Category
لا يقال الفقر ضد الغنى كما لا تقال الشمس ضد العتمات. ليس الفقر عدماً ليقايس. لا يحكى الا الوجود. عنيت الفقر لأن سيدي أحبه فانوجدت والوجود لا يعتذر. الفقير عارف لأنه يرى مثل الناصري الشريد. الفقير قتيل. لذلك يعلو. يعلو هنا. الملكوت دشنه صاحبه هنا على ضفاف بحيرة طبرية. ولما فتح فاه قال: «طوباكم ايها الفقراء»، يا جميع الجياع بين الهند والحبشة، المشلوحة أولادهم على أرصفة العواصم. في رواية لوقا وحدها “طوباكم ايها الفقراء لأن لكم ملكوت الله”. حدة لم تبلغها قولة متى: “طوبى للمساكين بالروح”. والمفسرون يقولون لنا ان الكلام الاكثر حدة هو ما صدر عن فم السيد. ويقول الذهبي الفم ان المسكنة بالروح هي التواضع. وقد تشمل كل طبقات الناس. لماذا الطوبى للمحرومين على الصعيد المادي عند لوقا الانجيلي؟ انه هو القائل ايضاً في الله: “ملأ الجياع من الخيرات والأغنياء ارسلهم فارغين”، الانجيل الثالث انجيل فقري اذاً. يبدو ان الدعوة تتضمن مناصرة للفقراء من حيث هم. لمجرد حرمانهم وكأنه يقول انهم انصاره. انا لست بلائم أحداً منهم اذا سعى الى المال. لعل هذا من تعلقه باولاده وعلمهم وصحتهم. أنا لست بقائل ان هذا من الخطأ ولعلي اذا كتبت عن بلد لا أريده متخلفا بالمعايير المتعارف عليها اليوم. كذلك أطلب العدالة واناضل من اجلها. واكره من نادى في سبيل ذلك بقتل الاثرياء وأنا لا أكره واحداً منهم بل لبعض منهم عندي مودات. ما هذا ببحثنا ليوم. وانا في هذه اللحظة لا أكتب عن العطاء وعن المعطي بتهليل كما يدعو الى ذلك بولس. هذه المرة لا أعظ أحداً ولا افاضل بين ناس وناس . اعلن فقط بناء على الكلمة الالهية ان الهي لصيق بالفقراء وانه لما اتخذ هيئة بشرية اقام مع المستضعفين، في حيهم وبدا واحداً منهم كي لا يشعروا ان بين الله وبينهم هوة.
أريد ان اقول للفقراء (لو استطاعوا ان يشتروا جريدة) ان الخطر المحدق بهم – في سعيهم – ان يشتهوا المال. الجهد في سبيله ليس الطمع به. كيف يفهمونني لو قلت لهم ان وضعهم مبارك وان فيه نعمة. انا ما قلت ان يثبتوا في حالهم ولكني ادعوهم ان يثبتوا في قلوبهم لأن الله كنزهم وان عرفوا ان يشتهوه يتنزهون عن كل خطيئة. هناك مصطلحات أوجدتها الامم المتحدة لما نحتت افهومة التنمية في الخمسينات فتعلمت الدول ان تتكلم عن حد الفقر وان ثمة من كان دونه. انا لا أنفي شيئاً مما تقوله الامم المتحدة ومتفرعاتها الاقتصادية وأكره المتحذلقين الذين سيتهمونني بالطوباوية. انا لا ابني نظرية. اعتقد ان هناك مرتبة من الوجود يستطيع فيها المتأمل ان يخرج نفسه من حيز كل هذه اللغة الانمائية. هناك مرتبة الوجود لا علاقة لها بالاقتصاد السياسي وهي مرتبة ذلك الذي وحد المسيح نفسه به لما قال: “كنت جائعاً فأطعمتموني”. انا أفهم ان هذا كلام مرسل الى الحافظين انفسهم بمالهم وانه دعوة لخلاص هؤلاء. ما يهمني اليوم من كلام السيد قوله: “كنت جائعاً” بمعنى انه واحد مع هذا الذي لا يقتني شيئاً وان هذا له ان يفخر بأنه يعيش في مقام مع المسيح فيما هو في هذا المقام أي فيما هو لا يشتهي ما ليس هو عليه. اذا اقام خارج هذا المقام اعطى المحتاج ليس عندنا وعد بأن المسيح معه. ندخل، اذ ذاك، في معالجة اخرى. الفقير – فيما هو على حاله – حبيب المسيح وحسبه. من اعطاه شيئا بلا استعلاء ولا منة ولكن حباً ومشاركة يحبه السيد ايضاً. انه يشتري نفسه. اما لصيق التراب والذل فمن حيث هو جعل الناصري حليفه. ومن اراد ان يقترب من الناصري يقترب هو منه. بلا هذا الدنو من الضعاف ليس لأحد صلة مع فقير الناصرة. ليس لي ان أعلمك سبل الدنو. الحب يعلم كل شيء.
ان تكون جليس المسيح وانت على الارض كرامة لا بعدها كرامة. هذه ليست ملهاة عن الجهد الدؤوب الذي اذا لم نبذله في سبيل المحرومين نكون قد شاركنا في استمرار العوز عندهم وكل المخاطر الناجمة عن العوز. انا لست أؤمن ان لنا فردوساً على الارض نأكل فيه ونشرب ولو آمنت انه لا يسوغ لنا ان نخلف موعدنا مع العدالة. اردت فقط ان أشهد ان للمسيح اخوة جالسين منذ الآن في ضيائه وانهم عنده المصطفون ولك انت ان تتبين طريقك اليهم لتعرف طريقك اليه. ??? قد يختار الفقير ان يلازم فقره اذا رأى في نفسه خطراً ان ينتقل الى حال اخرى. قد يختار الغني الفقر اذا أحب. ولهذا سميت عندنا الرهبانية الفقر الاختياري. قد يرى الانسان انه اذا بات على القليل يقترب الى الله. هذا خيار صعب لكنه ممكن. لا يفرض على احد. ولكن من رأى ان الفقر سبيله الى الله فهذا يحسب له براً وليس لأحد منا تدخل بين النفس وخالقها. قد يؤثر احدنا ان يموت فقيراً اذا تغلب على الخوف، اذا عرف مخاطر الامتلاك. قد يرى نفسه حراً في عدم الاقتناء أو قلة الاقتناء. هو لا يمنع احداً من التغلب على الحاجة. هو له ان يعتنق الحاجة سبيلاً الى الحرية. الا يحتاج الى احد ولا يتحسر في حاجته فهذا شأنه خصوصاً ان عرف ان قبوله الهبة انما يرتضي معها في كثرة الاحيان المنة. “الفقراء معكم في كل حين” قولة ليسوع ليست فقط ملاحظة وجود. في حسي انها دعوة لمن قدر على قبولها. وليس في هذا الموقف ادانة لأحد فليس عند من ارتضى فقره استعلاء فضيلة. انه الشوق لمجالسة اكيدة للسيد، شوق من لا يسعى الى مكافأة في الارض، حب للمكوث في الملكوت منذ الآن، اكتفاء بالكنز الوحيد الذي القلب موضعه. هذا يقدر ان يقول لله مع الحلاج: “مكانك في القلب القلب كله”. هذا هو الغنى بالذات اذ من يستطيع ان يغنى بغير الله او من يزيد على الله شيئا؟ انا اعرف ان هذا لا يحل المشاكل الاقتصادية في العالم. ربما لا يملك احد صيغة لهذا الحل. الوجود كله تجربة ومحاولة. لكن العالم مرض، برؤية البنى وتحليلها واصلاحها او الثورة عليها. الفكر الغربي يرى دائماً الى البنى، الى العام وعبقريته عبقرية القانون. وهو يحلم بالتطور ولا بد من احلام. لكن التطور ليس بحد نفسه التحسين. واذا اتخذنا الانسان بكل تركيبه وتعقيده فليس ما يدل على ان التقدم هو بالضرورة السير الى الاجمل والابهى بالمعنى الانساني الشامل. والسؤال الاكبر هو من اين نبدأ. انبدأ من الهيكليات الاقتصادية والسياسية لنصل الى الانسان في عمقه وسره أم نبدأ من الشخص البشري الراقي روحيا لندرك ما امكن ادراكه من تعمير الارض؟ وهل علينا ان نختار بين هذه المسيرة وتلك ام نشرع فيهما معاً على الرجاء؟ العقل الاوروبي لم يوصلنا الى القلب. وفي الواقع صدرت كل الاحلام الكبرى والطموحات الكبرى من الاحساس الوجداني. وهذا انسكب طموحات وانظمة أي قانوناً. وعالم القانون قائم ليضع حداً للجنون لكنه لا يشفي الجنون.والقانون قائم بسبب الخطيئة ولا يستطيع ان يحارب الخطيئة. انه ينقذ فقط من بعض البادي منها. المشكلة الحقيقية قائمة حتى النهاية في النفس البشرية. الويل لمن جهلها في تشعباتها، في آلامها، في فرادتها، في عزلتها، في انكسارها. النفس عالم الخاص. يبقى عالم العام الذي له مجاله ولكن لا يكفي وحده لحل مشكلة الانسان الوحيد في اوجاعه. عندنا عالمان يلتقيان أو يتقاطعان ولا يلتقيان دائماً. جل ما اردته في هذه العجالة ان الذين هم في عمق الالم لهم استقلال كبير او يمكن ان يكون لهم استقلال كبير عن العام ومحاولاته. ذلك ان هؤلاء قادرون على الا يتخذوا كيانهم الا من الله الواقف فوق على البنى وعلى النفس البشرية معاً. انهم في تحديهم الكبير لوطأة الهيكليات عليهم يشهدون انهم جعلوا الله مأكلهم ومشربهم وانهم – فيما يسعى الآخرون الى افضل يبنوه – يسعى هؤلاء الى ان يقيموا منذ الآن في المجد الالهي.
Continue readingانا محبوب اذًا انا موجود، هذا اذا تأكدت الامر. هذا حدس ولكن يمكن ان يكون صنع خيال. افعال العطاء اذا تدفقت عليك وغدت على شيء من العمق تجعلك تقترب من هذا الشعور ولكن ليس الى حد الطمأنينة الكاملة فالآخر قد يكون متقلبا او مخدوعا بخياله. وقد تراه مجافيا او نافرا او قاهرا او ظالما او مبغضا لأنه يشترط التبادل. انه يريدك دوما ان تثبته او اقله ان تثبت له قرباك وانه موضوع اهتمامك بل الموضع الذي تطرح فيه اهتمامك كله.
قلة من الناس مجانية العطاء. هي على عقل التجارة. الناس – الينابيع الذين يفيضون ابدا ويسقون من ذواتهم، من داخلهم الآخرين بلا حساب، بلا منة، بلا اعتزاز، بلا افتخار لأنهم يحيون مما يبذلون قلة عزيزة. من اعطى ينوجد. هو لا يحس انه افتقر، واذا خسر من اشيائه يحس انه ينمو بما بذل. ليس فقط لا يطلب اجرا ولا شكورا ولكن يزعجه الشكر.
قد لا يحس ابدا انه اعطى. انه كذلك لأنه فقير. انه لو احكم عقله ورأى ان شيئا يخرج منه وينسكب في الآخر لا يدرك ان هذا الذي خرج منه هو له. هو يعرف نفسه فقط مستودعا يغرف منه اي انسان ما يشاء ويعرف ان هذا المستودع ملك الناس جميعا. اما لماذا اختزن فيه ما اختزن فسؤال لم يطرحه على نفسه، هذا سر، كنهه في عقل الله فقط. وهو حر ان يستودع من شاء عطاياه. لماذا يهب هذا ويحرم ذاك هو ايضا سؤال ليس عندنا في هذه الارض جواب عنه. المهم في الدنيا من سيّد الكمان يهودي مينوهين كان غني القلب، حلوه، دمثا حتى لا تستطيع الا ان تستطيبه. ليس لك ان تسأل لماذا في قلبك شح. اذهب واغرف وارتو. هناك قلوب تفجرت حتى الانفتاح. امدد يدك اليها واشبع. ربما اذا تعاطيتها وانتشيت ينعم الله عليك بأن يملأ قلبك فينفطر ويتفجر وتنحسر عنك الصحراء.
لا يسعك ان تأخذ فترتوي الا اذا عرفت نفسك محبوبا وانت كما انت ومعطيك لا يريد ان يعرف شيئا عنك ولا من انت. والاهم في كل ذلك انه لا يريد ان يعرف من ضعفاتك الا ما تكشف ليعالج ما تكون قد كشفت عسى يطيب فيك موطن الضعف. وهو لا شأن له بشيء آخر، بما لا تريد البوح به. ولعل جل ما يستطيع ان يشعرك به في قرباه. ان يجعلك تتحسس بدفء منه يبعثك ليس الى الاطمئنان اليه ولكن الى ان سلام الله قد ينزل عليك ان انت بكيت وآمنت ان ربك يمكن ان يبعث فيك الرجاء.
وليست القضية ان يجعلك تثق بنفسك. ان الواثق بنفسه كثيرا مخدوع بقدرته، اما المنزعج من ضعفه، الذي يتآكله ضعفه ويتردد فيه قادر على ان يثق بالله اذا احبه واحد وأبان له انه حبيب الله. المحب لا يشتري لنفسه احدا. لا يسعى الى مبايعة. لا ينشئ حوله حاشية، زعماء الشعوب يفعلون هذا لأنهم يريدون ان يشتروا القلوب ولو الى حين. اما الذين هم لله فلا يريدون لأنفسهم زبانية ولا ان يقال عنهم حسنا. سعيهم ان يكونوا في الخفاء، تحت الستر الالهي، ان يراهم ربهم فقط. وهم لا يعرفون ان ربهم يقيمهم امام وجهه. لا يعرفون قرباهم.
يريدون ان يكون الاخر في القربى، ان يؤمن بالرحمة العلوية تحيط به وتشفيه. شرط هذا الشفاء الا يدينه الاتقياء، الا يفخروا بفضيلتهم لئلا يقعوا في الاستعلاء. كل استكبار يقتل الضعاف الذين هم اخوة يسوع الصغار. كل فضيلة خطرة على نفسها بسبب من هذا التعاظم الذي يهاجمها. السكر بالخير فينا اولى امارات السقوط. لذلك لا يعطي الا من اعتبر نفسه لا شيء ورأى نفسه في حال المحسن اليه، في الموهوبية النازلة من فوق.
من اتسع هكذا حتى شمول قلبه الآخرين كثيرا ما كان غير مفهوم لأن قوانين السلوك في المجتمعات الدنيوية انك تعطي من ترجو منه ان يرد لك بمثله في يوم مناسب او بشكر او بتلازم يذهب الى حد التزلف. الناس يسلكون كأن بينهم عقودا. والافضلون في المعيار الدنيوي يبغون شعورا بدل شعور وزيارة عن زيارة وافتقادا عوض افتقاد وتعزية ازاء تعزية. هذه قواعد الترابط الاجتماعي بين الافراد والعائلات والجماعات. غير ان المعطي المتهلل، المستجير بالله وحده والراكن اليه وحده فلا يفهمه اهل المعيار المجتمعي. انه ليس في افقهم. انه ليس افقيا. يمتد الى الاخرين ويبقى فوق. علاقته مع الجالس فوق. وجوده عمودي. لذلك يقول لله دائما: “لا تصرف وجهك عني لئلا اشابه الهابطين في الجب”.
يعرف نفسه موجودا فقط في رؤية الله. في الفلسفة المؤمنة نقول ان تماسك النظام الفلكي وقاعدة ثبات الحيوان والزهر وارتباط الاشياء كلها بعضها بالبعض انما هي في ضبط الله لها اي من حيث هي كائنة في رؤيته ورضاه. المؤمن الذي وصفناه هو من عرف نفسه حيا بالله وقائمًا به وفيه وذاهبا اليه. ورجاؤه ان يثبت هذا لأن ما عداه موت. لهذا عاش هذا الانسان فوق او من فوق. يجيء دائما من الذي ينشئه كل يوم هكذا. القلوب التي تعرف سره هي التي استقرأها الرب هذه الامور المحجوبة عن عقلاء هذا الدهر.
هذا الانسان من اين يجيء سره؟ كيف يتغلب على المرض، على الحزن، على الفقر، على المقهورية، على عزلة بني جنسه، على رفض الاقربين اياه وكل الحياة ان تنتقل من العزلة الى المشاركة. كل منا لا بد له ان يتوحد مع آخر لئلا يموت اختناقا.
الذي سميناه الآخر هو من التقى معك لتكونا واحدا على الاثنينية. ولكن اذا عاش هو في وحدة سحيقة فلا يلتقيك. ما هو بآخر. لا يلتقيك الا من خرج من نفسه في المجانية. ونحن نقول هذا خروج الى القيامة. غير ان من التقاك ليس كامل المجانية، ليس كامل الحب. لا يجدك من اجل نفسك، من اجل بهائك. يراك وعلى وجهك غبار او يستقبحك احيانا. هل يغفر لك بشاعتك من تأذى بها؟ لذلك يتركك الاقرب وحدك في صحرائك ويفتش لنفسه عن جنات.
لا يعيش الانسان الا اذا أحبه كامل. دون الكامل تعزيات صغرى او موقتة وصغرى معا بمعنى انها تدعك عطشانا او على كثير من العطش. لذلك تتوالى ايامنا ونحن نتبدى من صحراء الى صحراء. عرفت هذا الشعور لما عبرت سيناء مرة. كنت اتعزى بشجيرة صغيرة هنا وثمة واقول في نفسي وفي هذه اللحظة تغلبنا على الجفاف ولو قليلا.
واضح ان السيد لم يقل مرة ان احدا يجب ان يحبك. امرك انت بأن تحب. لكنه قال في انجيل يوحنا: “وصية جديدة أنا اعطيكم ان تحبوا بعضكم بعضا. كما احببتكم انا تحبون انتم ايضا بعضكم بعضا (34: 13). المسيح معلم المحبة المجانية ومعطيها كاملة. في هذا السياق كانت تعاليمه الاساسية كما ترجمها يوحنا ان الله احبنا اولا. تاليا انت تعرف نفسك حبيبه وحسبك. قضيتك ان تذكر ذلك دوما، الا تشك في هذه المحبوبية حتى تحيا.
الحساس روحيا هو من استطاع ان يرى نفسه في العطف الالهي ولو قاساه الله. لطف الله له تعابير مختلفة ومتضادة. يظهر بالتأديب احيانا وبما يشبه اعادة النفس الى الجفاف. غير ان الذي دلله ربه غير مرة يقدر ان يفهم ان الطريق الى الدلال الاكبر هو ان يتظاهر الله ببعده. هذا ليقيم نفسك في المجانية الكبرى.
سنذكر شيئا من هذا غدا في كنيستي ان عرفنا ان نقرأ الرموز. سنطوف بالصليب موضوعا على الرياحين ومحاطا بثلاث شموع. ان عبرت آلاما كبرى وعميقة فاعلم ان الله الذي ليس هو محدثها سيأخذ فيها بيدك ويرميك على الازاهير ويضيء قلبك بالانوار. عند ذاك تنتهي بواديك الى جنات. تعرف ان ربك قد اقامك في محبوبية لا تنتهي.
Continue readingلم استمتع بالقاهرة كما كنت قد اشتهيت. صديقي الدليل السياحي كان غائبًا فلم يزد علمي بالحضارة المصرية القديمة التي تحدث فيّ، ما أقبلت عليها من جديد، هزة في النفس قوية هي أقرب الى الرؤية الروحية منها الى الشعور الفني.
اضطررت ان أؤثر الوجوه على الحجر. اقتصر عملي على محاضرتين احداهما عند الاقباط والاخرى في ملة الروم في القاهرة وعلى تأمل انجيلي في دير الانبا مقار في وادي نطرون في الصحراء وليس المجال هنا للتحدث عنها. شعوري ان المسيحي في مصر لا يحتاج الى مقومات عقلية ليؤمن أو ان العقل لا يسائله عن ايمانه وانه مرتاح في ما اختار أو ما اختير له. رأيتني اضحك من نفسي بما كنت أقدم حججًا او اصف المسار الفكري الذي سلكت لأصل الى ما وصلت اليه من طرح. انا أفهم جيدًا الا يحتاج الاكثرون الى ما يدلهم في الطبيعة او التاريخ أو الذهن على الله وأتبرك منهم تبركًا كثيرًا. لكني افهم ايضًا أن من الناس من سعى الى وحدة في كيانه بين ما لبسه من عقل ومن جمال ومن جسد ومن قلب وما نزل على قلبه من نور هداه. ربما كان لكل فئة من الفئتين مخاطب. على هذا انا واثق ان الله لا يريدنا ان نتلف مما خلق ولو ارادنا ان نعرف حدود كل شيء.
للعقل حدود اذ له مجالات وليس له كل المجالات. هناك عالم السر وعالم الرؤية وهناك المودات نرعاها أو ترعانا. لكن الاعظم فيك أعني الرؤية لا ينبغي ان يزهد بالاصغر عنيت العقل ليأتي الاعظم محمولا على الجد. افهم ان يأتي اكثر النفوس الى الله على شيء من السهولة، (اصحابها يقولون انهم بسطاء). هناك طبائع ليست مركبة او ليست معمرة. أحسدها لأنها لا تتعب كثيرًا. لا أحسدها لأنها فقيرة الى الهيكليات العقلية.
# #
#
كللت من الدين الشعبي لأن الانسان مركزه أو قبلته. همه ان يتلذذ القلب بالمشاعر. الى هذا ترى المؤمن “البسيط” يتمحور على صحته وصحة أولاده. ولهذا كان في عطش الى المعجزة والى اثبات القداسة بالمعجزة. هذا يعني انه يريد خطابًا إلهيًا جديدًا. انا لست انكر حرفا واحدًا من العجائب “المعقولة” التي وردت في سير القديسين ولست أنكر ان قوة الله تتجلى في مختاريه بهذه الصورة كما تجلت في المسيح. ولكن يلفتني ان السيد أرادنا ان نؤمن به بسبب الكلام الذي قاله “والا فصدقوني بسبب الاعمال”. اذًا في الفكر الانجيلي تأتي المعجزة بعد الكلمة تعزية للضعفاء الذين لم يتمكنوا من الانبهار باعجاز الكلمة في انجيل يسوع المسيح. كذلك نرى في انجيل يوحنا ان عجائب السيد وهي سبع (وهذا رقم رمزي) يتبعها دائمًا تعليم كأنها تمهيد له لأنه هو مطرح التلاقي بين السيد وتلميذه.
لقد نزل ابن الله مرة الى العالم ليكفيك نزوله. ولن يتجسد. من بعد هذا انت تصعد. لذلك لا أحب هذا التعريف الشائع عن الكنيسة انها تجسد المسيح. الكلمة تجسد مرة واحدة. الكنيسة ليست تجسد المتجسد. هي صعوده. والكلمة التي فيها تشدنا الى فوق. والقديسون جالسون فوق. والايقونة اطلالة من السماء لتشد اليها الارض. والقرابين المقدسة تأخذك الى جسد المسيح القائم على العرش. ما يهزني في الرهبانية – أصلاً ومثالاً – انها تقيمك في الحد الادنى من الحاجة لتوحي اليك بأنك دائما في ذهاب الى المسيح الآتي. لهذا خشي الاكابر على الدير غناه. خافوا سؤالاً كهذا: كيف ندير، ماذا نعمل بهذا الرزق أي خافوا ديرًا يتحول بسبب من الانهماك به مؤسسة وليس عند الرهبان اذا تجنحوا وقت ليقفوا.
# #
#
ما من شك ان في عقولنا خلطًا بين حال القلوب ومسؤولية الهداية. الاولى ليس لنا بها علم ف”بالنعمة انتم مخلَّصون” او كقوله الآخر: “طرقي غير طرقكم”. غير ان الله اراد التعليم لمجرد انه اراد الوحي. والوحي ذو مضمون يجب ان تعرفه انت لتخلص به. وجعل الله لنا انظومة متماسكة، عظيمة البنية، كافٍ غناها، اسمها الكنيسة لكي تصل الى مسامعك الكلمة وتحيا بها.
وكل ما كُتب في هذه الكنيسة منذ الفي سنة وما وضع من قوانين واستخرج من فن وما لُحن وأنشد وبني، كل ذلك غايته ان تعرف لعلك تفهم وتستطيب الله وتكون في حركة رؤية لا تنقطع بالموت ولا تنتهي بالقيامة لأنك على ما علم غريغوريوس النيصي تنتقل من بعد البعث من بدء الى بدء ويجمل الله في عينيك كل لحيظة من لحيظات الابدية بما انه اهّلك للرؤية.
واذا كان الرب لا تقع عليه السكونية هناك فلا تقع انت على قلبك الفهيم السكونية هنا ولا تكتفي بفتات المعجزات والاقاويل وان تعمى عما تفوه به الله وعما حاكته الكنيسة من هذا الثراء وتعرض عنه لتجد له بديلاً من نسج خيالك وانفعالك شبه الديني او تعوضه بما قد يكون واقعًا لكنه عرضي أو هامشي.
أنا في يدي تفويض واحد هو تفويض الكلمة. وهذه ليست مدروسة درسًا وافيًا عند من فرض فيه تلقينها ومن فرض فيه تلقنها. أما الصلاة ونصوصها فهي نسج على ما قاله الله ووجه آخر له. ولكن لن تصل اليك نفحات الصلاة ما لم ينزل على قلبك الكتاب العزيز. هذان وجهان لعملة واحدة ولا بديل من واحد منهما عن آخر.
السؤال المفجع هو كم من جيل تعلم. والسؤال الذي يرافقه هو أيًا كان عمق تعلمنا ماذا عملنا بالتفويض الالهي؟
الاهمال انشأ دينًا شعبيًا ويبدو اننا مستسلمون لوجود فئات غير مستنيرة وما قد لا نبوح به لأحد ان جماهير السذجة جيدة لأنها توفر علينا تعب العمل الفكري. والواقعية المرة توسوس في صدورنا ان الجماهير ستبقى على غباوتها وانه لا بد من نخبة تتعاطى الالهيات والتفسير.
# #
#
ما قض مضجعي في السنوات الاخيرة هذه الهوة القائمة بين كلمة الله والمؤمنين على مستوى الفهم. طبعًا انا أعرف ان الفهم الآتي من الدراسة لا يعني انك بلغت لب الكلمة أو تلألأت بها. ما يخيفني ان الكلمة تسقط احيانًا على الارض ولا تعود الى الله كما تمنى اشعياء بالقلوب مبلورة مطهرة. هل يعني هذا ان وضع الدين le statut de la religion ان تزرع انت فقط وتسقط حبة الحنطة على أرض خصبة أو أرض يابسة وما الى ذلك مما يقوله مثل الزارع في الانجيل؟ هل أعزي نفسي بذلك لئلا تحزن الى الموت أم يقود السؤال الى رجاء لهب عظيم يضرم المسيحية حيثما وجدت وينتشر اللهب برياح عاصفة نعرف انها من الروح.
أنا لا أحب المرشدين الكسالى الذين يهملون التعليم ويوقفون كل شيء على طهارة الروح، على القداسة كما نقول في المسيحية. كأنهم ما قرأوا: “انتم انقياء بسبب الكلام الذي كلمتكم به”. ان التشبه بالاطهار هو الطريق الى القداسة ما في ذلك ريب. غير ان نقاوة الحياة هي الهدف والوسيلة الكبرى اليها هي الكلمة الالهية التي تنقي القلب اذا حملها الروح الالهي اليك او ترجمها الى حياتك أب روحي كبير.
الوجع الملازم أبدًا للكنيسة انها ليست مجرد تعليم لكنها رعاية أي ليست مجرد زرع لكنها سقاية وتعهد دائم للمؤمن الذي ترعى. المسيحية ليست مجرد دعوة لكنها سعي دؤوب لاقامة الناس في السماء قبل ان يموتوا. “اضطررهم على الدخول”. هذا هو الامر المرسل الى كل مؤمن ليحاول المحافظة على الآخرين في الكنيسة ليس فقط بالنصح ولكن ببث الدعوة والافتقاد “لئلا يهلك منهم أحد”. قبل عودة آخر جاهل، قبل احتراق الدنيا بالحب لا تستطيع ان تنام.
Continue readingقبل ان يقرب يسوع من أورشليم في مطافه الاخير اليها داخل أريحا وأخذ يجتازها وحوله ألوف من الناس (لوقا 1: 12) فاذا رجل يدعى زكا وهو رئيس للعشارين غني قد جاء يحاول ان يرى من هو يسوع، فلم يستطع لكثرة الزحام، لانه كان قصير القامة. العشارون هم الجباة الذين يعملون في الادارة الرومانية. وكانوا في كل منطقة زمرًا ولكل زمرة رئيس يتعهد الضريبة المفروضة على المنطقة جميعا ويقسم المسؤوليات على معاونيه. والمبلغ المفروض يجبى من الافراد بحيث كان ممكنا ان يغبن مواطنون كثيرون او كل المواطنين. والفارق بين ما يجمعه العشار وما يتوجب عليه للدولة يذهب الى جيبه. هذه الحكمة في السرقة كانت أمرًا شائعًا في فلسطين حتى ان كلمة عشار كانت دائما مقترنة بابتزاز المكلفين. ولم يكن مقبولا من المكلف ان يثبت عجزه عن الدفع.
لماذا رغب زكا في رؤية النبي الجليلي؟ ربما كان هذا بدءًا من باب الفضول. ربما انجذب اليه لدافع آخر. لا يذكر الكتاب انه أراد حوارًا مع السيد. ولكن لكونه كان قصير القامة أسرع لصعود جميزة ليراه، لان يسوع أوشك ان يمر بها. أراد زكا ان يرفع الحاجز الذي كان يحول دون رؤيته المعلم. لا بد انه سمع ان يسوع انما كان يخالط العشارين والخطأة ما يعني انه كان يخالف توجيهات الحزب الديني الاصولي المعروف بالفريسيين. وكان هؤلاء يعيرون التلاميذ ان سيدهم يؤاكل الجباة الخطائين بحيث انه كان يخرج عن خط البر الذي رسمه الفريسيون واعتبروه برًا الهيا. اجتهادهم هم يساوي الكلمة الالهية وكان يسوع يقيم فارقًا كبيرًا بين الكلام الالهي وما كان من تقاليد الناس. لعل الانجيلي في ايراده الحادثة هنا في سياق الحديث عن آلام السيد أراد ان يوحي بأن الصدام بينه وبين قادة الفكر الديني قد بلغ أوجه.
# #
#
فلما وصل يسوع الى ذلك المكان، رفع طرفه وقال للرجل: “يا زكا انزل على عجل، فيجب علي ان اقيم اليوم في بيتك”. هذه هي المرة الوحيدة التي يتجاوز فيها يسوع الاختلاط في الشارع بالعشارين ليقيم مع هذا العشار بالذات صلة أوثق فيتخطى قوانين الدنس التي أقامها الفريسيون. “يجب ان أقيم في بيتك” في هذا تصميم على الخلاص، مبادرة في الخلاص. هذا عند لوقا صدى لتعليم بولس: “بالنعمة انتم مخلَّصون” وما دونه يوحنا في ما بعد: “الله أحبنا أولاً”. لوقا يبني عمارة لاهوتية تحت ما يبدو بسيطا.
السيد يقول: “انزل على عجل” فيعلق البشير: “نزل على عجل واضافه مسرورًا. لماذا لبى بلا تردد؟ هل هي الضيافة الشرقية؟ هل أحس بأن ثمة ما كان أعظم من مجرد كلام لانسان يدعو نفسه – اذا صح التعبير – عند رجل غريب؟ تذمر الفريسيون من كون يسوع ذهب ليبيت عند رجل خاطىء. يرفض يسوع ان يفهم البر على انه انفصال أو تمايز أو استعلاء. يعرف سببًا للاتصال حتى المعاشرة. الله كما فهمه يسوع الناصري في حال موصولية حتى الاحتضان والضم. في اقتبال يسوع معمودية يوحنا القائمة من أجل الخطأة يساوي المسيح نفسه بالخطأة اذ يصطبغ بما لم يكن في حاجة اليه. المخلص ينصهر بالمدعوين الى الخلاص. هذا هي كثافة الاندماج.
التقى الرجلان عند أسفل الجميزة فقال زكا للرب: “يا رب، ها اني اعطي الفقراء نصف اموالي، واذا كنت قد ظلمت أحدا شيئًا، أرد اليه أربعة اضعاف”. لقاء معجز لا يفهم بمألوف السيكولوجية للوهلة الاولى. حدث زلزال في نفس الجابي. اهتزت نفس زكا من المقابلة الصداعة بين البر الكامل والخطيئة المستفحلة. انتهى فجأة زمان السقوط وامحت السقطة زكا يصير خليقة جديدة يجعلها الله بضيائه. الرجعة رجعة الى وجه الله نفسه من خلال المعلم. عندنا تخطئة للماضي كله، شجاعة اعتراف. الرجل يبذل نصف امواله وكان قد عاش في البذخ. موقف لا يقيم حسابا للمستقبل، لمستوى انفاق كان قد اعتاده وموقف اعتراف بأنه قد ظلم. يرد على كل مظلوم ظلمه اربعة اضعاف. ماذا يبقى من هذه الثروة؟ ماذا يضمن لزكا وعائلة زكا سنوات قد تكون طويلة.
لقد انتقل الرجل الى وجود آخر، الى حياة جديدة بالكلية لا تقيم حسابا لشيء من دنيانا، حياة مطبوعة بجنون الحب. اذذاك قال يسوع فيه: “اليوم حصل الخلاص لهذا البيت”. فالنجاة ليس فيها مراحل ولا تحتاج دائما الى تربية. تنقض على التائب كالصاعقة لكونها عملية خلق جديد الخالق هو فيها كل شيء. بعد هذا بأيام لما عُلِّق السيد على الخشبة يقول للص: “اليوم تكون معي في الفردوس”. الحب يمحو لصوصيتك كلها ويرفعك الى الدرجات العلى من الرؤية واللصوق.
وبعدما قيل هذا في الرجل قال المخلص عنه: “هو ايضًا ابن ابرهيم” بمعنى انه صار الآن بالايمان المستعاد ابنا لابي المؤمنين. هذا أيضًا يلتحق بفكر بولس: “آمن ابرهيم بالله فحسب له ايمانه برًا”. المسيح ينكر على اليهود في انجيل يوحنا كونهم ابناء ابرهيم. انهم قد نقضوا الخط الايماني لكونهم جحدوا المسيح. “ابن ابرهيم” عبارة جعلت زكا من المزكين فان الذين لم يكونوا مرحومين صاروا مرحومين كما يقول هوشع والذين كانوا تحت اللعنة باتوا مباركين لكونهم غدوا اخوة لهذا الذي قيل عنه: “ملعون كل من عُلِّق على خشبة”. كل منبوذي الدنيا يصيرون بالحب اخوة ليسوع” لان ابن الانسان جاء ليبحث عن الهالك فيخلصه”.
# #
#
أيضًا وأيضًا نحن مع لاهوت المبادرة الالهية في انقاذ البشر. يسوع يأمر الاذن ان تنفتح ليسمع الاصم والعين ان تبصر ليتكون فينا بعد ذلك الانسان الداخلي. “ليبحث عن الهالك”. في الصيغة اللغوية التي وردت فيها الهالك في اليونانية تعني الكلمة من هلك نهائيا كأنه يقول على رغم كل معرفتنا بالاصرار على الخطيئة وما يبدو هلاكا ليس في الانسان ما يحول دون الرحمة والتغيير الذي تحدثه في القلب البشري.
لعل أجمل ما في الانجيل ان من أهمله الدهر أو أهملته نفسه أو أعيق أو كان فيه مسّ أو حل فيه فقر أو مزقته الخطيئة وأفسدته حتى ضياع الرشد والتمييز أو ظلمه عاتٍ أو استغله نافذ، ان كل هؤلاء اصدقاء يسوع الناصري يشفي اجسادهم أو يشفي قلوبهم. هذا الذي عيره به نيتشه الباحث عن الانسان المتفوق انما كان عظمته في تاريخ الناس على ما قاله الشاعر: “ولد الرفق يوم مولد عيسى”.
الضعفاء الذين لمسهم حنان المسيح وباتوا في حنان والصابرون من أجل صليبه هؤلاء أعظم بكثير من أولئك الذين تمجدوا بحسن ابدانهم وذكاء عقولهم واحتقروا مهمشي الارض وذوي الاسقام.
ولعل الاخطر من هذا ان يستعلي الطاهرون فيدينوا من عصى. كل من استكبر انما يحطه الله. طوبى لمن استطاع ان يتواضع من خطيئة وعزف عنها ابتغاء الفرح الذي تعطيه النقاوة. “طوبى لمن غفرت ذنوبهم وسترت خطاياهم” بسبب من رقة الغافرين.
Continue reading