Monthly Archives

October 2008

2008, مقالات, نشرة رعيتي

العطاء المبرور/ الأحد 26 تشرين الأول 2008 / العدد 43

في الكنيسة العيش في سلام هو نمط العيش والسلام هو المسيح. غير أنّ السلام يقوم ليس فقط على الانفعال العاطفي ولكن على أساس إيماننا. الانفعال الذي يُعظّم كل الإكليروس مثله الانفعال الذي يخفض قيمتهم جميعا. فالكنيسة اذا كانت جسد المسيح تحوي كل أعضاء الجسد إكليروسًا كانوا ام عوامّ. وهؤلاء ليسوا طبقتين اذ ليس في الكنيسة من طبقات. الاختصاص في المسؤوليات، فهناك من يقدّم الذبيحة والأسرار، ومن نسمّيهم اليوم علمانيين يشتركون فيها، وليس كل الأعضاء لها وظيفة واحدة كما يعلّم الرسول. واذا قلنا في هذه الزاوية ان الكاهن له إكرام وإجلال يأتيانه فهذا من كون الأسقف وضع عليه يده.

الى هذا فهناك صلاة تجعل هذا الرجل أبًا روحيا، وأبوك ليس ابنك لتؤدّبه ولو كان كل مخلوق عاقل يحتاج الى نصيحة بنوية وبالنصح نبني بعضنا بعضا. أنا أفترض أن أباك الروحي يُفصّل لرعيّته كلـمة الحـق بـاستقـامـة، وانـت طاعتـك للكلمة، والمفتـرض ان يرشدك اليها كما المفترض ان تطيع الإرشاد.

في هذا الشرق كان الأولاد يقبـّلون يد أبيهم وأمّهم. وهذا ما يقـوم به الأرثوذكسيّون في كل أماكن التقوى تجاه الكاهن بعد ان يأخـذوا منه البرَكة بإشارة  الصليب عليهم. اما مَن أراد ألا يقـوم بهذا الانحناء فهذا شأنه ولنا أن نعلّمه تقاليدنا. ومن أراد أن يتصرّف «مدنيًا» وأن يصافح باليد فهذا شأنه وهذا شأن المسيحيين في الغـرب اليـوم. وليس علينا نحن ان نقلّد أحدًا. واذا ذهبتْ بك العاطفـة أن تقبّل الكاهن او المطران على خدّيه فمن يناقشك، واذا أردت ان تتصرّف معه تصرّف الندّ والندّ على الطريقة الديموقراطيّة او الشعبويّة فلك ذلك. ولكن ان «يَنْسمّ بدنك» لأن غيرك متمسّك بالتصرّف التراثي فهذا ليس من الديموقراطيّة التي تبشّر بها.

قال دوستويفسكي العظيم  في إحدى رواياته: اذا أكرمتَ الكاهن بتقديم دلو من اللبن او بعض بيضات تلحظ ان عنايته تزداد بعائلتك. في الكَرَم تدريب وترويض. انا لست نصير الهدايا من أيّ نوع كانت، ولكنّي نصير العطاء المجّاني الذي لا يطلب صاحبه شيئا لنفسه. هناك كنائس نظّمت العطاء بالراتب الشهري المجموع كلّه او بعضه من الصواني ودخل الأوقاف. وهناك كنائس عندها تدبير آخر. وهذه مشكلة لا تزال معقّدة عندنا. في أبرشيّتنا لست أعرف كاهنا تمطر عليه العطايا من كل صوب. اذا كانت ميزانيّتك لا تسمح لك بأيّ تبرّع شخصي لكاهنك فمن يطالبك به؟

كثيرون ممّن حدّثتهم منذ ستين سنة قبل مجيئي الى هذه الأبرشيّة وبعده عن احتضان الكاهن ماليا كانوا يجيبون: عندكم أوقاف كثيرة. هناك رعايا ليس فيها وقف واحد، وهناك أراضٍ تعطي غلّة حينًا ولا تعطي احيانا. وهَب ان ليس عندنا من ينصرف حقيقة ليجني للكنيسة دخلاً من الوقف الزراعي، يعني هذا ان ليس عندنا دخل كافٍ في كل مكان لمعاضدة الكاهن. الذين يتكلّمون كثيرًا عن ضرورة الاهتمام بالأوقاف ولا يبذلون من جيوبهم يستعفون من واجبهم الشخصي لتحريك أوقاف لا تتحرّك كثيرًا. انا أعرف أكثر من ضيعة ميسورة ولكن ليس فيها أوقاف، وثلاثة أرباع المؤمنين فيها لا يـجـيـئــون الى الكنـيـسة، ويـبق الكاهـن محتاجا.

هل أنا بكافر اذا دعوت للكرم؟ انت لا تكسب الكاهن بالعطاء. انت كاسب نفسك بالحبّ وفاتح لنفسك الملكوت.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

هل من تطوّر في المسيحيّة؟ / السبت ٢٥ تشرين الاول ٢٠٠٨

المرّة تلو المرّة تسمع من يتمنّى تطورًا  في الدين لملاءمة العصر وفي الحقيقة يريدون بهذه الكلمة ملاءمة الشهوات. وهنا وددت أن أتكلّم على المسيحيّة وحدها فذلك أسهل عليّ. لعلّ تشدّد بعض في حفظ هذه الطقوس وحرفيّة التفسير كان من العناصر التي تدفع بعضا الى فكرة تحديث العبادات والعبارات وربما العقيدة. والمنطق عند هؤلاء اذا صفت النيّات انهم، بوعي او غير وعي، يأخذون التطوّر شاملا لكلّ الوجود ويجدون فيه حقيقة الوجود. معيار الحقيقة عندهم التغيير لأن التغيير نتاج العقل ولأن العقل هو كل شيء.

          يذهلني في كل هؤلاء ان أحدًا منهم لم يحدّد العقل ولم يكشف لنا ثبات العقل واذا كان معرّضًا للعطب واذا ما كان واحدا عند جميع الناس. والعقل عند هؤلاء هو العلم والعلم حقيقته لا يجوز النقاش فيها ثم العلم تحول الى تكنولوجيا واستطاب هؤلاء القوم عظم التكنولوجيا ولم يبحثوا في أضرارها او في حدودها.

          إزاء هذا الاقتناع بالعقل تأتي الديانات التوحيديّة لتقول ان الله تكلّم بالأنبياء ولتقول المسيحية انه تكلّم أخيرا بابنه يسوع المسيح. السؤال الذي يتطارحه بعض المؤمنين المدققين: هل هذا حقا هو كلام الله وما معناه اذا ثبت انه كلام الله وهل يُفهم من خلال التاريخ؟ أليست القراءة التاريخيّة تدخل عنصر النسبيّة في إدراك الحقيقة؟

          هذا كلّه أُشبِع درسًا في المسيحيّة ومنذ عصر الآباء دخل الظرف التاريخي في فهم الكلام الملهم. فالكلام الإلهي عندنا يُنسب الى الحقيقة الأبدية ولو كان فهمه متعلّقًا بظروف التفوّه به بشريا. المطلق لا يخسر شيئا من مطلقيّته اذا لوناه بأوضاع الأزمنة التي تأطر بها.

          هذا موضوع الفهم والمضمون لا يتغيّر لأنه صادر عن فم الله. لا تغيير اذًا في المضمون اذا الله قال. كيف يجب ان تفهم ما قال؟ هنا نستعمل النقد الأدبي والنقد التاريخي وسيلة لنصل الى ما جاء مطلقا. اذ ان الله يكلّم التاريخ كلّه في أسلوب التاريخ الذي نزل فيه الكلام ولا بد تاليا من درس الحضارة التي انكشفت فيها الكلمة ولكن الكلمة بمضمونها هي اياها. يبقى ان مقاصد الله قد لا تنجلي بوضوح كامل للقارئ او المفسّر. ذلك لأن المقاصد هذه مسكوبة بقالب معين.

#                    #

#

          الكلمة الإلهيّة نص ونطبّق عليها قواعد فهم النصوص. والكلمات المنسكبة بما فيها من إطار حضاري وتاريخي تبقى الكلمات الإلهيّة التي لا يناقض الله فيها نفسه والا لما كانت إلهيّة. فالنص ثابت وتكتشفه بالنقد التاريخي للنصوص وعلى رغم هذا التأطير والحدود النقديّة لك ان تصل الى معرفة المعنى الإلهي.

          اعترف ان هناك صعوبات جمّة للفهم اذ ينبغي ان تغرق في القواميس اعني قواميس اللغات الثلاث التي استُعملت في العهدين القديم والجديد لتصل عند خروجك من القواميس الى العمق. مع هذا هناك مشاكل لا تنتهي. كيف يلتتقي الفهم الإلهي والفهم البشري. الى أيّة طاقة فينا مرسلة الكلمة الإلهيّة؟ كيف يتم التلاحم بين العقل الإلهي والعقل البشري؟ كل هذا لا بد له من إدراك لتغوص على العمق الإلهي اللابس كلمات معربة.

          المسيحيون يضيفون الى هذا ان فهم المصادر ليس أسير اللغة. هناك الروح القدس الذي بعدما ألهم الكتبة النص هو إياه الذي يلهم القارئ والكنيسة إدراك النص لأن النص لا يأخذ مداه فيك الا بقوّة الروح. فاذا أخذنا بكل هذا نصل الى الوحي ونحيا به. غير ان محدوديّة الكلمة وتاريخيّتها لا تلغيان الحقيقة الأبديّة التي تحملها الكلمة. معناها ومبناها من حيث هو لباس لها.

          تلك هي النصوص التأسيسيّة الصادرة من الله في روحه القدوس التي لا تتغيّر بتغيّر الأزمنة لأن الأزمنة لا تأتي بمضمون ولو أتت حسب التنقيب العلمي بتفاسير تلقي الضوء على الأساس الذي الله واضعه. اما اذا كانت النصوص التأسيسيّة لا تتغيّر ففي المسيحيّة ان العبادات قابلة للتغيّر مع المحافظة على الجوهر. فاذا اتخذنا القداس الإلهي مثلا لا يظل يعني شيئا اذا مسست بماهيّته التي هي تحويل القرابين الى جسد المسيح ودمه. تؤطّر هذا بترتيل يختلف وفق التربيّة التي تريد اعطاءها. الأنظمة تتغير في حدود معيّنة. صورة الصوم عندنا مثلا قابلة التعديل فتأتي نسكه او تقشفه في شكل او في شكل آخر مع المحافظة على روحه. بخلاف ذلك لا يمكنك إقامة جماعة بلا أسقف أو قس لأن هذا بنظر الكنائس التراثية فيه كشف إلهي. تغيير الأحكام والنظم من ضمن روح الوحي.

          ولكن ليس من تغيير لتلائم بشكل هذا الدهرا. لا تبطل الأخلاق التي هي جزء من الوحي لتنسجم مع شهوات اهل العصر. لا تبطيل العائلة مثلا لمسرة المنحرفين: لا تقوم باختبارات على الجنين لأنك بذلك تقتله ولو كان في ذلك انفتاح على معالجة بعض الأمراض.

          لا تزول ماهية المعتقد ولو كان ممكنا نظريا ان تغير الصيغ العقدية لتوضحها حسب العقليّة المعاصرة. لا يسعك مثلا ان تلغي الثالوث ولو استعملت تعابير جديدة للتعبير عنه. فقد لا ينفعك هذه الأيام ان تقول ثلاثة أقانيم لأن لفظة أقنوم سريانيّة لا يفهمها احد في العالم العربي ولكن لك ان تستعمل عبارة ثلاثة وجوه متقابلة كلها من جوهر واحد.

          قد لا تقول للمسيح طبيعتان إلهيّة وإنسانيّة فتقول مثلا انه من عنصرين إلهي وإنساني اذا باتت مفردة طبيعة غير مفهومة لأنها آتية من عقل أرسطو ولكن تبقى مستعملا عبارة تجسد الكلمة اذ لا اجد ما يعرف على التقاء الإلهي والبشري في المسيح اليوم لفظة أفضل. ولكن في كل هذا التغيير ليس من انحراف عن مضمون العقيدة.

          الفلسفات تتغيّر ولك ان تدخلها للتعبير على ما بدُفع مرة  للقديسينا. نحن لسنا أسرى للفلسفة اليونانيّة التي جاءت فيها عباداتنا وانا اعرف ان كبارا في العالم الأرثوذكسي يخالفونني هذا الرأي. انا لا استطيع ان أفهم انك مكبل بالفلسفة اليونانيّة. انا ما قلت مع هارناك ولا مع استاذي الكبير جورج فلوروفسكي ان المسيحية التي نعرفها مزيج من الانجيل والعقل اليوناني. حتى مع إصرارنا على عبارات العقيدة المجمعيّة ولا سيّما المجمع النيقاوي الأول ما كنا سجناء الفلسفة اليونانية ولكني اقول ان توضيح العقيدة للعقل المعاصر هو امر قد يكون مفيدًا لتعميم البشارة.

          اما ان يكون عندك مضمون آخر فهذا يعني ان الله لم يتكلّم بصورة نهائية وكاملة وان كل عصر يأتي بمضمون جديد. من قال ذلك يعني في الحقيقة انه يقف من الكلمة الإلهية موقفا انتقائيا وان العصر ينشئ ايمانا جديدا ليس من النصوص التأسيسيّة.

          لا، ليس من تطور معقول للإلهام المسيحي الذي ظهر دفعة واحدة ولئن كانت الكنيسة عندها حرية كبيرة في تطبيق النصوص التأسيسيّة احكاما وأنظمة وعبادات حتى يبقى الله هو الله.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

الكرم/ الأحد 19 تشرين الأول 2008/ العدد 42

رسالة الكرم من أبلغ ما كتبه بولس في الكرم. يستهلّ الحديث بشجب البخل ولكن دون استفاضة مع انه رذيلة كبيرة. يدعو الرسول المؤمنين ان يعطوا بلا تأسّف او اضطرار كما نوى المعطي في قلبه بمعنى ان العطاء ينبغي ان يقترن بالمحبة، بل يذهب بولس الى ان يكون المعطي متهللا.

مكافأة لهذا التهليل يوضح صاحب الرسالة ان الرب «يزيدكم كل نعمة»، ولا يفيد هذا الكلام ان الله يمنحكم خبزا او عيشا راغدا، ولكنه يشمل العطاء الروحي ايضا لأن محبّتكم تخصبها محبة الله لكم فتستطيعون ان تزدادوا في كل عمل صالح. ثم يشير الى كلام جاء في المزامير: «بدَّدَ، أعطى المساكين فبرّه يدوم الى الأبد» (مزمور 112: 9).

لا يقول الكتاب فقط «أعطى المساكين» فهذا موجود عند الكثيرين، ولكنّه يقول: بدّد، اي أعطى كثيرا جدا وربما أعطى كل ما يملك. ثم يصعّد بولس لهجته ويؤكّد ان الرب يرزق الزارع زرعًا وخبزا للقوت…

«ويكثّره، ويزيد غلاتكم». الكثيرون عندهم هذه الخبرة، وهاكم قصة جرت معي أقنعتني بأن ثمة صلة بين المحتاج وربه. جاءني في سنوات الحرب مَن قال لي: انا بحاجة الى ثمانين ألف ليرة -وكانت، آنذاك، مبلغا مهما- لأني اريد ان اشتري صمامًا لقلب زوجتي، وهذا ثمنه. قلت له: ليس عندي هذا المبلغ فغادرني الرجل بعد ان دمع.

بعد قليل ذهبت الى غرفة السكرتاريا في مطرانيّتي لأبلّغ المكتب شيئًا اذ انقطع آنذاك التلفون الداخلي، فرأيت الرجل جالسا عند الباب الخارجي، فسألته ما بالك انت هنا. قال لي اريد مبلغ المال. قلت له سأعطيك إياه. قال لي: انت قلت لي ليس عندك هذا المبلغ. أجبته أنت تركتني منذ خمس دقائق، ومنذ دقيقتين صار المبلغ عندي لأن أحد المؤمنين هاتَفَني قائلا: اني مرسِل اليك ثمانين ألف ليرة اي المبلغ ذاته الذي طلبه الرجل.

عند ذاك قلت في نفسي هذا لا يمكن ان يكون نتيجة الصدفة فإن وجع هذا الرجل صعد الى الله، والله ألهم رجلاً كريمًا بإرسال المبلغ نفسه إليّ. فاذا هو المبلغ ذاته الذي طلبه هذا الرجل مني. لست أعلم، الله يعلم.

ثم يصرّ بولس على الكرم ويقول: تستغنون في كل شيء لكل سخاء خالص (اي خالص لوجه الله وليس للمكابرة) فلا تدّعون شيئًا ولا تستعظمون أنفسكم بل ترفعون شكرا لله الذي ألهمكم العطاء.

اذا أردت ان تربح السماء فإنك تربحها مع المساكين. لا تصعد وحدك الى السماء ولكنك تصعد مع الذين أحببتهم او ساعدتهم.

يرفعك عطاؤك الى الملكوت الذي صرت أنت منه في هذه الدنيا.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

حق المخطئين / السبت 18 تشرين الأوّل 2008

إن قلت إنّ المخطئ يجب أن يزول أعطيت نفسك حق قتله. لا يقوم العدل اي الحياة للكل الا اذا قلت ان العدل يساوي بين المصيب والمخطئ في الحياة. الحياة هبة بقوة واحدة لمن اختار الفضيلة واختار الرذيلة لأن الإنسان ولو وُجد من أجل الخير إنّما لا يوجد قسرًا. فإن انتصار الحق ينفي استعمال السيف لنصرة الحق لأن هذه النصرة هي دعوة والدعوة تفترض عطاءها بالحرية وتقبّلها بالحرية ليكون القلب لله او للحقيقة.

الدولة اي المجتمع المنظّم بالقوّة هو الذي يؤمّن حريّة الخيار للحق وحريّة الخيار للباطل اي التلاقي السلمي بين أهل الحق والباطل بحيث لا يضطرّك أحد في الحكم او في خارج الحكم لاقتبال اي خيار الا خيار ان تذهب مذهبك في الصواب او الخطأ. وليس المجتمع السياسي ولا جزء منه مفوضا لاضطرارك على اي نحو تنحوه في الاجتماع البشري الا في ما هو السلام. فوظيفة الحكم الأولى هي تأمين السلام في ما يعني حقّك في اختيار ما شئت من دين وفكر وتأمين رغبتك في الدعوة الى اي ما لا يخلّ بالنظام العام والأخلاق حسب المصطلح عليه في تاريخ الفلسفة السياسيّة عند أفلاطون حتى الفارابي.

هناك دعوات تقوّض الانتظام الاجتماعي مثل حريّة القتل لأي سبب كان مثل إبادة أهل دين آخر أو حجز حريّاتهم وهناك الدعوة الى الزيجات المثليّة على ما يقوم اليوم في بعض البلدان وكذلك حرية الإجهاض والموت الهنيء. وتبقى حرية البحث بما فيها حرية الإلحاد.

أعترف ان ثمّة مسائل خلافيّة على صعيد الأخلاق ولكنّها قليلة في هذا البلد فليس من بلد يقبل بحرية الدعارة او بالتحرّش الجنسي بالأطفال او بالخيانة الزوجيّة وهنا تدخل القوّة الدوليّة القسريّة. ولكن ليس للحكم او لفريق من المواطنين تكفير احد حتى موته وإن جاز له أن يناقش أمور اللاهوت الى الأبد.

مؤخّرًا زارني عالم مسلم كبير غير عربيّ وتباحثنا في أمر الحوار الإسلامي المسيحي وسألني عن تصوّري له. قلت له ليس من حوار صادق بين الأمّتين الا اذا اتفقتا اولا على الا تتذابحا. الا تكون حياة احد منّا بيد الاخر، ان تكون أعزل وأنا مسلّح او العكس يبطل الشرط الأوّل للحوار اي السلام. هذا كلام سابق للمحبة. اما المحبّة فتقضي بألّا تخلط الدين بالسياسة اي الا يكون شرط حوارنا ان تسودني او أن أسودك في الانتظام السياسي. والا يكون لأحد على آخر امتياز في الاجتماع المدني لأن ذلك يبطل صدق الحوار.

# #

#

أعرف أن العلماء من الديانتين تساجلوا في العصر العباسي في حرية كاملة ولكن في عصر المماليك وبعده لم تبقَ المحادثة السلامية قائمة. الحريّة الكاملة في دولة ديموقراطيّة شرط للمقابلة الكلاميّة: في البلدان التي ليس فيها الدين قسريا الصداقات تعاش ولكن اللسان مكموم.

في هذا المنطق لا بد من سماء منقشعة وهدوء قلوب وصدق معاملة لتنفتح النفوس بعضها على بعض بين المذاهب في الدين الواحد او بين التيار والتيار ولا بد من الاعتقاد بأن أحدًا لا يحمل تفويضًا إلهيًا لهدر دم اي انسان لأن الله ليس إله الدم بل إله الحب بين البشر كائنا ما كان معتقدهم وهو يفصل بينهم في اليوم الآخر. افهم ما يقوله توما الأكويني العظيم من أن الخطر لا يحق له أن يبقى ولكن توما لم يفرّق بين الخطأ والخاطئ لأن الخاطئ يرحمه الله في هذه الدنيا وأحترم حياته انا ان كنت لله.

لست أريد أن أتأمّل في خلط المواقف الدينيّة والظرف السياسي في لبنان. أتحسّر على ذلك وأبكي وأنا موقن أن الرب لا يريد ان يودع المخطئون السجون لأن السجن للقتلة وليس لمن أعمى الله بصائرهم. “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (سورة الكهف، الآية 29).

# #

#

تحدّث اباؤنا القديسون الأوائل عن كون الرب خلقنا على صورته ومثاله. أحدهم قال إنّ صورة الله فينا هي الحريّة. هذه يريدها الخالق فينا شرطا للخلاص لأنه لو جعلنا نطيعه بآليات وضعها وننسخ مشيئته فينا نسخا لما كنا على صورته. أخلص من هذا الى القول ان الله يريد لنا حريّتنا نحكم المدينة فيها اي انه يريد ان يكون الحاكم ايضا على صورته فلا يخيف الناس بالاستبداد فيتصرّف ضد منح البشر حريّتهم ليكونوا آلات في خدمة مطامعه.

واذا اعتبرنا عيشهم فيما بينهم لا يكونون احرارًا الا اذا كان كل فريق منهم يعترف بكرامة الفريق الآخر واذا تجادلوا فلكي يقتبس كلّ قسم منهم رأي الآخر يصدر عنه بلا وجل ولا خوف فتتكامل الحريات. وهذا هو العيش الواحد. لا وحدة بلا تنوّع ولا تقابل. ليست الوحدة صبا، انها كالبستان الذي تتعدّد فيه الأزهار وتختلف وجمالها بانسجامها وأنت، مالك عقار، يسجل البستان على اسمك ولكنّه متعة لأصدقائك وضيوفك. وفي نهاية النهايات، كما يقول الروس، انتم مجتمعون وأصدقاء بسبب من هذه المتعة المشتركة.

يؤسفني، كقارئ تاريخ، ان ألاحظ ان التشديد على الحريّة انبثق من الثورتين الأميركيّة والفرنسيّة في القرن الثامن عشر بعد أن عرفت ان قولة المسيح: »تعرفون الحق والحق يحرّركم« لم تنفذ حقا في التاريخ الديني ولكن نفّذها حكّام ابتعدوا عن الكنيسة. أعرف ان الحريّة العميقة، حريّة النفس لا يقدر مستبدّ عليها والدولة المستبدّة لا تقدر على من حرّر الله نفوسهم. ومع ذلك، أتت الحريّة من الأنظمة العلمانيّة ولو كان لها جذور في الأديان على اختلافها هي عطيّة الله. نستمتع بها من حيث جاءت كائنة ما كانت النصوص التي تزكّيها.

انا يهمّني ان تكون، ان ترعى المدينة. لعلّ ارنسان يذهب من هذه الحريّة السياسيّة الى حريّة أعماقه فيتربّى على ألّا تتحكم به شهواته ولعلّ الحرّ ساعده على الكيان الإنساني الحر.

أعرف أن كل هذا حلم وأننا سنناضل الى الأبد او قبل الأبد بقليل لنجعل للملكوت صورة في الحضور السياسي أفي الوطن كان هذا ام في العالم. ليس لأحد سيادة على عالم فيه مَن كان على الصواب وفيه مَن كان على خطأ وهؤلاء كلّهم عيال الله. متى ينتهي العتف؟ متى تنتهي كل أشكال العنف حتى نشتهي ملكوت الوداعة؟

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

البشارة مسؤوليّتنا أجمعين/ الأحد 12 تشرين الأول 2008/ العدد 41

كل مؤمن شاهد ليسوع وتاليا كاشف الإنجيل لجميع الناس. والرعيّة، مجموعة، هي أيضًا شاهد أولًا بمحبّتها وتماسكها وأن يحتمل كلّ منها أثقال بعض. وكلّ منا شاهد للفرج الآتي من التعاون ومحب للمواهب التي يراها عند إخوته. كل منّا كاسب من تقدم الآخرين بالروح القدس ومسرور لكلّ علاقات القداسة التي يلمسها عند الآخرين. والرعيّة تتكوّن بتعدّد المواهب. عند هذا هي غيرة على كلام الله، وعند الآخرين افتقاد للفقراء، وعند ذاك وعظ، وعندنا جميعا تبشير وصلاة مستمرّة. ونحن نجتمع في الكنيسة لتقوى موهبة كلّ واحد، وهكذا نستضيء كمجموعة ونضيء.

الكاهن عنده مسؤوليّة الخدمة بحيث يشدّد كلّ مؤمن بالمواهب التي أوكلت اليه، فلا يطلب منه موهبة لم يرثها من الروح القدس، ولكنّه يصلّي من اجل كل واحد حتى يسلك الطريق التي رسمها له الله، وكـل الطرق الروحيّة هذه يرسمها المسيح وتقود اليه وهـو القائـل: «انا الطريق والحق والحياة». انت لا تستطيع ان تتقدّم الا على المنـهج الـذي وضعه لك الرب، وكل المناهج تصبّ في السيّد.

الكاهن أمامنا لنصبح جماعة مقدّسة فيها تعدد وفيها اجتماع. ولا يشدّك الكاهن الى نفسه ولكنّه يشدّك الى المسيح.

الكاهن معـلّمك أصلاً لتـصير متـعلّما مثـله وتـشتـرك معه في تـعليم الجـميع. كلّ منّا يطلب اليـه الرب يـسوع سلـوكا جميلا، وكل المسالك تكشف وجـه المسيـح.  فاذا تـوافرت النِعـم في الرعيّـة وصارت هذه تـتّقي الرب، تـصبح شاهـدة للمسيح في المجتمع. ليـس الكاهن وحـده شاهـدًا للمسيح، وقد لا يكون الشاهـد الأول لأن التـقوى ليست محصورة فيه، ولكن مسؤوليـّته الأساسيـّة ان يـفتقد كل مـؤمن ليـقوّيـه ويـسنده ويذكّره بـالخيرات الأبـديّة. الكاهن والرعيـة معًا يـشهدان للرب ليصيـرا على صورة الرب، واذا تـمّ الأمر كذلك اي اذا زرعت الكلمة في أرض خصبة -والزارع هو المسيح- يُستدل على المسيح من الأنوار التي يراها الناس في كل الرعية فيتمكّنون من أن يعرفوا اذا رأوها منتِجة، يعرفون ان هذا الإنتاج انّما يأتي من فوق.

غير ان نمو المواهب في الجماعة المصلّية يتطلّب المطالعة، مطالعة الإنجيل اولا ثم الكتب الروحيّة المتيسّرة وصارت كثيرة. العلم بالمسيح وبتعاليمه يجب ان تصدر عن الجميع. «كونوا مستعدين لمجاوبة كل واحد على ثقة الرجاء التي فيكم» بحيث تستطيعون جميعا بلا استثناء تنوير كل انسان ولا يبقى واحد يقول سوف أسأل الكاهن عن هذه المسألة او تلك. كل الجماعة اذا عرفت تصبح شاهدة حسب قول المزامير: «آمنتُ لذلك تكلّمت». لا تصل المسيحيّة الى أحد بلا كلام. ادرسوا كل حين وايضا اقول ادرسوا، وكنوز المعرفة التي تحصّلونها بالقراءة والندوات الفكريّة بدّدوها على جميع الناس.

يجب ان تتشاوروا ليس فقط في قضايا الأوقاف والتنظيم ولكن في قضايا اللاهوت حتى تصير كل الرعاية إلهيّة الفكر وإلهيّة اللسان ولو على درجات مختلفة. لا يعترف المسيح على رعيةٍ خاليةٍ من فكره، عاجزة عن التعبير. الكلمات المقدسة التي تكونون قد تعلّمتموها إن وصلت الى السامع يمكن ان تنقذه من الخطيئة فينضمّ الى التحرّك الواحد نقيا عالما بما «سُلّم مرّة واحدة الى القديسين».

كلّنا بعضنا مع بعض بفم واحد وقلب واحد يُبرزنا المسيح أبواقًا له فيتبدّد الخطأ وتتبدّد الخطيئة لنكون منذ الآن دعاة للملكوت.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

سوريا ولبنان / السبت 11 تشرين الأول 2008

نشأ لبنان الحاضر حلما عند أهله في خطفة من الزمن بين إصرار فرنسا على سوريا الواحدة. نشأ سريعا جدا اذ لم يذكره اتفاق سايكس بيكو ولا معاهدة فرساي ولكنه نشأ وكان المخاض عسيرا ولكنه نشأ من بطن هذه الأرض ليسكن سماء القيم وأفراح الحضارات المتلاقية هنا منذ سومر وبابل وكنعان والعرب ممسوحا بزيت البهجة ومسلمًا لله ليقول كلمات ما قيلت معا قبل هذه الولادة الغريبة التكون، هذا المرسل الى العرب ليقيموا في الدنيا ومع الدنيا.

ما أعظمه تحديا للمتخاصمين على هذا الكوكب اذ يقول على طريقته انه يمكنه ان يجتمعوا وان يغنوا معا أنشودة الحب الإنساني الممدود في الأقطار بعد ان نصب الله بنفسه الأرز على جبالنا كما يقول المزمور 103. كيف تنقض ما رفعه الله ليخترق السحاب ويطمح في السماء؟

ما الغرابة في ذلك فليس من وطن مرسومة حدوده امام عرش الله! كل الأوطان مصنوعة. كلها ضم وفرز بعد ابتلاع. ما فرنسا سوى تحقيق لشراسة سيد النطاق الباريسي بكسر الأقاليم وإزالة اللغات المحليّة. ما ألمانيا سوى قرار من بسمارك. ما الباكستان سوى تقسيم بريطانيا العظمى للهند؟ هل من فرق تكويني من مسلمي الهند وهم مئة مليون ومسلمي الباكستان وبنغلادش؟ بلجيكا دولة مركبة من عنصرين كلاهما كاثوليكي ويشتهيان الانفصال.

شاء الموارنة هذا البلد منذ غورو ويوسف الحويك والأرثوذكس والمسلمون آنذاك ما شاؤوه حتى ارتضاه الجميع على مراحل انتهت بالطائف والدستور الجديد. أرادوه لهم جميعًا وهم متّفقون على حدوده الآن وعلمه وتنوعهم وتعدّدهم واختلافهم في ايلافهم هذا الحليف او ذاك او هذا السند او ذاك واتفاقهم على ان يقولوا لا لإسرائيل فيفكروا من جديد بشأن البلد اذا وقعت مع اسرائيل سوريا معاهدة سلم.

قال لي رجل دولة كبير من عندنا في مقابلة له مع المغفور له حافظ الأسد ان هذا قال له بعد ان تنضم موريتانيا الي سوريا سوف أفكّر بضمّ لبنان. الضم مُرجأ وكأنّ الحب عذري. هذه وديعة حافظ الأسد ونحن له شاكرون. هذه وحدها كافية لتمطر عليه الرحمات. لذلك لا أفهم قول اي لبنان نريد. فحكم الدول ان تدول والأحلاف أن تتبدّل. قال لي فلسطيني مسيحي كبير: ستزول اسرائيل لأنها ستنفجر من الداخل. «لست نبيا ولا ابن نبي». وكتب المناضل الفلسطيني العظيم ادوارد سعيد المدفون قرب بيتي في برمانا: انا أتمنى ان تصير فلسطين دولة واحدة لليهود والعرب. هنا ايضا لست أعلم ولكني أعلم كما يعلم المؤمن اننا لن نترك القدس لأن قلوبنا هناك. سترحل اميركاعن العراق بعيد الانتخابات الأميركيّة الآتية. هل بدأ الغزل بين فرنسا والشقيقة الجارة ام غدا حبا شرعيا؟

# #
#

هل الحلم اذا رعاه الله يبقى تحرّك قلوب ام هو وعد بأننا قادرون على استنزال البركات؟ يهمّنا جميعا ان ترتاح سوريا الى قوّتها ودعوتها الأبدية وهي مذكورة على الأقل مرتين في العهد الجديد ونحن مذكورون أكثر من سبعين مرة في العهدين بما كان فينا من عظمة وما كان من هوان.

لم يبقَ بعد ان تقادم الزمان علينا وعلى الجارة ان تخشى مما اعتبرته في عقود غابرات منا تهديدا على لأمنها. وحتى يطمئن قلبها أقول ليست لنا قدرة على أصغر موآمرة. غير اننا نؤمن ان الحب يستدل عليه او يبرهن عليه بعد ان تنشب خلافات بين زوجين او حتى اختلاف.

ليس لنا من مطلب الا ان تعترف سوريا صادقة اننا وطن نهائي وهي فد رعت الطائف. أمانينا أن تعترف بأن لبنان العميق يحبها والحدود ان رسمت علامة على ان الانسجام لم يبقَ هزيلا. لست أظن انها تشتهينا في احضانها فالاحتضان خطر او حزين. نؤثر ان نكون في قلبها لأنه أطهر من الحضن. الحدود المرسومة طمأنينة ولكن حدود القلوب غير مرسومة لأن القلوب لا تعرف الخرائط. والقلب لا ينثلم اذا تحقق الإخلاص.

وفي دستورنا كلام على الأمة اللبنانية. انا لا أتحدّث عن قوميّة ولكني أتحدّث عن مسحة عربيّة، عن ثقافة عربيّة، عن لغة لنا ليس لسحرها مثيل. هذا يكفي للشعور والتعاون والاستقامة في التعامل من اجل خيرك وخير الجار بحيث تشتهي له ما تشتهيه لنفسك واذا كنت طيبا تؤثره على نفسك ولكن في حريته وحريتك لأن الحرية لا تنقسم. وهذه البقعة من الهلال الخصيب انطلقت منها القضيّة العربية وهي باتت عليها وتغذيها وتذكّر بها وتقدّمها غذاء للعالمين.

وبعد أن برهنت أوربا الغربيّة على قدرتها على التلاحم بقي شيئان التلاحم والسيادات الوطنيّة او القوميّة (قولوا ما شئتم). وغدت الحروب عندهم غير معقولة في الحساب البشري وزالت أحلام الضمّ. وانت تموت حبّا بلا ضم. واذا نزل كلامي على الأرض فأشياؤنا الأرضيّة كثيرة ونتبادلها وندخل مسعى التبادل في كل شيء ما عدا الكرامة التي هي اعتراف بنفسك ومواجهة ومواجهة وهي في اللغة ان يكون الوجه الى الوجه حتى اقتراب القبلة وبعد القبلات يأتي تنظيم العيش في ما وهبنا الله من رزقه وفي ما تتبادل العقول النيرة والمتواضعة بآن. ولبنان مرغم على التواضع ولا يستطيع ان يستكبر ومن لا يستكبر لا يطمع الى ان يرتب الله شعوبه ترتيبا يوافقها وتتوافق الشعوب ان هي شفت.

عندنا كلمتان في الفلسفة اليونانيّة تدلان على العقل . عندنا كلمة إدراك وهو يتعلّق بشؤون الدنيا وعندنا كلمة تعني الإلهي فينا وهو أعلى ذروة في الفهم فاذا منحك الله الاثنين تصير انسانا سماويا لا يعلوه الا الملائكة التي لا تعرف الغرائز ولا أطماع فيها. متى يصير لبنان وسوريا ملاكين يتغنيان بالله!

هل تساعدنا سوريا على إطفاء نار الفتن المتأججة عندنا؟ هل تقف دون انهيار الهيكل اللبناني فخرابه خطر على الجميع. انا عشت زمانا كان وطننا هيكلا نعبد فيه الله ونجلّ الإنسان. في سلك الحقوق الذي انتظمت فيه ردها من الزمن كان لنا قضاء نزيه وعالم. كانت تصدر من محاكمنا أحكام ليست دون محاكم فرنسا جلال وحكمة ومعرفة. نحن عرفنا الطهارة او الكثير منها في كل قطاعات حياتنا الوطنيّة. ورأيت الاستقامة في اعمالنا التجارية والصدق في التلاقي. لم يكن لبنان فاسدا في الإدارة بصورة مريعة. كان في البلد بذور الإخلاص. وما كنا نصدّق ان مجالاته كلها محكوم عليها بالفساد.

لبنان له من ربه وعد بالقيامات.كذلك عرفت سوريا تمارس فيها الديموقرطية ممارسة مرضية وبلدا يعج فيه الفكر الخلاق وكنا نحن واختنا الكبرى متشابهين كثيرا. فلماذا البرقع الذي يحول دون رؤيتك الوجه الوضاء؟ اكشفوا عن الوجوه الأقنعة واستلذوها حتى لا يغرى احد بالأجنبي. «وتعرفون الحق والحق يحرركم». لماذا لا نصبح امّتين بارّتين لندخل من هنا باب السماء معا؟ الاتهمنا سماء نحيا بركاتها على هذه الأرض؟ نحن ننتظر ومن انتظر لا ييأس ويبحر الى أقاصي الأرض ليعلم البشريّة الحرف الذي انبثق في اوغاريت شمالي اللاذقية وتبنيناه وصدّرته جبيل. والأبجدية هجأناها في البلدين في القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وبحروفنا أبدعت اليونان الفلسفة.

نحن قادرون ان نتفلسف ونبدع ونطعم العالم من عقلنا المتأله ونتلاقى بالعمل وكل نوع من أنواع الخلق وراء حدود مرسومة على الخرائط والأرض وبلا حدود محفورة في القلوب.

Continue reading
2008, مقالات, نشرة رعيتي

ظلم وحزن في الكنيسة/ الأحد 5 تشرين الأول 2008 / العدد 40

الكنيسة، الى كونها جسد المسيح، هي ايضا مجتمع بشري ككل المجتمعات الخاطئة والظالمة. فيها تجلّيات يأتي بها المسيح والذين يحبّونه، وكل عضو فيها خاطئ، والخاطئ يظلم ويكره ويعتدي. وهؤلاء المعتدون إخوتنا. وكما ان أخاك الذي من أبيك وأمك لا يفهمك حينا ويبتعد عنك أحيانا او يحيد، وفي بعض الحالات يكرهك، هكذا يكون في المجتمع الكنسي.

غير انك تحزن بنوع خاص اذا اختلفت مع الكاهن او المطران. فقد تطلب شيئًا ولا تُعطاه. فقد تكون على حق او تكون على خطأ. وقد يكون الكاهن متمسّكًا بالقانون، واذا جاء القانون ضد رغباتك او مصالحك واذا منعك من السرقة وهذا واجبه تكرهه، او منعك من إلقاء خطاب وهذا لا يجوز للعلمانيين تحس انك مصدوم، وهذا يحدث في المآتم، ويمنعك لأنه يخشى ان تستعمل كلمات فيها تفجّع او فيها مبالغة او كذب فيصدمك الأمر وتحزن.

وقد يكون صوته ناشزًا او أداؤه الطقوسي غير صحيح فتأسف وهذا جيد، ولكن ان تقرف منه وتشيّع ذلك او تنمّ عليه وتنتقده امام الجميع فهذا خطأ منك وجرح له.

الكاهن الضعيف في الوعظ موجود. ساعده بالملاحظة بينك وبينه ولكن لا تتذمّر علانية فهذا يؤذيه. ومبدئيا الكاهن الصالح يقبل النصيحة اذا أبديتها له شخصيّا، واذا كان محبًا للمال بصورة ساطعة فأصلحه، ولا يمكنك استبعاده عن الكنيسة. وليس عند المطران معمل يفبرك فيه كهنته. واذا توصّلت ان تقنع الرعية بالاستغناء عنه فإلى اين يذهب؟ واذا رحل عنك وعن الرعية ينقل ضعفاته معه.

ربما اضطرت ظروف الرعية ان تتحمله طوال حياته اذ لا بد من القداس والصلوات الأخرى. فاحتمال كاهن قليل المعرفة وقاسي الطباع خير من إبقاء الكنيسة شاغرة. وقد يكون الكاهن الجديد أضعف من القديم.

اما اذا أظهرتَ له الاحترام، ولو كان سيئا، فله ان يصبح أفضل، وله ان يتعلّم وان يصحح أخطاءه، وقد يستغرق هذا وقتا طويلا يتطلّب منك صبرا جميلا. انت عليك بالموجود والشكوى للمطران الذي قد ينجح بإرشاده او لومه او تأنيبه، ولكن قد لا يتغيّر كثيرا اذ تكون عاداته قد تأصلّت فيه ويصدق فيه المثل: «من شبّ على شيء شاب عليه».

غير ان علينا ان نرجو، عملا بوصيّة بولس: «احتمِلوا بعضُكم أثقالَ بعض، وهكذا تمّموا شريعة المسيح». ولا تنسَ ان وداعتك قد تصلحه وشراستك تؤذيه. واذا استطعت ان تجعل معظم الرعية وديعة مع كاهنها، تعطي راعيها حظا اوفر بأن يصير طيّبا، والكنيسة مكان العجائب ومسيحها فيها وهو يصلح الكاهن وأعضاء الرعية.

أظهر لراعيك كل علامات التبجيل. قبّل يده. اهدِه هدايا إن استطعت ذلك من مال او قطعة قماش او علبة حلوى يتحرّك قلبه نحوك. واذا صار قريبًا اليك، تكون قدّمت له فرصة ليصبح كذلك مع الجميع.

كيف نرقى من مجتمع كنسي خاطئ الى مجتمع فاضل؟ هذا قمْ به أنت مع الصالحين من الرعية. والكاهن يتحسّن بكم وتتحسّنون به. كل هذا على الرجاء.

Continue reading
2008, جريدة النهار, مقالات

البلد العظيم / السبت ٤ تشرين الأول ٢٠٠٨

الإثنين الماضي صباحًا كانت سيارة متجهة من طرابلس الى محلة البحصاص فيها رجل وامرأته وثلاثة أطفال أكبرهم عمره ست سنوات قاصدين مدرسة الأولاد في الكورة. ولي مع هؤلاء نسب حميمي. كانت المتفجّرة قد تفجّرت ورأى هؤلاء أنفسهم أمام الدخان المتصاعد منها. اي انهم لو وصلوا الى المكان دقيقتين او ثلاثا قبل الانفجار لماتت العائلة كلها.

          لا تعرف من أين يأتيك الموت في لبنان ولا تعرف من قتلك. نحن بتنا جزءًا من لعبة تحتاج الى مجرم والى قتيل والى خبر في الصحف. كل منا يذهب الى موضع عمله ولا يعلم ان كان يعود. القدر الأعمى كتب علينا هذا. من يستطيع ان يتذاكى على القدر او يتفلّت من قبضته؟ هل في هذا البلد سحر يجعلك تلازمه ولا تخشى الخطر؟

          كان تحت بيتي الى جانب الطريق مربض للجيش في الحرب تطلق مدافعه قذائفها على الجبل المعادي والجبل يطلق علينا حممه. واللعبة تجري أمامي ونافذتي المطلّة على المربض عرضها أربعة أمتار ونيّف. وانا اكتب اثناء رقصة القذائف مقالاتي للنهار او ما ينفع المؤمنين وذلك بلا خوف إطلاقا. تربينا خلال سنين طولى على الاستسلام. هكذا عشنا بلا فكر، بلا رجاء استثنائي كما النهر يجري في واديه تدفعه الطبيعة الى حيث يجب ان يصبّ. اذا ذكرت اللافكر الذي ذقته أشعر انه غمرني غمرا لا يوصف. مرة دعاني الرئيس أمين الجميّل الى القصر فناديت سائقي ان يغادر بيته ليلتحق بي في الجبل. فلما وصل الى مقري أخبرته اني أريد منه ان يسوق بي الى الرئيس. قال الإذاعة تبث ان الطريق من هنا الى بعبدا تتساقط عليها القذائف. قلت له اذا طلبني الرئيس فلكي يبلغني شيئا او نتذاكر بأمر. سلّمت نفسي الى الله وسرنا. وحده ربّك في لبنان يحفظك وليس للدولة دور في بقائك حيا. انت تنال وجودك نعمة.

          انا لست أعرف من فجّر المتفجّرة في البحصاص ولكن ليس مقبولا ان تقلب السلطات كل الاحتمالات ونجعل هذا حديث صالونات لأن الموت بات مألوفًا. سألني أحد الأصدقاء اليوم لماذا تكتب كثيرا في هذه الفترة عن الموت. أجبت بت في هذه السن أليفه. ولكن هَب أن أقربائي الأطفال كانوا في السيّارة وبقي واحد منهم كيف تفسّر له ان القتل يحبّه قوم عندنا. كيف تفسّرللطفل ان القتل شيء عبثي فالطفل يلعب مع الطفل بكل حب. لماذا لبنان ليس مملكة الفرح؟ لماذا يحمل الطفل الدمية ودمية البالغ سلاح يلغيك. لا يفهم الولد لماذا كانت القاعدة ان يلغي القوي من لا يستقوي بأحد. أتصوّر أقربائي الصغار كانوا يغنون وكثيرا ما أسمع غناءهم ويفهمون اللغة التي يستعملون في الغناء. ولكن ما هو الفهم الذي يحرّك القاتل؟

#                       #

#

          المنفّذ عمليّة الإبادة لن يقرأني وقد لا يقرأني باعثوه واذا فهم فله منطق آخر. والأصل الفلسفي لكلمة منطق يوناني ويعني العقل او الفهم. وهذا الذي يريد إلغاءنا يلغي الحياة في مطلقها لأنه لا يعرف هويّتنا اذا أتى القتل عشوائيّا.

          لأذهب اذًا في منطق الآمر بقتل الجنود في البحصاص. هو ليس خاليا من العقل المنظّم وربّما من الذكاء. ولكون الاعتداء على الجند ليس المرة الأولى فبلا ذكاء مفرط لنا ان نتبيّن الخيوط التي تربط كل الجرائم ضد العسكر. واذا افترضنا ان المبعث ليس واحدا فالفلسفة التي ألهمت كل الجرائم السابقة وجريمة البحصاص واحدة. لا لزوم اذًا الى بحث كبير وتدقيق عظيم لمعرفة الجناة.

          هذا يوضح ان ثمّة من يريد الانتقام من الجيش. ولكن هذا أضعف الإيمان. ما يتضح من تراكم الجنايات وتتابعها وكثرتها ان ثمّة عداءً للجيش واننا لسنا امام عمليات صغيرة رمزيّة. هناك تصميم على كسر الجيش وربما دعوة الى تفتيته لأنه يحمي المصالحات الوطنيّة. من المستفيد  من هذا التفتيت؟

          ولكن الهدف الأخير هو القضاء على لبنان ومحوه من الخريطة. وممكن ان تثمر المصالحات ولا تنتهي خطة تقويض البلد. هل يُراد تخريب لبنان عن طريق الإخلال بأمن طرابلس وجعلها تيأس من قدرة الدولة على أمن المدينة؟ لقد آمنت عاصمة الشمال بلبنانيّتها منذ تولي المغفور له عبد الحميد كرامي رئاسة الحكومة بصورة واضحة او من بعد انكفائه عن الدعوة الى الوحدة السورية في السنة الـ ١٩٣٦ ولم نشهد بعد ذلك ما جعل الناس يشككون بلبنانيّة المدينة. فالقول بأنها أمست بؤرة للأصوليّة الإسلاميّة لا يأتي تاليا من أهاليها. هل هناك بؤر دخلت اليها خلسة. هذا لا يعسر على الدولة معرفته ولا يعسر  عليها تاليا حفظ كرامة الطرابلسيين وتعقّب أعداء طرابلس اذا كانوا متغللين فيها.

          وكما ضرب الجيش أعداء الوطن في نهر البارد لا يصعب عليه ضرب من يماثلهم او يشبههم في أحياء المدينة اذا كانوا قابعين فيها. ولعلّ من أهداف إحداث تفجير في البحصاص خطة تقسيميّة تعزل الكورة عن طرابلس ومئات التلامذة الذين يذهبون كل يوم من المدينة الى الكورة وان ينعزل في الكورة اهاليها تسهيلا لمهمة الذين يهوون عزل الكورة بسبب مذهبي او غير مذهبي. هناك تشابك او أسباب مفترضة كان لها جذور في الماضي وتؤول جميعا الى برعايةا الشمال او احتضان الشمال من غير القوى اللبنانيّة.

#                        #

#

          ان تصير الدولة دولة هو المواجهة لكل الافتراضات والجواب عن كل الأسئلة. الوطن كله تهدده هزالة كبيرة أقوى من كل المصالحات وبحث قانون الانتخابات والاستعداد لها. من ضمن تقوية الجيش من كل جوانب القوّة بحيث يخشاه المتسترون وراء قوى نجهلها والمتغذية منها. اسرائيل هي العدو الوحيد؟ هل هي وراء الاغتيالات والانفجارات؟ بانتظار معرفة ذلك تقديري ان عدوّي من يقتل أهلي وجيشي. انا أواجه اسرائيل باستقراري اولا اي بقمع المجرمين في الداخل ولا أحد يقنعني ان الدولة عاجزة عن معرفتهم وتاليا عن إدانتهم في مراجع القضاء بعدالة كاملة لأن الدولة جسم لا ينتقم من احد. أريد ان يصل الولد الى مدرسته وان يعود منها والمواطن العادي ان يذهب صباحا الى عمله ويعود وان يتنزّه الناس في الشوارع عند المساء.

          كل التأويلات المتعلّقة بالمذهبيّة تزول حتما اذا عاشت كل المناطق بسلام فلا يشك أحد بالآخر على هذا الأساس ونتقابل ونتلاحم. كل تشهير بكتله اخرى يسقط على نفسه اذا تعايشنا بسلام وما اقتنعنا ان هذا البلد مكتوب عليه الموت الى مدة طويلة جدا. الحلول لا تنزل علينا آليا من الجو. تقرأها السلطات وتتابع تنفيذها. وعند الهدوء يقتنع الجميع ان البلد ليس بحاجة الا ان يرعى نفسه فينصرف الى العيش المنتج والتقدم على كل صعد الوجود ويثبت لمن يهمّه الأمر او لا يهمّه انه قادر على  قامته ان يصبح بلدًا عظيمًا.

Continue reading