Monthly Archives

July 2011

2011, مقالات, نشرة رعيتي

موعدك في القداس/ الأحد 31 تموز 2011 /العدد 31

القداس موعدٌ لك مع الرب. في الحياة الاجتماعية لا يذهب أحد الى موعد متأخّرًا. يعتبر هذا أنك لست جدّيًّا بالتعامل مع من ارتبطت معه بموعد أو أنك غير مشتاق اليه، وتجعله ينتظر ويتحسّر على أوقات أضاعها بانتظار. لماذا عند بدء الصلاة في أحد أو عيد لا نجد غير ثلاثة من الناس أكثرهم من النساء المسنّات؟

ألا يعني هذا أن هذه الكلمات التي يتلوها الكاهن او يرتّلها المرتل لا تهمّ الذين تغيّبوا لعلل غير ممدوحة؟ كانوا في بيوتهم يحتسون القهوة او يتناولون فطورًا او يستمعون الى الأخبار. ناموا قبل ليلة واستيقظوا كما في بقية اليوم. هل يقولون في أنفسهم: القداس جارٍ «فينا وبلانا»؟ نأخذ نصيبنا منه بعد تباطؤ. هؤلاء لا يعلمون أن المسيح ينتظرهم في كنيسته وأن الكلمات التي رُتّب بها القداس إنما رتّبها الأقدمون محبةً للناس الحاليين حتى ينمُوا بمحبة الله ويَصلوا الى أعماق المسيحية. لماذا لا يعلمون أن السيّد يُحبّ الذين حضروا منذ البدء والذين تأخّروا على ألا يتأخروا. هو يغفر لهم ضعف همّتهم وقلّة حماستهم حتى يكسبوا الحماسة ويتجدّدوا بالمعرفة ولا يُفوّتوا عليهم كلمة نافعة.

مرة دخلتُ كنيسةً في صلاة الغروب في الوقت المحدّد، ولا حظتُ أن الصلاة ابتُدئ بها قبل موعدها بدقيقتين او ثلاث. هذه يُقرأ فيها مزمور الغروب. قلتُ للكاهن في نهاية الخدمة: ضيّعتَ على الذين يجيئون في الوقت المحدد عدّة آيات من المزمور كان يمكن أن تساعدهم على الخلاص. ربما كانت توبتهم متعلّقة ببعض كلمات لم يسمعوها.

هو الشوق ناقص عند بعض منّا. أنت إن أحببتَ المسيح تُفتّش عن ظهوره، وظهورُه في القداس الإلهي عظيم. هو القائل: «الكلام الذي أُكلّمكم به نور وحياة». ألا تريد النور؟ ألست تريد الحياة؟ انت لا تُفبركُ دينًا لنفسك. أنتَ تأخذ الدين الذي ورثته من آبائك وأجدادك. والدين المسيحيّ الذي أنت عليه قلبُه الصلاة وقلبُ الصلاة القداس.

وأَرجو ان تكون عالمًا بأن القداس هيكليّة كاملة فلا تأخذ جزءًا وتترك جزءًا. إيضاحًا لذلك أقول: كيف تستطيع أن تصل بعد الإنجيل؟ ألا تكون قد حاولت أن تُقنع نفسك بأن ما قُرئ على المؤمنين لك انت أن تستغني عنه. والرسالة،مَن قال انها لا تنفع بنيانك الروحيّ والإنشاد الذي قبلهما؟ كيف تتناول جسد الرب ولا تتناول الإنجيل؟ كل هذا يُعطيك الرب إياه. كل هذا لخلاصك، وبالنتيجة لخلاص أهل بيتك. هؤلاء يُريدونك قويا في الإيمان ونافعًا لهم بالإيمان.

أنت تُحبّهم بما فيك، بما اكتسبته من كنيسة الرب. هل أنت تترك لزوجتك أن تعطي أولادك المسيحية ولا تُسهم انت بإعطاء المسيحية. لا تتّكل على التعليم الدينيّ في المدرسة. بأهمية التعليم او أهم من التعليم ان تكون المسيحية فيك، في كلامك، في عينيك.

تعال لنكون كل أحد معًا، لكي لا تبقى غريبًا عنّا نحن المصلّين. نحن وإياك جسد المسيح. لا تُفرّقنا بغيابك عنا. في الكنيسة نصبح واحدًا. تعال.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

أقبلَ رمضان / السبت في 30 تموز 2011

رمضان شهرنا جميعا أامسكنا عن طعام أم أمسكنا عن خطيئة. لا يسوغ ان يكون المسلم في مناسكه والا نكون سندا له بالدعاء. هو يؤمن بأن صيامه كتب عليه. انت تطلب من اجله البركات والعافية والطهارة كي يصل الى الأعلى في جهاده ويفيد الناس جميعا من تهجده.

يحزنني ان يرحب بعضنا بالافطار يدعونا اليه الأصدقاء ولا تذهب قلوبنا الى الصوم نفسه اي الى هذا الإعراض عن الدنيا ولذائذها بحيث يطيب لنا تقرب المسلمين من الله ومن كرمه.

نقتبل المسلمين لأن الله يتقبلهم في صفاء عبادته.

شهر الأمانة والصيانة والتقى / والفوز فيه لمن أراد قبولا

هذه هي الصفات التي يطلبها المؤمن العميق ويعلو التكاليف الظاهرية. هي العفة عن المكاره وعند ذاك لا يبقى الا الله. وتكون مثل مريم التي قالت: «اني نذرت للرحمان صوما فلن اكلم اليوم انسيا». اذا بلغت التطهر تكون قد بلغت معراجك الى الله وهو معطيك ما تكلم الناس به او يعطيك صمتا ينقذك من فراغك.

عند خاصة المتعبدين رمضان يصبح كف الحواس عن الآثام وصوم القلب عما سوى الله. اما الصورة الخارجية البحتة للصيام فليست بشيء وما فيها غاية. خصوصية البذل الروحي في هذا النضال هو ما قاله احدهم متوسلا: «الهي وقف السائلون ببابك، ولاذ الفقراء بجناحك، ووقفت سفينة المساكين على ساحل كرمك، يرحبون الجواز الى ساحة رحمتك ونعمتك. الهي ان كنت لا تكرم في هذا الشهر الشريف الا من أخلص لك في صيامه. فمن للمذنب المقر اذا غرق في بحر ذنوبه وآثامه». «إلهي، ان كنت لا تقبل الا العاملين، فمن للمقصرين؟ الهي ربح الصائمون، ونحن عبيدك المذنبون، فارحمنا برحمتك، وجد علينا بفضلك ومنتك واغفر لنا أجمعين برحمتك، يا ارحم الراحمين». تلك نافذة المسلمين على الحب الشامل.

ما الهدف من الصوم؟ النسك والإمساك والتقشف رياضات يمكنها الله الانسان بما بسميه المسيحيون النعمة وهي القوة الالهية في قلب الانسان او ما يقذفه الله في الصدر على ما يقول الغزالي. الصوم تاليا مركز على الرب نفسه ومن هنا ان الشروط الباطنة تجعل رمضان بابا من ابواب الجنة. معنى ذلك ان الهدف الحقيقي هو ان يتخلق الصائم بخلق من اخلاق الله وهو الصمدية بحيث ينعكس على الانسان نور الصمدية الالهية.

قال الامام الغزالي: «الصوم ثلاث درجات: صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص». اما صوم العموم فهو التقيد بالواجبات المعروفة وهي تلخص بالكف عن شهوة الطعام والاندفاع الجنسي. اما صوم الخصوص فهو الكف عن جميع الآثام كغض البصر عما يذم وحفظ اللسان وكف السمع عن الإصغاء الى كل مكروه «لأن كل ما حرم قوله حرم الاصغاء اليه». ومن جميل قول الغزالي: «ان لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلئ جوفه فما من وعاء أبغض الى الله عز وجل من بطن مليء من حلال». والموصى به ان يأكل الصائم أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم.

اما خصوص الخصوص فصومها »صوم القلب عن الهمم… والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله… ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر عما سوى الله عز وجل واليوم الآخر بالفكر في الدنياالا دنيا تراد للدين».

#   #

#

اذا كان على المسلمين ان يكتبوا أدبيات رمضانية جديدة لا بد ان يفكروا في هذا المشرق ان المسيحيين الذين يحبونهم ان لم يصوموا معهم جسديا فهم قريبون منهم فاذا ارتفع كل فريق منا روحيا يرتفع الآخر معه او هذا هو المتصور. وفي عمق الاعماق لا ينظر حصرا الى العقيدة ولكن الى البشر. الهدف تقارب البشر حتى المحبة وليس فقط مقارنة العقيدتين. ما كان يسمى حوارا اسلاميا-مسيحيا كان يستهدف العقائد ولذلك لم ينجح كثيرا وكان بعض العلماء يرفضونه لعسر القيام به فأخذوا يتكلمون على الجانب الخلقي في الحوار. الحقيقة ان هناك جانبا آخر وهو تقارب الناس الذين يقصدون الله حبا ويريدون ان يرتفع الآخرون معهم. في التركيز الشديد على الله في الصيام هل ما يمنع المسلم ان يحمل المسيحي معه ولا يكون أسير السياسيات.

قد يكون التواصل السياسي صعبا للغاية لأنه مركز على المنافسة وعلى إسقاط الحق الآخر وعدم رؤيته في الوحدة الوطنية. وتعبير ذلك اني اهم منك او اكثر منك. السياسة دائما قائمة على الأنا والأنا ترفض الأنا الأخرى. كل ما قام على البشر بشري اي فيه شهوات الناس. اما اذا تجردنا عن السياسة ومصارعاتها في الدين الواحد او في الديانات وركزنا القلب والفكر على الله في رمضان دائم او في صيام الفصح نحس اننا بشر قابلون للتراص والوحدة وكأننا في المبدأ او المثال مجتمع واحد.

الصورة الخارجية التنظيمية لهذا المجتمع انه مجتمع مدني. هذا، البحث فيه جار دون تحديد للعبارة. الخلاص ان نكون مجتمعا دينيا ليس له من حيث هو كذلك وجه سياسي او اذا كان لا بد من تنظيمه يكون خاضعا لقوانين مدنية بلا ركيزة طوائفية.

المهم ان نتحرر من كل مجد باطل ولا نسعى الى ما هو الى هذا الدهر. متى يرعانا في هذا الاتجاه الرمضانيون؟

اذا كنت في رمضان من الخصوص او خصوص الخصوص حتى تبلغ الله تنظر الى عباده بنظرته هو اي انهم ابناء حسب المصطلح المسيحي. ايا كانت لغتك فإلهك حاضنك ويدعو كل محضونيه الطيبين اليه. ولست اقصد اليوم الآخر فقط ولكن شدّنا اليه في كل حين بالمراحم والحنان.

بإمساك جسدي او إمساك روحي او كليهما سندخل رمضان معا بأخوة كاملة.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

المواهب / الأحد 24 تموز 2011 / العدد 30

النعمة الإلهية لها وجوه مختلفة نُسمّيها المواهب. منها موهبة النبوّة (المستمرّة في العهد الجديد) وهي أن يقف صاحبها ليقول ما يريده الله من الكنيسة التي يكلّمها النبيّ الذي من العهد الجديد.

موهبة الخدمة في الكنيسة أكان الموهوب ذا رتبة إكليريكية أم كان علمانيا. أما المعلّم فهو الذي يبسط العقيدة بشكل متماسك وجامع لكل العقائد. أما الواعظ فهو الذي يشرح الإيمان المؤسس على قراءة الرسالة أو الإنجيل او يجمع بينهما. المتصدّق يُعطي الصدَقة ببساطة وبالدرجة الأُولى للمعوزين. اما المدبّر للشأن الاقتصادي فيكون مجتهدا. الراحم هو الذي يغفر لكل مَن احتاج الى رحمةٍ مادية كانت أَم روحية.

كل هذا تسدده المحبة التي هي بلا رياء اي بلا حب للظهور وبلا تفريق بين الناس. بعد هذا يقول بولس صاحب الرسالة الى أهل رومية يجب أن نكون ماقتي الشر فإن مُحب الشر لا يُحبّ. يُرادف هذا القول أن نكون ملتصقين بالخير، «محبّين بعضنا بعضا حُبًا أخويًا» كما أَوصى المعلّم: «أَحبّوا بعضُكم بعضًا كما أنا أَحببتُكم» وقد أَحببتُكم حتى الموت. ثم يطلب أن نُكرم بعضُنا بعضًا مع الانتباه الى أن نبادر بالإكرام ولا ننتظر أن يُبادر الآخر بمحبتنا. ثم يقول «غير مُتكاسلين في الاجتهاد»، الاجتهاد بالتقوى والخدمة، غير مؤجّلين الاجتهاد، «حارّين بالروح»، والحرارة فينا تنزل علينا من الروح القدس الذي ظهر كنار على التلاميذ في العلّيّة التي كانوا فيها مجتمعين خوفًا من اليهود. والحارّون في الإيمان والمحبّة هم عابدون للرب. «فرحين في الرجاء»، والفرح من الروح القدس كما يقول الرسول في موضع آخر. «صابرين في الضيق» وهو الضيق الشخصي الذي يُضايقنا به غير المسيحيين او الإخوة المسيحيون. وهو كذلك الضيق الذي يأتي على الكنيسة من الاضطهاد. «مواظبين في الصلاة» بناء على قول الكتاب ألاّ ننقطع عن الصلاة في الليل والنهار. وربما أشار هنا الى ما سُمّي «الصلاة العقلية» او «صلاة القلب» التي تكون بكلام او بغير كلام، والصلاة هي الرباط الدائم مع الله يربّينا الرب بها ويجعلنا عُشراءه.

ثم يطلب الرسول أن نكون موآسين للقديسين في احتياجاتهم، ويقصد بالقديسين كل المؤمنين. نعطيهم إحسانًا أخويًا او نعزّيهم في أحزانهم. ومن الموآساة ضيافة الغرباء حسب قول يسوع: «كنتُ غريبًا فآويتموني» إذ لا ينبغي أن يُحسّ أحد منّا أنه غريب. «باركوا الذين يُضطهدونكم». «باركوا ولا تلعنوا». هذا كلام الرب يسوع، وكلام بولس هنا صدى لكلام المعلّم.

«باركوا ولا تَلعنوا» من كلام يسوع. البركة منّا لمن أَحبّنا وأَبغضنا هي أن نستنزل بركة الله على الناس جميعًا، ومعنى بركة الله أن يمُدّنا بالحياة والنعمة وأن «يُشرق شمسه على الأشرار والصالحين ويُمطر على الأبرار والظالمين». هذا هو الكمال حسب قول المخلّص: «كونوا كاملين كما أن أباكم الذي في السموات كامل». إن الكمال هو السعي الى الكمال، وبذلك تُحيينا صورة الله فينا.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الديموقراطية / السبت 23 تموز 2011

الديموقراطية كلمة يونانية مركبة من كلمتين وتعني حكم الشعب. عند افلاطون هي لا تعني كل الشعب اذ كيف وأين يجتمع. اثينا في عهده كانت قرية صغيرة. مع ذلك النساء والعبيد لا ينتخبون. من ينتخب اذا كثر الشعب وظهر اختلاف في السياسة. لما انقسم الفرنسيون بعد ثورتهم جلس المتجانسون معا على اليمين والمتجانسون الآخرون معًا إلى اليسار وانطلق، مذ ذاك، ان اهل السياسة يمينيون أو يساريون. الديموقراطية، تحديدا، شعب منقسم. وظهرت الأحزاب لتعبر عن هذا الانقسام. منقسم الشعب على كل شيء الا على كونه ينتمي الى وطن واحد وله اذًا هوية واحدة. في الحرب هو صف واحد ومن خرج عن هذا الصف يعدم قضائيا.

وبعد ان ميز مونتسكيو السلطات إلى تشريعية واجرائية وقضائية نشأت فكرة ان السلطة الإجرائية أو التنفيذية لها سياسة واحدة لا يخرج عنها وزير أي انها بالضرورة حكومة السياسة الواحدة. وقد اصطلح العلماء على ان يظهر الخلاف في مجلس الأمة وهو بالضرورة ينبثق عن الشعب المختلف النزعات، المتخاصم ضرورة ويتفق ان يكون بعضه مواليا للحكم وبعضه الآخر مخالفا له.

اما الا يسلك الحكم على أساس هذه القاعدة فيأتي مجلس الأمة من لون واحد والحكومة من هذا اللون فمعنى ذلك انه ليس هناك حكومة تنتقدها وتسائلها عن مشاريعها وعن ميزانيتها وما الى ذلك. ان لم يكن خلاف بين المجلس والحكومة فهذا هو حكم الحزب الاول المقسم، ضرورة، بطبائع الاستبداد. لاهوتيا الحكم لله أي للحقيقة ولكن كيف تلتقي الاوضاع البشرية أي السياسية مع الحقيقة؟ من يقول لنا ان الله يريد هذا الوضع في المياه أو الكهرباء أو المحاكم أو رئاسة الجمهورية والمناصب الأخرى. حلها الاوربيون قبل الثورة الفرنسية بقولهم ان حكم الملك هو حكم الله. هذا يعني ان الملك طاهر وعالم وان حكمه مطابق للفكر الإلهي. ولكن الملك بشر ويخطئ. لذلك استغنت فرنسا عن الملك وضيقت عليه انكلترة حكمه بالدستور أي صار هو خاضعًا للشعب.

اذًا لماذا لا نقول مباشرة الحكم للشعب؟ في الواقع نقلنا حكم الشعب إلى الأحزاب. باتت الأحزاب الملك الجديد. الديموقراطية لم تبق حكم الشعب الذي لا يستطيع ان يجتمع كله. صارت فئات تتصارع. الأحزاب ليست الأحزاب. انها المكاتب التنفيذية أو لجان التفيذ في الأحزاب. حولنا هذه اذا الى فئات منها ولكنها اصغر منها.

وضمن المكتب التنفيذي الأمين العام أو شخص آخر هو أقوى من المكتب مجتمعا. سلطة المكتب اذًا مسلوبة لنعود إلى حكم الفرد أي إلى نوع من الملك الذي لا يقول ان سلطانه من الهه ولكن من الشعب. في مسيرة مركبة قانونية لا يحكم الشعوب الا ملوك تتغير اسماؤهم أي ان هناك دائما طغمة متجانسة صغيرة في أحسن حال أو رئيس جمهورية حسب النظام الرئاسي أي الملكي.

#   #

#

مع ذلك تحب الشعوب اللعبة الديموقراطية من حيث انها تمظهر لا من حيث انها حقيقة. السياسة الى حد كبير مسرح تتفاوت فيه الأدوار يظن ان ما يقوله لاعبوها هو الحقيقة. ولكون الديموقراطية أجمل لعبة سياسية وكلامها فيه ما يشبه الحقيقة صارت أفضل الأنظمة السيئة كما يقول تشرتشل.

السؤال الحقيقي أمام هذا هو كيف ننقح الديموقراطية؟ طريقة من الطرق ان نحافظ على كلماتها وتحركها الصوري ونلغي حقيقتها في هذه البدعة المسماة الديموقراطية التوافقية جاهلين انه حيث لا خصومة ليس من ديموقراطية. فالشعب تحديدا قائم على أخطاء ويؤمن بأخطاء. لذلك يحجّم نفسه فعليا بنظام الأحزاب والحزب  يحجم نفسه برئيسه أو أمينة العام. إلى هذا كيف تتحرك الديموقراطية التوافقية؟ اذا كانت الحكومة من لون مجلس النواب أي كلاهما مجانس للآخر كيف يسائلها؟ لا يسير هذا النظام التقابلي بين المجلس والحكومة الا بالخلاف بينهما والا كانا هيئة واحدة واختلط التشريعي بالتنفيذي.

الديموقراطية تمثيل بآليات مختلفة ولكن لا تؤمّن بحد نفسها الحرية الا بمقدار كون الحرية صورة عن الخصومة. أهم من الديموقراطية اذًا الحرية. نحاول ان نجتنب ما أمكن من استبداد الأحزاب وبخاصة نحاول تأمين استقلال القضاء الذي هو الصورة المثلى عن حرية المواطنين. العنصر الأهم في حياة مجلس الأمة القبول بالآخر. هذا هو مقدار الحرية في النظام. ان تقبل الآخر واختلافه عنك ليس موقفا سياسيا وحسب. انه موقف روحي قائم على الاحترام الكامل للإنسان واعتباره حاملاً سر وجوده وسر الإفصاح عنه وهو الاعتقاد ان معايشته ممكنة دون ان تخضعه لك. هو الاعتقاد ان مجرد وجود الآخر أهم من فكره السياسي وان هذا الفكر من المعطيات النسبية.

لا تستطيع أنت ان تثبت ان الموقف السياسي من الحقائق المنزلة. انه يحتمل الخطأ والصواب أو بعض صواب. والمسعى ان تتفقا على أشياء تتعلق بترتيب البلد وكان يمكن ان يكون ترتيب آخر. في آخر المطاف تقوم الديموقراطية على احتمال ان واقع الخطأ ممكن.

#   #

#

ان تثق بالآخر شرط لاعترافك بحريته. ان تثق به هو ان تؤمن بأن الله ساكن فيه أو ملازمه ولكنه لا يلهمه، ضرورة، افضل مدقق في السياسة أو الاقتصاد. الديموقراطية افضل نظام سيء لأنها في الحقيقة مرتكزة على ان ألوهية ما تلامس الإنسان أو ان حقيقة ما تسكنه وانه -بسبب ذلك- يعمّر معك البلد. جمال الديموقراطية انك بها تلازم الذي لا يقول قولك وتسمح للخطأ ان يعبر عن نفسه إكرامًا للإنسان الذي يخالفك.

ربما آمن الملوك شخصيا بكرامة رعاياهم ولم يضطهدوهم كلهم. ولكن هذا لم يكن له أي تعبير في بناء البلد. لسان حالهم ان الحقيقة يمكن ان تبقى في الرعية، في كل فرد ولكن ليس من قرار. في الديموقراطية حياة الجماعة في قرارات الجماعة وهذا له معنى روحي في حين ان نظام الحاكم الفردي لا احترام فيه الا تصديق الحاكم نفسه أو الحاشية التي يعتمدها.

أجل لو كان القديسون الأذكياء حكاما للبلد لا يكون أي نظام مهما. ولكن القديسين لا يهتمون للحكم. لذا كان علينا في الحياة السياسية ان نحتمل بعضنا بعضا بالصبر ونتعايش بالمحبة. والمحبة ممكنة في الصراع السياسي ونزود الآخر بالحرية.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

نور العالم / الأحد 17 تموز 2011 / العدد 29

في العظة على الجبل -ومنها جاء هذا الفصل- يقول السيد لتلاميذه ولنا من بعدهم: «أنتم نور العالم» (مت 5: 14). هذا انعكاس لقوله عن نفسه في يوحنا: «أنا نور العالم» (8: 12). يدعونا يسوع لنُظهر هذا النور في الأعمال الصالحة، ونتيجتها أن من يراها يمجّد الله. ثم أراد أن يرُدّ عنه تهمة أَلصقها به اليهود قال: «لا تظنّوا أَني أتيتُ لأحُلّ الناموس والأنبياء». الأنبياء تكلّموا عليه، ومن الطبيعي أن يقول انه لا يحُلّهم. ولكن ناموس موسى المتعلّق بالفرائض كتقديم الذبائح الحيوانية إلى الهيكل كيف لم يحُلّها. في الواقع هو حرّرَنا من كل الفرائض المادّية وأبقى التوجيهات أو التوصيات الروحية.

فالوصايا الأخلاقية في الوصايا العشر باقية. فريضة السبت التي من هذه الوصايا وطابعها طقسيّ غيرُ أَخلاقيّ نُسخت، والمسيحيون لا يَسبتُون عن الأعمال في السبت. تحريمُ السرقة والكذب يبقى. غير أن المسيح دخل إلى أعماق الوصايا. ليس فقط حافظ على الإخلاص الزوجيّ المنصوص عند في قول الرب قديما: «لا تزنِ». أضاف يسوع: «مَن نظر إلى امرأة ليشتهيها قد زنى معها في قلبه» (مت 5: 28). يستأصل يسوع الزنى من القلب. يدخل في ملكوت القلب حتى تذهب الخطيئة. كذلك استأصل الغضب والشتائم. يسوع دخل الى أعماق الإنسان ليُطهّرها.

فالناموس الموسويّ لا يبقى في أشكاله أو تنظيماته. تبقى فقط روحه أو اتّجاهه إلى الله. زالت ذبائح الهيكل لأن المسيح صار الذبيحة الوحيدة. فإذا فدانا بها، ما الحاجة إلى الذبائح الحيوانية؟ كانت الختانة التي تدلّ على عهد الله مع إبراهيم. العهد الجديد مع الله كان بدم يسوع، فما الحاجة الى الختانة؟ عندنا الآن صورة جديدة عن العهد وهي المعمودية.

اذًا هناك تواصُل مع العهد القديم. ولكن عندنا تجاوز لصوره ومادّيته وهذه كانت تُهيّئ بشكلها الخارجيّ للعهد الجديد. مع ذلك نحافظ على العهد القديم من حيث القراءة ليبقى الارتباط بين الشيء الجديد وصورته القديمة، ولكن الصورة القديمة لا تبقى في تطبيق الكنيسة.

مَثَلٌ آخر إلغاء الكهنوت اللاويّ. فبعد أن صار يسوع الكاهنَ الأوحد، لم تبق حاجة إلى الكهنوت الذي جاء من هارون، والكهنوت المسيحيّ لا يُكمل الكهنوت اليهودي ولكنه يُكمل كهنوت المسيح.

أخيرًا ينتهي هذا الفصل بقول يسوع: «أما الذي يعمل ويُعلّم فهذا يُدعى عظيما في ملكوت السموات». كلمة تدينُنا إذ قد يكون أحدُنا ممتازا في إعطاء التعليم المسيحيّ أو اللاهوت ولا نفع فيه روحيا. من كانت فيه موهبة التعليم يسعى لأن يكتسب موهبة العمل الروحيّ في الكنيسة لئلا يبقى فُصامٌ في الشخصية ويُجدّف على الله بسبب هذا الانسان.

هذه دعوة الى قران التعليم والعمل.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

الكتابة / السبت 16 تموز 2011

الكتابة، مسكوبة على ورق، كلمات رصفها الفكر وربما القلب وإذا اجتمعا تلبس الكلمة الجمال وهنا لا يعرف أحد من أين يأتي ولكننا نعرف إلى أين يذهب. هي خبرة كيان مركب والألم في كثرة من الأحيان يعطي الكيان ولادة جديدة لله فيها قسط كبير آمنت أم لم تؤمن. ان تأدبت تأدبًا كبيرًا لا تسأل نفسك لمن تكتب. القارىء يقرأ ويلد معك أم لا يلد. أنت لست معلمًا في مدرسة الدنيا. من قرأك تعلمه نفسه أم لا تعلمه. الطفل عند ظهوره تذوقه عيون ولا تذوقه عيون. الرؤية سر لا يجيء من قاعدة. هي تخلق القواعد.

السؤال الكبير ليس سؤال العلاقة بينك وبين من طالعك. السؤال الوحيد هو من أنت أي من أين أتيت. وبعد أن تكون أتيت السؤال الثاني المزيل للأول هو كيف تنبش الكلمات من القاموس، كيف تميز بينها، على أي أساس ترصفها. من يقول لك الحق؟ من يقول لك الجمال؟

من أوجاع جئت أم من فرح أنت تقول روح الله أو روح الكون أو كليهما. إذا أخذت أول آية عند يوحنا »في البدء كان الكلمة« اي الذي قاله الآب منذ الأزل فأنت فيك نفحة إله هي تطلع بك عباراتها ولو ظننت ان عبارتك منك. طبعًا نحن أمام سر اللاهوت والناسوت. هما دائما يلتقيان ولكن لا نعرف الكيف. الله ليس إله إلغاء اذ أقر بك منذ لحظة الخلق. هل أنت نغم صوته الأزلي. فيك دائمًا ضجة ما هي ضجة بشريتك ولكنها لا تخفي السكون الذي سبت فيه المسيح عشية الفصح. السكون كان فيه طاقة القيامة ثم كان التفجر.

وكما لا نعرف حتى النهاية كيف التقى الناسوت واللاهوت في الناصري لا نعرف سر العلاقة بين النفس وكلماتها وبين هذه والقارئ. والأدب الذي لا يقوم على سر ينتهك مجرد ألفاظ مصطنعة للكبرياء.

مشكلة الكتابة انها مشكلة القلب اذا ظهر أم لم يظهر، اذا صار حكاية القلب الإلهي أم لم يصر. في الإنسان المنقى اللاهوت أقوى من الناسوت. ان لم يتجلَّ فيك ذلك تنبت »ازهار الشر« التي هي في جوهرها أشواك.

#  #

#

الصناعة الأدبية تأتي بعد الإبداع ولا فصام بينهما. وهي تسعى الى المفردة ما أمكن فرادتها والى تركيب الجملة في لعبة الجمال. ولا دور للجمال الا لكونه أساسا في التبليغ. والنفس ان لم تتحرك لا تتبلغ. والكاتب يلاعبها لأنه رسول. يسربل الكلمات جمالا لتلتزم النفس بما وراءه اي بالكمال الروحي الذي هو غاية الأديب الوحيدة. ذلك ان جلال الكلمة خاضع للحق. هذا الذي يحرر النفس وحده. ومن لم يبتغِ الحق يريد عبادة نفسه بالتلاعب اللفظي.

اذا كانت هذه هي الحقيقة يكون الأدب كله ثانويا. فكليمات قليلة، لا رنين فيها ولا جمال شكلي لها ان تصل الى النفس لأنك مفوض بتبليغ حقيقة كبرى يكون فيها بهاؤك الروحي أهم من كل ما تتلفظ به فيأتي احيانا صمتك أبلغ من القول لكون النور في شخصك ولكونه، مستقلا عن كل شيء، يحمل الرسالة.

هناك نصوص لا تشبه الأدب تنقل قداسة. ترى هذا كثيرا في أدبنا النسكي. جمل قصيرة تحركك بلا جمال او قل ان جمالها من نوع آخر. عمقها يصل الى عمق النفس بلا واسطة لفظية بهية. معطيها اعظم من اي شاعر ومتلقيها يصبح شاعرا بما يتحرك فيه. المقدِّس والمتقدّس لا يحتاج الى شفاه الشعراء.

ولكن اذا أتقنت صناعة الأدب لا بد ان تتقيّد بها وبكل قواعدها لئلا تسيء الى قدسية الكلمة فتميت فاعلية التبليغ. خذ من الحق ما استطعت. واذا لم تتمكن من ان تصير انت حقا فاقم في قدسيته الى حين لأن صدق الإقامة يصل. هناك نفع كبير ان تكون مذكرا فقد يترسخ في الآخر ما عنيته له او من اجله وقد لا يترسخ فيك الا لحين وتكون قد خدمت ويدينك الله ويعلي سامعك او قارئك. ويشفع لك القارئ عند ربك لأنه يكون قد تسامى بالكلمات التي أعارها الله شفتيك او أصابع يديك. ولن يغضب الله عليك غضبا شديدا لأنك مررت بأحايين الصدق ويشهد القديسون على انك بلَغت.

واذا أقمت في الصوغ بسبب من الصناعة فأنت في الطاعة. واذا لم تتمكن من الصوغ احترف حرفة اخرى لئلا تكون ضربت حرمة القداسة فيك وفي التبليغ.

وهناك قداسة قبل ان تتكلم وهي قداسة اللغة فان شئت ان تبلغ بالعربية فأنت مضطر ان تعاشر لسان العرب وان تكون قرأت آلافا مؤلفة من الأبيات وحفظت القرآن وأخذت الارتجاج الشعري من سفر أيوب ومعرفة النفس البشرية من آباء الصحارى عندنا ومن دوستويفسكي. وان لم تكن مستعدا لخوض هذه الحرب على جهلك لا تكتب بالعربية. هذا التلازم بينك وبين هذه الينابيع شرط تحليك بأدب مشرقي يصل الى كل عربي ويفيض منه على العالم. اذا سبحت بهذه المياه تكون مبعوث الكلمة الذي كان في البدء.

#  #

#

عليك واجب اساسي للقارئ انك ان تحبل بالنص بلا فساد لا يحق لك ان تكتب حرفا لكونك مطهر النفوس. أصبر حتى تنزل عليك الكلمة واذا حضنتها قلها. الصناعة لا تعوض عن الإبداع كما ان الإبداع لا يستغني عن أدواته. من الناس من لا يتحرر من الأنا قبل ان يفاجئه المخاض ويلد فيحس بالحرية. لا تختنق الكلمة فيك. هي تصنع مخاضها حتى تحيي العالم الذي يتلقاها. اذا قلتها تغفر لك خطاياك ويقبض الله عليك قبضا محكما.

من هنا اني لا أقدر أن أميّز بين الإحساس الأدبي والنبوءة. لعل التمييز الممكن هو ان النبؤة تصميم إلهي موضوع للخلاص وتتلقاه انت بالنعمة والشعر لعب إلهي فيك يحب الله ان يكون للخلاص وليس قاهرا كالنبؤة ولكن لا تقل لي ان الكلمة الجميلة صادرة فقط مما ورثت من السابقين. يقولها الله فيك انت ولم يقلها من قبلك لأن الله لا يجتر نفسه. في الأخير ليس الأديب شيئا مهما تكثف الجمال فيه. هو مجرد عبور لذلك الذي قال: »انا الطريق والحق والحياة«. هذا يستعيرك كما استعار القديسين الذين هم ايضا مجرد جسور له. ليس هناك كلمات كثيرة. هناك فقط كلمة كان من البدء وهو يتوهج في القديسين والشعراء والأدباء بتجليات مختلفة الطبيعة الى ان نتوب الى هذا الوهج ويبقى الوجه الوحيد الذي يلملم ما أعطى في يوم حكمته ويكشفه في الملكوت اذا اخذنا اليه. عند ذاك، نعلم اننا كنا بجمالات الكلمة ساعين الى الوجه.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

الكاهن وحياته/ الأحد في 10 تموز 2011 / العدد 28

الكاهن وحيد في رعيته ومعرّض لكل تجارب الوحدة اذ ليس عندنا مجلس شورى يجتمع فيه الكهنة للتداول في شؤون الرعاية. المطران في هذه الأبرشية يجمع الكهنة مرة في الشهر ويتغيّب أحيانا بعضهم. الكاهن متروك لمطالعاته التي تزوّده بالعلم اللاهوتي والبحث الرعائي، وفي الحقيقة يبقى له وقت كثير إذا حلّ المساء وانتهت الخدَم الإلهية. هذا يعني أنه واعٍ أن الإرشاد يصدر عنه وأن حياته الروحية اذا شعّت يغتذي منها المؤمنون وهم يريدون اليوم أن يعيشوا بالله. وهذه الحياة يطلبونها خصوصًا من كاهنهم. رجائي ألاّ يحسب أبونا أن مسؤوليته تنتهي بإقامة الخِدَم الإلهية. مسؤوليته الأساسية في قداسته. والمسؤولية الثانية في تغذية المؤمنين بكلمة الله.

وهذه نطلبها من تأمل الكتاب المقدس كل يوم ومن بقية الكتب التي صدر منها ما لا يقلّ عن 400 كتاب في السنوات الأخيرة. قداسة الحياة يطلبها الرب من كل واحد منا وهي تأتي من الجهاد الروحي المستمرّ ولا سيما من صلاة الكاهن المستمرة على فمه وفي قلبه خارج الصلوات الرسمية. اذا لم يُصلّ الكاهن على انفراد تبقى تلاوته الأفاشين في الخدمة الإلهية بلا شعور. وهذا يبدو للمؤمنين. يميّزون بين من يتلو أمثولة قرأها ومن يعيش كل هذه الكلمات في قلبه.

هم يعرفون مِن وعظه اذا كان الرجل حارّا، واذا أَحبّوه هذا يُقرّبهم من السيد له المجد. أما اذا كان الكاهن مهملا واجباته ومعرّضا سلوكه للخلل فلا شك أنه يبعد بعض المؤمنين عن الرب. العثرات المؤذية كثيرًا تأتي من الإكليروس أولاً. واذا عرفنا هذا الواقع نسهر على سيرتنا أكثر.

لا يخافَنّ الكاهن على دخله. بالمقارنة مع الماضي، صارت الرعية أكثر تحسّسًا لحاجاته. لم نصل بعد الى جعل كل الكهنة في ارتياح كامل. الارتياح يجعل الإكليريكي أَبعد عن محبة المال، ونزاهته تُقوّي تعلّق الناس به.

لقد جرت العادة عندنا وفي الغرب أن يعطي المؤمنون الكاهن مبلغا من المال بالمناسبات المختلفة (معمودية، إكليل، جنازة)، وسُمّي هذا بالدارج «البطرشيل» لأن الكاهن يضع البطرشيل على صدره عند إقامة هذه الصلوات. ثم رأى بعضٌ من مجالس الرعية أن يُلغوا هذا الأمر ليدفعوا للكنيسة اشتراكًا شخصيًا. أنا حتى الآن ليس عندي خيار بين هذه الطريقة او تلك. المهمّ في هذا كله ألاّ يصبح الإكليريكي مُحبّا للمال وألاّ يضع مجلس الرعية تعرفةً محدّدة لكلّ سر من الأسرار او كل خدمة من الخدَم، وأن تكون القاعدة حرية المؤمن. هو يُعين المبلغ او لا يدفع. نحن لسنا بائعي الأسرار، فقد يزَجّ الكاهن في الطمع او يشترط مبلغًا من المال. وهذا يُسمّى السيمونية المحرّمة في سفر أعمال الرسل والقانون الكنسي.

ومنعًا من الوقوع في الطمع الذي يُسمّيه بولس الرسول «عبادة أوثان»، رأى هؤلاء المسؤولون العلمانيون أن يدفع المؤمن مباشرة الى الكنيسة او يدفع اشتراكا سنويا توزعه الكنيسة على الكهنة.

أيّا كان النظام المتّبع، المهم أن يلازم الإكليريكيّ العفّة في هذا الموضوع فلا يتأفّف إن أُعطي القليل أو لم يُعطَ شيئًا. هذا «يعطى ويُزاد». من أجل إعلاء احترام الكاهن ومحبتنا له، ممارسة العفّة تُخلّصه وتُخلّص أبناءه الروحيين.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

أكرم أباك وأمّك / السبت 9 تمّوز 2011

أكرم أباك وأمّك لكي تطول أيّامك على الأرض التي يعطيك الربّ إلهك« (خروج 20: 13). هذه في الوصايا العشر التي أعطيت لموسى. يذكرها بولس في رسالته إلى أهل أفسس، ويقول إنّها أوّل وصيّة بوعد، ثمّ يؤكّد أنّ من يملكونها لهم خير ويكونون طوال الأعمار على الأرض (6: 2و3). في سفر الخروج الأرض هي أرض الميعاد، موضع البركات إذ لم تكن عند العبرانيّين آنذاك عقيدة القيامة وينتهي الإنسان هنا. غير أنّ بولس الرسول إذا ذكر الأرض لا يعني بها فلسطين، ولكن المكان الذي نعيش فيه.

في العهدين لا ذكر لمكافأة في الملكوت. هي تخصيص للإكرام الذي يليق حسب الكتاب بجميع الناس (1بطرس 2: 27). هذا لا يعني أنّي أضع إكرام الوالدين تحت السؤال، ولا سيّما العناية بهم إذا شاخوا. إلى أيّ جيل انتمينا هذه تربية لنا. هذا سلوك إلى الله. إنّ الطاعة واجبة إذا من تطيعه أمرك بمحبّة الله، وأمّا إذا أبوك حاد عنه فعليك واجب الافتراق عنه لئلاّ تكون عاصيًا لربّك.

في مطلع شبابي كنت أعترف عند كاهن صالح وبسيط معًا. كان يسألني: «هل تطيع أباك وأمّك» وأنا كنت أظنّ كلامه أقلّ من عاديّ، لأنّي كنت أرى أنّ كلّ شاب مهذّب سلس العلاقة مع والديه حتّى اللطف بهما.

من أساسيّات الوجود أن يشعر الإنسان بمحبوبيّته إذ يحيا بالآخرين. من أركان الأبوّة والأمومة أن يتلقّاها الوالدان من أولادهما، ليستمرّا في رعاية بانية متحرّرين من عشق السلطة ومتسلّحين بالبذل. ووجه من وجوه تلاقينا أن نتسابق في الإكرام كما يقول الكتاب عندنا، ليعرف كلّ منا أنّه مهمّ عند الآخرين وذلك في التواضع. وإكرامنا للوالدين يجعلهما مرتاحين إلى مسؤوليّتها وناميين في اكتشافها. وإذا كان القلب كلّ شيء تأتي مولوديّتك وإيلادك لذويك فيضًا دائمًا وإحياء وإذكاء للفضائل فهذه تتوطّد بالحبّ الذي تعطيه والحبّ الذي تتقبّله. وما من شكّ أنّ العاطفة تنتشر من البيت وقد بيّن كوستي بندلي هذا في أطروحته العظيمة، إذ أثبت أنّ إيمانك بالله متّصل بثقتك بذويك، وأنّ بغضك لله أو الإلحاد ناتج من بغضك لذويك. من هنا، تأكيد الله أن أكرم أباك وأمّك. يعطيانك النشأة وتلدهما أنت بنشأة لهما متقابلة فإذا بهما والداك وابناك فيما تدور الحياة.

ربّما ساعد هذا على انعاش يمدّ بالوجود على الأرض، على قاعدة أنّ المحبّة لا تسقط أبدًا كما يقول الرسول، وأنّها تاليًا تؤثّر فينا بيولوجيًّا، كما تؤثّر في الخلاص. السماويّات والأرضيّات متداخلتان بالرضاء الإلهيّ فينا إلى أن تقبض السماء الأرض.

#  #

#

هل ينتج من التسابق بالإكرام طول العمر؟ هل طول العمر بركة كما يقول العهد القديم؟ هل الشيوخ يدنون من الله بالضرورة أم يترسّخ بعضهم بخطاياهم؟ ليس عندي جواب قطعيّ فقد يقبض ربّك على شباب ممتازين حتّى درجة القداسة. لي صديق عاش في الجزيرة العربيّة يتوجّه دائمًا إليّ بقوله: يا طويل العمر وهي عبارة لا أتلقّاها بفرح مذهل، كما أنّي لا أرفضها بسبب من المحبّة التي تغلّفها، ولا سيّما أنّي قرأت عند المعرّي «تعب كلّها الحياة»، فلماذا الرغبة في الازدياد إلا إذا كنت طامعًا بالرحمة الإلهيّة. وجميل هذا الطمع إذا استحسنت قول المزامير: «خطايا شبابي وجهلي لا تذكر». المقول إنّ العمر يقدّم لك الهدوء. هذا هو المألوف ولكنّه ليس المؤكّد.

حسباني أنّ من تمنّى لك طول العمر متعلّق بما يظنّه حسنات فيك، وأنّه توّاق إلى الاستمتاع بها. ما يتمنّاه إذًا هو أن تمطر عليه أعطياتك، ألاّ تذهب أنت قبل أن يكتمل هو بك. ربّما لهذا ندعو للأسقف أن تكون سنوه عديدة. نخشى الخلف الضعيف ليتولّى مسؤوليّة هي غاية في الأهمّيّة. وربّما إذا التمسنا الشيخوخة للمقرّبين نخشى ألاّ يكتمل نضجنا بغيابهم ناسين أنّ لله طرائقه في إكمالنا.

«إنّ الشيخوخة المكرّمة ليست هي القديمة الأيّام ولا هي تقدذر بعدد السنين، ولكنّ شيب الإنسان هو الفطنة وسنّ الشيخوخة هي الحياة المنزّهة عن العيب… إنّه كان مرضيًّا لله فأحبّه وكان يعيش بين الخطأة فنقله». (الحكمة 4: 8-10). هناك اذًا شباب متلألئ بالنعمة. ليس للتعب الروحيّ علاقة بالسنّ. فكثيرًا ما كنّا في فتوّتنا أطهر من أيّام تلت الفتوّة. لذلك الذين يتفجّعون على فقدان أعزّة لهم في مطلع شبابهم يبكون على الفراق، وقد لا يرون أنّ هذا الفراق قد يكون سببًا لمتعة روحيّة كبيرة. «الله ليس إله أموات بل إله أحياء». أي إذا متنا يستردّنا الله إليه ويذوقنا هو في أيّة سنّ كنّا. وإذا قرّبنا إليه متى استمتعنا خير من أن يستبقينا في هذه الأرض الفانية المفنيّة. قرباك يا ربّ وما دونها باطل.

سيواجه الغرب بعد سنوات معدودات مشكلة الشيخوخة الطاعنة، إذ ستظهر شريحة كبيرة من المواطنين ليس عندها إنتاج، وعلى الشريحة الأفتى أن تغذّيها وتحافظ عليها، ما يعني تقصيرًا ماليًّا في البلد لا تحمد عقباه. لا مواجهة حتّى الآن ممّا يعتبره أهل الغرب كارثة. غير أنّ ما يقف أمام هذا الرعب أنّ هؤلاء الطاعنين بالسنّ قد يقدّمون لمجتمعاتهم عطاء عقليًّا أو روحيًّا كبيرًا، ولا يسوغ إهمال مداواتهم حتّى يموتوا. إذ نكون دخلنا عمدًا في إفناء الجماهير.

كيف يأتي إذًا الحل الاقتصاديّ لهذه الظاهرة، هذه ستكون المسألة، ولا بدّ من الاستعداد لمواجهتها منذ الآن. «لكي تطول أيامك على الأرض»، لا تبقى نتيجة دعاء ولا نفع لهذا الدعاء إلاّ في تلك المجتمعات التي لا يطول فيها العمر، إذا اعتبرنا أنّ هذا الطول بركة.

دعاؤنا يجب أن ينحصر في ما نسمّيه نوعيّة الحياة لا امتدادها. كيف تعلو القيم في كلّ الأجيال؟ ما برامجنا للشباب والأطفال؟ ما اهتمامنا بالمرضى، بالمعوزين؟ أين نحن من الفكر العالميّ؟ على أيّ فكر نبني لبنان؟ ما قضايا الصحّة؟ أين السياسيّون من الأخلاق؟ كيف نكافح التشنّج الطائفيّ، أي كيف ننقل أبناءنا إلى المواطنيّة اللبنانيّة الواحدة؟ ماذا نعمل لنجعل لبنان قادرًا على العيش من دون أن يخضع للخارج؟ كيف نبني الدولة الحديثة؟ كيف نساهم في العلوم وكلّ مكوّنات الحضارة مع مشاركتنا الحياة العربيّة والثقافة العربيّة؟ هذه أسئلة يجب أن تقودنا إلى نوعيّة حياة متجدّدة.

# #

#

أمام هذا المنظور، لا يهمّ طول العمر أو قصر العمر، ولكن هذا يعني أنّ من طالت أعمارهم نعمل ليكونوا شباب الروح وعظماء فكر، هذا الذي تحييه قلوب طاهرة. كيف تكون الحياة السياسيّة طاهرة ما أمكن، ولا تكون ملعبًا للأغراض الشخصيّة أو الفئويّة؟ ربّما تقدّسنا ببعض الشيوخ التائبين، الأحرار من الاهتراء، الذي هو طابع وجود الكثيرين. أجل نحيا على هذه الأرض اللبنانيّة التي وهبنا الله بكرمه وعطفه، وتكون مكان ارتباطنا بالمقدّسات ومكان تحفزّنا للمستقبل الراقي. لن نكون كمن ينتظر الموت بل نصبح مبدعين للحياة في كلّ أبعادها وعمقها.

لا غرابة في ما صبا إليه دوستويفسكي العظيم وهو أن تصبح الدولة كنيسة، أو في لغتنا اصطفاف أطهار وعالمين. هل أفقنا أن نصير وطن الله إذا ربّينا على الأجيال ان تنضم إليه أو تجيء منه لتعمير الأرض؟ ألا تبدأ السماء هنا فيتبدّد الفرق لا بين الطوائف، ولكن بين من يتوق إلى الروح المطهّرة أو إلى الروح الدنسة؟ عندئذ لا نكتفي بإكرام الوالدين ومن إليهم ولكن بإكرام الانسان الجليل والعارف.

هذا ليس بالمستحيل إذا نحن آمنّا بأنّ تغيير الأوضاع الفاسدة بين أيدينا إذ تكون صارت يد الله عندئذ.

Continue reading
2011, مقالات, نشرة رعيتي

مِن العظة على الجبل/ الأحد في 3 تموز 2011 / العدد 27

هذه العظة (متى 5 و6 و7) هي الشرعة الأخلاقية في الإنجيل. في هذا المقطع يقول «سراجُ الجسد العين». ويريد أنك إن كنت شفّافًا ونظرتك الى الناس مُحبة (يسمّيها بسيطة) اي نظرة بلا تعقيد ولا بُغض ولا استعلاء، فكيانك كله طيّب. وينتقل بعد هذا الى الى عبادة المال إذ يقول «لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال».

المال عبدُك باستعمال للخير. لا تجعل نفسك عبدًا له. لا تسعَ فقط الى المال. طوّعه بعطائه للفقراء. اجعله مُلكًا لهم. شاركهم فيه. أنتَ لستَ صاحبه. أنتَ مؤتَمن عليه. أَعطه لمن احتاج اليه. ثم يفسّر او يفصّل ويقول: «لا تهتمّوا لأنفسكم بما تأكلون وبما تشربون، ولا تهتموا بما تلبسون». الكلمة الأساسية هي الهمّ. هو ما قال: لا تأكلوا ولا تلبسوا. هو أراد أنكم لا يجوز لكم أن تعملوا هذا شغلكم الشاغل. لا يمكن أن تصير المادّة مركز قلوبكم ومضمون حياتكم. أوضح هذا هكذا إذ قال بعد بضعة أسطر: «لماذا تهتمّون باللباس؟». ثم يردف الى هذا قوله: «فلا تهتمّوا قائلين ماذا نأكل او ماذا نشرب او ماذا نلبس». ويوضح ان «هذا كله تطلبه الأُمم» اي الذين هم خارج شعب الله. عندما يقول بولس «حُبّ المال أصل كل الشرور» يريد أيضًا أن عشق الطعام والشراب والملبس والبيوت والسيارات وكل ما يملكه الانسان أصل كل الشرور. ليس من عشق لكل ما هو مادّي لأن هذا يكبّلك ويستعبدك. خلقك الله حُرّا، وبتحرّرك من كل ما هو محسوس تستطيع أن تحبه. على هذه الصورة أمكن القول إن كنتَ ملتصقًا بزوجتك وأولادك وأنسبائك وأصدقائك حتى الاستعباد لهم لا تستطيع أن تكون عابدا لله. لك حرية لتعبد الله وحده بها، تأتمر بأوامره، فتحبّ ما يحبّ وتكره الأعمال والأفكار التي هو يكرهها. هو ما أعطاك الحرية لتقوم بما تشاء. إنه أعطاك فقط حرية عبادته والالتصاق بها وكأنك هنا على الأرض في السماء منذ الآن. أنتَ إنسان سماويّ او صرتَ سماويا بيسوع المسيح. تأكل ما يقيتك لا أكثر. الطعام ليس للّذة ولكنه لغذائك ونموّك. كذلك الشراب. تلبس ما هو مألوف لتدفع عنك البرد والحرارة بلا إفراط في التجميل. ليس جمال اللباس والمسكن محرّمًا عليك، ولكنك في كل هذا اعتَدل حتى لا تسكر بالجمال فتحيد عن جمال الله. لا تفتخر بأي شيء. فقط افتخر بالمواهب التي وضعها الله في عقلك وفي قلبك، ولا تنسب الى فضلك أنت أيّة موهبة. سلّمك اللهُ مواهبك لتستثمرها لمجده. تعرف كلمة الملائكة في ميلاد السيد: «المجد لله في العُلى». فإذا نَسبتَ شيئًا لحسناتك فهذا كبرياء. ليس عندك شيء صالح إلا لكونك ورثته من ربك بعطف المسيح عليك وبقوة الروح القدس.

وإذا أفاد الناس من مواهبك فلا تقبل منهم مديحًا، ولكن وجّههم الى أن هذا عطيّة الله. كل شيء من الله وإليه. وكلنا، مجتمعين بالمحبة، له. اشكر الرب دائمًا على عطاياه، واجعل الناس شاكرين لله اذا ورثوا منه شيئًا. نحن جماعة واحدة في الكنيسة ثروتنا الله. الذي يلبس شيئا جميلا كالذي يلبس ثيابا رثّة. من أكل قليلا وصام أفضل من الانسان الشره. مَن فرح عندما يقبض مالاً فلكونه واسطة ليوزّعه. أنتَ إنسان المحبة كما أن الله محبة. انظر دائمًا الى الأخيار والأشرار بعين المحبة والغفران والحنان، وهكذا تصبح إنسان العهد الجديد.

Continue reading
2011, جريدة النهار, مقالات

العنف المنزليّ / السبت في 2 تمّوز 2011

يبدو أنّنا أمام سجال سيترسّخ بين علماء مسلمين أو «دعاة» والدولة حول مسألة العنف المنزليّ، وهو وجه من وجوه العنف. يرى هؤلاء الأخوة أنّ المشروع المقدّم يتنافى والشريعة الإسلاميّة ويستندون بذا إلى طاعة المرأة للرجل. هذا هو القليل الذي قرأته في الصحف، وعند غياب النصّ الكامل الرافض لا تستطيع أن تتّخذ موقفًا، ولا سيّما إذا كنت غير مسلم. غير أنّي أتوقّع انقسامًا في البلد كبيرًا لا يفصل الطوائف وحسب، ولكنّه يفصل شرائح من الدين الواحد.

ما من شكّ في أنّ العنف لا يمارسه إلاّ صاحب القوّة. هذا يؤكّد ذاته بالوسائل التي بين يديه، بعضلاته مثلا. إزاء الشدّة يتحدّث المجتمع الحديث عن الحوار. ولكنّ الحوار ليس دائمًا مقابلة الندّ للندّ إلاّ ظاهريًّا لأنّ القويّ كثيرًا ما يبدي لطفًا ليفرض نفسه. العنف على درجاته متأصّل في الطبيعة، ولكن يجب أن يقلبه العدل والمساواة التي يريدها الله جامعة بيننا.

والعنف يشدّده القانون أو البنية الاجتماعيّة التي يفيد منها الإنسان القويّ ويختبئ وراءها. عنف الزوج مغلّف بالكلام الإلهيّ، في هذا الدين أو ذاك، حتّى يكتشف المرء عمق التساوي في الكرامة، ويختبر أنّ التراحم أقوى من القوّة البدنيّة أو القوّة بمداها القانونيّ. هنا أيضًا نعود الى الأنا. هل أنا الشرطيّ مثلاً على ما هي عليه من الظهور من الله أم أنّه قادر على التوحّش محتميًا بسلطة القانون، ويطبّقه عمليًّا ضدّ مواطن خالف بتفسير هذا الشرطيّ لتعابير القانون؟ صاحب السلطة إغراؤه أنّها له وحقيقتها أنّه تسلّمها لينفّذ سلطان الله أو قل سلطان الحقّ.

إذا عدنا إلى العائلة، تقول المسيحيّة بخضوع المرأة للرجل، ولكنّها تخفّف من حدّتها بقولها إنّ الزوج ينبغي أن يحبّ امرأته كما أحبّ المسيح الكنيسة، أي حتّى الموت. ولكنّي قلّما وجدت رجلاً يقرأ هذا الجزء من النصّ الإلهيّ، ويكتفي بطلب الطاعة من امرأته. طبعًا النصوص يقرأها البشر وإن لم يحبّوا كثيرًا يبترونها لمصالحهم.

ماذا في الإسلام؟ أوضح ما في الأمر الآية 34 من سورة النساء: «والتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ واهجروهنّ في المضاجع واضربوهنّ». طرحت سؤال الضرب على الشيخ صبحي الصالح رحمه الله. المشكلة أن ليس عندي بعد وفاته شاهد. قال إنّ الضرب ينبغي ألاّ يكون مبرحًا، ويؤيّد هذا الرأي تفسير الجلالين. ما يعني أنّ هذا ضرب من ضروب التنبيه، لا عنفًا حقيقيًّا. أمّا السيّد محمد حسين الطباطبائيّ فيمرّ مرور الكرام على الضرب، ويعتبره وسيلة من الزجر أي ليس عندنا في سورة النساء ما يسوغ فهمه على أنّه عنف. وما أفهمه أنا تلطيفًا للضرب قول القرآن: «أحلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهنّ» (البقرة، 187). في اللغة الفلسفيّة هذا تماثل أي تقابل بالمحبّة ما يلغي الضرب المبرح إلغاء مطلقًا.

#   #

#

لست أرى في التنزيل القرآنيّ ما يبرّر العنف المنزليّ على الإطلاق. كيف نتعامل وآيات الرحمة، وهي في العشرات، حتّى ساغ القول إنّ الإسلام دين الرحمة. هي واجبة في كلّ مكان، وليست ملزمة في المنزل وحده. السؤال الكبير هو ما منزلة الإحساس العصريّ في ما قاله الله. كيف نواجه الحضارة الحاليّة في ما هو ضدّ العنف؟ هل هي في إنجازها السلام في كلّ مكان كافرة؟ هل من تفسير في الزمن وفي كلّ حقب الزمن؟ هل التحسس الحاليّ لسلامة المنزل لا يرضي الله؟

هل سينقسم البلد حقًّا؟ هذه المرّة لن يتنازع الناس طائفيًّا. ستظهر في تصورّي الفئة التي ترى أنّ القانون الوضعيّ ضدّ الشريعة الإسلاميّة، وطائفة لبنانيّة أخرى فيها كلّ المسيحيّين والمسلمون الليبراليّون المتمسّكون بإيمانهم، ولكنّهم لا يأبهون لما يحسب أنّهم يتجاوزون العقيدة، لو قالوا بأنّهم ضدّ العنف المنزليّ، وهم أقرب إلى القول بتساوي الزوج والزوجة في إدارة شؤونهما العائليّة. هناك التقليد وهناك الحداثة أو التجديد في الفكر الإسلاميّ القريب من الحضارة المعاصرة. ولهذا الفكر المجدّد أصول في الإسلام في سورية ولبنان ومصر وتونس وغيرها.

إنّ مسيرة المرأة إلى المساواة بالرجل ظاهرة كبيرة في الإسلام الحديث ولن تقف وهي رافعة لواء إسلام أمين لنفسه، ولكنّه متطوّر بتطوّر الحضارة التي تلفّ العالم اليوم. في ظلّ هذه الحضارة لا يفهم أحد عنف الرجل ولا عنف المرأة. العنف المنزليّ ضدّهما كليهما. لقد سبق لي أن اطّلعت على قسوة المرأة على زوجها وعلى تصرّف شرس من قبلها. والفكرة من قانون يحمي السلامة موجّهة ضدّ اضطهاد أيّ من الفريقين للآخر. الطاعة للرجل التي يقول بها التعليم الدينيّ، لا تتضمّن حقًّا له بتأديبها، وإنّه لا يستطيع أن يكون طرفًا وحكمًا بآن. هذا طبعًا ينافي التراحم. لا أحد منهما يضمّ من جهة واحدة الآخر إليه. الانضمام غير الضمّ. إنّه حركة ثنائيّة ومحبّة متبادلة والمرأة لا تتلقّى العاطفة تلقّيًا من قبل قرينها. إنّها تعطيها أيضًا وتنتظر الاستجابة من قبل رفيقها في الوجود حتّى يصيرا كلاهما كيانًا واحدًا.

لا يزول الواحد بالآخر، ولكنّهما يتكوّنان معًا في وحدة العائلة، ولا ينمو الأولاد إلاّ إذا رأوا والديهما يسلكان في احترام كامل احدهما للآخر، فتقوى مودّة البنين والبنات لوالديهم معًا، إذ يرون التكامل بينهما. أنت ترحّب بقوّة زوجتك وذكائها وتكمّله بذكائك. ليس في هذا ذوبان. هذه مواجهة وهي تعني، في اللغة، أن يكون الوجه إلى الوجه أي الكيان الداخليّ إلى الكيان الداخليّ.

#   #

#

حلمي أن يفهم صاحب العضلات الأقوى وصاحب الجني أنّ الآخر قد يكون أعظم منه روحيًّا وثقافة، وأنّه كما يعطي يأخذ.

هذا يقودني إلى القول إنّه ليس بيننا عيش واحد إذا بقينا منقسمين بين أهل التقليد وأهل التجديد. أجل، أعلم أنّ كلّ المجتمعات منقسمة على هذا الصعيد، ولكن إذا بقينا على الانفصال بين أهل النصّ واهل الروح، يظلّ البلد ينتظر نهضته طويلاً. ولكن ما يفرحني أنّ الخلاف بيننا ليس الخلاف بين المسيحيّين والمسلمين، ولكن بين المتشدّدين وأهل التطوّر والنموّ والاستقبال، والفريقان في كلّ ديانة من الديانتين. سيتكوّن ولكن ببطء مجتمع مدنيّ حقيقة ومجتمع قديم، عتيق حتّى ينتصر المجتمع السائر إلى الحقائق الآتية غدًا أو بعد غد. الحقيقة البشريّة المنقذة فيها روحيّات ما في ذلك ريب، ولكن فيها أيضًا وقائع معاشيّة تدفع عن الإنسان الجمود والوهم.

على ضوء تجديد الإنسان من عمقه يجب النظر إلى موضوع العنف المنزليّ وغير المنزليّ. إن لم تأت وحدة ما قائمة على الفهم، نبقى في المسايرة والهدوء الكاذب القائم على المجاملات. بلا عمق قائم على التراث وإحياء كلّ الوجود القائم على الحقّ والمحبّة وعدم الخوف والاطمئنان إلى إمكانيّة الآخر على التقدّم ليس لنا من حياة.

Continue reading