أكرم أباك وأمّك لكي تطول أيّامك على الأرض التي يعطيك الربّ إلهك« (خروج 20: 13). هذه في الوصايا العشر التي أعطيت لموسى. يذكرها بولس في رسالته إلى أهل أفسس، ويقول إنّها أوّل وصيّة بوعد، ثمّ يؤكّد أنّ من يملكونها لهم خير ويكونون طوال الأعمار على الأرض (6: 2و3). في سفر الخروج الأرض هي أرض الميعاد، موضع البركات إذ لم تكن عند العبرانيّين آنذاك عقيدة القيامة وينتهي الإنسان هنا. غير أنّ بولس الرسول إذا ذكر الأرض لا يعني بها فلسطين، ولكن المكان الذي نعيش فيه.
في العهدين لا ذكر لمكافأة في الملكوت. هي تخصيص للإكرام الذي يليق حسب الكتاب بجميع الناس (1بطرس 2: 27). هذا لا يعني أنّي أضع إكرام الوالدين تحت السؤال، ولا سيّما العناية بهم إذا شاخوا. إلى أيّ جيل انتمينا هذه تربية لنا. هذا سلوك إلى الله. إنّ الطاعة واجبة إذا من تطيعه أمرك بمحبّة الله، وأمّا إذا أبوك حاد عنه فعليك واجب الافتراق عنه لئلاّ تكون عاصيًا لربّك.
في مطلع شبابي كنت أعترف عند كاهن صالح وبسيط معًا. كان يسألني: «هل تطيع أباك وأمّك» وأنا كنت أظنّ كلامه أقلّ من عاديّ، لأنّي كنت أرى أنّ كلّ شاب مهذّب سلس العلاقة مع والديه حتّى اللطف بهما.
من أساسيّات الوجود أن يشعر الإنسان بمحبوبيّته إذ يحيا بالآخرين. من أركان الأبوّة والأمومة أن يتلقّاها الوالدان من أولادهما، ليستمرّا في رعاية بانية متحرّرين من عشق السلطة ومتسلّحين بالبذل. ووجه من وجوه تلاقينا أن نتسابق في الإكرام كما يقول الكتاب عندنا، ليعرف كلّ منا أنّه مهمّ عند الآخرين وذلك في التواضع. وإكرامنا للوالدين يجعلهما مرتاحين إلى مسؤوليّتها وناميين في اكتشافها. وإذا كان القلب كلّ شيء تأتي مولوديّتك وإيلادك لذويك فيضًا دائمًا وإحياء وإذكاء للفضائل فهذه تتوطّد بالحبّ الذي تعطيه والحبّ الذي تتقبّله. وما من شكّ أنّ العاطفة تنتشر من البيت وقد بيّن كوستي بندلي هذا في أطروحته العظيمة، إذ أثبت أنّ إيمانك بالله متّصل بثقتك بذويك، وأنّ بغضك لله أو الإلحاد ناتج من بغضك لذويك. من هنا، تأكيد الله أن أكرم أباك وأمّك. يعطيانك النشأة وتلدهما أنت بنشأة لهما متقابلة فإذا بهما والداك وابناك فيما تدور الحياة.
ربّما ساعد هذا على انعاش يمدّ بالوجود على الأرض، على قاعدة أنّ المحبّة لا تسقط أبدًا كما يقول الرسول، وأنّها تاليًا تؤثّر فينا بيولوجيًّا، كما تؤثّر في الخلاص. السماويّات والأرضيّات متداخلتان بالرضاء الإلهيّ فينا إلى أن تقبض السماء الأرض.
# #
#
هل ينتج من التسابق بالإكرام طول العمر؟ هل طول العمر بركة كما يقول العهد القديم؟ هل الشيوخ يدنون من الله بالضرورة أم يترسّخ بعضهم بخطاياهم؟ ليس عندي جواب قطعيّ فقد يقبض ربّك على شباب ممتازين حتّى درجة القداسة. لي صديق عاش في الجزيرة العربيّة يتوجّه دائمًا إليّ بقوله: يا طويل العمر وهي عبارة لا أتلقّاها بفرح مذهل، كما أنّي لا أرفضها بسبب من المحبّة التي تغلّفها، ولا سيّما أنّي قرأت عند المعرّي «تعب كلّها الحياة»، فلماذا الرغبة في الازدياد إلا إذا كنت طامعًا بالرحمة الإلهيّة. وجميل هذا الطمع إذا استحسنت قول المزامير: «خطايا شبابي وجهلي لا تذكر». المقول إنّ العمر يقدّم لك الهدوء. هذا هو المألوف ولكنّه ليس المؤكّد.
حسباني أنّ من تمنّى لك طول العمر متعلّق بما يظنّه حسنات فيك، وأنّه توّاق إلى الاستمتاع بها. ما يتمنّاه إذًا هو أن تمطر عليه أعطياتك، ألاّ تذهب أنت قبل أن يكتمل هو بك. ربّما لهذا ندعو للأسقف أن تكون سنوه عديدة. نخشى الخلف الضعيف ليتولّى مسؤوليّة هي غاية في الأهمّيّة. وربّما إذا التمسنا الشيخوخة للمقرّبين نخشى ألاّ يكتمل نضجنا بغيابهم ناسين أنّ لله طرائقه في إكمالنا.
«إنّ الشيخوخة المكرّمة ليست هي القديمة الأيّام ولا هي تقدذر بعدد السنين، ولكنّ شيب الإنسان هو الفطنة وسنّ الشيخوخة هي الحياة المنزّهة عن العيب… إنّه كان مرضيًّا لله فأحبّه وكان يعيش بين الخطأة فنقله». (الحكمة 4: 8-10). هناك اذًا شباب متلألئ بالنعمة. ليس للتعب الروحيّ علاقة بالسنّ. فكثيرًا ما كنّا في فتوّتنا أطهر من أيّام تلت الفتوّة. لذلك الذين يتفجّعون على فقدان أعزّة لهم في مطلع شبابهم يبكون على الفراق، وقد لا يرون أنّ هذا الفراق قد يكون سببًا لمتعة روحيّة كبيرة. «الله ليس إله أموات بل إله أحياء». أي إذا متنا يستردّنا الله إليه ويذوقنا هو في أيّة سنّ كنّا. وإذا قرّبنا إليه متى استمتعنا خير من أن يستبقينا في هذه الأرض الفانية المفنيّة. قرباك يا ربّ وما دونها باطل.
سيواجه الغرب بعد سنوات معدودات مشكلة الشيخوخة الطاعنة، إذ ستظهر شريحة كبيرة من المواطنين ليس عندها إنتاج، وعلى الشريحة الأفتى أن تغذّيها وتحافظ عليها، ما يعني تقصيرًا ماليًّا في البلد لا تحمد عقباه. لا مواجهة حتّى الآن ممّا يعتبره أهل الغرب كارثة. غير أنّ ما يقف أمام هذا الرعب أنّ هؤلاء الطاعنين بالسنّ قد يقدّمون لمجتمعاتهم عطاء عقليًّا أو روحيًّا كبيرًا، ولا يسوغ إهمال مداواتهم حتّى يموتوا. إذ نكون دخلنا عمدًا في إفناء الجماهير.
كيف يأتي إذًا الحل الاقتصاديّ لهذه الظاهرة، هذه ستكون المسألة، ولا بدّ من الاستعداد لمواجهتها منذ الآن. «لكي تطول أيامك على الأرض»، لا تبقى نتيجة دعاء ولا نفع لهذا الدعاء إلاّ في تلك المجتمعات التي لا يطول فيها العمر، إذا اعتبرنا أنّ هذا الطول بركة.
دعاؤنا يجب أن ينحصر في ما نسمّيه نوعيّة الحياة لا امتدادها. كيف تعلو القيم في كلّ الأجيال؟ ما برامجنا للشباب والأطفال؟ ما اهتمامنا بالمرضى، بالمعوزين؟ أين نحن من الفكر العالميّ؟ على أيّ فكر نبني لبنان؟ ما قضايا الصحّة؟ أين السياسيّون من الأخلاق؟ كيف نكافح التشنّج الطائفيّ، أي كيف ننقل أبناءنا إلى المواطنيّة اللبنانيّة الواحدة؟ ماذا نعمل لنجعل لبنان قادرًا على العيش من دون أن يخضع للخارج؟ كيف نبني الدولة الحديثة؟ كيف نساهم في العلوم وكلّ مكوّنات الحضارة مع مشاركتنا الحياة العربيّة والثقافة العربيّة؟ هذه أسئلة يجب أن تقودنا إلى نوعيّة حياة متجدّدة.
# #
#
أمام هذا المنظور، لا يهمّ طول العمر أو قصر العمر، ولكن هذا يعني أنّ من طالت أعمارهم نعمل ليكونوا شباب الروح وعظماء فكر، هذا الذي تحييه قلوب طاهرة. كيف تكون الحياة السياسيّة طاهرة ما أمكن، ولا تكون ملعبًا للأغراض الشخصيّة أو الفئويّة؟ ربّما تقدّسنا ببعض الشيوخ التائبين، الأحرار من الاهتراء، الذي هو طابع وجود الكثيرين. أجل نحيا على هذه الأرض اللبنانيّة التي وهبنا الله بكرمه وعطفه، وتكون مكان ارتباطنا بالمقدّسات ومكان تحفزّنا للمستقبل الراقي. لن نكون كمن ينتظر الموت بل نصبح مبدعين للحياة في كلّ أبعادها وعمقها.
لا غرابة في ما صبا إليه دوستويفسكي العظيم وهو أن تصبح الدولة كنيسة، أو في لغتنا اصطفاف أطهار وعالمين. هل أفقنا أن نصير وطن الله إذا ربّينا على الأجيال ان تنضم إليه أو تجيء منه لتعمير الأرض؟ ألا تبدأ السماء هنا فيتبدّد الفرق لا بين الطوائف، ولكن بين من يتوق إلى الروح المطهّرة أو إلى الروح الدنسة؟ عندئذ لا نكتفي بإكرام الوالدين ومن إليهم ولكن بإكرام الانسان الجليل والعارف.
هذا ليس بالمستحيل إذا نحن آمنّا بأنّ تغيير الأوضاع الفاسدة بين أيدينا إذ تكون صارت يد الله عندئذ.
Continue reading