوك الى حال الحب الذي لا كلام فيه وفي السماء ألسن الملائكة تبطل الكلمات التي انسكبت  علينا بسبب من التعليم. فالتذكير ابن العلم. الله لا يبطل في الملكوت العلوي  ولكن ذكره سيبطل لأنك لست في حاجة الى كلام بشريّ ولسان الملائكة الصمت.

           في هذه الدنيا وسائل عيش ووسائل تعلّم ولكن هذا كله يبقى على مستوى الوسيلة. اما الحب فليس بوسيلة لأنه معمودية الضياء الذي ليس بعده الا طبقاته. اذ ذاك، تحيا من وجه الله المبارك وتنمو الرؤية في عينيك الروحيتين ويزداد الله سطوعا لأنه ليس لوحة جامدة. والحي ليس له لوحة. في هذه الدنيا الحي خاضع للزمان الذي يجمده. والله ضياء كامل يتقلّب النور فيه ليحييك وأنت تسير ليس وراء هذا النور ولكن فيك حتى تحيا الى الأبد في صفاء لا يوصف.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

عمل الرسل وأتباعهم/ الأحد/ 4 أيار 2008/ العدد 18

الرسائل التي تتلى من الفصح وصاعدًا هي من كتاب أعمال الرسل لأنه هو الكتاب عن الروح القدس والكنيسة، ويسمّيهما سفر الرؤيا «الروح والعروس»، الروح هو الذي يمدّ الكنيسة بخصبه ورعايته ويقودها جيلا بعد جيل على رغم خطايا أبنائها وخطايا رعاتها الذين يهملون افتقادها.

ويُظهر الكتاب أن الرسل صنعوا آياتٍ وعجائب كثيرة في الشعب. وهذا يدلّنا على أن قوّة المسيح في الشفاء امتدّت بعده الى هؤلاء الذين اختارهم وأحلّ عليهم روحه القدوس في العنصرة.

لا يقول سفر الأعمال إن ناسًا كثيرين انضمّوا الى الكنيسة بسببٍ من العجائب. لا بد ان هذا حدث، ولكن الكثيرين انضمّوا بسبب تعليم الرسل ووعظهم. فبالتعليم والعجائب كانت لهم قوّة المسيح نفسها.

وفي المنطق نفسه قام بعض القديسين بالعجائب. على سبيل المثال تذكر معجزات والدة الإله والقديسين الذين نسمّيهم «صانعي العجائب». لتطويب قديس من قِبل كنيسة مستقلّة، لا نشترط حدوث أعجوبة ولكن نشترط قداسة السيرة والتعليم المستقيم الرأي عند من كان يعلّم.

وكما كان يؤتى الى السيّد بمرضى، أُتي الى الرسل بمرضى. اذًا ليس صحيحًا ما يقوله بعض الجهلة ان ليس من عجائب بعد المسيح. ذلك لأن الرب يسوع قائم في كنيسته بروحه القدوس. والكنيسة استمرار المسيح ولها قوّة المسيح لأنها عروسه.

ثم يشير المقطع الى شيعة الصدوقيّين الذين تحدّث عنهم الإنجيل. هؤلاء كانوا نافذين عند الرومان وكان نفوذهم يأتي من أموالهم. هؤلاء حبسوا الرسل في الحبس العام. «ففتح ملاك الرب أبواب السجن ليلاً» وأكمل الرسل خدمتهم في وعظهم في الهيكل، والمسيحيون في فلسطين لم يكونوا بعد قد انفصلوا عن الهيكل حتى تهدّم هذا في السنة السبعين على أيدي الرومان فعُرفوا كمذهب جديد مستقلّ عن اليهودية.

وكان الرسل يتكلّمون «بجميع كلمات» الحياة الأبدية التي أخذوها عن السيّد، والإنجيل لم يكن قد دوِّن بعد، ولكنهم حفظوا الكثير منه حفظًا، ولا بد أنهم كتبوا قطعًا من الكلام الذي تفوّه به السيّد حتى جاء بولس والإنجيليّون الأربعة وبعض من الرسل الذين نحافظ على رسائلهم.

وهذا يفرض علينا أن نتكلّم فقط من الباب الملوكي بكلمات الحياة لا بكلمات من خيالنا. أنت، كاهنًا او معلّمًا، تحمل فقط مضمون الإنجيل ولو تلوته بتعابيرك وأسلوبك، ولكن لا تعطي تعليمًا شخصيًّا منك. تتكلّم بالفصحى او بالعاميّة لا فرق، ولكن تبقى أمينًا للإنجيل ولكل الكتاب المقدّس، وإن كنت تعرف الآباء فتدعم المضمون الإنجيلي بأقوال الآباء والعبادات. لا علاقة لك بالشعراء والأدباء ولا تقدّم تفسيرًا خاصًا بك الّا اذا تأكّدت أنّ فيه ولاء للإنجيل.

طبعًا لك أن تدعّم وعظك بالمزامير والعهد القديم على أن تركّز كلّ فكرة على المخلّص لأنك تلميذه.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

السياسة اللبنانية ورجال الدين / السبت ٣ أيار ٢٠٠٨

يظن الإنسان اللبناني أنه يفهم السياسة لأنه يتكلّم عليها ويقرأ الصحف ويشاهد التلفاز. اجل يتحدّث بسياسة اميركا وأوربا والعرب والصين وزعماء لبنان وقراه. يحلل الأخبار بناء على ما قرأ وسمع. ولا يسعك ان تطلب من الإنسان العادي أكثر من ذلك. وفي كثرة الأحوال يردد ما سمعه من البيك لأن اللبناني ليس فردًا ولكنه عضو في قبيلة. انه انسان ملتصق بالجماعة اكثر منه شخصا مستقلا. اذ ذاك زعيمه مصدر فكره فيغضب اذا غضب ويهدأ اذا ذاك هدأ وتتحدّد علاقاته مثلما يُملى عليه.

                      لا تقوى هذه النزعة الحادة في الظاهر عند الحزبيين اذ المفروض ان عندهم ثقافة سياسية ولكن هل عندنا أحزاب حقا؟ لست مؤهّلا للجواب المسؤول عن السؤال ولكن انطباعي ان بعض الأحزاب لا تأتي قراراتها او توجيهاتها من مجلس شورى او لجنة مركزية عن طريق التصويت بعد مناقشة مستفيضة بمقدار ما تأتي من سلطان الرئيس الموهوب «الكاريزمي». ففي الحقيقة ان مجلس الشورى يبتلع الأعضاء وان رئيس الحزب او شخصا آخر قويا يبتلع مجلس الشورى وان الحزب في كثير من الأحوال مُشخصَن. وهذا ورد عند احزاب كثيرة قوية في اوربا فكان الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفياتي لينين حتى وفاته او مرضه الأخير ثم كان ستالين. والحزب النازي كان هتلر حصرا. ونكون، اذ ذاك، في ما يظهر حزبا وهو في الحقيقة قبيلة.

                      تحصل مناقشات بالتأكيد ولكن شعوري ان الأول يخشاه الآخرون ويؤثرون الانسجام بالأكثرية او يتركون الحزب. المناقشة هي للوصول الى الحقيقة لأن السياسة تحتمل وجوها كثيرة وليست الحقيقة في ما يقوله هذا او ذاك. ليس في معظم الأحزاب لين ولست داعيا الى الاسترخاء كما لست أدعو الى الاستبداد الذي كثيرا ما نجده في اللعبة السياسية.

                      البلدان الصغيرة دائما أشد فظاظة واختلافا في المجال السياسي. وحيثما تجد حزبين فقط كما في انكلترة والولايات المتحدة قلما تعثر على إنسان يكلمك بالسياسة. ربما هم يثقون بمندوبيهم الى البرلمان. هذا قليل في لبنان. فالصلة بين النائب عندنا «عائلية»، «صداقية»، انتظار وظيفة او اجراء معاملة ولكن ليست محاسبة او تواصلا او نقاشا بين النائب وكتلة من الذين انتدبوه. من هذا المنظار نجد اللبناني ولو فهم أشياء في السياستين الخارجية والداخلية لا يؤثر في قرارات نائبه.

                      على اللبناني ان يسلك في السياسة سلوكًا حضاريًا على غرار الدول الأولى في العالم. بكلام بسيط لا تسييس الا في الوعي الشخصي ولو كان لا بد من التكتل فيه.

#                  #

#

                      الأمر الآخر عندنا في التسيس يطرح مسألة تبني رجال الدين الذين ينطلقون بشرا من بشريتهم وانت تنتظر منهم روحية تأتي من معتقدهم. هنا لا بد لي ان أفرّق بين القادة الروحيين في الإسلام والمسيحية. فالإسلام له مع الفكر السياسي تماس من بعد نيلنا الاستقلال. ذلك ان الإسلام دين ودنيا اذا كنت فاهما له مع ان بعض العلماء يقولون منذ العشرينات في مصر ان الإسلام لا يتضمّن وجوده في دولة او مع دولة ولا سيما انه في عصره الذهبي كما في العهد العباسي كان العلماء شيئا والخليفة شيئا آخر. هذا ما أكّده دائما رضوان السيّد في أدبيّاته وما هو أساسي في الإسلام ان ليس فيه اكليروس ولا رجال دين ولكن فيه علماء. ولذلك لا يصح نظريا ان ننسب حديث العلماء الى بنية إسلامية ملزمة للمؤمنين. وليس للعلماء المسلمين قدسية تمنع المؤمنين من الاختلاف معهم.

                      اما في المسيحية فرجل الدين له قدسيته بسبب من وضعه الكنسي. مع ذلك هو لا يملي على رعيته خطابا سياسيا مرتبطا بمقامه. ولكنه رجل محب للبلد، يتألّم من أجله ويعتقد ان له الحق ان يوجّه المؤمنين بخاصة والمواطنين بعامة. أنا أرفض قول الإيديولوجيات التي تقول يجب ابعاد رجال الدين عن الخطاب السياسي. اولا هذا احتقار لرجل له كل صفات المواطنة. يلام ديموقراطيا اذا وقع في القدح والذم. ومن قال لك ان خلاص الوطن لا يأتي عن طريق هذا الإنسان. ان سويسرا وضع تنظيمها وروح ديموقراطيتها راهب أنقذها من الحروب الداخلية. ما أرفضه من داخل الكنيسة أن تتحوّل هذه الى حزب او تتحيّز في زمن الأزمات. المشكلة ليست في ان يتكلّم او لا يتكلّم. المبتغى ان يتكلّم صحيحا.

                      السؤال ليس في حضوره في العرين السياسي او غيابه عنه. السؤال هو في طهارته وصدقه ومن داخل الإيمان نقول ان الكاهن او من علاه مقامًا ليس له ان يقود نضالًا سياسيا لئلا ينسب الى الكنيسة ما يقوله وهو ملهِم فيها لأن الكاهن او الأسقف يتماهى في لبنان شاء أو أبى وطائفته وهذا يقتضي من قبله حذرا في التعبير وهدوءًا في المضمون واللهجة معا وهذا يتطلّب الاعتدال الذي هو طريق من طرق السلام. وبسبب من الدقة في التعامل بين الطوائف يحسن ان تتبلور المواقف في الشورى فلا يحسب على الجماعة ما يقوله فرد. وليس من الضروري ان يجمع الأحسنون في اية طائفة على موقف منها. غير ان التشاور أقوى في الإنقاذ والأبعد عن الخطأ الفردي لكون القداسة ليست متوفرة على درجة عالية ولا الحكمة متوفّرة كثيرا وليس من معصوم.

                      وفيما أعمق من كل هذا أن الكنيسة مكان للتطهّر وأسلوبها الأساسي التعليم والوعظ وتقديس النفوس وليس إصلاح الخطاب السياسي. هي شيء مختلف ليس فقط عن الدولة ولكن عن الوطن ايضًا. فالدولة حاكمة فقسرية والكنيسة لا تحكم ولكنها تراقب الوطن. وفي لبنان تراقبه مع المسلمين. ولو كنت أعتقد ان الإنجيل مصدر لكل تصرف في دنيانا الا انه بالدرجة الاولى دعوة. اجل، يحمل الإنجيل هواجس الوطن ولكن ليس في الكنيسة سلاح ولا يخرج منها أحزاب تعمل باسم المسيح. الوطن وحده يدعو الى حمل السلاح دفاعا عن الكل بواسطة الجيش والقوى الأمنية الأخرى.

                      الى هذا هناك واقعية تكشف لنا ان الخطاب المسيحي قلما يؤثر في مجرى الأمور وسلامة المسيحيين من اجل استمرارهم في هذا البلد تقضي عليهم بألا يقعوا مجددا بغلطة التأسيس لميليشيات  فإن فعلوا ديسوا. واذا تمزّقوا في ما بينهم ينتهون جسديا او يضطرون الى هجرة قاسية. السلام هو الضرورة الوحيدة لأداء الشهادة الإنجيلية التي أكسبتهم وجودهم في كل بلد أقاموا فيه. لست أعتقد أن هناك خيارا مسيحيا في اي ظرف وزمان. كان يقال في الحرب الأهلية ليتوحد المسيحيون ثم يحاورون المسلمين. كنت دائما أقاوم هذه الفكرة لأنهم قد يُجمعون على خطر. هل بعد ذلك يعرضون الخطأ على الآخرين؟

                      وكان دائما يزين لي ان التشديد على «سياسة مسيحية» هو الأخذ بالطائفية المسيحية. المسيح لم يدخل في سياسة أبناء جنسه المقاوِمة للرومان. لم يرفض سلطة وما تبنى سلطة. قال للوالي «مملكتي ليست من هذا العالم».

                      لا يفهمنّ أحد من هذا الكلام أني أتمنّى الا يخطب اكليريكي في شؤون الوطن باسم المسيح. انا قلت قبل سطور: رجل الدين مواطن. فاذا أراد أن يتّخذ موقفًا سياسيا فله ان يتوقع ان لأهل السياسة الحق في أن يجادلوه او يساجلوه لأنه يكون قد جعل نفسه رجل سياسة. الى هذا كيف لا يمتزج في عقله الموضوع السياسي والموضوع الروحي؟ من يؤكّد لنا انه لا ينطق عن هوى؟ من يقول لنا انه مرجعية في مجال لم يدرسه وهو درس اللاهوت، والسياسة علم آخر وله تقنياته.

                      هو قد يؤمن بأنه يدافع عن الوطن ولا سيما في هبوطه ولكن ما الحدود بين الكلام السياسي والكلام الوطني؟ افهم اننا لسنا جميعا أخصائيين في هذه الأمور ولا سيّما ان المواطنية أرض يعيش عليها كل الناس وان الاكليريكي يمكن ان يتمتع بحصافة لا يملكها السياسيون الذين الأخلاق ليست اختصاصهم وان الأخلاق كثيرا ما ألهمت انسانا ذكيا من عامة الناس.

                      الى هذا ايضا وايضا ما يسميه المسيحيون الرعاية يؤخذ من رعاتهم كل وقتهم. وهم عن طريقها ينفذون الى الخطاب السياسي الوطني اذا اضطروا ان يخوضوه. ولكن ان ينتقد هذا المنحى او ذاك، هذه الوزارة او تلك حتى بلا انفعال فهذا يعني ان الذين يدخلون هذا الحقل محّصوا كل الملفات. وهذا لا يتوفّر لعدم الاختصاص او هذا سياسة مبتورة. بربكم ارعوا النفوس الموكلة اليكم رعاية دؤوبة والباقي شورى بينكم وبين المواطنين الفهماء. اوكلتم خلاص النفوس بالوسائل المعروفة في الكنيسة. قد تنزل عليكم رؤى او التماعات ذكاء. انا لست انكر ذلك. ولكن هذا هامشي في عملكم. واذا كان هذا كذلك يسودكم العدل ولا يسودكم التحير او التنقّل بين موقف وموقف. القضية قضية معرفة ما في ذلك ريب ولكنها ايضا قضية روحية. طوعوا كل شيء لكلمة الله التي هي دائما هادئة. ثم طوعوا كل شيء للصبر الذي يمكن ان يقترن بالشجاعة والحماسة. واذا هدأت النفس لكم ان تختاروا عباراتكم بالتأني والرأفة بجميع الناس، اذ ذاك، ينزل عليكم الهدى الإلهي.

Continue reading