Monthly Archives

November 2013

2013, مقالات, نشرة رعيتي

إن أردت أنْ تكون كاملاً/ الأحد 24 تشرين الثاني 2013/ العدد 47

لا شك ان هذا الإنجيل صعب جدا. السيد يقول عن الأغنياء ان دخولهم إلى ملكوت السموات عسير، بل انه يعسره إلى حد انه يقول: “ان دخول الجمل ثقب الابرة لأسهل من دخول غني ملكوت الله”.

بالطبع حاول المفسرون المتساهلون ان يهينوا الأمور على الناس وان يقولوا ان “ثقب الابرة” ليس بالفعل ثقب الإبرة، ولكن المقصود باب في أورشليم، وبالتالي ان الجمل كان يستطيع ان ينحني وان يدخل الباب المدعو “ثقب الابرة”، الى ما هنالك من تأويلات عاطفية ارادها الأغنياء لأنفسهم ليسهلوا الأمور على سواهم.

ولكن هذا لم يكن المقصود من النص الالهي لأن كل سياق البحث وكل الحديث الذي جرى كان يعني ان دخول الغني الى الملكوت امر صعب للغاية، وانه لا يستطاع عند الناس. ومع ذلك استثنى السيد بقوله: “ان ما كان غير مستطاع لدى الناس مستطاع لدى الله”. فكيف تكون اعجوبة الله وكيف يدخل غني ملكوت السموات؟ لم يقل الكتاب انه يدخل ويبقى غنيا. ولكن ذاك الذي كان غنيا يستطيع الله بجهد منه ان يُدخله باب الملكوت. وماذا يبقى من غنى الغني؟ أيبقى هذا الغنى واسعا، كبيرا، ضخما ولا يتغير شيء في سلوك هذا الانسان، ومع ذلك يقحمه الله في ثقب الابرة؟ هذا طبعا لم يقله الكتاب، ولذا يجب ان نفتش عن طريقة اخرى.

لا يبدو ان الكتاب، والله المتكلم فيه، لا يبدو ان الكتاب اعطى للأغنياء وسادات حريرية ينامون عليها. لم يكن المسيح حريريا. انه كان لطيفا وكان حازما وشديدا بآن، وكانت تعابيره دقيقة للغاية.

ماذا كان في حديث الشاب والمعلم؟ شاب كامل في الظاهر، تمم الوصايا جميعها من دون ان يفتخر. قال فقط: انا أطبّق هذه الوصايا منذ صباي، ماذا ينقصني بعد؟ جاء ليتعلم، جاء ليصنع احسن من الوصايا. وقال له يسوع: “ان اردت ان تكون كاملا، فبع كل ما لك وأعطه للمساكين وتعال اتبعني”.

وهنا ايضا جاء المفسرون المرتزقة الذين يعتاشون من وجهاء الارض وقالوا: لماذا تريد ان تكون كاملا؟ ليس من الضروري ان يكون كل انسان كاملا. فنحن يكفينا ان نصنع الوصايا، وهذا الكمال انما هو للرهبان وليس لنا. لا. يسوع لم يتكلم عن الأديرة ولا عن الاسقفيات ولا عن شيء من ذلك. قال لهذا الشاب الغني الذي امامه: “تستطيع ان تكون كاملا”. لم يقل له: “اترك وضعك لتذهب الى وضع آخر، لتعيش في مكان آخر”. قال له: انت تعيش في هذه الدنيا، هذه التي تريدها. هنا يمكن ان تكون كاملا. لم يوصِ يسوع بالكمال بل أمر به. فقد قال: “كونوا كاملين كما ان أباكم السماوي كامل”.

إن اردت ان تكون كاملا فاتبعني. ان اردت ان تنتقل من العهد القديم الى العهد الجديد الذي هو عهد كمال، فبذر اموالك. أليس مكتوبا عند داود النبي: بدد، أعطى المساكين فيكون ذكره مؤبدا (مزمور 111: 3). العهد القديم نفسه يشير الى تبديد الاموال، الى عطاء كامل.

أنت لست بما لك. انت وكيل. أُعطيت ما أُعطيت فاستلمه الى ان أجيء. الله فوضك بأمور الدنيا وانت تستلمها كوكيل امين لمصلحة الله، لمصلحة الذي سلمك اياها.

وكيف تحافظ على اموال الله؟ لمصلحة من ترعى؟ المهم ان يكون المال بين يديك وديعة وليس ملكية مطلقة قدسية. القدسية للانسان فقط. انت وكيل وعليك ان تجعل المحرومين اسيادا عليك. اي يجب ان تشعر بالجوع الذي يشعرون هم به. القضية كلها قضية محبة: تعطي وتشعر مع الآخر. تخرج اليه في جوعه وعريه وحرمانه. هذا يعني معاناة شخصية وانسلاخا عن الذات. العطاء الحق هو بالدرجة الاولى ألم الانسلاخ عن الذات والالتصاق بالمسيح الذي في كل انسان. بهذا نعترف بالحقيقة ان ابن الله كان انسانا وانه في الانسان المحروم سيد علينا.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

صوم الميلاد/ الأحد 17 تشرين الثاني 2013 /العدد 46

منذ ثمانية قرون تبنّى الكرسي الأنطاكي صوم الميلاد الذي بدأناه منذ يومين في ١٥ تشرين الثاني. وروحه كروح الصوم الأربعينين، أعني رياضة النفس وتجميلها لاستقبال المسيح، فمن أساسات الصيام أن نوفّر ثمن طعام ونعطيه للمساكين.

كل صوم هو مشاركة. يصوم الانسان من أجل الآخرين. فمن قسا قلبه يبطُل صيامه. ومن أبغض أخاه يبطُل صيامه. كل شيء قلب وتليين قلب. الإمساك وسيلة إن نحن أَعطينا. فإن كنت ممدودًا الى الآخرين يجيء الله اليك بالرحمة. من أمسك عن طعام يعرف انه ممسك في سبيل الله فيساعده ذلك على ان يكون مع الآخرين كما أمره الله ان يكون.

في حديث واحد، في العظة على الجبل (الإصحاح السادس من متى) يتكلّم السيد عن الصدقة والصوم، ويُنهي كلامه بقوله: “لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض”. ألا يُشتَمّ من هذا التتابع أن هذه أشياء مترابطة، فكيف نفكّ نحن ما جمعه الرب في فكره؟

وإن أردنا ان نزداد تعمقـًا فلا ننسين أن الانسـان غارق في جسده عن طريق اللّذّات وأن الصوم طـريـق ليتـحـرر مـن أَسـر اللـذّة. كيـف نهـرب من سجـن الحـواسّ الطـاغيـة؟ أليسـت إحـدى الطـرق أن نحُدّ من التمتـّع؟ فإذا كثـر التـمتـع على كـل صعيـد، يصبح لنا ساحـرا ومفـرّقـا، فلا فكر لنا الا فيه ولا شـوق لنا الا اليه. وماذا بعد؟ اللذّة البهيميّة، اذا انقضت، تولّد الخيبة، والخيبة تدفعك الى لذّة اخرى فتبقى هكذا في الدوّامة.

ثم انت تهـرب من الألـم باللذة. تهـرب من الألم لأنه يُشعرك بشيء من الموت وانت تخشى الموت. والخـائـف المـوت خاضع للعبوديـة (عبرانيين ٢: ١٥)، لعبـودية اللذّة التي يدفع بها عنه الموت وعبـوديـة ذاتـه. المـال والمجد والجنس (او الجسد على العمـوم)، هذه هي التي نريد اقتنـاءها لظنّنـا أننـا بهـا نغـلب المـوت. هـذه تعطينـا قـوّة فـنشعـر مـؤقتـا -ما دمنـا تحـت سيطرتها- أننا أحياء بها لأننا لـم نُـدرك بعـد أن الحيـاة الحقيقية هي المسيـح نفسـه حسـب قـولـه المبـارك: “أنـا القيـامـة والحيـاة” (يوحنا ١١: ٢٥).

فمـن بـركـات الصيـام انـه بالصَدَقة يَجعلنـا أَقـلّ تعبـّدًا للمال، وبالخلـوة التي لنا مع يسوع الحبيب أكثر بعدا عن المجـد، وبالإمساك أقل تبعيّـة للشهوة، رياضة من رياضات التقرّب، طريق الى الاتّكال عليه.

فلندخل في الأيام التي تفصلنا عن العيد في هذا اللون من ألوان التقشف عسى ألا نقع عشيّة العيد في التخمة.

الصاحون روحيا، المتهيئون بالتعفّف وحدهم يستقبلون السيد مولودا من أجل خلاص العالم.

Continue reading
2013, جريدة النهار, مقالات

المحبة كمال الرجاء / السبت في ١٦ تشرين الثاني ٢٠١٣

«بنانا الذين يحبوننا» (فرنسوا مورياك)

الذين يلتقون يلتقون بالمحبة التي أعطوها أو تلك التي تلقوها. ما طال عمري فهمت أن الذي قيل في المحبة هو الثابت. هناك أقوال حفرت على صخرة قلوبنا وهي الباقية إلى الأبد.

كان المؤمنون في أفسس (آسيا الصغرى) يقولون ليوحنا الإنجيلي الذي كان أسقفهم: «لماذا تردد علينا عبارة أحبوا بعضكم بعضًا» وكان يجيب: «لم أتعلم شيئًا آخر لما كنت أضع رأسي على صدر المعلم». تعليم على هذا العمق عليك أن تردده بلا تفسير لأنه يدخل القلوب. واللافت أن المسيحية تدعوك إلى أن تحب وما قالت لك أن يحبك الآخرون. ربما افترض الأوائل أنك إن أحببت يرد اليك هذا. أنت تبقى على المحبة تعطيها بمجانية كاملة.

إنك لا ترجو لنفسك شيئًا من المحبة. وإن كنت من الكاملين لا تتوقع من الفضيلة مكافأة على الأرض ولا في السماء. أنت تصنع الخير بالمحبة التي فيك وهي كمال بنفسها. ما وعد المسيح بشيء من الدنيا الذين يحبون إذ يعلمون أن لا شيء يزاد إلى المسيح.

أنت تحب لأن الله ساكن فيك. هو يخرج من قلبك إلى قلوب الآخرين فتحيا بهذا ويحيون. لا ينزل ربك من سماء. يخرج إلى الناس من قلبك لأن قلبك عرشه. اشتر نفسك مما تعطيه وابق فقيرًا لأنك إن استغنيت تستلذ نفسك وترفض رضاء الله. يبدأ خلاصك باعتبار نفسك لا شيء واعتبار ربك غناك. في الحياة الروحية الزهد باللذات شرط الطعام الروحي. لا تشته شيئًا حتى يشتهيك الله. حسبك الله لأنه لا يزاد عليه شيء إذ لا يقاس به شيء. إذا فهمت انه يكفيك تشبع منه إلى الأبد ولا يسعك أن تشتهي شيئا آخر. إذا حل الله فيك تكون السماء نزلت على دنياك وصارت لك كل شيء.

الله لا يصعد اليه. هو فيك او ليس فيك. ليس هو في مدى. وإذا حل فيك لا يبقى لك مكان خاص لك. أنت في الطاعة تفهم أن ربك يعلوك وفي الحب تفهم أنه اليك ويصير فيك ان أدركت العشق إذ ذاك لك أن تقول «أنا من أهوى ومن أهوى أنا». اتحادك بربك في الحب يجعلك تدرك ذلك. ليس بعد هذا شيء.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

البيت الرعية/ الأحد 10 تشرين الثاني 2013 / العدد 45

كل منا دعاه الله أن يكون راعيا لمن هم حوله، الأقربين اليه بالمسكن والعمل. ومسؤوليتنا تأتي من هذه المحبة الصادرة من القلب والشافية لمن لامسته فاستدفأ بها. والمحبة أوّلا انتباه ثم خدمة فاستمرار خدمة ليظهر صدقها ونحسّ من خلالها أن الرب ذاته يفتقدنا بها من خلال الوجوه التي تحنو علينا.

ولا شك أن الخليّة الاولى التي نمارس فيها العيش الواحد مع الناس هي العائلة وهي المكان الطبيعي لنموّنا العاطفي والطمأنينة المتّكلة على هذا النمو. تبدأ بالرجل وزوجته اولا، وينشأ البيت من حبّهما، من ذلك الذي قال عنه السيد: “ليس حُبّ أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه فدية عن أحبائه” (يوحنا ١٥: ١٣). وهذا المعنى أكّده بولس الرسول في رسالة الإكليل لمّا قال: “أيها الرجال أَحبّوا نساءكم كما أَحبّ المسيحُ الكنيسة وبذل نفسه عنها” (أفسس ٥: ٢٥).

هذا الحب الزوجيّ مستمد من حب الله لخليقته، ولا يعرف الناس الخالق الا من خلال أُناس آخرين يحبّونهم. فإذا بدأت الحياة الزوجية سليمة، حُرّة، غير مقهورة ولا متسرعة، اذا قامت على اختيار راسخ في فضائل الشاب والشابة الخطيبين، تحمل خط الاستمرار وتُخصبُها نعمةُ الله. فإذا كانت متحررة من كل اعتبار مادّي عند نشوئها او كل شهوة جامحة، تأتي حقا متابعة لمشيئة الله في استمرار خلقه، وتمتدّ الى الأولاد حنوًا وعناية، فيتجلّى حنانُ الله من حنان الوالدين، وقوّته من قوّتهم. اذ ذاك، ليس فقط يربّي الأهلُ أولادهم، ولكن يتربّون ايضا هم بهم فيفرحون بنموّهم وبهائهم، وتأتي معا من الوالدين والأولاد ثمارُ جهود مشتركة يعرفونها لمجد الله، فلا أحد يمتلك الآخر او يغتصب إرادته، فلا استبداد في العائلة، فيحرص الوالدون على أن يُبلغوا إرادة الله فقط لا نزواتهم، ولا يُصرّون الا على الحق الذي يُنجّي وحده. ولا يطيع الأولاد ذويهم اذا ما أَدركوا انهم يؤمرون بطاعة غير كلمة الله.

فالوصية تقـول بالإكرام ولا تقول بالطاعـة العميـاء. والرسـول يأمـر أن لا نغيـظ أولادنـا لئـلا يفشلـوا (كولوسي ٣: ٢١). العلاقـة بين الإثنين ليسـت عـلاقـة ثنـائيـة، ولكنها علاقة ثلاثية، الله مبدأها ومنتهاها، تأتي من إرادته وتعود الى إرادته. فأولادنا ليسوا مُلكنا. لذلك نقودهم الى الرب الذي يحرّرهم وحده من وطأتنا وقسوتنا، ومن الطبيعي أن يتجنّحوا وأن يتحمّلوا مسؤولية أعمالهم واختياراتهم.وقد يُخالفوننا في نضوجهم، فتبقى علينا المشورة إذا بَلغوا. ويبقى صليبُ الخلاف قائمًا في العائلة. هذا ثمن الحرية. وهذا الثمن يدفعه الله باستمرار إذا الناس أخطأوا.

التجديد الروحيّ الكبير هو القادر وحده على أن يُحرّر العائلة من التشدّد القبليّ الذي يحكمها وعلى إعادتها كنيسة صغرى منطلقا الى الكنيسة الكبرى التي هي عائلة الآب.

Continue reading
2013, جريدة النهار, مقالات

ميخائيل / السبت ٩ تشرين الثاني ٢٠١٣

إيل هو اسم الله في الآرامية، لغة شعوبنا قديما. للمفارقة سمي واحد من رؤساء الملائكة ميخائيل وتعني من مثل الله والفكرة انك تلتصق برئيس الملائكة الحامل هذا الاسم لتقول حقا انه لا يستحقه فإن احدا في الكون ليس مثل الله. الملاك يتأمل الله ولكنه ليس مثله. ليس احد مثله مع انه هو القائل في العهد القديم: «أنتم آلهة». التشبه بالله مطمع مسيحي. أنت ترى نفسك لا شيء ولكنك تطمح بأن تكون شبيها بالله. هذه هي المفارقة وهذا هو الإيمان انك تعرف نفسك لا شيء ولكنك تعرف انك مدعو إلى ان تتشبه بالمسيح بمعنى ان الآب قادر ان يجعلك مسيحا له أي على صورة ابنه والصورة شبيهة بالمثال ولكنها ليست هي المثال.

ميخائيل تحمل تضادا ككل اسم إلهي ليس بمعنى التناقض ولكن بمعنى ان الضد يظهر حسنه الضد. فاذا قلت: «من مثل الله» تؤكد شيئين متقابلين – وهذا معنى التضاد بالعربية – ولكنهما ليسا متناقضين أي ليسا متنافيين. تريد في الحقيقة القول اننا لسنا في الواقع مثل الله وتريد القول أيضا اننا مدعوون ان نصير مثله. فإن لم تكن هذه المثلية ممكنة ليس من مسألة. بأي معنى هي ممكنة وإلى أي حد؟ اللاهوت الارثوذكسي المتصل بالأصول دائما يقول اننا نؤلَّه (بفتح اللام وشدها). كيف نصير إياه ولا نكون من جوهره؟ هذا سؤال دقيق في اللاهوت. نأتي من اشعاعاته، من إطلالاته ومن هذه الزاوية نحن منه. هذا هو سر لاهوته وسر حبنا. الداخلون في هذا يفهمون حتى نبصر كل شيء في اليوم الأخير.

المسيحية على دعوتها إلى التواضع أمام الله لا ترضى الا ان نتشبه به. هي تقول بالفرق بين الله والانسان من حيث الجوهر ولكنها لا تبطل المعايشة بينهما. وما كان عندها أقل من المعايشة ليس بشيء. نحن في اللاهوت المسيحي لسنا فقط متشبهين بالله. نحن في حياته وان لم نكن من جوهره. هذا يجب تأكيده بصراحة لئلا نقع في الحلولية أي في اختلاط الجوهر الإلهي والجوهر البشري.

نؤكد اننا غير الله. هذا كلام في جوهر الأشياء. ولكنا نؤكد انه فينا واننا فيه وهذا من الحب. وحبنا له موجود وليس فقط توقعا.

عندما نقول «من مثل الله» نؤكد شيئين متواجهين غير متناقضين نعبّر عنهما بأننا شبيهون به بالحب ولسنا مختلطين بالجوهر. هذا يعني ان الله يتحرك فينا واننا نتحرك فيه. نحن في حيثيته وان لم تكن امكانية. لا أحد يستطيع ان يوضح اكثر من ذلك. فإن لم تكن حيثية ما ليس من شيء. ليس أحد يستطيع ان يوضح عقليا اكثر من هذا. ولكن ان لم تقل انك في الله لا تكون قلت شيئا. تكون في الكلمات وليس في الوجود.

اذا تحدثت عن الله والانسان معا ولم تقصد صلة، تداخلا، تواصلا، ربطا لا تكون قلت شيئا. تعالي الله المطلق عن الانسان نفي لله والانسان معا. تعبير تجسد ابن الله في المسيحية لا ينحصر في انه اتخذ جسدا من العذراء. يعني تداخلا ما وهل في الحب اقل من تداخل؟ تخترق الهوة بين الخالق والمخلوق كيانيا؟ هذا مستحيل. ولكنك تخترقها بالمحبة التي هي الوجود الحقيقي.

Continue reading
2013, مقالات, نشرة رعيتي

وحدة العائلة / الأحد 3 تشرين الثاني 2013/ العدد 44

التفاتة الكل الى الكل، هذه هي الوحدة. ولكن يلتفت الى الآخرين من التفت الله اليه، من عرف نفسه ابنا لله حبيبا. ينشئ الآخر بالرعاية، بدوام اللطف لأنه ذاق لطف الله. ومن خلال رعايته لنا، نعرف الله راعيا. يجب أن تذوق المرأة أن زوجها مُحبّ لأن هذا يُحييها، ولكن الأهم من كل ذلك أن تكتشف أن محبته هذه آتية من إيمانه وان لها استمراره، فتعرف من خلال زوجها وجه الله.

واذا الرجل زادته امرأته أُنسًا، فليس لكي تزداد في الحياة راحته -هذا طيّب- ولكنه يعرف أن ما يتلقّاه انما من الله يتلقّاه، وأن هذا أُنس في الوجود كله، وأن الله يجب ان يكون مشكورا.

يقدر على العطاء من استطاع أن يتّصل برب العطاء. الأشياء المادية التي تجمعنا بالآخرين تذهب وتأتي الخيبات. فالنضارة تفنى والمال يفنى. كل وحدة سطحيّة كنا نقيمها تتلاشى بظهور العيوب والانكماش الذي يعود اليه الانسان من بعد اضطراب. العائلة دائما مهددة بالعواصف تهبّ في كل شخص فيها. أن نتّخذ الآخر في مسؤوليتنا، في فهمه والعودة اليه بلا كبرياء مجروح وبلا نفاد صبر من أدق الأمور لأنها تطلب نضجًا يكاد ان يكون مستحيلا.

ولكن الحيـاة الـزوجيـة هي هـذه أنـك لم تبـقَ وحـدك ولا تتـصرف من أجـل لذّتـك. لا تكـون الأشياء لأنك انت تقـرر ما يحلو لك، ولكنك تُرضي الآخـر، لا بمعنـى أنك تلبّي كـل رغباتـه، فـليـس فـي الأمـر غنـج، وأن تكتفي شـرّه بالسكوت، وأن تُساوم على الحـق فإنك تـريـده في الحق. ولكنـك تُـرضيـه بـدوام الانـتبـاه والتـنبيـه الى ما يـوافقـه. لا تقـره على ما لا يـوافـق الله، فأنت في البـيـت لسـت تاجـرا تتـوافـق حسـب عقـود. انت تعـطي بلا حساب فإنك على الآخر ساهـر. ليس بينكما سوق. ليس بيـنـكما شـروط، ليس بينكما مال، ولا تـذكـُران الحقـوق بل كلّ يذكُر واجبه هذا الذي تكلم الله عنه، ويحبّ واجبه ويؤديه حتى ينشأ الآخر في دلال الله.

كذا الأولاد نحبّهم. ليس فقـط حسب العـاطفـة الطبيـعيـة، ولكن لأنهـم صاروا رعيـة الله. هم أبنـاؤنـا، ولكنهم ليسـوا ملكًا لنـا. نعطيهـم للـرب، لمعرفته، لنموّهم في العمل الصالح. واذا أَحبـّونـا فلكي يحبـّوا الله من خلالنـا، ليكتشفوا من خلال البنوة أن لهم ربّا أبًا واحدا وهو الذي في السمـوات. نحتجـب في الأخيـر لتظـهـر أُبـوّة اللـه.

عنصر الوحدة في العائلة ليست العواطف وهي هشة. الله وحده عنصر الوحدة. فإذا اتّحد كل منا به ونما في تقواه، يستمدّ منه الوحدة ويضعها في العائلة. اتحاد كل انسان بالرب هو وحده سر اتحاده بالآخرين. من صار مع الرب روحا واحدا يكون مع الكل روحا واحدا.

Continue reading
2013, جريدة النهار, مقالات

الكاتب والمكتوب له / السبت ٢ تشرين الثاني ٢٠١٣

لست اذكر اذا قلت ان من يكتب يكتب لنفسه والآخرين معا. لنفسه لأنه تمخض ويحتاج إلى ان يحرر نفسه مما فيه. للآخرين لانه يحبهم، لأن كيانه قائم أيضًا بكيانهم أو من كيانهم. نحن المؤمنين لا نعتقد بالفردية بل بالمشاركة. هذا هو سر الشخص انه يتكون برؤيته الاخرين. من رأى إلى نفسه فقط يعشق نفسه نرجسيا وفي الاسطورة اليونانية ان نرجس رأى نفسه في الماء كأن الماء مرآة فمات من هذه الرؤية. الكاتب الحق لا يكتب من استلذاذ ولكن من فرح والفرح فرح بالآخرين لأنه هو وحده الضمانة انك خرجت من نفسك.

أنت اذا فرحت فقط بنفسك (وهذا مستحيل) تفتخر داخليا، لا تبدع. الفرح نتيجة لقاء وهذا خروج من النفس. أنت، كاتبًا، تكتب ليقرأك الآخر اذ تحس بأن كل منكما يتحقق بالآخر. أنت موجود لأنك تحب. الآخر هو البرهان الوحيد عن ذاتيتك. الإله الواحد الأحد الدائر على نفسه، الرائي نفسه غير موجود. الله يعرف نفسه موجودا لكونه يحب. لذلك لا يكتب احد لنفسه. يكتب ليقرأه آخر، ليفهم نفسه بهذه القراءة. يكتب للفرح. الذين وضعوا مذكرات وينشرونها دلوا على انهم غير منغلقين في ما كتبوا. الكاتب يخاطب. من لا يخاطب لا يكتب. من يكتب عن نفسه في حالة حوار كمن لا يقول انه يكتب عن نفسه. الذي يكتب ما ظاهره موضوعي يكتب عن نفسه أيضا أو من نفسه. من يكتب يحب. حتى اذا ظننت انك تخاطب آخرين تبقى غير منفصل عن خطابك في ما تعطيه.

لا يكتب مبدعا الا من نسي نفسه أو تغاضى عن عشقها. لذلك كان لمن يقرأ. من هذه الزاوية صح القول ان من تعده قارئا يكتب معك. في العمق الكاتب والمكتوب له وجدان واحد ويضع السطور من استطاع. في مرحلة من الوجدان لا تفرق بين ما تكتب ومن تكتب له. على مستوى الوجدان الكاتب والمكتوب له واحد ويمكن ان يصبحا واحدا في الحب. الكاتب لا يختلف عمن يقرأه الا من حيث ان الكاتب كان أداة للإلهام والقارئ كان منفعلا بالاداة، قابلها. في الجوهر هما واحد واتفق ان واحدا يكتب وآخر يقرأ. الكاتب ليس أهم منك قارئا. تلقى الالهام قبلك ثم اشتركتما فيه.

أنت، منشئا، استلمت في البدء ولكنك واحد مع الذي استلم بعدك. الأصل جاء ممن أعطى. والنعمة كل شيء. من نسميهم مبدعين يقولونها. الأصل في المبدع.

ليس المبدع بالضرورة من قال شيئا جديدا. في الحقيقة ليس لأحد منا شيء جديد الا بالصياغة، بالتعبير أو الشكل. كل المضمون قيل منذ افلاطون. المهم ان تكون واحدا مع الحقيقة ومع أهل الحقيقة. الحقيقة لا تاريخ لها. المعنى انها لا تتغير بتغير الأزمان. تختار لنفسها عبارات فترة بعد فترة ولكن جوهرها هو هو. المبتغى ان تكون أنت مع الحقيقة الدائمة كائنة ما كانت الصيغ التي تستخدمها.

ليس مبتغى القول ان تكون فريدا في قوله. لا يبتغى الا الحقيقة وهذه تلبسها الثوب الذي تريد. المهم الجسد لا الثوب.

لا تكن صريع الاشكال أي كيف تقال الاشياء. همك ان تكون في الحقيقة وهي تدلك على الثوب الذي يليق بها.

Continue reading