لا يعطي الكتاب تحديدا للسرقة بسبب كونها معروفة فيقول في سفر الأمثال مثلا: «لا يُحتقر السارق اذا سرق ليشبع نفسه وهو جائع» (6: 30) الا انه لا يعفيه من واجب رد ما سرقه مع الربى. يلحّ على ضرورة رد المسروق. بعض علماء الأخلاق في العصر الحديث ولكنهم يعفون الجائع الحقيقي من المسؤولية باعتبار ان حياته أثمن من مال آخر. طبعا هذا أمر طارئ ان حصل كائنا ما كان موقف قانون الجزاء.
على رغم الاستثناء يسمّي ارميا النبي السرقة قباحة ويرى انها تتنافى والعبادة في بيت الله. وهناك غير سفر في العهدين يرصف السرقة مع الكذب والقتل والخبث والمكر والزنى وينهي عنها جميعا بالقوة نفسها.
ليس مبتغاي هنا ان اوضح وزن المسؤولية ولو كان من البديهي ان سرقتك للفقير اعظم رهبة من سرقتك لسواه لأن الأذى هنا كثير.
واذا شئنا شيئا من العمق لست أؤسس نهي الوصية: لا تسرق على قدسيّة الملكيّة الفرديّة. هذا من الشرع الروماني وتقول به هذه الكنيسة او تلك ولكن آباءنا وعلى رأسهم باسيليوس الكبير لم يؤسسوا الملكية الفردية ولا سيما اذا وصلت اليك. من إرث حرام او من سعي اقتصادي لك حرام.
ما يجعل ملك الآخر ممنوعا عليك هو انه لا يسوغ اغتصابه وليس لك ان تحكم في حلاله وحرامه. هذا الملك يعطيك اياه صاحبه حبا وحنانا ورأفة في واجب مشاركة. الآباء الذين كانوا أشداء في دعوتهم الى العطاء لم يحللوا النهب ولكنهم بقوا على لغة الدعوة فقالوا انك مؤتمن على المال الذي تحوزه وهذا الإئتمان قالوا انه تفويض من الله اي انك مسؤول عن استعمال مالك لمصلحتك ومصلحة الكثيرين حولك ولهم فيه عليك حق. غير ان هذا الحق انت تستجيب له فتوزّع مالا لله الذي كلّفك هذا التوزيع لكونك غدوت في منعرجات حياتك وظروفها حافظا هذا الرزق.
آباؤنا لم يناقشوا مصادر المال الذي بين يديك ولم يناقشوا اذا أوتيته شرعا او بخلاف الشرع. هم كانوا ينطلقون من ملاحظة للموجود ويدعونك لإشراك المحتاجين به. ما عندك يصبح حلالا اذا قررت العطاء. اي ان الذي تبدده على المساكين يزكيك اذ جعلت نفسك دائما في استعداد للعطاء.
# #
#
من هو الذي السارق يسرقه؟ في كثرة الأحوال هو فرد او مؤسسة او الدولة. الذ يمتنع عن دفع ضرائبه قد يعلل النفس ـ وسمعت هذا الحديث عن بعض ـ اني لن أعطي دولة مقصرة في القيام بواجبها تجاه البلد او يسرقها بعض من موظّفيها. لا نستطيع ان ندخل في هذا المنطق فلعلّك باستقامتك معها تعلمها ان تحق الحق وان تتفانى بخدمتك. ليس مقبولا ان تقول انا اسرق السارق كما ليس مقبولا ان تخون المرأة زوجها نكاية بالخائن. انت في السلوك مرتبط بكلمة الله التي تعرف انك بالنهب والسلب تؤذي من سلبت وتؤذي نفسك ثانية اذ استسلمت لضعفك وربما علمك الاختلاس وما اليه الكسل والبطالة. والمال لا ينتقل من يد الى يد الا مقابل عمل او كان إحسانا.
منطق الذي يسرق مؤسسة يعمل فيها يأتي من قول هذا انها لمؤسسة غنية ولن تفتقر اذا انا احتفظت لنفسي بمبلغ يزاد على راتبي فإن راتبي قليل. والمؤسسة قائمة على عدة اشخاص يديرونها. واذا كان عدد من الموظّفين يقول قولك
ويسعى سعيك الباطل فأنت مؤذٍ لكثيرين لا تراهم ولكنهم في الوجود.
الأفراد ليسوا يقيمون ـ على مستوى الملك ـ توازنا بين المالك ومن يشتهي ملكه فتخول المحروم ان يغتصب. والحائزون على شيء من المال هم عند المحرومين حارمون. المسيحية ليست مقرونة بأحكام يطبقها المؤمنون قسرا. المسيحية قائمة على الطوعية وهذه طوعية مقرونة بأمر صارم من الله.
في الديموقراطيات الليبراليّة الراقية ضمانات مختلفة تقوم الدولة بخدمتها ولعل اهمها في ما يعنينا اليوم ضمانة الإنسان العاطل عن العمل بحيث يحصل على حد ادنى من مستوى معيشته. هذا هو التضامن من في البلد او الكفالة الاجتماعية. وهذه كما تمارس تشجّع مبدئيا على الأمانة. واذا كان الى هذا ضمان الشيخوخة لا يحتاج الإنسان الى ما هو أكثر من هذا ليحيا في شيخوخة كريمة.
# #
#
في احوال كثيرة لا تأتي السرقة من حاجة ولكنها تأتي من طمع اذ قد يكون الميسور سارقا. والكتاب يقول ان الطمع عبادة وثن. لقد رأى يسوع الناصري الى المال على انه عبادة لرب آخر. واذا استثنيت الجائع على ما ورد في سفر الأمثال. تتوفّر في السرقات عوامل طمع يكون المال فيها طمأنينة وجود. السارق الممتهن ليس فوقه سقف. يرفعه الى اللانهاية لأنه جعل حياته قائمة على الارتياح المادي الذي لا حد له. وهذا كله مرتبط بالملذات التي نتوخّاها. واللذة تستدعي اللّذة.
وهذا كلّه إشارة الى اننا وقعنا في المادية العملية التي في طياتها طلب اللامحدود والاقتناع بأننا نوجد بما في أيدينا ولا نوجد بقلوبنا. ولذلك كان الشفاء من الطمع ان نتحوّل عما نحوزه الى اعتبار القيمة في وجودنا المحب المعطاء اي الى الذات العميقة التي يصنع الله عافيتها. فتكون وانت فقير فوق ما يملك جميع الناس لأن الملك لا يحددك والله يحددك بمعنى انه يغنيك بنعمه.
قد تبقى تواقا الى الحصول على شيء ان كنت معوزًا. اذ ذاك هذه شهوة مبرّرة ولكنك مع عوزك تبقى حرا من عوزك وراغبا في وجود لك قيم وصافٍ وحر.
هذا لا يمنعك ان تناضل في سبيل اترابك المحتاجين طلبا للعدل وشيء من الارتياح الاقتصادي الذي هو حق لجميع الناس. بعد كل الاختبارات الايديولوجيّة التي سقطت في القرن الماضي لم يبقَ احد يؤمن بالقول الكامل وان كان علينا ان نسعى اليه دوما لأن هذا العدل هو التحقيق الأسمى للمحبة.
هناك اذًا بعد اجتماعي لجهدنا في هذا المجال لا بد ان يرفع الضعفاء الذين يشتهون مال الآخرين. ليس يعني هذا ان الفضيلة ينالها الناس جميعا بسبب من التنظيم القانوني للمجتمع. غير اننا نقدر عند ذاك ان نقول مع بولس: «جاهدت الجهاد الحسن اكملت سعيي وحفظت الإيمان». الى هذا كانت التربية عنصرا هاما في حفظ الناس من الرذائل وكان الله دائما عونا للطامعين به، الجاعلين اياه ثروة قلوبهم.
Continue reading