دائما في التاريخ ما هو المحجوب، غير المقول. فالواقعة ليست هي الواقعة التي حسمت ما يكتب المؤرخون عنه. كان هذا دائما معروفًا قبل ان يكشف كارل ماركس ان الاقتصاد هو الذي ينشئ السياسة وانك مدعو ان تعرف ما يكشف السياسة من وراء الحدث. على سبيل المثال انقسام الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية وكل حدث كنسي ظاهر وراءه دول متصارعة او دول ناشئة تتمرّد على اوضاع امبراطوريات قائمة. لولا تحالف لينين والدولة الألمانية مثلا لما استطاع السفر من سويسرا الى بطرسبرج ليقود الثورة.
هنا يلعب الدين دورا رئيسا. هل بالدين وحده انتصر صلاح الدين الأيوبي وهل بالمسيحية وحدها جاء الافرنج ليحتلّوا دار الاسلام؟ والأذكياء يعرفون دائما كيف يهيجون الجماهير بقوة عقائدها والمطلوب آخر. والعقلاء الأصفياء الأذكياء يعرفون بدورهم فصل الشأن الديني عن الشأن السياسي ابتغاء السلام.
الدول ليست جمعيات خيريّة مهما تظاهرت بالمثالية. نحن الذين عشنا زمن الاستعمار كنا قد قرأنا عن اتفاقات فرنسا والسلطة العثمانية لحماية كاثوليك الشرق. وكنا نفهم، آنذاك، في الاطار التربوي الذي كنا فيه، ان هذا كان حماية للأقليات من السلطان التركي. هذا كان في القرن السادس عشر ثم عثرت في مجلة اختصاصية عن رسالة بعث بها الملك لويس الرابع عشر الى قنصله في احدى مناطق البلقان اي حوالى مئة سنة بعد هذه الاتفاقات برسالة يذكره فيها ان حماية المسيحيين في السلطة انما هو اساسي لمصالح فرنسا.
في هذا الخط كشف امين معلوف في كتابه عن الصلبيين ان بعض الامراء العرب في العهد الافرنجي كانوا «فاتحين» على الافرنج ضد الخط السياسي الاسلامي. ليس المجال ان املأ هذا المقال بأمثلة من كل العصور وفي كل بلدان العالم. القصة ان السمكة الكبيرة تأكل الصغيرة وقبل الافتراس يجري حديث بينهما عن وحدة جنس السمك.
هل يعني هذا انه لا مفر من هذا الابتلاع ومن المحادثة المهيئة له وان السياسة البادية غطاء لسياسة كامنة وان السعي الذكي وحده هو ان تحمي نفسك من الآخر. وبعبارة اخرى ان ثمة تعايشا ظاهرا وان الحقيقة ان كل فئة تسعى الى ضمانة استمرارها ما امكنت الضمانة في تاريخ الناس. وما من شك ان الثقة تضعف لعاملين: اذا تبيّن ان جماعة تنمو وتتقوى في حجم غير مسبوق و/او ان قوة خارجية تدعمها سعيا منها الى النفوذ. واذا تضاعفت القوة بالنفوذ قد تتلاشى الثقة كما تتلاشى ثقة السمكة الصغيرة بالكبيرة في لحظة من حوار السمكتين وقد تأتي سلاسة الحديث بينهما استعدادا لإلغاء الحديث بالموت.
# #
هل حان وقت الثقة بين الكبار في لبنان بعد ان تعرض التوازن الى اختلال ام ان اذكياء الأطراف المتعارضة يعرفون ان السلم الأهلي قائم على توازن لا مفر منه لكون الحياة احب الينا من الموت ولأن الموت ولو اختفى حينا يعود حينا آخر؟ ولست اقصد بالموت القتال الذي هو فشل السياسة تأسيسا على ان الاذكياء يرون ان الحياة المهتزة مهما تعسّر سيرها تبقى في الفقر والتشنّج افضل من التقاتل علما بالخطر العظيم الناتج من التوتر الداخلي. واذا بقي الامر متروكا لأهل البلد فهم يؤثرون التفاهم لأنهم يخشون الدم والغريب لا يدفع ثمن هذا الدم. ولكن هذا يفترض ان كل فريق يتخذ مسافة مع من يحالفهم ويؤثر الشقاء مع اهل بلده على الاستقواء بالاجنبي.
هذا يعني تحييدا ما للبلد عن الصراعات الاقليمية والدولية وهذا يعني افتراقا رضائيا في الأزمات بين اللبناني وحليفه وفي بعض من التشريعات المدنية ليس من طلاق بالتراضي ولا سيما ان التراضي كثيرا ما كان غائبا عن العلاقات الدولية ونعود الى صراع السمكتين.
المسألة المعقدة هذه اذا اردنا في الحقيقة الا نموت، ان يتفاهم اهل البلد على توازن متجدد بين الافرقاء اللبنانيين يحفظ لكل فئة من البلد نفوذها ولو صغر حجمه اي لا بد من اتفاق على ان نصغر معا وان نكبر معا على معايير يتم الاتفاق عليها. هناك لا بد من شكل جديد للتعايش او على صيغ جديدة في بلد يبدو انه قرر البقاء على الحياة. فهل اذا تجاوزنا الحياد العملي فيما بيننا نقدر ان نصل الى حياد بمعناه الحقوقي المتعارف عليه في سويسرا اي ذلك الذي يعترف به الجيران وفي وضعنا ان تقره سوريا واسرائيل بحيث تضمنان حريتنا الكاملة علاقات هدوء ونضمن لها نحن عدم محاربة الجار بعد اتفاق تضمنه المجموعة الدولية وهذا بعد حل الأزمة الداخلية القائمة.
الحياد بمعنى اللاحرب بهدنة طويلة او سلم نهائي لا يعني شيئا على مستوى التعامل الاقتصادي او المشاعر او الانتساب القومي. فنحن بتركيبتنا التاريخية واللغوية لن نبقى على مسافة واحدة من اسرائيل وسوريا. ان تهادن لا يعني انك تعشق فنحن في الصميم نرفض الصهيونية فلسفة ومسلكا وتوسعا على حساب اية ارض عربية ونؤمن انها جسم في هذا الشرق هجين حتى لا اكرر ما كتبته غير مرة في اوربا ان هذه الدولة «حُبِل بها بالاثم وولِدت في الخطيئة». ومع ذلك نعرض صلحا او معاهدة عدم حرب لأن هذا في مصلحتنا. العداء الشعوري يبقى عندنا وعدم التطبيع الشعبي يبقى عندنا ولكن نتفق على السلم الواقعي.
ونبقى على الأخوّة العربيّة مع سوريا وقد نختلف كما يختلف الإخوة. ولكن الإخاء السياسي كالإخاء في الجسد يعني ان اخاك ولو احببته ليس هو انت. قول الحلاج: «انا من اهوى ومن أهوى انا / نحن روحان حللنا بدنا» مبني على ان ثمة ذاتين متلاقيتين على أقصى ما يكون عليه التلاقي. الندية على المستوى الحقوقي هي الكلمة. والندية في كل زواج هي القاعدة وفي التراثين الديني والمدني ان الحب يفترض ان يرى الزوج الى الزوج على انه آخر مع الاحترام المتبادل وهذا فيه الكثير من المساواة.
واذا صح كلام الرسول العربي عند لقائه امرأة متبناه زيد: «سبحان مقلب القلوب» نرجو ان يميل الينا قلب سوريا الأبدية والمجموعة الدولية اذا لم يبقَ من مجال للاستغراق في التاريخ والاعتقاد بأننا بلد واحد. حقوقيا نحن صرنا بلدين منذ اول ايلول السنة الـ ١٩٢٠. ولا ينطق لسان لبناني واحد اليوم مهما كانت موداته بأننا بلد واحد.
ولكننا لا ننسى التاريخ ولا الانتساب العربي الواحد وضرورة التعاون الصادق والنمو المشترك في الحياة الحضارية. وهذا كله اذا ذهبت عنا الغيوم السوداء من شأنه ان يتجدد ويقوى ومن شأنه ان يقنع الاشقاء السوريين بأن استقلالنا هو في مصلحتهم على كل صعيد. هذا الحياد اللبناني بالمعنى الذي اعطيته في هذه السطور لا يعني اننا نفقد حرارة المشاعر وواقع تعاون كامل وكبير. ويزداد تقاربنا ما ازدادت حرية كل بلد من البلدين ويأتي الخصب الفكري والاقتصادي بمقدار هذا التقارب.
هذا يعني توبة اللبنانيين جميعا الى وحدة بلدهم وإيمان متجدد بقدرته على البقاء والعطاء.
# #
#
غير ان هذا كله فقط ممكن اذا كنا على استقامة الرأي بالمعنى الموافق الحياة السياسية اي اذا اعتبرنا استقامة واجبا ملازما لوطنية نتربّى عليها وفق فكر لبناني قائم على تراث لنا أكيد. وهذا يرافقه طهارة عيش في المجال السياسي لا سيما الصدق في التعامل وإتقان وجودنا إتقانا كبيرا.
الاوطان كلها تُبنى تاريخيا وليس من وطن منزل. نحن شكّلنا انفسنا شعبا او شعوبا قادرة على الانسجام في واقع سياسي معقول ولا مجال لتردنا الى هويات مذيلة. لقد تشكّلت لنا هوية لبنانية قادرة على العيش في ظل نمط حضاري لنا معقول في العالم العربي وغير بعيد ان نعلو به خلال بضعة اجيال الى مستوى اوربا الغربية.
وعندنا كثافة تاريخ كافية لتمكننا من مستقبل تاريخي فيه شيء من القوة. ونحن نرفض تسطيح الذاكرة التاريخية ان كانت جامعة لكل اللبنانيين مع المحافظة على هوياتنا الدينية المنفتحة، الخلاقة على اساس مكافحة الانغلاق فيها دون العيش الواحد الذي ارتضيناه. هنا يأتي دور علماء الدين في الإسلام واللاهوتيين في المسيحية ونحن هادفون صفاء الرسالة الروحية حتى لا نموت اختناقا في هذا الوطن الصغير في حجمه، الكبير في دعوته.
Continue reading