Monthly Archives

September 2007

2007, مقالات, نشرة رعيتي

الرحمة/ الأحد 30 أيلول 2007 / العدد 39

ماذا أفعل للناس؟ الجواب كل ما تريد ان يفعلوا بك. فإن كانوا حزانى افتقدهم اذ انت تريد ذلك إن كنت في وضعهم. تريد ان يُعطوك اذا افتقرت. إفعلْ مثل هذا إن افتقروا. الآخر يستحق كل ما انت تستحق لأن الآخر أخوك او مثل أبيك او ابنك. ولكون المسيح فيه انت معطي المسيح.

بعد ذلك ينتقل إنجيل اليوم الى ينبوع هذا التصرف وهو المحبة المعبّرة عن نفسها بالتعامل. المحبة بالكلام الحلال وبالسلوك، بتصرّف يصدر دائما عن القلب الحنون الطيّب، فكل الناس ضيوف على قلبك ويستحقون المكوث فيه.

وبعد ان يعطي السيد أمثلة عن التصرف يقول: «أحبوا أعداءكم»، فالذي يكرهك لا يعرف أنك ابن الله وانه هو كذلك، وعليك ان تكشف له الله، وهو لا يرى الخير آتيًا اليه من الله الّا عبرك. فالإنسان ترجمان الله.

انت اذا رَدَدْتَ الشر بالشر تؤذي نفسك بالدرجة الاولى لأنك تعزلها عن المحبة التي هي حياتها، اي تعزلها عن الله.

افهم ان هذا صعب لأن أعصابك التي توترت تملي عليك رد الشر بالشر، ولكن ينبغي ان تعلم ان الرب عيّنك طبيبًا لمن يبغضك لأنك أنت تعرف انه المبغض وأنه جريح البغض. وتاليا يبقى عليك ان تشفيه.

ماذا فعلت لو ثأرت لنفسك؟ شر عدوّك يصبح شرين. اما اذا غفرت له وسامحت فمن الأرجح ان يندم على شره. يزول شره بالتوبة ولا يدخل الشر اليك.

فإذا أبغضك أحد لا تنظر الى وجهه لئلا تضطرب. انظر الى وجه المسيح تأخذ منه نورًا وتلقيه بالبسمة واللطف على الآخر فيرتسم عليك وعليه نور المسيح. واذا أحسنت فلا تنتظر شكورا ولا أن يُحْسن اليك الذي أحسنت إليه عند حاجتك. انت تُقرض الله ولا تأمل من أحد أن يرد لك ما أَقرضته ولا تجرّه الى المحكمة فإنه أخوك. أعطِ مجانا ترث من الله عوض ذلك عزاء. وأخيرا ما يلخّص كل ذلك قول المخلّص: «كونوا رحماء كما أنّ أباكم هو رحيم». انت في سلوكك تشبّه بالله الذي يرى ان كل الناس اولاده ويعطيهم حنانه بلا قدر ولا يفرّق بين الصالح والشرير. يعطي هذا ويعطي ذاك. انظر الى عائلتك فأنت تحب ابنك الجيّد وتحب المشاكس بالحب الواحد ولا تُغيّر أسلوب التعامل او تُغيّر الكلام. فاذا جئنا نحن من قلب الله فقلبه لا يتقلّب لأنه قلب إلهيّ.

هذه هي مسيحيّة المسيح ولا تنقلب فيها الأمزجة. هذا ما يريده المخلّص منا كل يوم.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

جولة اوروبية / السبت ٢٩ ايلول ٢٠٠٧

منذ صباي أحلم بالحج الى هذا الدير البنديكتي في قرية   Chevetogne في بلجيكا المتخصص بدراسة الكنيسة الارثوذكسية وهو على تصميم واضح ان يحترم بقاء الارثوذكسيين في كنيستهم. درس من اجل المعرفة التي تقود الى المحبة والتزام المحبة التي تقود الى المعرفة. الدير معروف بمجلّته التي تتابع بخاصة قضايا الشرق المسيحي اللاهوتية وهي مفتوحة لعلماء الكنائس المختلفة وقد نأى هؤلاء من زمن طويل عن السجال وانت تبحث في شؤون كنيسة اخرى بكل موضوعيّة وحب.

                     كل الرهبان لاتين معظمهم أوربي ووجهتهم الشرق. لذلك رأوا ان ينقسموا الى مجموعة تتبع الطقوس اللاتينيّة ومجموعة اخرى تؤدي الطقس البيزنطي وذلك في كنيستين مختلفتين اذ لا بد من هذه الثنائية المعمارية لكي يأتي الفن المعماري مناسبا للعبادات.

                     كان من الطبيعي عندهم ان ألازم الخِدم الإلهية في الكنيسة البيزنطيّة وشهادتي وفرحي كانا في انهم يتقنونها من كل جانب كما تقام في موسكو بلا اي انحراف او ضعف في الأداء. لغة الصلاة هي السلافيانية التي هي اصل اللغات السلافية. يستخدمها كل الشعوب الأرثوذكسية التي اشتقّت لغاتها من هذا الأصل اللغوي القديم. تلاوات الكتاب المقدس بالفرنسية. اما الترتيل فاسلافياني وذلك بلا لكنة إطلاقا.

                     الكنيسة مزيّنة بالايقونات على اختلاف المدارس التي أنشأتها. وما يدهشك بخاصة الحركات الليتورجيّة المختلفة متناغمة واللباس والبخور والسجدات بحيث يستحيل عليك ان تعرف الهوية المذهبية لهذه الكنيسة ان كنت من العالمين.

                     يحضر الى هذا المكان مؤمنون كاثوليكيون من بلجيكا وهولندة في الأعياد وبعض الآحاد. ويدهشك ان يتحمّل الكاثوليكي الغربي صلوات طالت في عيد رفع الصليب (١٤ ايلول) اربع ساعات في الليل ما عدا القداس في اليوم التالي. ولا شك عندي انهم لا يفهمون اللغة السلافية ولكنهم يسعون الى الجو الروحي الذي يتجاوز الكلمات.

                     كان شعوري وشعور بعض الحجاج ان هذه العبادات كانت منتشَرا للملكوت او استهلالا للملكوت.  هل من فرق جوهري بين إطلالات الملكوت هنا واكتماله فوق؟ هنا في وسط الصلاة تحس بالقربى الكبيرة بين مسيحي شرقي ومسيحي غربي. بطريقة ما غير مدركة عقليا تلمس ان الذي ينزل الى أعماق الصلاة الأرثوذكسية يلتقط فيها عمقا لاهوتيا يؤنسه التقابل العقلي بين المذاهب. ليس كل شيء في معرفتها. انت تذوق بفضل هذه الممارسة ان هذا الراهب الكاثوليكي الاوربي دنا منك دنوا كبيرا وينبسط هذا في حديثه كما انبسط في عبادته.

                     الى هذا البناء العبادي الفريد في جماله عندك بناء آخر وهو البساطة اول جانب منها الإقرار بضرورة الاستزادة من العلم في مكتبة ضخمة بكتبها المرتبطة، بخاصة، بتذوّق الشرق الأرثوذكسي.

                     وكان الأقرب الى نفسي في فضيلة البساطة ان العلماء ومن كان دونهم علما يقومون جميعا بالعمل اليدوي من تقديم الطعام على الموائد واعمال التنظيف. الكل خادم والكل يسعى الى المعرفة ما استطاع والجميع يرتلون واهم من ذلك كله تساوي الأفراد في الفقر وإكرام الضيف والتسابق في الإكرام كما يقول الرسول.

                     هذه أشياء هي مداخلهم الى الله ونوعية عيشها عطاء من الله. عندما تعايش هؤلاء الإخوة بضعة ايام تلحظ ان الكنيسة تتروحن بهم وبأمثالهم. ليس انهم بالضرورة الأقدس. فالقداسة ليست حكرا على أحد. ولكن ما يؤثر فيك ان ثمّة من عاهد الله على ان يكون له فقط. انا لا أنزّه احدا في الدنيا كائنا ما كان مقامه عن الضعف البشري. نحن من تراب. ولكن يجذبني الشهيد الحي الذي قدّم نفسه وجسده او صمم ان يقدمهما في ذبيحة حية وان ينقطع او يصمم ان ينقطع عن الملذّات الشرعية في هذه الدنيا ليكون كامل الانصراف الى تحقيق الملكوت في كيانه ويرجو التحقيق الكامل للملكوت بعد القيامة.

                     احزن ان انكسرت الرهبانية في كبير او صغير فلا بد ان تلتصق الترابيّة بنا ولكن ان تسطع القداسة في بعض حتى اؤمن بواقعيّتها فهذا يساعدني على ان اتغلّب على ضعفاتيي وأبقى على الرجاء.

#               #

#

                     بعد هذا انتهينا الى دير  Bose   في شمالي ايطاليا، عند سفح جبال الألب فيه رجال ونساء يشتركون في الصلوات والخدمة، في الزراعة، في رسم الأيقونات البيزنطيّة على أكمل وجه، في الفرح. دير كبير بأجنحة مختلفة تحوطه البساتين ووسط الكل كنيسة أبدعت طقوسا يرتفع فيها الإنشاد باللغة الايطالية. المجموعة كاثوليكيّة تتقبّل اعضاء من كنائس أخرى لا ينفكّون عن مذاهبهم وتجمعهم حياة قائمة على المزامير وتلاوة الكتاب وأناشيد هم ألفوها وتستلهم الكتاب بحيث يحس كل المشتركين بعمق مسيحي واحد. الشركة كما يسمون انفسهم مرتبطة بالأسقف المحلي تستقبل مؤمنين يطلبون الخلوة في هذا المكان الفردوسي الذي يتعاطى فيه البعض اللاهوت والترجمة وكل هذه المعرفة تتغذى من ينابيع الروحانية المسيحية الشرقية مأخوذة من السريانية واليونانية والانتاج الارثوذكسي الحديث بحيث يتروض عندهم من شاء على التراث الأصيل الذي يعطى بعلم ومحبة.

                     وتقيم الجماعة مؤتمرات لدرس الكنيسة القديمة اليونانية اللغة والكنيسة الروسية وذلك منذ خمس عشرة سنة يحضرها علماء من الكنائس كلها، مؤتمرات تباركها القسطنطينية وموسكو. والغرب علم لا تحيز فيه الآن وليس من محاولة لاقتلاع احد عن عقيدته اذ المعرفة العليا لا تحزب فيها فتكون مكان لقاء للقلوب والعقول.

                     المؤتمر الأخير دار بين الـ١٦ والـ١٩ من ايلول على «المسيح المتجلي في التقليد الروحاني الأرثوذكسي» تناول المجتمعون حادثة التجلي، في مجالات التفسير الكتابي للحادثة الإنجيليّة، في الليتورجية والايقونوغرافيا البيزنطية والوعظ في بيزنطية وروسيا وتكلم الدكتور رامي ونوس اللبناني البلمندي عن التجلي عند القديس يوحنا الدمشقي وتحدث غير واحد عن التجلي في الغرب وعند سمعان اللاهوتي الحديث وعن رؤية النور الإلهي عند غريغوريوس بالاماس وجبل آثوس وعند الكتاب الروسيين وخصص اليوم الأخير للروحانيين الأرثوذكس المعاصرين وكان مسك الختام الحديث عن معنى التجلي في العالم الحاضر.

                     تعلم كل منا من الآخر وصلينا معا واهتدى كل منا الى ربه على ضوء هذا الكلام. وحدة عميقة ربطت في الدعاء والتأمّل الفكري بين أساقفة أرثوذكسيين ورهبان غربيين وعلمانيين من الكنيستين ولو دخل مراقب ليفحص الفكرين ما كان ليجد بيهما فرقا ولم يأتِ احد على ذكر الفروق.

                     جولة على هذين الديرين البلجيكي والايطالي كانت زادا سماويا لكل الحاضرين. صلاة بلا فكر لا تكفي وفكر بلا صلاة عقيم وتشددت الوحدة بشهادة الرهبان للرب في ضيافة القلوب للقلوب.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

الصيد العجيب/ الأحد 23 أيلول 2007 / العدد 38

بحيرة جنيسارت هي إياها بحيرة طبريّة. كان السيد واقفًا عندها، وعند الشاطئ سفينتان انحدر منهما الصيادون يغسلون الشباك، فدخل يسوع احداهما وكانت لسمعان اي لبطرس، فسأله الرب ان يتباعد قليلا عن البَر، وجلس يعلّم الجموع من السفينة. وبعد ان انتهى يسوع من الوعظ قال لبطرس: «تَقدَّمْ الى العمق وألقوا شباككم للصيد». وبعد ان قال سمعان للمعلّم انهم تعبوا الليل كله ولم يكن لهم حظ في الصيد، قال مع ذلك: «بكلمتك أُلقي الشبكة»، وأصابوا سمكا كثيرا، وجاء اليهم أصدقاؤه من السفينة الأخرى فملأوا السفينتين.

اذ ذاك طلب بطرس الى المعلّم ان يتركه قائلا اني رجل خاطئ. عند لقائنا يسوع يقولها اي واحد منا: انا انسان خاطئ. في حضرة الله، هذا اهم ما نقوله ثم نسترحم. أصاب بطرس ذهول لكثرة الصيد الذي قاموا به بناء على كلمة يسوع. بعد استغفارنا او مع استغفارنا، نذهل لنعمة الرب اذا نزلت علينا. بعد يقيننا ان الرب رحمنا نكون في دهشة امام النعمة.

في السفينة الأخرى كان يعقوب بن زبدى وأخوه يوحنا الإنجيلي، وكانا رفيقين لسمعان بطرس الذي لا يذكر لوقا مِثْل متى ان أخاه اندراوس كان معه. عند ذاك قال السيّد لبطرس: «لا تخف فإنك من الآن تكون صائدا للناس» اي مبشّرًا بالإنجيل لتضمّ البشر الى الكنيسة. هذه وظيفتنا جميعا وعلى الأخصّ عمل المعلمين في الكنيسة والأساقفة والكهنة. لا يربح المسؤولون الغرباء عن الإيمان بمجرّد إقامة العبادات ولكن بالتبشير. ويربحون المؤمنين اثناء القداس الإلهي والخِدَم الإلهية المختلفة بالوعظ الذي قالت القوانين القديمة انه واجب في كل خدمة: في الغروب والصيام الكبير وإقامة الذبيحة الإلهيّة. الوعظ دعوة الى التوبة مهما كان الكلام.

ان الكاهن يجعل المؤمن في مواجهة مع المسيح لأنه هو صار للمسيح، ونصل الى المسيح بالكلام الذي يُتلى في الكنيسة. ولكن لو كان هذا يكفي لما أمرت القوانين القديمة بالوعظ في كل خدمة. والوعظ يتطلّب درسا لتعاليمنا ووسائل الخطابة ومعرفة الذين تُكلّمهم. هو إيقاظ التعاليم التي أنت أخذتها في الطفولة وما بعد الطفولة. من الناس من لا يفهمه لأن الكاهن لا يكون قد استعدّ قبل الوعظ ولأن كثيرا من المؤمنين لم يفهموا شيئا يُذكر قبل مجيئهم الى الكنيسة.

ومن لم يكن مهيًّأ فليتهيّأ اليوم حتى لا تفوت كلمة الله الجماعة المتعطّشة الى هذه الكلمة فيبقى الساقط ساقطًا والجاهل جاهلًا. انه غير صحيح ان طقوسنا تعلّم من ذاتها. لو كان الأمر كذلك، لما شرح آباؤنا الطقوس جيلا بعد جيل. انك تحتاج الى العبادات والى الكلام الذي يفسّر وينقل حيويّة الإنجيل.

بعد هذا يقول هذا الفصل ان التلاميذ لمّا بلغوا بالسفينتين إلى البَرّ تركوا كل شيء وتبعوه. هل انت تركت كل شيء، كل شهوة، كل تعلّق بأشيائك المؤذية لتتبع يسوع وتلازمه ثم تستعمل أشياء هذا العالم حرا منها، سيدا عليها، وسيدك انت يسوع؟

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الأنا والآخر / السبت ٢٢ أيلول ٢٠٠٧

انت في مواجهة مع الآخرين محبة او أنت تردهم اليك والى مركزيّتك والى اشتهائك واذا أفرطت في ذلك تنكرهم في الحقيقة وتلغيهم. الأنا المركزيّة سماها باسكال العظيم مقيتة وبلغته le moi est haïssable. انت كما أبدعك الله ذات حبيبة وهذا من ماهيّتك ولكن ذاتك تقوم في فرديّتك لأن الفرد يقابل الفرد بما يحمل من ذاتيّة ووجود.

                     انا القابضة على الغير لك في النسك ان تميتها ما أمكن ذلك اما الأنا المبذولة فتحييك وتحيي الآخرين بك. ولكن أناك وأنا الآخر لا تجتمعان الا اذا رأيت ان الآخر ضروري لك حتى التنفّس. قلت ضروري ولم أقل فقط نافعا اذ أيقنت انك لا توجد الا بالحب المعطاء الذي قد يبادل المحبوب بمثله او لا يبادل ولكن المحبة في معظم الأحوال تستدعي المحبة لكونها كائنة في كل نفس بالصورة الإلهية التي فيها.

                     انا لست موجودًا وحدي. انا موجود اذا أحبني آخر وكان محررا من الأنا القابضة او المنقبضة. وحتى لا تقبض الآخر او لا تنقبض لا بد لك من جامع لكما يحرركما معا وهذا هو الله. هناك دائما ثلاثة لتكون الوحدة وانا اتكلّم بشريا. والبشر مجتمعين هم على صورة المحبة الإلهية التي اذا تساقطت تبيد الأنا الصارمة، الهدامة لذاتها او للذات الأخرى وعند ذاك يغيب الله.

                     وهاجس الذات ان تنفع الآخر والنفع ان تشتهي له ما يريده الله منه وان تذكره بالحق وليس بما يراه هو نافعا له وقد يصدمه هذا ولا يحس بمحبتك اذا وضع نفسه في موضع منافعه ولذاته التي تبيده وانت تريد ان تجعله في الله. صورة هذا في العائلة اذ لا يلبي الوالد او الوالدة احيانا الولد اذا طلب فقد يطلب ما يؤذيه او يعظم شهوته الى الامتلاك ويرى الأهل ان الحرمان يفيده. كذلك الدولة الساهرة، الراعية لمصالح المواطنين الحقيقيّة تلبي مطالبهم المحقة ولا تلبّي مطالبهم غير المحقة. اذا كان الحكم سليما، صالحا يسعى الى قيام البلد كلا مع إيثار المناطق المحرومة على المناطق المترفة. هذه هي الخدمة المرحلية لكون الحكم خادم الجميع والرعاية هي للجميع. هكذا الراعي الذي يرعى مئة شاة اذا ضلّت واحدة في الجبال يترك الراعي التسع والتسعين ويذهب لاسترداد الشاة الضائعة. هذا هو الحب الشامل. كذا في الرعاية الروحية. المسؤول يهتم اولا بمن شردته اهواؤه اذ البقيّة لا تزال في الرشد.

#                    #

#

                     هكذا التعاطي في الفكر. انت في التقابل مع من عنده فكر لا لتملي عليه قناعاتك ولكن لتأخذ منه وتعطيه بآن. وهذا هو الحوار. انت تواجه المواقف إن حاورت لتصل الى الصواب الذي قد تكون عليه او الى ذاك الذي يكون عليه خصمك في الفكر لأنك طالب الحقيقة التي تحل عليك وتحل على من يحاورك.

                     ويحل عليك الحق او بعض منه ويحل على سواك الحق او بعض منه فتأخذ بلواء الحق أنّى ظهر لأنك لا تريد الغلبة لموقفك بالضرورة فتنقّح ما قلته وترمي ما لمسته سوءًا او خطأ عندك وتستغني بالصواب الذي عند خصمك فتجعله أخا لك. انت تتمسّك فقط بما بدا لك كلامًا إلهي الإلهام أجاء هذا الالهام اليك او جاء الى الآخر.

                     وفي المجال الديني لا تنكر على الاخر عقيدته ولا ينكر هو عليك عقيدتك والا وقعتما في السجال وقد بطل السجال في ذهنيّة المعاصرين ولكنك تستوضحه في ما يؤمن به وتوضح له ما انت مؤمن به وتترك لله حقّه في ان ينير  من يشاء وهذا لا يتحقق الا بالمقابلة السوية الهادئة وبحق كل بشر بإعلان ما يحسبه صحيحا. هذا شرط الحرية عندك وعنده والا تقع ويقع في نظام القمع ان لم نقل في التقاتل.

                     شرط هذا السلام ان الله يهدي مَن يشاء. أن تقبل هذا السر الإلهي شرط دخولك في المحاورة لأن الحرية شرطها السلام. اذا التزمت الحوار لا تسعى الى إدخال احد قسرًا الى ما انت مؤمن به ولكنك تلتمس النور الذي يقذفه الله في القلب كما يقول الإمام الغزالي. انت لا تحرر احدا بشريا ولكن الحق هو الذي يحررنا جميعا وقد جاء في سورة الكافرون: «لكم دينكم ولي ديني» (الآية الـ ٦) وأفهم هذا القول انه يعني حريتك وحريتي ما لا يمنع ان اباحثك في بعض النقاط او في التفاصيل ولا أطلب منك ان تتنازل عن شيء أصيل. كذلك أرجو ان أساعدك على معرفة الأصول عندك وعندي. وشرط هذا التواصل المحمود ان احبك وتحبّني لأن هذا هو السلام اذ المبتغى الا أحرجك والّا تحرجني وان نتلاقى في كل ما نعتبره تجلّيات إلهية فأحترم ما تقول وتحترم انت ما أقول حتى نتفاهم في هذه الدنيا ويكشف الله عن ذاته في اليوم الآخر.

#                   #

#

                     وحتى أكون انا ما انا وانت ما انت لا أطمع بشيء من عندك ولا تطمع انت بشيء من عندي فاذا انا اشتهيت ما عندك لا أبقى انا ذاتي فإن الرب أمدّني بحاجاتي وأمدّك بحاجاتك فهذا كلّه متاع  الدنيا ونحن أحرار من هذه الدنيا وكل ما فيها لتطمع فقط بالنعمة الإلهيّة التي تنزل علينا فينمو كل منا بقدراته ونتمنّى القدرات الروحية التي عند الآخر لأن هذه هي هبات الله من اجل الجميع. انا أشتهي اذًا فضائلك ليتحسّن كياني الداخلي. فاذا كنت مألوها وعطفت علي أتأثّر بعطفك وأصير بدوري مألوهًا. هذه هي الشراكة العميقة التي تجعلني أتشبّه بك وتتشبّه بي لأننا كلينا نطلب المألوهية فنصبح واحدا بالشوق الإلهي الذي فينا. جاء في كتبنا الروحية أن انسانا قرع باب السماء فسمع من داخلها من يقول من القارع قال انا. ولم يُفتح له الباب. ثم قرع ثانية فسئل من القارع؟ قال انا فلم يُفتح له حتى قرع للمرة الثالثة. فسئل ايضا من القارع؟ قال انت. ففتح له باب الجنّة. المعنى انه عندما يوحّد المرء نفسه بالله يدخل الملكوت.

                     على هذا المثال توحّد أناك بأنا أخرى فتصبحان واحدا مع بقاء الذات او الفرادة مستقلّة، ثابتة الى الأبد ولكنها في تداخل والأنا الأخرى. نحن لا نذوب في الآخر لأن هذه حلوليّة ولكن الذات تبطل إن لم تلامس الذات الأخرى بالإرادة والقلب ولكن بلا اختلاط.

                     لا علاقة الا بالاثنينية ولكن بلا انفصال بحيث يراكما الله واحدا في المودة والمودة غير سليمة ما لم تكن إحساسا بالود الإلهي لكل انسان. لا يزيل الله التعدد ولكنه يزيل الفُرقة وتأتي وحدتكما سرا يقترب من الوحدة الإلهيّة. نحن ذوات مختلفة في التوق الى الوحدة. لذلك أحترم طبائعك وتحترم طبائعي ولو حاول كل منا ان يهدي الاخر على هذا الصعيد. فأنا عفوي مثلا وانت قليل العفويّة. انت عظيم الإحساس وأنا ضعيفه ولكنك بدءًا من تكوينك النفسي تحاول ان تتقبّلني وأحاول أن أتقبّلك ولا تتغيّر أصول الطبائع ولكن يجمّل الإنسان ويحلو بالتأثر الخلّاق الذي يقبله. وانت بما عندك تحاول الأسمى ولكن في إطار إنسانيّتك. وهذا لا يفرق بين الناس اذا أرشدوا اي اذا اتّسعت أذهانهم ونفوسهم لاحتضان الآخر.

                     لا يحيا الا الإنسان المحضون. وبذا تصير انت اما للجميع تلد الآخرين بحقيقة الله اذا ربيت نفسك على الا تعطي شيئا غير الله. تفسّر أذواقك ولا تفرضها. تنفتح ولا تبدد ذاتك باستنساخ الآخر. انك وحيد ولو غدوت معطاء. العطاء وحده لا يهدد انسانا ولا يميعه انت وحيد ولا يشبهك آخر ولكنك لست واحدا لأنك في لقاء.

                     تلك هي الأنا المسكوبة، المتطهّرة التي تسعى الى تنقية ذاتها والآخر فتنوجد وينوجد الآخر.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

ما بعد العيد/ الأحد 16 أيلول 2007 / العدد 37

الكنيسة تريد لنا ان نركّز على معاني الصليب، هذا الذي تأمّله بولس في رسالته اليوم. أقتطف منها كلمتين. اولاهما: «مع المسيح صُلبتُ فأحيا، لا أنا، بل المسيح يحيا في». مع المسيح صُلبتُ تعني ان السيد لما كان مرفوعا على الخشبة اتّخذني اليه اذ كنتُ فيه مع جميع الذين آمنوا به. وكما المسيح قام من بين الأموات، امدّ بالحياة الجديدة المؤمنين به. تركوا سيرتهم القديمة وأخذوا يسيرون حسب المسيح.

الكلمة الثانية هي آخر الكلمات في هذه الرسالة: «ما لي من الحياة في الجسد (اي في كل كياني) انا أحياه في ايمان ابن الله (اي في ايماني بابن الله) الذي أَحبّني وأَسلَمَ نفسه عنّي». انا احيا لا بالطعام والشراب والتنفّس (هذه أشياء معروفة ولكنها على مستوى البيولوجيا). في العمق انا أحيا بإيماني بهذا الذي أحبّني.

ما قال الرسول «أحبنا» بل قال «أحبني» للدلالة على ان كل واحد منا يتكوّن من محبّة يسوع له. يجب ان يتحسس كل منا ان الرب مات من اجله. نحتاج الى كل هذه المشاعر اذا عانقنا ايقونة الصليب (بلا صورة المصلوب ليس من صليب. واذا قلنا بطريقة شعرية اننا نسجد للصليب، فالمعنى طبعا اننا نسجد للمصلوب نفسه).

ثم نجيء الى إنجيل مرقس الذي نستهلّه بقول السيد: «من أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني». الرب يدعو الناس دعوة بمعنى انك اذا قررت ان تتبع يسوع فتكفر بنفسك اي بسيرتك الماضية، بما كانت عليه من خطأ سلوكي وأفكار تتنافى مع الإنجيل، فلا تبقى انت مركزا لذاتك، ولكنك تجعل يسوع مركزا لشخصيّتك وكلامك وأفعالك. وهذا يتطلّب حمل صليبك، وهنا يشير الرب الى كل المشقات التي تعانيها في هذا الوجود. تقبلها بفرح القيامة وتتبع المسيح. ان المسيح وصل الى تلة الجلجلة، الى الموت. اي اذا تبعته تميت خطاياك فتكون مصلوبا او تصبح شهيدا.

يتوغّل السيد بعد هذا القول بالاستنتاجات العمليّة فيقول: «مَن أراد ان يخلّص نفسه يُهلكها، ومن أَهلكَ نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل يخلّصها». اي من أراد ان يخلّص نفسه بأمور الطعام والشراب واللباس والمأوى وما الى ذلك يكون قد ظنّ شيئا خطأ، لأن هذه الأمور تساعد جزئيا اذا ابتعدت عن الإفراط، ولكن الخلاص الكامل والحقيقي لا يأتي الا بي.

ثم يكشف هذا المعنى بصورة اوضح فيقول: «ماذا ينتفع الانسان لو ربح العالم كلّه وخسر نفسه؟». هنا يشدّد على ان المال ليس بشيء، والمجد والملذّات جميعا ليست بشيء. ان حزت على كل شيء وليس عندك المسيح، فأنت أفقر الفقراء او انت عديم الوجود. المسيح قاطع ولا يقبل ان تُشرك به شيئا آخر. ان يكون هو كيانك المركزي فيما تتعاطى شؤون الدنيا المطلوبة منك هو ان تقوم بها من خلال المسيح، فاذا استبعدته بأي شيء تتعاطاه يكون هذا الشيء تافها او مغلوطا.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

البعد الأفقي والبعد العمودي / السبت ١٥ ايلول ٢٠٠٧

الرب هو النور الوحيد في عتمات الدنيا. ما عدا ذلك لهو او شقاء. أنا أفهم ان يظن الانسان ان له بلهوه امتدادًا وبشقائه انقباضًا ذلك ان الانسان في سطحية وجوده يذهب أفقيا بسبب من بشرته التعبة وانحصاره في أفق رسمه لنفسه واكتفى لأنه جعل نفسه مركز وجوده.

                     هكذا يكون ابن الحادث او الحادثة، وليد مرضه وحزنه. ينشئه الزمان الذي يعيشه اذ يحسب ان لا شيء خارج الزمان ولا شيء خارج المدى. يقيم في حدود جسمه وحدود ذكرياته والآمال التي تغذي الجسم والتصوّرات او يبيت حصرا في آخر ويسر بعبودية تكفيه متاعب تجاوز نفسه وبيئته وقبيلته.

                     والأحداث قد تكون جساما كالحرب او خشية وقوعها. والعوز الدائم وأزمات بلد تشبه الحرب وما من شك ان الإنسان ضحيّة جهله او فقره او غناه ونزاعات في عائلته او مهنته او حزبه. بسبب من هذا او من بعضه يلمس هبوط نفسه وقد يشقى لعدم علمه بها. لهذا كله سمّى الكتاب هذه الأشياء وادي الدموع اذ لا حد للوجع، للإعاقة، لفقدان الأعزة او لغيابهم.

                     كل هذه الشجون جزء من حياتنا وهي تصيب البار كما تصيب الشرير ويخترع الإنسان الفاقد الرباط مع ربه تسليات يحس بعد تعاطيها انها لا تغنيه بشيء. فكما خيّبته اللذات التي استساغها تخيّبه اللّذات اللاحقة. يسعى المرء الى استلذاذ يظن انه يشفي عزلته او يخفف من مرارته. قد يبقى اذا فقد وعيه النير اسير ما استنبطه من تعاطي جسده او تعاطي فكر لا ينقذه من تخبطات هذا الفكر وليس له وهو في وسط الاحداث التي تعذّبه الا ان ينتظر زوالها واذا بأحداث لا تقل عن الأولى مضاضة  تصيبه او هو يرى ان ما هو له يمزقه ويجعله مقيما في القنوط. معنى هذا انه يخلق جحيمه بنفسه وقلّما يعرف الكثيرون سبيلا الى الخروج من الجحيم. ولست أغالي في استعمال هذه المفردة لأني سمعت مئآت من المرات من اختارها اذ  يقول لي المتأزمون في حياتهم العائلية: لقد باتت حياتي جحيما ولا أعرف الخروج منها.

#              #

#

                     كل هؤلاء الناس وضعوا أنفسهم في المجال الأفقي ولم يسمعوا بالمجال العمودي اي بالقوة التي تربطهم بالله. اما الذين لهم إله فيعيشون في راحة وسكينة في الحرب او توقعات الحرب. هم في هدوء في الصحة والمرض، في اهتزاز حياتهم البيتيّة او في ثباتها ولا يرون بأسا اذا حلّت بهم مصيبة او انتابهم مرض جسديا كان ام نفسيا لأن الله مقيم فيهم او هم قائمون به.

                     اعرف أناسا يلوذون بالله ان عاشوا في فرح او عاشوا في ضيق لأنهم ايقنوا ان الله صحّتهم وصمودهم اي انهم تجاوزوا انفسهم وانتقلوا منذ الآن الى السموات. الفقير المؤمن غذاؤه الرب والغني المؤمن ثروته الرب ولا يولي ما له من مكانة في ذاتيّته. انت تطلب من الخالق المخلّص ان ينزل اليك وتستقبله على انه حياتك كلّها على قول بولس: «لست أنا أحيا بل المسيح يحيا فيّ».

                     انت لا تستطيع تفريغ نفسك من آلامها اذا استعرت ما يعوض عنها من دنياك لأن الدنيا لا تغذيك بالحقيقة. اللذة ليست بديلة عن لذّة ولا ترفيه أعظم من الترفيه الذي انت عليه. كل لذة بحد نفسها فارغة. هي تنسيك متاعبك بصورة موقّتة حتى تحل بك متاعب أخرى لأنك تستقي كل هذا من العالم الذي جعلت نفسك مركزه. اما اذا اخترت إلهك مركزا لوجودك لا تبقى مستعبدا لمرض او قمع او اضطهاد او أزمة في بيتك او في البلد.

                     انت لا تنجو من وطأة أحوال دنياك أكانت من السياسة او من الاقتصاد. فهذه الدنيا على ما نرى مليئة بالحروب ولك ان تطلب السلام ولكنا نرى ان الحروب لا تنتهي وان المرض لا ينتهي وان كل خطيئة تليها خطيئة أخرى اذا انت قبلتها وكل معصية مرة اذ يبقى عندك ضمير في الطبيعة هو يوبّخك ولا يستطيع الا المسوخ ان يخنقوا ضمائرهم حتى النهاية.

                     واذا قررت ان تلازم بعدك الأفقي اي اذا قبلت السطحيّة فأنت متّ داخليا. ربما استطعت ان تؤمن بشيء من القيم وان تذكرها. غير ان القيم في عمقها تؤتاك من الإيمان وحسباني ان القيم مقولة فلسفيّة حاول بعضهم ان يقيمها مقام الله في حين ان ذاتك لا تستطيع ان تعيش الا من ذات الله فلماذا ابدال الوجود الإلهي بمفاهيم ثقافية. الايمان بالله ايمان فعال في القلب اي مغير لهذا القلب او شاف له. ولك مع ربّك مواجهة او تواصل او وصال بين ذاتك وذاته لأن فيه حياة تفعل في حياتك والمفاهيم الفلسفيّة ليست بديلة عنه. ذلك ان الله حي وما عداه أفكار يقبلها عقلك ولكنها لا تنعش نفسك.

#            #

#

                     انا ما ركزّت على الآلام التي تعانيها من جراء ذنوبك او من المرض وأزمات البلد والعالم لست اوحي انها هي وحدها المطل الى الله. اجل في الكتاب آيات كثيرة تدعو المتوجّع ان يستعين الله لأن الكتاب الإلهي يريد شفاءنا. وبهذا قال داود: «من الأعماق صرخت اليك يا رب» والأعماق يعني بها الألم الذي رمينا أنفسنا فيه. ولكن الصالحين يصعدون الى الله من فرحهم ويعرفون انه هو مصدرها. لذلك يقيمون في النجوى ولا يقيمون فقط في الاستغاثة.

                     وعندما نتكلّم نحن المسيحيين عن الصليب المصلوب عليه كل شخص نطلب إزاحته عن أكتافنا من حيث هو وجع  لكوننا نؤمن ان صليبنا الشخصي هو طريقنا إلى القيامة ولسنا نريد بها القيامة في اليوم الأخير ولكننا نريد بها ان الله هو حياتنا وقيامتنا وهذه ينبغي أن نحققها هنا. ان آلامنا الحاضرة اذا قبلناها بالرضاء والشكر والرجاء تحمل الينا طاقة التعزيات لعلمنا ان الرب يفتقدنا بها او يزورنا بها كما يقول القديسون ونعلم ان الله يساكن الألم ان كنا مؤمنين ويسكننا ونحن في الخطيئة ليرفعها عن كاهلنا حتى يتنقّى القلب.

                     الاوجاع محنة تأتي كما تأتي لأن العالم ساقط. هي كما هي ولسنا نعرف دائما اسبابها والله يعالج الانسان كما وصل الي وضعه. يحاوره ويلومه ويؤدّبه ويحبّه بآن حتى يرتفع عنه الغضب ويحل فيه السلام. وبهذا السلام الداخلي يعايش الحرب والجوع والضيقات والمتاعب النفسيّة. قد يأتي الشفاء الجسدي من رحمة الله وقد يلازمك طوال حياتك. السلام هو علاجك مع بقاء المرض. وانت تعيش اي وضع معقولا كان بلغة الناس او غير معقول. نحن في المسيحية لا ندعو الى البطولة ولكنا ندعو الى الصبر والصبر ليس استكانة ولا انهزاما امام الموجود ولكنه اتكال على الله الذي يداويك كما يشاء ويوحي اليك ان المصيبة الكبرى فيك هي الإثم الذي تواجهه انت بالتوبة اي بحضرة الله فيك.

                     الله لا يلغي التاريخ الذي تصنعه الشعوب ولا يلغي زمانك الشخصي ولا المدى الذي تعيش فيه ولكنه يرافقك في زمانك ومداك واذا صبرت هنا تنال هنا تعزيات منه. فتقيم السماء فيك قبل ان تقيم انت فيها في اليوم الأخير. اي ان الله لا يغنيك عن الأبعاد الأفقيّة التي تلازم جسدك ومشاعرك ولكنه يرحمك  بالبعد العمودي ويسهر علي محافظتك عليه.

                     هذا الإله  ليس فكرة مجرّدة كما ترى. انه حق ووجود ومتعة وفرح. هكذا تواجه نفسك وتاريخ امتك وتوجّعات العالم. غير ان هذا لا يتم فيك الا اذا آمنت ان الله هو المرتجى وانه عطاء لك لا ينقطع.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

الصليب / الأحد 9 أيلول 2007 / العدد 36

في هذا الأحد الذي نستعد فيه لاستقبال عيد ارتفاع الصليب، تأتي الرسالة الى اهل غلاطية وإنجيل يوحنا كلاهما عنه.

مع ان مجمع اورشليم الرسولي كان قد قرر ان الوثني الذي يعتنق المسيحية ليس عليه ان يختتن فإنه يتقبل الختانة الجديدة التي هي المعمودية، كان بعض المسيحيين الآتين من اورشليم الى كنيسة غلاطية يريدون ان يُلزِموا المهتدين بالاختتان. فرأى بولس ان هذا يعني انهم يرفضون الشهادة من اجل صليب المسيح فقط. والدعاة المتهوّدون يتّهمهم بولس انهم يفتخرون بالذين يقبلون الختان. اما هو فيقول: «حاشا لي ان أفتخر الا بصليب ربّنا يسوع المسيح الذي به صُلب العالم لي وأنا صُلبتُ للعالم». صُلب العالم إزائي اي أَبَدتُ انا عالم الخطيئة فيّ، او اذا كنتُ انا مصلوبا بات العالم خارجا عنّي.

لذلك لا فرق عندي بين ان يكون الإنسان مختونًا او لا يكون، اذ المهم ان يصبح خليقة جديدة متجددا بالايمان والمعمودية. ويختم بقوله: «لا يجلب عليّ أحد أتعابا فيما بعد لأني حامل في جسدي سمات الرب يسوع» بالأتعاب التي عانيتها من أجله والاضطهادات التي ذقتها من اليهود والرومانيين. فأنا مصلوب الآن وكفاني.

اما إنجيل يوحنا فيشير الى صعود المسيح الى السماء كنهاية الى كونه نزل من السماء بالتجسّد وذاق آلام الموت، ويؤكّد ان هذا الذي قبُر وقام كان دائما في السماء، وليس من قول عن ألوهيّة السيّد أصرح من هذا.

ويتنبّأ الإنجيل هنا عن ان يسوع سوف يُرفع (بالموت والقيامة) حتى لا يهلك أيُّ من آمن به وتكون له منذ الآن الحياة الأبدية، تلك التي سيقول عنها السيد في خطبة الوداع أن نعرف الآب الإله الحقيقي والذي أرسله يسوع المسيح. ويُطَمئن يوحنا الإنجيلي قرّاءه ان الله لم يرسِل ابنه الوحيد الى العالم ليدين العالم (هذا سيكون فيما بعد). ولكنه أرسله ليخلّص به العالم اذا عرف هذا العالم انه محبوب وعلامة محبوبيّته ان ابن الله انما جاء ليموت عن العالم ليعطيه الحياة التي فيه اي الحياة الإلهية بالنعمة.

فإذا تكلّمنا بعد أيام قليلة عن ارتفاع الصليب، لا نكون فقط معيّدين لرفع الصليب في أورشليم بعد ان استعاده الإمبراطور هرقل من الفرس الذين كانوا احتلّوا فلسطين وكانوا قد أخذوه الى بلادهم فاسترجعه الروم وأعادوه الى مكانه اي كنيسة القيامة، انما نكون متقبّلين الفكر الذي بدا في هذا المقطع من الرسالة الى أهل غلاطية والمقطع الذي من إنجيل يوحنا.

المسيح هو وحده المخلّص ولا يخلص الإنسان بالشرائع الطقسية كالختان التي وضعها موسى، فاليهودي المهتدي والوثني المهتدي واحد في المعمودية التي ينضم فيها الى سر موت السيد وقيامته وصعوده من بين الأموات.

ماذا ينال المؤمن بمعموديّته وتنفيذها في العمل الصالح؟ ينال الخلاص من الموت والخطيئة، وهذا ما يدعوه يوحنا الرسول الحياة الأبدية التي تقيم فينا ملكوت الله منذ الآن وتستمر معنا بعد الموت وبعد القيامة العامة وهي تعطينا الطمأنينة الى أن يسوع هو مخلّصنا اليوم والى الأبد.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

لا تسرق / السبت ٨ أيلول ٢٠٠٧

لا يعطي الكتاب تحديدا للسرقة بسبب كونها معروفة فيقول في سفر الأمثال مثلا: «لا يُحتقر السارق اذا سرق ليشبع نفسه وهو جائع» (6: 30) الا انه لا يعفيه من واجب رد ما سرقه مع الربى. يلحّ على ضرورة رد المسروق. بعض علماء الأخلاق في العصر الحديث ولكنهم يعفون الجائع الحقيقي من المسؤولية باعتبار ان حياته أثمن من مال آخر. طبعا هذا أمر طارئ ان حصل كائنا ما كان موقف قانون الجزاء.

                     على رغم الاستثناء يسمّي ارميا النبي السرقة قباحة ويرى انها تتنافى والعبادة في بيت الله. وهناك غير سفر في العهدين يرصف السرقة مع الكذب والقتل والخبث والمكر والزنى وينهي عنها جميعا بالقوة نفسها.

                     ليس مبتغاي هنا ان اوضح وزن المسؤولية ولو كان من البديهي ان سرقتك للفقير اعظم رهبة من سرقتك لسواه لأن الأذى هنا كثير.

                     واذا شئنا شيئا من العمق لست أؤسس نهي الوصية: لا تسرق على قدسيّة الملكيّة الفرديّة. هذا من الشرع الروماني وتقول  به هذه الكنيسة او تلك ولكن آباءنا وعلى رأسهم باسيليوس الكبير لم يؤسسوا الملكية الفردية ولا سيما اذا وصلت اليك. من إرث حرام او من سعي اقتصادي لك حرام.

                     ما يجعل ملك الآخر ممنوعا عليك هو انه لا يسوغ اغتصابه وليس لك ان تحكم في حلاله وحرامه. هذا الملك يعطيك اياه صاحبه حبا وحنانا ورأفة في واجب مشاركة. الآباء الذين كانوا أشداء في دعوتهم الى العطاء لم يحللوا النهب ولكنهم بقوا على لغة الدعوة فقالوا انك مؤتمن على المال الذي تحوزه وهذا الإئتمان قالوا انه تفويض من الله اي انك مسؤول عن استعمال مالك لمصلحتك ومصلحة الكثيرين حولك ولهم فيه عليك حق. غير ان هذا الحق انت تستجيب له فتوزّع مالا لله الذي كلّفك هذا التوزيع لكونك غدوت في منعرجات حياتك وظروفها حافظا هذا الرزق.

                     آباؤنا لم يناقشوا مصادر المال الذي بين يديك ولم يناقشوا اذا أوتيته شرعا او بخلاف الشرع. هم كانوا ينطلقون من ملاحظة للموجود ويدعونك لإشراك المحتاجين به. ما عندك يصبح حلالا اذا قررت العطاء. اي ان الذي تبدده على المساكين يزكيك اذ جعلت نفسك دائما في استعداد للعطاء.

#                    #

#

                     من هو الذي السارق يسرقه؟ في كثرة الأحوال هو فرد او مؤسسة او الدولة. الذ يمتنع عن دفع ضرائبه قد يعلل النفس ـ وسمعت هذا الحديث عن بعض ـ اني لن أعطي دولة مقصرة في القيام بواجبها تجاه البلد او يسرقها بعض من موظّفيها. لا نستطيع ان ندخل في هذا المنطق فلعلّك باستقامتك معها تعلمها ان تحق الحق وان تتفانى بخدمتك. ليس مقبولا ان تقول انا اسرق السارق كما ليس مقبولا ان تخون المرأة زوجها نكاية بالخائن. انت في السلوك مرتبط بكلمة الله التي تعرف انك بالنهب والسلب تؤذي من سلبت وتؤذي نفسك ثانية اذ استسلمت لضعفك وربما علمك الاختلاس وما اليه الكسل والبطالة. والمال لا ينتقل من يد الى يد الا مقابل عمل او كان إحسانا.

                     منطق الذي يسرق مؤسسة يعمل فيها يأتي من قول هذا انها لمؤسسة غنية ولن تفتقر اذا انا احتفظت لنفسي بمبلغ يزاد على راتبي فإن راتبي قليل. والمؤسسة قائمة على عدة اشخاص يديرونها. واذا كان عدد من الموظّفين يقول قولك

ويسعى سعيك الباطل فأنت مؤذٍ لكثيرين لا تراهم ولكنهم في الوجود.

                     الأفراد ليسوا يقيمون ـ على مستوى الملك ـ توازنا بين المالك ومن يشتهي ملكه فتخول المحروم ان يغتصب. والحائزون على شيء من المال هم عند المحرومين حارمون. المسيحية ليست مقرونة بأحكام يطبقها المؤمنون قسرا. المسيحية قائمة على الطوعية وهذه طوعية مقرونة بأمر صارم من الله.

                     في الديموقراطيات الليبراليّة الراقية ضمانات مختلفة تقوم الدولة بخدمتها ولعل اهمها في ما يعنينا اليوم ضمانة الإنسان العاطل عن العمل بحيث يحصل على حد ادنى من مستوى معيشته. هذا هو التضامن من في البلد او الكفالة الاجتماعية. وهذه كما تمارس تشجّع مبدئيا على الأمانة. واذا كان الى هذا ضمان الشيخوخة لا يحتاج الإنسان الى ما هو أكثر من هذا ليحيا في شيخوخة كريمة.

#              #

#

                     في احوال كثيرة لا تأتي السرقة من حاجة ولكنها تأتي من طمع اذ قد يكون الميسور سارقا. والكتاب يقول ان الطمع عبادة وثن. لقد رأى يسوع الناصري الى المال على انه عبادة لرب آخر. واذا استثنيت الجائع على ما ورد في سفر الأمثال. تتوفّر في السرقات عوامل طمع يكون المال فيها طمأنينة وجود. السارق الممتهن ليس فوقه سقف. يرفعه الى اللانهاية لأنه جعل حياته قائمة على الارتياح المادي الذي لا حد له. وهذا كله مرتبط بالملذات التي نتوخّاها. واللذة تستدعي اللّذة.

                     وهذا كلّه إشارة الى اننا وقعنا في المادية العملية التي في طياتها طلب اللامحدود والاقتناع بأننا نوجد بما في أيدينا ولا نوجد بقلوبنا. ولذلك كان الشفاء من الطمع ان نتحوّل عما نحوزه الى اعتبار القيمة في وجودنا المحب المعطاء اي الى الذات العميقة التي يصنع الله عافيتها. فتكون وانت فقير فوق ما يملك جميع الناس لأن الملك لا يحددك والله يحددك بمعنى انه يغنيك بنعمه.

                     قد تبقى تواقا الى الحصول على شيء ان كنت معوزًا. اذ ذاك هذه شهوة مبرّرة ولكنك مع عوزك تبقى حرا من عوزك وراغبا في وجود لك قيم وصافٍ وحر.

                     هذا لا يمنعك ان تناضل في سبيل اترابك المحتاجين طلبا للعدل وشيء من الارتياح الاقتصادي الذي هو حق لجميع الناس. بعد كل الاختبارات الايديولوجيّة التي سقطت في القرن الماضي لم يبقَ احد يؤمن بالقول الكامل وان كان علينا ان نسعى اليه دوما لأن هذا العدل هو التحقيق الأسمى للمحبة.

                     هناك اذًا بعد اجتماعي لجهدنا في هذا المجال لا بد ان يرفع الضعفاء الذين يشتهون مال الآخرين. ليس يعني هذا ان الفضيلة ينالها الناس جميعا بسبب من التنظيم القانوني للمجتمع. غير اننا نقدر عند ذاك ان نقول مع بولس: «جاهدت الجهاد الحسن اكملت سعيي وحفظت الإيمان». الى هذا كانت التربية عنصرا هاما في حفظ الناس من الرذائل وكان الله دائما عونا للطامعين به، الجاعلين اياه ثروة قلوبهم.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

مثل الدعوة المرفوضة/ الأحد 2 أيلول 2007/ العدد 35

كان يسوع يعطي تعليمه أحيانا بصورة حكايات تسمّى أمثالا يؤلّفها هو ويفهمها الصالحون الطيّبون ويأبى الفريسيّون أن يفهموها.

عندنا اليوم حكاية «ملك صنع عرسا لابنه». واضح ان الملك يرمز الى الله وان الابن هو المسيح المرتبط بأحبائه بعرس روحي ثم على الصليب.

دعا الكثيرين. الله يدعو ولا يفرض شيئا فالمدعو يأتي او لا يأتي. الله أعدّ الغداء للعرس. لا شك ان الله دعا الأبرار الذين كانوا خاضعين للشريعة ولكنهم لم يريدوا الالتحاق بيسوع وما أحبوا إنجيل الملكوت. كان كل واحد منهمكًا بأعماله وربما كان يقوم بأعمال صالحة. ولكن هذا لا يكفي. غير ان اليهود لم يلتفتوا الى ان افتقاد الله لهم يتم بالتحاقهم بالمسيح. عند ذاك تحوّلت الدعوة الى من كانوا أكثر قابليّة لغاية الدعوة التي هي المسيح، وهؤلاء سيكون لهم نصيب بمائدة الملكوت في الدهر الآتي.

بكلام آخر دعا الله الأمم الوثنيّة. ويتّضح هذا من ان الزمن الذي كتب فيه متى إنجيله في أنطاكية حول السنة الـ80 كانت الشعوب الأخرى قد دخلت الكنيسة. وقد عاقب الله اليهود السنة الـ70 في ما يسمّى الحرب اليهوديّة التي شنّّها الرومان على أورشليم.

ثم يشير الإنجيلي الى انه لا بد من لباس العرس. وهذا معروف في كل الاحتفالات الرسميّة في كل المجتمعات. اما الخدام الذين يتكلّم عليهم المثل والذين أوثقوا هذا الرجل الذي لم يكن عليه لباس العرس قد يكونون الرسل والشهداء الذين قتلهم اليهود قبل ان يكتب متى انجيله مثل القديس استفانوس ويعقوب بن زبدى.

لباس العرس عبارة استعملتها الكنيسة في صلاة الخَتَن في الأسبوع العظيم: «انني أشاهد خِدْرَكَ مزيّنا يا مخلصي ولستُ أَمتلكُ لباسًا للدخول اليه».

هذا الرجل الذي لم يكن عليه لباس العرس، عندما سُئل عن السبب، سكت اي عرف انه بلا عذر ومصيره «الظلمة البرانيّة» اي عذاب الجحيم.

ويُنهي السيّد الحكاية بقوله: «لأن المدعوين كثيرون والمختارين قليلون». نحن جميعا تدعونا نعمة الله، ولكن من الناس من يرفضها ويفضّل مصالحه الذاتيّة او ملذّاته على الكلمة الإلهيّة التي تدعونا. كل ما في الكنيسة (الإنجيل، العبادات، الوعظ الجيّد) تعابير للدعوة الإلهيّةز

باستمرار يكلّمنا الله بالقديسين، بالكنيسة. ولكن للأسف البعض يرفض الخلاص. لا يمكننا نحن المسيحيين ان نعتب على الله إن لم يكلّمنا. وقد وضع الله ميولا روحية في نفوسنا لكي نسمع الدعوة ونلبّي ونشارك في عرس حَمَل الله مع كنيسته العروس.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الألم / السبت ١ ايلول ٢٠٠٧

منذ بضع سنين أخذ الجسم البشري يسحرني بتركيبته العجيبة الخلابة. اجل كل جسم حيواني يجذبك بتركيب هو غاية في تعقيد يأخذك الى الدهشة ولاسيما ان الحياة- وهذا ثابت- لا تأتي بالتفاعلات الخيميائيّة في اي مختبر في العالم. آلة لا يحركها محرك منظور،  تبقى بقوّة التنفّس وتحوّل الأطعمة بالدم الى كل عضو من أعضاذنا فننمو زمنا لا يعرف احد في الدنيا سر نهايته ووقتها.

                     وفيما كنت أتأمّل في هذا مؤخّرا لاحظت ان كل نتاج الطبيعة الذي يؤكل انما هو مناسب لتركيبنا الخيميائي اذ يتحوّل الينا. أليس ان الذي صمّم جسمنا آلة هو اياه الذي صنع طعامنا وشرابنا؟ هل هذا هو كلّه نتيجة صدفة؟ ولكن اذا أخلّ في أبداننا عنصر خارجي كان الألم. وهذا الألم سبب تساؤل وجداني، كياني. لماذا الألم؟

                     اذا كان الألم مؤذيا للإنسان والى حقيقة مصيره هل أمكننا القول ان الله سبب أوجاعنا؟ هذا يعيدنا الى سؤال بسيط هل الله سبب الألم ومريده؟ الفكر العبري الظاهر في العهد القديم لا يرى الى الفرق بين ما يعود الى الطبيعة وما يعود الى ررادة الله، يضع السببيّة كلها في الله. فكر العهد الجديد ان ثمّة فرقا بين مشيئة الله ومعرفة الله. ان معرفته الأزليّة لا تحدث الأشياء. تقرأها. على سبيل المثال ليس الله يريد في الإنسان خطيئة. هذه من صنع الإنسان وفي مسؤوليّته والا كنا آلات يحرّكها الخالق ولا يبقى الإنسان حرا وقد ترك الله للطبيعة نواميسها وليس في الله تعسّف بحيث يوجع فلانا ولا يوجع ذاك. نحن لا نعرف حكمة الله من هذا القبيل. جل ما نعرفه ان الله يساعد الإنسان المتوجّع فيخفف عنه أوجاعه بالنعمة التي يغدقها عليه. انه الى جانب مخلوقه في الصحة وفي انحرافها. انه معه في موته وما بعد موته اذ ينشله من الموت بآمال القيامة ويجعله في محنه انسانا يتطلّع  الى الخلاص. يترك للطبيعة هوية تحركها.

                     الله سبب الحرية التي تأخذ مجراها في كل صوب. الطبيعة ولو سرت بإشراف الله عليها نبقى في سرها. والسؤال هو كيف نواجه حرية الطبيعة اذا آذتنا. في صميم هذا الأذى نتوجّه الى الله ليرفع عنا وطأة الأسباب الفاتكة فينا اي اننا نطلب الشفاء ونسلك على الرجاء ونسلم وضعنا الى الله ورأفاته عسى يتدخل ليعيد الينا العافية ولكنا لا نقول مثل العامة: لماذا فعل الله بي كذلك. انت بالإهمال احيانا  يتأذى جسمك  وتتأذى نفسك او ان هناك عوامل تحل بك وتحاول ان تسيطر عليها بما اوتيت من علم وما أوتيت من صبر  والصبر ليس إذعانا للمرض او استسلاما للقدر ولكنه مصالحة مع الله. ولا شيء في الكتاب يدل على ان الانسان المريض او العاجز اعترته الخطيئة اكثر من سواه. الأبرار يتألّمون ايضًا وهذا عطاء لهم من ربهم. لك انت ان تستخرج من أوجاعك رسالة الهية اليك وان تقرأ في ما حل بك تذكيرا لك من فوق حتى تدخل في عافية روحية تنمو فيك وتتجدّد وسط المحنة التي تذوق.

#            #

#

                     ما كان موقف السيّد من اوجاع الناس؟ هو الذي قال في مجمع الناصرة انه وجد في سفر أشعياء ما اعتبره قد قيل عنه هو: «روح الرب عليّ لأنه مسحنى لأبشّر المساكين أرسلني لأشفي المنكسري القلوب، لأنادي للمأسورين بالإطلاق وللعمي بالبصر وأرسل المنسحقين في الحرية» (لوقا 4: 16-18). يرى يسوع الناصري ان مهمّته مزدوجة: تبشير وشفاء. وهذا يؤكّده غير موضع في الكتاب مثلا قوله: «وكان يسوع يطوف كل الجليل يعلّم في مجامعهم ويكرز ببشارة الملكوت ويشفي كل مرض وكل ضعف في الشعب» (متى 4: 23).

                     ولما ارسل اليه يوحنا المعمدان «اثنين من تلاميذه وقال له أنت الآتي ام ننتظر آخر فأجاب يسوع وقال لهما اذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران. العمي يبصرون والعرج يمشون والبرص يطهرون والصم يسمعون» (متى 11: 2-5). سؤال يوحنا يعني أانت المسيح المرتجى؟ وجواب السيّد لم يكن نعم انا هو ولكنه كان: هذه علامات مجيء المسيح فافهم. الملكوت اذا تحقق بعد المجيء الثاني ملكوت عافية.

                     بخلاف ذلك قبول الألم مشاركة في آلام المسيح. هذا لا وجود له في كلام الوحي. الفكرة الوحيدة المنتشرة بخاصة في تعليم بولس اننا بالمعمودية نصطبغ لنصير الى موته فندفن معه بالمعمودية للموت اي نسير الى موته حتى كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب هكذا نسلك نحن ايضًا في جدة الحياة (راجع رومية 6: 1-4). مشاركة آلام المسيح هي إماتة الشهوة ولا تعني إطلاقًا اوجاع الجسد او النفس. اما ان تتحمّل ما يعتريك ويعذبك فيبدأ من بعد الآلام بغلبة الرجاء والفرح. قد تؤتى عطفًا الهيا في ما تتعذّب ولكن هذا لا ينشئه العذاب. هذا ثمرة النعمة التي تمنحك تقديسا ان صبرت وربما وهبتك شفاء اذا رأى الله انه ينفعك روحيا. الألم بحد نفسه قوة سالبة وايمانك برفعه من هذه المرتبة الى رؤية المصلوب في طريقه الى القيامة.

                     المسيح المصلوب هو رب المجد كما قال الرسول. آلامه هو التي انسكبت حبا هي مجده كما يعلم إنجيل يوحنا وهي صارت سبب خلاص لنا لأنه هو الفادي اي الجاعل ألوهيّته في جسده. فإنه عند دخوله مملكة الموت يواجه الموت بحياته الإلهيّة وانت لا تفدي أحدا ولا تفدي نفسك. هو يخلّصك وسط التأوّه والتنهّد بحياته هو . قد يقرع بانحدارك الجسدي باب نفسك فإن فتحت له يدخل اليك ويتعشّى معك كما يقول سفر الرؤيا. فعند دخوله يحول النقصان الذي حل فيك الى كمال وما كان سلبيا الى إبداع في كيانك الروحي.

                     لا تفتعل ألما كأنه شرط لافتقاد الرب اياك. هو يأتيك متى شاء وكيفما شاء.

                     لقد رتّبت الكنيسة بعد توصية يعقوب الرسول سر مسحة الزيت الذي يطلب شيئين العافية والتوبة فالأولى ثمرة الثانية كما ان الخبز المادي صورة عن الخبز السماوي فمن كان له الأكثر له الأقل.

                     لقد بنت الكنيسة مؤسسات استشفاء رحمة بالناس ما في ذلك شك ولكنها اعتبرت انها بذلك تبذل للمرضى اهتمامها بهم في العلاج حتى اذا تعافوا يشكرون الله.

                     المهم ونحن امام الإنسانيّة المجروحة ان نقف مع الجائعين والمسلوبي الحرية وإطعام الجائع وتحرير المظلوم، ان ننظر ليس فقط الى إنفسنا ولكن الى البشر جميعا القريبين والبعيدين ليتلقّوا التفقّد الإلهي ويتعافوا روحيا وحسيا ونتشارك واياهم بالتطلّع الى رحمة الله والمحبة الإنسانسة الواسعة. متى يأتي ذلك اليوم الذي نستطيع فيه ان نقول: «وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم والموت لا يكون في ما بعد ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع في ما بعد لأن الأمور الأولى قد مضت» (رؤيا 21: 4).

                     الا وهبنا الله ان نتوق الى هذه الرؤية.

Continue reading