Monthly Archives

February 2007

2007, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الأرثوذكسية / الأحد 25 شباط 2007 / العدد 8

في الدارج يقال له «أحد الأيقونات» اذ رُفعت الايقونات في الكنائس في الأحد الاول من صوم السنة الـ843 بعد ان شُنّت حرب طويلة عليها واضُطهد الرهبان والعلمانيون بالآلاف. ولكون تكريم الأيقونات بات عقيدة في المجمع المسكوني السابع المنعقد السنة الـ 787، غير ان الكنيسة لم تُقم عيدا للأيقونات، واعتَبرت هذه العقيدة المحددة اخيرا هذا اليوم «احد الأرثوذكسية».

السبب ان الصيام كله لا اساس له الا اذا كان المؤمن محافظًا على استقامة الرأي. هذا هو معنى الكلمة اليونانية الارثوذكسية. وهي كلمة قديمة جدا ظهرت قبل الانشقاق بقرون. وكانت تدل على جميع المستقيمي الرأي في الغرب كما في الشرق. وهي جاءت نعتا للإيمان فيقال الايمان الارثوذكسي ويقال الكنيسة الجامعة (الكاثوليكية باليوناني كما وردت في دستور الايمان). لذلك عندما نذكر «المسيحيين الارثوذكسيين» في القداس نحن نكون مصلين لأبناء كنيستنا ولا نكون مقصين المسيحيين الآخرين. نحن لا نعادي احدا. ولئن كانت كنيستنا جسد المسيح، فنحن لا نقصي الآخرين المؤمنين بالثالوث والذين حافظوا على الاسرار المقدسة.

نحن نعرف اننا مستقيمو الرأي لكوننا حافظنا على الإيمان القويم والتراث القديم الذي يشرحه. استنتاجا لذلك لا نريد ان نكون سلبيين ونحرم غيرنا من الناس. في النصوص القانونية عندنا بعد الهرطقات القديمة، لم نحرم بقية المسيحيين اذا حافظوا على الأساس، ونؤمن انهم إخوتنا في المسيح اذا كانوا معمّدين باسم الآب والابن والروح القدس. غير اننا لا نقول ان كل ما يعلّمونه موافق لما كنا عليه معا في الالفية الاولى. ونحن مع الكاثوليك (اللاتين) ومن يقول قولهم قد ألّفنا لجنة حوار نسعى معا الى معرفة ما كنا عليه في الألف السنة الاولى. وقد اجتمعنا مؤخرا في بلغراد لنصل الى ايضاح هذا الايمان القديم الواحد. ونرجو ان نصل الى يوم نقول الأشياء بصيغة واحدة.

غير اني ازيد على ذلك بأن ما نعلّمه نحن هو تعليم رسولي صافٍ وقد اوضحناه في المجامع المسكونية السبعة وانه ليس من تعبير خاطئ في كنيستنا. لذلك ليس من التعصب ان نكون متمسكين بهذا الايمان. الايمان وديعة سُلّمت مرة الى القديسين. وتستطيع انت ان توضحها، ولكنك لا تستطيع ان تغيّر جوهرها. نحن لا نزال محافظين على هذه الوديعة، وإن خرجنا عنها نكون خارجين عن الله. انت لست منتقصًا شأن الآخرين ان قلت انك مستقيم الرأي.

نحن نحب المسيحيين جميعا ونحترمهم وفي آن نقف موقفنا. ونحن لا نسعى الى ان نخطف احدا من كنيسته. له ان يجيء إلينا بحريته. ونريده ان يبقى في كنيسته لأن المصالحة ليست بين افراد ولكنها مصالحة الكنائس بعضها مع بعض.

نبقى مختلفين بقضايا اساسية او جزئية مع الآخرين. لذلك لا نختلط في القداس او في الخِدَم الروحية الأخرى لندل على ان العقائد التي نؤمن بها ليست سطحية لنضحي بها. فلا نظهر في القدسات واحدا اذا لم نكن في العقيدة واحدا. مع ذلك نصلي من اجل «اتحاد كنائس الله المقدسة»، وعندما نتحد في الفكر اللاهوتي الأساسي نُقبل الى المائدة المقدسة الواحدة.

فلنتمسّك اذًا بالايمان النقي الكامل ونحب كل إخوتنا في المسيح حتى نصل الى وحدة الحياة والفكر معهم ونرتشف من الكأس المقدسة الواحدة.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

وحدتنا المرجوّة / السبت ٢٤ شباط ٢٠٠٧

دائما في التاريخ ما هو المحجوب، غير المقول. فالواقعة ليست هي الواقعة التي حسمت ما يكتب المؤرخون عنه. كان هذا دائما معروفًا قبل ان يكشف كارل ماركس ان الاقتصاد هو الذي ينشئ السياسة وانك مدعو ان تعرف ما يكشف السياسة من وراء الحدث. على سبيل المثال انقسام الكنيسة الغربية والكنيسة الشرقية وكل حدث كنسي ظاهر وراءه دول متصارعة او دول ناشئة تتمرّد على اوضاع امبراطوريات قائمة. لولا تحالف لينين والدولة الألمانية مثلا لما استطاع السفر من سويسرا الى بطرسبرج ليقود الثورة.

              هنا يلعب الدين دورا رئيسا. هل بالدين وحده انتصر صلاح الدين الأيوبي وهل بالمسيحية وحدها جاء الافرنج ليحتلّوا دار الاسلام؟ والأذكياء يعرفون دائما كيف يهيجون الجماهير بقوة عقائدها والمطلوب آخر. والعقلاء الأصفياء الأذكياء  يعرفون بدورهم فصل الشأن الديني عن الشأن السياسي ابتغاء السلام.

              الدول ليست جمعيات خيريّة مهما تظاهرت بالمثالية. نحن الذين عشنا زمن الاستعمار كنا قد قرأنا عن اتفاقات فرنسا والسلطة العثمانية لحماية كاثوليك الشرق. وكنا نفهم، آنذاك، في الاطار التربوي الذي كنا فيه، ان هذا كان حماية للأقليات من السلطان التركي. هذا كان في القرن السادس عشر ثم عثرت في مجلة اختصاصية عن رسالة بعث بها الملك لويس الرابع عشر الى قنصله في احدى مناطق البلقان اي حوالى مئة سنة بعد هذه الاتفاقات برسالة يذكره فيها ان حماية المسيحيين في السلطة انما هو اساسي لمصالح فرنسا.

              في هذا الخط كشف امين معلوف في كتابه عن الصلبيين ان بعض الامراء العرب في العهد الافرنجي كانوا «فاتحين» على الافرنج ضد الخط السياسي الاسلامي. ليس المجال ان املأ هذا المقال بأمثلة من كل العصور وفي كل بلدان العالم. القصة ان السمكة الكبيرة تأكل الصغيرة وقبل الافتراس يجري حديث بينهما عن وحدة جنس السمك.

              هل يعني هذا انه لا مفر من هذا الابتلاع ومن المحادثة المهيئة له وان السياسة البادية غطاء لسياسة كامنة وان السعي الذكي وحده هو ان تحمي نفسك من الآخر. وبعبارة اخرى ان ثمة تعايشا ظاهرا وان الحقيقة ان كل فئة تسعى الى ضمانة استمرارها ما امكنت الضمانة في تاريخ الناس. وما من شك ان الثقة تضعف لعاملين: اذا تبيّن ان جماعة تنمو وتتقوى في حجم غير مسبوق و/او ان قوة خارجية تدعمها سعيا منها الى النفوذ. واذا تضاعفت القوة بالنفوذ قد تتلاشى الثقة كما تتلاشى ثقة السمكة الصغيرة بالكبيرة في لحظة من حوار السمكتين وقد تأتي سلاسة الحديث بينهما استعدادا لإلغاء الحديث بالموت.

#            #

              هل حان وقت الثقة بين الكبار في لبنان بعد ان تعرض التوازن الى اختلال ام ان اذكياء الأطراف المتعارضة يعرفون ان السلم الأهلي قائم على توازن لا مفر منه لكون الحياة احب الينا من الموت ولأن الموت ولو اختفى حينا يعود حينا آخر؟ ولست اقصد بالموت القتال الذي هو فشل السياسة تأسيسا على ان الاذكياء يرون ان الحياة المهتزة مهما تعسّر سيرها تبقى في الفقر والتشنّج افضل من التقاتل علما بالخطر العظيم الناتج من التوتر الداخلي. واذا بقي الامر متروكا لأهل البلد فهم يؤثرون التفاهم لأنهم يخشون الدم والغريب لا يدفع ثمن هذا الدم. ولكن هذا يفترض ان كل فريق يتخذ مسافة مع من يحالفهم ويؤثر الشقاء مع اهل بلده على الاستقواء بالاجنبي.

              هذا يعني تحييدا ما للبلد عن الصراعات الاقليمية والدولية وهذا يعني افتراقا رضائيا في الأزمات بين اللبناني وحليفه وفي بعض من التشريعات المدنية ليس من طلاق بالتراضي ولا سيما ان التراضي كثيرا ما كان غائبا عن العلاقات الدولية ونعود الى صراع السمكتين.

              المسألة المعقدة هذه اذا اردنا في الحقيقة الا نموت، ان يتفاهم اهل البلد على توازن متجدد بين الافرقاء اللبنانيين يحفظ لكل فئة من البلد نفوذها ولو صغر حجمه اي لا بد من اتفاق على ان نصغر معا وان نكبر معا على معايير يتم الاتفاق عليها. هناك لا بد من شكل جديد للتعايش او على صيغ جديدة في بلد يبدو انه قرر البقاء على الحياة. فهل اذا تجاوزنا الحياد العملي فيما بيننا نقدر ان نصل الى حياد بمعناه الحقوقي المتعارف عليه في سويسرا اي ذلك الذي يعترف به الجيران وفي وضعنا ان تقره سوريا واسرائيل بحيث تضمنان حريتنا الكاملة علاقات هدوء ونضمن لها نحن عدم محاربة الجار بعد اتفاق تضمنه المجموعة الدولية وهذا بعد حل الأزمة الداخلية القائمة.

              الحياد بمعنى اللاحرب بهدنة طويلة او سلم نهائي لا يعني شيئا على مستوى التعامل الاقتصادي او المشاعر او الانتساب القومي. فنحن بتركيبتنا التاريخية واللغوية لن نبقى على مسافة واحدة من اسرائيل وسوريا. ان تهادن لا يعني انك تعشق فنحن في الصميم نرفض الصهيونية فلسفة ومسلكا وتوسعا على حساب اية ارض عربية ونؤمن انها جسم في هذا الشرق هجين حتى لا اكرر ما كتبته غير مرة في اوربا ان هذه الدولة «حُبِل بها بالاثم وولِدت في الخطيئة». ومع ذلك نعرض صلحا او معاهدة عدم حرب لأن هذا في مصلحتنا. العداء الشعوري يبقى عندنا وعدم التطبيع الشعبي يبقى عندنا ولكن نتفق على السلم الواقعي.

              ونبقى على الأخوّة العربيّة مع سوريا وقد نختلف كما يختلف الإخوة. ولكن الإخاء السياسي كالإخاء في الجسد يعني ان اخاك ولو احببته ليس هو انت. قول الحلاج: «انا من اهوى ومن أهوى انا /  نحن روحان حللنا بدنا» مبني على ان ثمة ذاتين متلاقيتين على أقصى ما يكون عليه التلاقي. الندية على المستوى الحقوقي هي الكلمة. والندية في كل زواج هي القاعدة وفي التراثين الديني والمدني ان الحب يفترض ان يرى الزوج الى الزوج على انه آخر مع الاحترام المتبادل وهذا فيه الكثير من المساواة.

              واذا صح كلام الرسول العربي عند لقائه امرأة متبناه زيد: «سبحان مقلب القلوب» نرجو ان يميل الينا قلب سوريا الأبدية والمجموعة الدولية اذا لم يبقَ من مجال للاستغراق في التاريخ والاعتقاد بأننا بلد واحد. حقوقيا نحن صرنا بلدين منذ اول ايلول السنة الـ ١٩٢٠. ولا ينطق لسان لبناني واحد اليوم مهما كانت موداته بأننا بلد واحد.

              ولكننا لا ننسى التاريخ ولا الانتساب العربي الواحد وضرورة التعاون الصادق والنمو المشترك في الحياة الحضارية. وهذا كله اذا ذهبت عنا الغيوم السوداء من شأنه ان يتجدد ويقوى ومن شأنه ان يقنع الاشقاء السوريين بأن استقلالنا هو في مصلحتهم على كل صعيد. هذا الحياد اللبناني بالمعنى الذي اعطيته في هذه السطور لا يعني اننا نفقد حرارة المشاعر وواقع تعاون كامل وكبير. ويزداد تقاربنا ما ازدادت حرية كل بلد من البلدين ويأتي الخصب الفكري والاقتصادي بمقدار هذا التقارب.

              هذا يعني توبة اللبنانيين جميعا الى وحدة بلدهم وإيمان متجدد بقدرته على البقاء والعطاء.

#                  #

#

              غير ان هذا كله فقط ممكن اذا كنا على استقامة الرأي بالمعنى الموافق الحياة السياسية اي اذا اعتبرنا استقامة واجبا ملازما لوطنية نتربّى عليها وفق فكر لبناني قائم على تراث لنا أكيد. وهذا يرافقه طهارة عيش في المجال السياسي لا سيما الصدق في التعامل وإتقان وجودنا إتقانا كبيرا.

              الاوطان كلها تُبنى تاريخيا وليس من وطن منزل. نحن شكّلنا انفسنا شعبا او شعوبا قادرة على الانسجام في واقع سياسي معقول ولا مجال لتردنا الى هويات مذيلة. لقد تشكّلت لنا هوية لبنانية قادرة على العيش في ظل نمط حضاري لنا معقول في العالم العربي وغير بعيد ان نعلو به خلال بضعة اجيال الى مستوى اوربا الغربية.

              وعندنا كثافة تاريخ كافية لتمكننا من مستقبل تاريخي فيه شيء من القوة. ونحن نرفض تسطيح الذاكرة التاريخية ان كانت جامعة لكل اللبنانيين مع المحافظة على هوياتنا الدينية المنفتحة، الخلاقة على اساس مكافحة الانغلاق فيها دون العيش الواحد الذي ارتضيناه. هنا يأتي دور علماء الدين في الإسلام واللاهوتيين في المسيحية ونحن هادفون صفاء الرسالة الروحية حتى لا نموت اختناقا في هذا الوطن الصغير في حجمه، الكبير في دعوته.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

أخطار قائمة وعابرة / السبت ٢٠ كانون الثاني ٢٠٠٧

لا يسعك ان تعرف اذا كان من ظننته محتضرًا ذاهبًا الى الموت. بالرغم من اقتراب الموت يصوغ اللبنانيون نظريات في بلدهم. لبنان الرسالة، اية رسالة؟ الواقع المرير يذهب بنا الى الخيال وهو مكان التسلي الكبير والانفتاح على المجهول. كفوا عن التساؤل اي لبنان نريد لأنكم مهما أردتم لن يكون لبنان الا بكم، كما انتم على عصبيّاتكم وخذلاتكم امام تحديات التاريخ، لأنكم لا تريدون ان تتلاقوا. كل منكم يريد لبنان على صورة العظمة التي يقرأها في تاريخ طائفته. يأتيك بمعميات عن لقاء المسلمين والمسيحيين ولم أسمع أحدا يقول شيئًا عن عناصر هذا اللقاء او كيفيّة هذا اللقاء. اي لبنان؟ كلّكم يريد لبنان الماضي يأتيه من هذا الجبل او من صحارى العرب، يأتيه من هذا الكتاب المقدس او ذاك ولأنه يؤمن في أعماق نفسه ان الصورة التي يستلهمها من كتابه سيلصقها  على البلد فينشأ البلد. لا أحد يجيء من الكل الا اننا جميعا نتكلّم على الكل. كيف الاقسام بما هي عليه من تراث تصبح كلا؟ على اي اساس تحيا متشاركة. عندما ينص الدستور عن مخالفة العيش المشترك نستشفّ استشفافًا فقط انه يرفض مشروعا تقسيميا او مشروعا يؤدي الى التقسيم ولكنه لا يقول شيئا عن مدلول المشاركة او السبيل اليها. ويسحر اللبناني بالكلام على التعدد ولكنه لا يقول كيف بهذا التعدد يحقق شيئًا من الوحدة ولا يعرف شيئًا عن طبيعة هذه الوحدة او ابعادها او تطلّعاتها. اللبناني معجب بنفسه وبما يتصوّره كيانا له ولا يزال تاليا ابن الفكر السابق للوجود اللبناني. لا يحب الوجود. يحب التأمّل في الوجود ويعطي نفسه شهادة في الفرادة. يظن نفسه عالمًا بالآخر ولكن عنده ان الآخر يتكوّن بمقدار تشبهه به.

          هو مضطر الا يلغي الآخر ولكنه يتمنّى لو كان الآخر مثله لأنه هو النموذج. اللبناني يتلهّف الى الوحدانيّة التي فيها نجيء من قالب واحد ولا يجيء من الوحدة التي بها ننسجم بالآخر ولا نلغيه او عندنا شهوة ان يلغيه القدر بطريقة او بأخرى او ان يفنى تأثيره او يضمحل. اللبناني في اعماق نفسه تقسيمي او انقسامي. اللبناني شاعر بحيث انه كالشاعر يخلق لنفسه عالما خاصا به والشاعر عنده غواية عظيمة وعيشها اسهل من عيشنا في العالم كما هو في كل تمزيقاته وصدماته لأن هذا العالم في جراحه يتطلّب منك مواجهة وكل مواجهة تعرّضك الى الخطر او الى الصدق والى ان تكون واقفًا في الوجود.

#            #

#

          هذا الخلل الوجودي، الكياني في شعبنا يقتضي اولا الا نعتبر أنفسنا شيئًا كبيرا. لا بد ان نؤمن اننا نجيء من لبنان كائنة ما كانت ينابيع الفكر والإحساس التي يستقي منها هذا الفريق او ذاك واننا لسنا مرتهنين لهذه الينابيع ولا مرتهنين لما هو خارج الحدود. انا هنا لا أشير الى اية شريحة ولا اتهم اية شريحة. ولكني اقول إنه ينبغي ان نعيش في الحق الحاضر. لا أكسر القلوب. والخيّرون منا يجيئون من ينابيع كثيرة ومختلفة وقد تكون في كل نفس ميول متناقضة او متضادة. ولكن لنا ان نناقش كل فرد وكل جماعة في ما تدعيه ميزة لها فكل شريحة تحت التشريح ولها وجهها المجتمعي ولكن ليس من جماعة مقدّسة. ولكن اذا لم نطرح جدلية الوحدة والتنوّع نكون أسرى هذا او تلك ولا نؤلّف أمة في مسيرة التكون وغير هذا تراكم جماعات ليست في حالة التلاقي. وحالة كهذه تعني ان ما سماه الدستور عيشًا مشتركًا انما هو امنية وليس مسيرة.

          وفي هذه المسيرة نحن – حسب الدستور الأول- أمة لبنانية – أمة لبنانية ليست جزءًا من أمّة أخرى وهنا لست أشك في انتمائنا الى العالم العربي وقد تكرّس ذلك في الدستور الحالي. ولا مانع من ان نعطي معنى مزدوجًا لكلمة امة. غير ان علماء السياسة اصطلحوا على عبارة دولة -امة Etat- nation. ولكن ما هو اهم من مفهوم الامة مفهوم الوطن اي الارض ذات الحدود الدولية ووحدتنا في هذا الوطن وبهذا الوطن ومن أعمالنا فيه ان ننشئ  دولة واحدة ذات سلطان على كل التجمّعات الدينية على مستوى هذه الدنيا. اما ان نقول ان لبنان فوق طوائفه فيجب ان نعني ان مصلحته فوق المصالح الطائفيّة المنفردة ولا تعني روحيا انه اهم من كل طائفة لها علاقتها بالله، بهذا الإله الذي فوق الأوطان.

          هذا كله ليس فقط سياسة. هذا فلسفة وجود او اذا شئتم هذا تحول روحي وبتعبير اوسط هذا توبة وعندنا تعني اولا رجوعا الى الصدق الكامل ومحبة لكل الذين نعايشهم وذلك احتراما كاملا لما هم عليه من عقائد ورجاء لقاء انساني حر وتفاعل يومي لا يخفي خوفنا وذلك بسبب رجائنا ان الخير والبر قائمان في كل مجموعة وان كل مجموعة تستحق الحياة الكريمة وهذا ما يشكل وطنا اي ارضا وناسها فلا يحجب احدٌ أحدًا ولا يكم فاه ويبقي مجالا لمواجهات سلامية وشرعية في ديمقراطية ما ينبغي ان نبحث عن صورتها في معطيات البلد ليس وفق تراثاته المختلفة وحسب ولكن وفق تطلّعات واحدة لمنفعة كل المناطق في عدل كامل فيعتاد بعضنا بعضا ونذوق بعضنا بعضا ولا نتراص عدديا فقط ولكن نتداخل روحيا وعقليا وفي مجالات العمل وهذا ليس فقط سياسة ولكنه بنيان حضاري لا يقوم فقط على ذاكرات جماعية ولكن على تطلّعات الأزمنة الآتية بما هو توفيق الرقي العلمي والرقي الروحي معا.

#           #

#

          هذا يعني طغيان السياسة على حياة الوطن وان كان كل شيء يتصل بالسياسة بطريقة او بأخرى. في بلدنا السياسة ان تتدبّر شؤون كل شعبنا مجتمعا وان يتدبّر هذا الأمر الناس جميعا متمثّلين بمن يحسون انهم يمثلونهم مجتمعين. هي اذا تتنافى وسيادة اية طائفة كائنا ما كان عددها لأنها عند ذاك تحس بأنها هي الأفضل. والتواضع يمنعها عن ذلك ولو كان لها ميزات كثيرة تؤتاها من تراثها او خبرتها او نضالها. نحن في وطن نعطي بعضنا بعضا ما نتميّز به ولو كان هناك ما لا يُعطى بسبب من عقيدة او تاريخ. والوطن لا يعني ان نزيل عن كل شريحة لونها ولكن ان نقتبس منها ما يروقها اذ ليس من طائفة لا كبر فيها ولا بهاء. ولكنا نحن بما نعطي. وان لم نعطِ يعني اننا نخاف ومن استغنى بثروة روحية له يبددها لكي يدخل الكل باب العظمة الحق.

          وهذا يعني ان السياسة هي قبل كل شيء تربية نربي بها بعضنا بعضا فننتظر نمو الآخر ونسر لنموه اذ يمدنا هذا بشعور الاتكاء عليه. اما اذا كان بيننا التفاوت الثقافي عظيما فهو خطر على الوحدة لأنه يتضمّن شعور التمرّد على الوطن مجتمعًا.

          ولو كانت السياسة في كل شيء الا ان من اهم غايتها ان تسوس الاقتصاد اي عيش الناس بكرامة لأن نمو الانسان ليس بما يقوله في ادارة الشأن الوطن ولكن بما يعمل. ففي الانتاج الفكري او المادي بعد الرقي الروحي يحقق الانسان ذاته ويحب الارض التي فيها يعترف بقيمته اية كانت مهنته وايا كان مستواه العقلي. والسياسة العظيمة هي الاعتراف بأن هذا الوطن فيه طاقات طبيعية كبيرة وانه يجب تفعيلها الى الحد الأقصى لنعيش معا بعدالة وبأعظم ما يمكن تحقيقه من كفاءات. وهذا ما لم يدركه القيمون على البلد بصورة مرضية منذ الاستقلال اي ان البلدلم يكن مسوسا وفق المعايير المتعارف عليها في البلدان الراقية.

          وشعبنا اليوم فقير لا نزاع في ذلك اي انه غير حاصل على التقدير الذي يستحقه ولا على المحبة التي يحيا بها كرامته. انا اعرف اولادا لا يستطيعون ان يتعشوا واعرف اولادا سقطوا في ملعب مدارسهم لأنهم حرموا العشاء والفطور معا. وهذا لا يرصفنا مع البلدان الراقية. هناك حد ادنى من العيش هو حق لكل المواطنين. واذا ما ركزنا جهودنا على هذا العيش البسيط لكل من اللبنانيين تأخذ السياسة وجها آخر وتفقد الكثير من ثرثرتها. فلتكن مواجهاتها السياسية باغية الطعام والدواء وتدريس اطفالنا بما يجعلنا غير مهددين بالجوع لنستطيع ان نفكر ونقلع عن الهجرة ويكون حبنا للوطن مرتكزا لا على مدح الشعراء له ولكن على اعتراف الوطن بنا بشرا خلقوا على صورة الله ومؤهلين لأمور عظيمة.

          أفهم ان يكون الإنسان محتاجًا “والمحتاجون عندكم في كل حين” على قول يسوع الناصري ولكني لا أفهم في وطن يدّعي الفرادة والحرية ان يعج بالبؤساء. هؤلاء اخوتنا ولهم مثلنا جميعا الحق في حياة طيبة وعيشة عائلية هنيئة. هذا هو الخطر الحقيقي علينا واذا واجهناه بجدية نكتسب بحرية الحق وبركات السماء.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

الصوم غدًا/ الأحد 18 شباط 2007 / العدد 7

«لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض» مطلع تأملنا في رسالة بولس وفي الانجيل. فباقتراب الصيام وغدا بدؤه أحست الكنيسة انه ينبغي ان ندخل هذه الفترة المباركة بتذكيرنا بالفضائل لأنه لولاها ماذا يعني الإمساك. فبعد ان قال بولس: «قد تناهى الليل واقترب النهار» اخذ يذكرنا بأعمال الظلمة التي ينبغي ان نجتنبها، فذكر السكر والعهر التي يتطهر الناس اذا ابتعدوا عنها، وذكر الخصام والحسد لأنك إنْ صُمْتَ مع الجماعة كيف تكره احدًا.

اما من الانجيل فاخترت لكم قول السيد: «لا تكنزوا لكم كنوزًا على الأرض» اي لا يكن همكم ان تصيروا اغنياء. احيانا يصبح الانسان غنيا ولكن لا يجعل المال عشقه لأن معنى هذا ان الرب ليس الحبيب الوحيد عنده. ويوضح متى الانجيلي ذلك بقوله: «حيث تكون كنوزكم هناك تكون قلوبكم». المال يصبح خطرا ليس اذا جمعته بعملك ولكن اذا عبدته فصرت له عبدا، ويفسد، في هذه الحالة، قلبك ولا تشفق على الفقير. المادة تصير عندك اهم من الانسان، وتصبح انت بسبب قوتك مركز الوجود لأنك تكون متعلقا بذاتك وشهواتها وان تعظم وان يمجّدك الناس. وفي هذا خطر على خلاص نفسك اذ قال للفريسيين: «انكم لا تستطيعون ان تؤمنوا لأنكم تطلبون مجدا من بعضكم البعض، والمجد الذي من الإله الواحد لستم تطلبونه».

ما من شك ان احد اخطار الغنى هو انك تخاف على نفسك وعلى عائلتك وتريد ان تحميها من العوز، وهذا يقتضي مستوى من التملك في نظامنا الاقتصادي. ولكن هذا لا يتطلب الغنى الفاحش ولكن تملكا معقولا حسب الوضع الاقتصادي.

غير ان الخطر الأكبر هو انك تفتش عن صداقات في الاوساط السياسية والاقتصادية العالية لتستمد من هذه المعاشرة سلطة على الناس. تصير ملكا صغيرا في جماعتك وتسعى الى زيادة غناك لتكون اقوى من منافسيك وليقوى بك الناس اكثر مما يقوون بسواك. في الحقيقة انك تطلب مجدا باطلا يزول بموتك ولكنك تستمتع بهذا المجد في حياتك.

يسوع ما دعانا مرة الاّ نصبح أغنياء. حذّرنا فقط من الكبرياء الناتجة عن المال كما حذّرنا من الاتكال على المال، وهو يريد ان يكون للمؤمن متكله وحده بحيث اذا بقيت فقيرًا او صرت ميسورا وثريا يكون المال لا شيء في عينيك ولكن تستعمله من اجل عائلتك وقوتها وتعليم اولادك في احسن الجامعات اذا استطعت. هو يريد ان يكون المال عبدا لك لا ان تكون انت عبده.

ان الخطر الكبير هو في العبودية لأي شيء ولأي انسان. السيد قال: «تعرفون الحق والحق يحرّركم». انت تملك (في السماء) ما تعطيه هنا فاذا ازداد مالك تعطي بقدر ما يزاد. والمستوى الأعلى لهذا السلوك ما ورد عن الانسان الكريم في المزامير: «بدّد، أعطى المساكين فيدوم برّه الى الأبد». شارِكِ الفقراء لئلا يقعوا في ذلّ الفقر. شاركهم لأنهم إخوتك. امتنع عن بعض الأطعمة في الصيام لتحس مع الجائعين وتعرف انهم قد يكونون افضل منك. لا تحب الدنيا ولا ما في الدنيا. احبب المخلّص الجالس في السماء لتصير الى السماء. هذه كل غاية الصوم.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

الصوم / السبت ١٧ شباط ٢٠٠٧

في الكنيسة البيزنطية قرأنا الأحد قبل الماضي من انجيل متى مثل الابن الشاطر او الضال ويرصف الانسان نفسه مع هذا الفتى الذي أخطأ الى أبيه وغادر البيت واستهتر عائشا بالخلاعة. الكلمة العربية بحد نفسها تذكرني بالانخلاع عن الحب الأبوي الذي يكتنفني به ربنا مهما كان ضلالي. كلنا يعرف الخطيئة ولا يعرف كيف جاءته وقست عليه الا عند توبته. المثل الانجيلي حكاية يؤلفها السيد والسيد أديب في بشريّته يبسط الحقيقة الى البسطاء ليفهموا ويرتدوا والى علماء الدين كيف فهموا ايضا وتقوى قساوة قلوبهم. المثل ينشر الانجيل في الطاهرين ويقلق الذين آثروا الدنس وهم يعلمون.

         اما الاحد الماضي فرسم يسوع قصة اخرى يتحدّث فيها عن الدينونة التي يقوم هو بها. يقول السيد انه يجلس على كرسي مجده. لا فرق بينه وبين المجد. “وتجتمع اليه كل الأمم”. ولفظة “امم” مصطلح يعني هنا البشرية كلها ويدان من ظن انه ورث الشريعة وانها تزكيه. الشريعة تفضح فقط شقاءنا وتلزمنا الرحمة لنخرج من هنا وفي يوم الدينونة لا يدخل احد ببرارته ولكنه يدخل بالرحمة. هذا تعليم آبائنا النساك الذين جاهدوا حتى الموت ورأوا انهم “لم يصنعموا شيئا صالحا على الارض” وان الحنان الالهي فقط ينشئ فيهم ذلك البر الذي يجعلهم من ابناء الملكوت.

         المسيح ديان لأنه الضابط الكل. وكان على الكل ان يعرفوا انهم في يديه “الطاهرتين البريئتين من العيب” ولكنهم آثروا الدنس وهم في يديه. غير ان ثمة من وجد في الرب لذته وآثر عشرته على كل عشرة اذ يقول الكتاب ان الديان العادل يميز بين مَدين ومَدين، بين محب الله وعدو الله واذا خاطب المعلم الصالحين من الناس يقول لهم: “كنت جائعا فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني” الى آخر حسنة تقوم بها .

         ان يتماهى يسوع والانسان وان يجعل نفسه عديلا للجائع والمريض والسجين تعني انه لما ارتفع الى السماء لم يهمل اهل الارض لأن ارضهم بلا سماوية فيها تعود الى الظلمات الاولى التي كان عليها كون كان كقبضة يد ففجره شعاع من نور. لقد دخل الله الى هذه الأرض ليبيت فيها فيجعلها منبسط ضيائه.

         واهل الارض الذين يؤثرهم المسيح هم الفقراء الذين ايقنوا انه هو غناهم. ليس المحروم بحد نفسه مباركا ولكنه هو الذي اقتنع انه خسر حرمانه لما ربح الله. أصوفيا كان خطاب يسوع للمستضعفين ام لم يكن ليس هذا هو المهم. الأهمية كلها ان السيد المبارك اذا نظر الى اهل الارض انما يوحد نفسه بهؤلاء الذين لم يساوهم الكبار بهم، الذين استأثروا بكنوز الأرض التي اذا احبها احد يحب نفسه. يمكن ان تكون بلا علم، بلا قوة، بلا جمال، بلا ولد. افلاطون، شكسبير، دوستويفسكي، المتنبي انبهرنا بالتماعاتهم. هذه انسكابات بهاء. ولكن بهاء الله المشع في السماويات وضعه الله على وجه الفقراء والمرضى والمرميين على الآفاق كلها. كل شيء هم الضغفاء الذين تقبلوا الضعف الإلهي ليس من فوق الى تحت ولكن على مد الدنيا والتاريخ وفوق التاريخ.

#             #

#

         بالمقابل يقول السيد للصف الذي كان لاهيا بنفسه: “اني جعت فلم تطعموني… غريبا فلم تأووني… مريضا ومحبوسا فلم تزوروني”. يتعجبون كيف هذا: “متى رأيناك جاءعا او عطشانا او غريبا او عريانا او مريضا فلم نخدمك”. ظن هؤلاء الأغبياء ان يسوع بعد ان احتجب عن الانظار بارتفاعه الى السماء ترك الدنيا فارغة منه. يقول اللاهوت الارثوذكسي: “الخطيئة عدم الحس”. ان ترتكب هنات، ان تضعف نتيجة شهوة فهذا من ضعف الرقابة على نفسك. لا يعني هذا ان هذه الامور ليست رهيبة. ولكن هم يسوع الاول هو الآخر واذا مررت به ولم تره فأنت عديم الاحساس وخاطئ تحديدا.

         سأل بعضهم واحدا من الناس ذا مسؤلية ساطعة: اذا كنت محتاجا فلماذا لا تطلب. سمعته يقول: هم يرون حاجتي واعرف ان الطلب لا يتضمن بالضرورة شكوى ولا هو ذل ان اقمنا على الأخوة. ولكن الأجمل ان ينظر القوم اليك ويروك على حاجة ويشاركوك ما في ايديهم. عندئذ تحس انك وإياهم على مستوى واحد وتشاهد انهم شاهدوك. ولست تنوجد برؤيتهم ولكن برؤية الله الذي فيهم. الله، اذ ذاك، معطيك. جعلك الله في مرتبة لما جعل الحب يدفق عنك.

         عندما لا تشاهد المحتاجين انت تشاهد نفسك. تعتبر نفسك ممتلئة بذاتها لا بسكن الغير فيها. لا تعرف ان الآخر هو بالآخر. ولا تعرف ان ثروتك كلها والتراب الذي تدوسه واحد بعينَي الرب. اعرف كاهنا مسؤولا فهيما. قيل له: فلان في المستشفى يطلب ان تزوره. ما كان عالما بحالة المريض ولعلها لم تكن سيئة آنذاك. فلم يذهب ومات صاحبنا في تلك الليلة. ماذا كان المريض محتاجا اليه ليسمع؟ ما قوة التعزية التي كان من الممكن ان تنسكب من الكاهن الى قلب ذاك؟

#          #

#

         لماذا نقرأ هذا الفصل الانجيلي بضعة ايام قبل الصيام؟ هذا لندل على ان الصيام له: بعد عمودي وهو العلاقة بالله بالصلاة والإمساك والتركيز على الشأن الروحي والبعد الثاني الافقي وهو ان نحب قريبنا كنفسنا اذ لا تقدر ان ترى الحضرة الالهية فيك ما لم تحب الإخوة جميعهم ولا سيما المحتاجين. هناك طبعا تقشف وإمرة الانسان لنفسه بضبطها وتنقيتها والا جاء الصوم مجرد حمية. من الواضح ان شيئا من المبتغى ان تقمع ثورة الجسد على الكيان البشري الكامل حى لا ينخرط هذا ويتجزأ او يتبعثر وقد علمنا فرويد الكبير ان كل اللذائذ البشرية مرتبطة بعضها ببعض. ولذة اللسان هي على طريق هذا الانفلات.

         غير ان اهم ما في صومنا ان نحرم انفسنا الطعام كليا في بعض من النهار، وهذا يختلف بين كنيسة وأخرى وكم كنا نتمنى لو تمسك كل المسيحيين بهذا الانضباط الذي تسير عليه الكنيسة الارثوذكسية من القرن الرابع الميلادي. لنا في هذا خبرة نقدمها لكل اخوتنا في المسيح حتى يزدادوا قوة ونسكا.

#                 #

         الصوم مرتبط اذًا بالعطاء، بالمشاركة. انت تعطي الفقير مالك فيعطيك الرب حبه. وهذا لا يغنيك عن العطاء الموصول كل ايام حياتك على قاعدة انك مؤتمن على ملك الله الذي هو وحده الملك.

         الكنيسة المسيحية لم يبقَ فيها نظام التعشير قانونا ولا مانع ان يتمسك به من يشاء. ولكن اعطِ بكرم كبير. هذا يروضك كثيرا على المحبة.

#           #

#

         اما الدينونة التي صورها متى بهذا الشكل فقد قال عنها دستور الايمان: “وايضا يأتي ليدين الاحياء والاموات” ليس ان ابرز صفة في الله كونه ديانا ولكن لنوحي بأنه لا يستقبلنا الا بعد ان يفحصنا ونرى انفسنا عراة امامه بمعنى ان نحس بخطايانا الطوعية والكرهية وذلك على هذا العمق الذي يجعلنا الله فيه فنرتجف كلنا ونسترحم وتنقلنا اليه الرحمة لنجلس حوله مع جميع القديسن. في تعليمنا طبعا ان والدة الاله لا تدان لأنها ساكنة في المجد والشهداء يقيمون منذ الآن في المجد وشهادتهم دمهم.

         في كنيستنا ندخل منذ الاثنين القادم الصيام الكبير فنرفع اللحم والاجبان عن موائدنا والذي لا يمارسه او يمارسه قليلا فقد فوّت على نفسه ذوقا لله كبيرا وبهاء لوجهه عظيما. وابتغاء ذلك نكثف الصلاة ونحن العارفين بها نحس انها تغنينا عن طعام ولا سيما عن الطعام الذي نستلذه.  اجل “ليس ملكوت الله طعاما وشرابا بل بر ونسك مع قداسة”. الإمساك وسيلة والصلاة نفسها وسيلة غير انهما وسيلتان لكي ندرك البر مع القداسة. هذا ما نقوله في سحرية الأحد الخامس. ولكن لولا العطاء لا تكتمل القداسة. ولهذا بعد هذا الكلام تؤكد الكنيسة في آخر ترتيلة من الأحد الخامس: “المتنعّم بالرب والسالك في نوره هو لا يعثر”.

         هذا كلام في العشق الالهي. هذه معمودية بالنور. لذلك كان الموعوظون اي الذين يستعدون لاقتبال النور كله بالعماد كانوا يعتمدون في ليلة الفصح. كل خدمة الهية عندنا بسط  لمعاني الفصح  هذا الذي نعبر فيه مع المسيح الى السماء. نحن ليس لنا هم آخر. واذا حققناه حسب مشيئة الرب وكلمته ووصاياه فنحن منتصبون – منذ الآن بالروح- امام عرشه الإلهي. وعندما يجيء الرب يسوع ثانية الى العالم لا نصوم ولكن نقيم معه العرس الى الابد.

         بطريقة سرية يقول لنا المخلص في رياضتنا السماوية: “انا آتٍ على عجل” (رؤيا  20: 22) واذا صمنا حقيقة وفي صدق وحرارة لنا ان نقول له: “تعال ايها الرب يسوع” انه يجيء في كل رياضة لنا نقوم بها ليقوى حبنا له.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

أحد الدينونة / الأحد 11 شباط 2007 / العدد 6

قبل أن ندخل في الصيام ينبغي أن نمتحن قلوبنا. هل هي لله؟ هل هي مع الإخوة؟ سيكشف الله عمق نفوسنا في اليوم الأخير. ولكن في هذا اليوم يمكننا أن ندقق في سلوكنا. فقد يأتي اليوم الأخير غدًا.

في هذا المقطع يجلس ابن البشر أي المسيح نفسه على عرش مجده. سنكون مواجهين للكمال الإلهي الذي سيفحص دقائق النفس فيجدها ممتزجة معه أو غير ممتزجة. يجدها من حزبه أو ليست من حزبه.

هناك لا بدّ من دينونة، من قضاء لأن الله يعرف أعماقنا ونحن لا نعرفها بصورة كلية. نظن أنفسنا عظماء أو أشرارًا وقد لا نكون. لا بدّ من فحص.

هنا يعطي السيد صورة عن الدينونة. يُشبِّه الصالحين بالخراف والأشرار بالماعز، فيقيم الأولين عن يمينه والآخرين عن يساره. ثم يأتي الحوار مع الخراف: «لأني جعت فأطعمتموني وعطشتُ فسقيتموني»… الى بقية أوضاع العوز التي يذكرها هذا الفصل.

جواب الصالحين: «متى رأيناك جائعًا فأطعمناك أو عطشان فسقيناك…». في كل حالات العوز المذكورة هنا، يوحد يسوع نفسه مع المحتاجين. فَمَن أطعمهم يكون قد أطعم يسوع، ومَن سقاهم يكون قد سَقى يسوع الى ما هنالك من الحاجات التي ذكرها الرب.

أنت الآن -ويسوع في السماء- لا تستطيع أن تطعمَه. تطعم البشر. هو والناس المعذبون في الأرض إذًا واحد. الى جانب الصلاة، هذه طريقة اتصالك بالرب. عند وجود الفقير أمامك، يسوع هو أمامك. عندما تمد يدك الى الفقير، تكون واضعها وما فيها في يد السيد. كذلك كساء العريان وعيادة المريض وزيارة السجين. قد لا تعرف سجينًا معينًا. ولكنك دائمًا تعرف الجائع والمريض. هذه أمثلة عن الحاجة. المطلوب أن يكون قلبك متجهًا الى الآخر وألا تحنّ عليه فقط في الشعور. الشفقة لا تنفع. المطلوب العمل، التنفيذ.

ثم، بالمقابل مع الصالحين، الطالحون الذين يكلّمهم يسوع. كنت جائعا فلم تطعموني، عريانًا فلم تكسوني… الى بقية الحاجات. الإقلاع عن العطاء من قلب طاهر محبّ هو الإقلاع عن إعطائك ليسوع، وكأنّه يقول: إن تجاهلتَ المحتاج فإنّك تتجاهلني لأنّي أنا هو في وضعه المحتاج. أنا موحّد به.

ان اتصالك بي -يقول يسوع- لا يبلغ منتهاه، لا يتجسّد حقيقة ما لم تتصل بالمحتاج الذي يضعه الرب على طريق حياتك. لا بدّ أن تعرف فقيرًا أو مريضًا أو محزونًا. هذه من الحياة العادية التي يلقاها كل إنسان على درب حياته اليومية. فإن لم تعرف مريضًا وكنتَ قد ذهبت لزيارة صديق لك فسلّم على هذا المجهول في غرفة صديقك وكن لطيفًا به. هذه مناسبة لك لتعرف يسوع أكثرَ.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

السلام / السبت ١١شباط ٢٠٠٧

هل ما نحسبه وحيا او ما يحسبه سوانا وحيا يتكلم على وجود وطن؟ لست عالما إسلاميا لأذكر شيئًا في هذا الصدد ولكن ما استقر عليه الفكر الإسلامي حتى اليوم نظريا هو دار الإسلام القابلة للتمدد الى ما لا نهاية. هاجس المسلمين كان الحكم لا الوطن وهناك بلدان اسلامية مختلفة لا احد يحكم بإلغائها وجعلها بلدا واحدا واذا كانت الدولة من صميم الاسلام ام لم تكن – والقضية خلافية- فمما لا ريب فيه ان الاسلام يقول بالدولة.

         في المسيحية انتمى الأوائل فيها خلال اربعة قرون الى الامبراطورية الرومانية ثم لما نعتت بامبراطورية الروم بقيت هويّتها رومانية وشعر كل واحد بانتمائه الى مدينته او قريته ولم يكن وطن بيزنطي. لفظة بيزنطي ليست موجودة في التراث اليوناني. هي اختراع الاستشراق.

         ولكن بناء على العهد الجديد ذكر الكتاب وطن يسوع لما اراد الكلام على مدينته الناصرة ولم ينسب الى بقعة من الإدارة الرومانية تعتبر وطنه بالمعنى الحديث. الأرض كانت ملك الملك وحورب الناس ليصيروا فرنسيين وبعد إخضاعهم نشأ الشعور الوطني وكل ذلك في تمخضات الثورة الفرنسية لأن الأرض أصبحت هي الوطن بزوال الملك. فافتخار مسيحيين في اناشيدهم الوطنيّة هو من باب الواقع التاريخي ولا تدفعك الكنيسة الى الاعتزاز بقطعة من ارض انما تدعوك الى محبة البشر الذين يعايشونك على ارض واحدة وفق كلام بولس: بليس لنا مدينة باقية لكننا نطلب العتيدة (عبرانيين ١٢: ١4).

         بعد الانجيل عندنا نص لافت هو “الرسالة الى اهل ديوغنيط” كتبت على الأرجح في اواخر القرن الثالث تقول: “لا وطن ولا لغة ولا لباس يميّز المسيحيين عن سائر الناس. لا يقطنون مدنا خاصة بهم (الكانتون المسيحي…!) تراهم منتشرين في المدن اليونانيّة وغيرها وفقا لنصيب كل منهم… يقيم كل منهم في وطنه انما كغريب مضاف… كل ارض غريبة وطن لهم وكل وطن ارض غريبة.”

         مع غياب الانتساب الالهي الى وطن يؤكّد الانجيل الدولة: “ليس سلطان الا من الله… حتى ان من يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله” (رومية 13: 1 و2). ترجمة لفظة سلطان في اللغة الحديثة هي الدولة في بنيتها العصرية واهمية الدولة في الفكر الكتابي انها تؤمّن السلام كما يقول بولس في الفصل الذي أشرنا اليه من الرسالة الى أهل رومية. والإخلال في السلام عصيان لله وبسبب من رعاية الدولة للوطن ينتج من الإخلال بالدولة تشتت وضياع وخوف والمألوف انك لا تخل بالدولة الا بالدم. والوطن لا يبقى له معنى لك ان استبحت ان تسفك الدم فيه وإراقة الدم خير وسيلة لتفكيك الدولة وقد تكون احيانا وسيلة لتخريب الوطن.

#          #

#

         في الدولة الحديثة يأتي واحد ويذهب واحد لأن المعاصرين جعلوا القدسية للوطن لا للدولة. والدولة بالعربيّة هي ما يدول اي ما يتغيّر او يتحرّك ولذلك يقال عندنا بتداول السلطة ولكن القدسية ليست لمن يبقى او لمن يذهب. هناك حقيقة واحدة في الأخلاقيّات السياسيّة وهي السلام لأن السلام يعني في الحد الأدنى الإمساك عن سفك الدم وهذا أغلى من الدولة وأغلى من الوطن. ذلك ان هذين الأخيرين تركيبتان بشريّتان واما الانسان الذي تقتله فهو خليقة الله.

         اعرف كل الاعتراضات على ما اقول من تعظيم الثورة ومن تحسين حالة الفقير بعد الثورة ونظرية تحرير المظلوم. وأعرف نظرية توما الاكويني الذي أباح قتل الملك عند الضرورة القصوى ونظرية خلاص النفس في محاكم التفتيش ونظرية قتل المشركين. كل هذا لا يساوي قطرة دم لطفل او لبالغ.

         غير ان الدم يبدأ بالغضب وفق ما تقوله العظة على الجبل. وكل الذين يثيرون الجماهير يعرفون ان حظها في القتل كبير وهي في غالب الاوقات تشحن بشعار تفهمه او لا تفهمه الى ان تندم اذا عرفت الحقيقة. المهم ان يبقى حكم على شيء من الاستقرار فيه عسكر يغرس المخافة في قلوب الناس لأنه من المهم ان تخشى الحكم العادل او القضاء العادل وان تعرف ايا كنت اذا خالفت القانون انك تذهب الى السجن. الحكومة تتعامل والمواطنين العاصين  للشرائع لئلا تزول الدولة التي هي قرينة السلام. بسبب من ذلك لا تعني الديمقراطية شيئا ان لم تعنِ القوة، والقوة التي اباحها الله ليست الاستبداد وحكم المحاسيب. الديموقراطية ليست نقاشًا اكاديميا لا ينتهي وليست هي كنيسة بين يديها ادوات تنفيذ. العدل بلا قوة هو فقط كلمة من القاموس اللبناني.

         كلنا يعلم ان الجندي لا يتعاطى السياسة ليكون لكل الوطن وهو يعلم ان في هذه الدنيا سلطة لا يناقشها حامل البندقية اذ هذا يؤهله ان يقتل ويغتصب الحكم. الجيش يحرس الوطن اذا حرس السلطة التنفيذية. هذه هي الطريقة المتاحة لحماية الحكومة وتاليا لحماية الدولة.

         الحكومة اية كانت تشكيلتها تعمل لكل المواطنين، من يرى مثلها ومن لا يرى مثلها وهي خادمتهم جميعا والغاية من هذه الخدمة العامة ازدهار العيش والثقافة والوحدة الوطنية ضمن الصراعات السياسيّة. وغاية الغايات السلم الأهلي. والسؤال في الديموقراطية هو كيف تعزز الوحدة الوطنية ضمن الاختلافات القائمة.

#            #

#

         هنا يأتيني التأكيد ان سلامة الناس اعظم من اي موقف سياسي. فلا بد ان نكافح التوتر الى اقصى حد ممكن لأن من شأنه القتال او ما يهيء له. ليس من قضيّة واحدة مهما بلغ شأنها أثمن من سلامة المواطن.

         ان تصل الى الحكم ليس غاية. فالثورة التي هي الحماسة الكبرى تأكل بنيها وفي بلدان عديدة منذ الثورة الفرنسيّة يتآكل الثوار ويحاكمون بعضهم البعض. وما تشاهده غالبا ان الفساد بعد بضع من السنين يقضيها طاهرون في الحكم يدب فيهم وترى الى عدم التغيير، الى الاستكانة في الحكم ولكني ادعو الى النقاش في اقرب ما يكون الى هدوء الطبائع واحترام الآخر وتقديس شخصيّته ان لم يكن من السارقين.

         قلت “مجتمع واحد” لأني لا احب كلمة مجتمع مسيحي الا من باب الوصف السوسيولوجي. لا يعني لي التراص المسيحي شيئا اذا كان يعني مواجهة للمسلمين. الزعامات المسيحية تحت الغربال ككل الخلائق العاقلة. وحدتنا في المسيح لا تفرض علينا الخيارات السياسية نفسها. الاخلاق المسيحية في سموها تؤلّف مجتمعا طاهرًا بين المسيحيين قد يكون قليلا او كثيرا.

         الى هذا ندعو الله لكي لا يتفرق المسيحيون احزابا متناحرة. والفكر يجعلهم يفترقون ولا سيما ان اذكياءهم كثر. ولكن لا اساس بشريا لأي خلاف بين الشيعة والسنة. السلام بينهم سلام لنا جميعا.

         كل شيء نسبي الا ان نبقى معا وتربطنا محبة عظيمة تنضم الى الاعتدال والعدل والمساواة لكي نتروّض على ان نصير امة الحق في لبنان.

Continue reading
2007, مقالات, نشرة رعيتي

رد على ذم «رعيتي»/ الأحد 4 شباط 2007 / العدد 5

ورد إلينا من مجموعة تسمّي نفسها «التجمّع اللبناني الأرثوذكسي» بعنوان مسجع «الحكمة الخفيّة في نشرة الأبرشيّة» مخصّص كلّه للطعن بهذه النشرة وذلك بلا توقيع، وفي الأصول لا يرد على نص غير موقّع باسم او اسمين. وبعد أن سمت هذه الورقة المسلمين الذين ساجلوا المسيحية، أطلّت على حسنات الكنيسة الغربية في تعاملها الفكري والمسلمين. ولستُ أريد ان أفحص ما قامت به الكنيسة الغربيّة في هذا المضمار غير أنّ مجمع الفاتيكان الثاني الذي تكلّم على التوحيد وعلى التقارب لا يبدو لي انه في موقع متقدّم بهذا الحوار.

وبعد مديح الكنيسة الغربيّة، جاءت هذه الورقة تتهمنا بأننا مدحنا الإسلام. وهذا بعيد عن الحقيقة. انت لك ان تستسيغ حقائق في القرآن والتراث الإسلامي وما فعله آباؤنا منذ القديس يوستينس الشهيد الفيلسوف حتى المدرسة الاسكندريّة يبين الاشياء الجميلة في وثنيّة العالم الإغريقي القديم لأنه كان يفتش عن كل نور في كل تراث لأن كل نور يجيء من المسيح في ايّة كتابة تحمل قبسا منه.

يأخذ علينا كتّاب هذه الورقة الذين لا نعرف أسماءهم أنهم أشاروا مثلا الى مقال في «رعيتي» عن «العذراء في القرآن» وقالوا قبل ذلك ان «العلاقة بين الدينين (الكاثوليكي) والإسلامي تقوم على أسس من الود والتفاهم». ماذا عملنا نحن غير ذلك؟ أليس المقال الذي أشير اليه «العذراء في القرآن» أبعد من الود والتفاهم. وبعد هذا يعد هؤلاء المؤلفون علينا سطورا في هذا المقال او ذاك، وخفاهم ان القصة ليست في عدد السطور ولكن في المضمون. السؤال يكون اذًا هكذا: هل في مضمون «رعيتي» ما يخالف استقامة الرأي؟ هل «رعيتي» تبنّت عقيدة اسلاميّة تناقض الايمان الارثوذكسي؟

ثم تأتي المغالطة: «لماذا نبقى على مسيحيّتنا ولا نعتنق الإسلام ان كان الأخير المعيار والمرجع القطعي لصحّة المسيحيّة». مَن قال في «رعيتي» هذا؟ ألم يجد الكاتب المثقّف اسلاميًا في الرد علينا ما يوطّد ايماننا المسيحي الارثوذكسي؟ لماذا نعتنق الإسلام اذا كان في هذا الموضع او ذاك من تراثه ان في المسيحية اشياء صحيحة.

ليس المجال في هذه الزاوية القصيرة ان ارد على كل مغالطة وردت في هذه الكتابة التي تذكر رابعة العدوية وما يقابلها في التراث المسيحي ولا سيّما السرياني فما قالته «عن الثواب والعقاب» وجدناه حرفيا في نسكيات القديس إسحق السرياني وهما كلاهما من العراق. في ظني انها لم تتأثّر به فقط في كلامها هذا، ولكنه جاء من الأديرة العراقيّة التي كانت تمتد من حيث عاش قديسنا اي في نينوى الى حيث عاشت هذه المتصوّفة اي في البصرة.

ثم ذكر الكاتب الارثوذكسي المتفقه في الاسلام شيئًا عن قربى بين الغزالي في «احياء علوم الدين» ولم يذكر الاستشهاد او الصفحة.

عودة الى الكنيسة الكاثوليكيّة المعجب بها صاحب النص، اود ان اقول له ان بضعة من كهنة فرنسا الكاثوليك قالوا بنبوءة محمد، وان بعضا من اللاهوتيين الغربيين ولا سيّما الالمان ابتدعوا علما جديدًا سمّوه «لاهوت الاديان» وفيه اكثر من إعجاب بالإسلام. فيه ان الوحي المسيحي ليس وحده الوحي وان هذا موزّع الى هنا وهناك. وهذا لم يقله ارثوذكسي واحد من شمالي روسيا الى الشرق الأدنى.

أين «الحكمة الخفيّة في نشرة الأبرشيّة»؟ ما هو العنصر المخفي؟ انا أتحدّى هذا الكاتب ليدلّني على سطر واحد في «رعيتي» فيه مأخذ واحد على إيماننا الارثوذكسي. وكل النصوص التي أشرنا اليها في التراث الاسلامي هي من باب اننا نُسَرّ للحقائق المنثورة هنا وهناك اذا كان فيها ما يمكن اعتباره استمدادا من المخلّص وإنجيله وآباء الكنيسة.

ثم أريد ان أُعلم هذا الأخ الارثوذكسي الكريم الذي امتعض من «رعيتي» بوضوح ان في هذه الأبرشيّة غير شخص واحد دارس للإسلام حتى مستوى الدكتوراه وان من بحث فيه بمقاطع قصيرة انما يعلن في بدء القداس: «مباركة هي مملكة الآب والابن والروح القدس».

ما غاية هذه الورقة المعتدية سوى زرع الشك في نشرة رعائيّة اعتمد اسلوبها معظم المطارنة في الكنيسة الأنطاكيّة وهي الى جانب الوعظ والتعليم اداة بشارة تصل الى كل البيوت والكثيرون من أربابها قالوا لي: «رعيتي» هي الوسيلة الوحيدة التي نُثقّف بها أرثوذكسيّا.

Continue reading
2007, جريدة النهار, مقالات

تسييس الله / السبت ٣ شباط ٢٠٠٧

قال الرئيس بوش غير مرّة انّ الله كلّفه وأمره باحتلال العراق وغير العراق. من اعتقد هذا انى لك ان تعالجه؟ اللبنانيون عندهم خفّة روح او ثقافة بحيث يعتقد بعضهم ان الله يكلمهم بهذه الامور ولكنهم لا يقولون. انا أفهم انّ المولى عزّ وجلّ يتنازل اليك ليشفيك من مرض لأنك خليقته وحبيبه ولكن ان يكون عنده سياسة للبنان او طائفة في لبنان فهذا عندي امر مضحك. الرب لا يعززك في منفعة لك دنيويّة ولا يعزز طائفة بحيث يعليها على غيرها وينصرها وتتبوأ به في مرحلة من التاريخ فهذا يضحكني اكثر. فالطوائف بشر والبشر اشقياء، متعبون ولا ينحاز الرب الى فريق منهم ولا دخل له في الحرب والسلم فهم يصنعونها بمقدار قدرتهم. والدليل على ذلك ان الدولة الواحدة تنتصر في معركة وتنهزم في أخرى. فأين أمانة الله لهذا القوم في حين وتواريه في حين. هكذا صلّى القسس الألمان لنصرة بلدهم في الحرب العالمية الاولى والقسس الفرنسيون لبلادهم في الحقبة نفسها وكل منها ظن انه فريق الله.

         لا مجال هنا لنذكر الحروب الصليبيّة واعتقاد الذين قادوها ان الله بعث بهم الى هذه البلاد. لماذا الله لم يتركهم فيها الى يومنا ولماذا اراد نصرهم واراد هزيمتهم؟ ولماذا تربح اسرائيل وتخسر اسرائيل؟

         هناك نزعة متأصّلة في البشر ان يجعلوا الله منقذا لمقاصد هم وضعوها. وكل شعب يعتقد ان الله حليفه يجعل نفسه شعبا مختارا. ومهما كان معنى العبارة لماذا انتصر العبرانيون مرات قبل مجيء المسيح وانكسروا مرات. الانسان يحتاج الى حليف وهو الذي يعلن الله حليفا له. لماذا بقي المسيحيون سبعة قرون في بلاد الشام اكثرية ساحقة واندثروا كليا في شمال افريقيا.

         في ظنّي ان من اسباب رقي الغرب منذ القرن الثامن عشر انهم درسوا الشأن السياسي عقليا وما اعتبروا نجاح الثورة الفرنسيّة اكليلا لله ولا مجيء بونابرت الى الحكم والملوك الآخرين  هبوط النعمة عليهم. لقد انتهى عصر النبوءة ولم يبقَ لله اليوم نصر ولا فتح والقصّة قصة سلاح وفهم سياسي وتقدم او تخلّف حضاري.

         وليس الله مع الشيعة او السنة او المسيحيين او سواهم في الحرب لأنه إله السلام او هو السلام كما تقول الكتب الموحاة. والجماعات الدينية او المعتبرة كذلك تلعب لعبتها السياسيّة بمقدار قوتها وما من احد يحمل تفويضًا إلهيًا لربح اي موقع وليس الله ضد خسارة اي موقع. واذا كان شيء من هذا فإنه محجوب عن فهم ايّ منّا.

#            #

#

         الله ترك لنا قيما روحية نسلك حسب مضمونها ولم يترك لنا خرائط عسكرية. الله ليس رئيس أركان. اذا قلنا هذا نعني ان الجيش المنتصر هو جيش الله. وهل يقود الله جيشًا آخر اذا ما انتصر وهل في الله مزاجيّة لينحاز؟ فإذا لم تتعلمن مقاربتنا للحرب والسلم فنحن في حروب حقيقتها دينية وظاهرها دنيوي. كان شارل حلو يقول ان حروبنا مع اسرائيل هي حروب انبياء. كان هذا عنده تعبيرا عن الطابع الديني الذي كان اليهود يطبعون به اعتداءاتهم. ولكن اي ولد يعرف ان الانبياء لا يتحاربون وان تفويض الانبياء اوراق مزوّرة يكتبها الناس لمصالحهم.

         اذا وضعنا الله جانبا عن هذه المسألة ودعوناه الى نفوسنا التائبة تزول الحرب لأنها عمل القلوب المليئة بالبغضاء. هنا لا بد من الرجاء وان نوقن اننا جميعا باقون لا بقوة السلاح ولكن بقوة المحبة بحيث تحس انك تعظّم الآخر وان محبته اياك تستبقيك في الوجود وان في الارض متسعا كافيا لك وله. هذا يفترض منك ايمانا ان الاخر لا يستطيع تهديدك ولو قال لأنك باق بالرضاء الالهي وانت اعزل وان لك رسالة له ولغيره على قدر ما انت زاهد بالدنيا وربما زاهد بالسياسة. كنت اقول لبعض اصدقائي المسيحيين: لما كنتم غائبين عن المسرح السياسي في السلطنة العثمانيّة كنتم اعظم ازدهارا في الفكر والابداع اي في امور تسري بلا سلاح وبلا مركز سياسي.

         انا ليس عندي دروس القيها على المسيحيين المسيّسين اليوم. هم افصح مني في مجالهم. واذا استطعت ان تبذل جهدا في دنيا الفكر والفن والنشاط الاقتصادي تزداد حاجة الناس اليك ويبقى لك فضاؤك ولهم فضاؤهم وتكتشفون معا ان العمل الانساني الكبير يحررك من الخوف وتاليا يحررك من الاتجار بالسلاح واستعماله. في الخمسينات على ما اذكر كان اندره جيد يحاضرنا في سينما روكسي في بيروت وقال لنا ان العالم صنعته الاقليات. لا تخف من الانقراض ان لم تهاجر. الانقراض يأتيك من التحارب ولا تخشى ان تنجب لأن هذا من مشيئة الله وهو يرزقك ويرزق ذريتك. لا تظن انك ستبقى بالدفاع عن نفسك الا بطرق السياسة الشريفة اذ يكون هذا دفاعا عن الوطن كله. وللناس ان يتسابقوا بالفكر وبالانتاج الاقتصادي وان يصفو فكرهم الروحي والفلسفي بسبب من النابغين فيهم وهذا مفيد للأمة كلها. اذا لم نهاجر خوفا فالمسلمون والمسيحيون قائمون في هذا البلد الى الأبد لأن الانسان غير الاناني وغير المترف يحب الاولاد وان يعيشوا معه وأمامه بالفرح والمعرفة. الطائفيّة ستزول من نفسها ان جاهدت كل طائفة على دروب العطاء والتقدّم. اذ ذاك ولو اتيت جسديا من اهلك الا ان سمو قلبك وارتقائك المعرفي يأتيان من كل الجماعات.

#           #

#

         اذا أصررت على ان تبقى من اهل الدنيا فقط فأنت على صدام فكل جائع  الى الدنيا يسعى الى ابتلاعها وحده. اما اذا اقلعت عن الشهرة فأنت مشارك والخبز، اذ ذاك، يبدو لك الخبز المادي دون خبز المعرفة قيمة.

         ان تنزع السلاح عن جعبتك يبدأ، عند ذاك، بتطهير نفسك وبجوعك الى الله والمعرفة والعمل الذي يأتي منهما. واذا ابتلعت الكلمة الالهية يستمدّها منك الآخرون فتحييون بها معا وتكونون جماعة تبتغي الطهارة التي هي اقوى عملا من المعصية. مشكلة الخاطئ انه لا يعرف عمقه. مشكلة المسلّح انه لا يعتقد كليا انه معرّض للموت وليس في الموت خلق على اي صعيد.

         في هذه البلاد ليس من مشاركة وطنيّة بيننا ما لم ننزّه الله عن ان يكون حليفًا لطائفة ما. الخطر هو من هذا الإله الذي تصطنعه على صورتك ومثالك. جهدك اذًا يبقى ان تعود الى الصورة التي رسمها ربك فيك لا الى صورة إله الحرب التي رسمتها لنفسك.

         والقضيّة لا تنتهي بقولك: هذه الفئة ليست مسلّحة. انا ليس عندي استخبارات لأعرف حقيقة الأمر. ولكن الخطأ ليس فقط في اقتناء السلاح ولكن في ان تشتهي اقتناءه. والخطر الأكبر اذا اقتنيته ان تعتقد ان يد الله على الزناد او انها هي التي ترمي القنبلة. ليس من وثنيّة عندي مثل هذه. انا لا ادعوك ان تكون علمانيا في كل مجالات السياسة. هذا ما اؤثره. ولكني ادعوك ان تنزه الله عن رسمه للحروب او قيادتها لأنك تسقط، عند ذاك،  في خطيئة استتجار الله لمصلحة لك وللجماعة التي تنتمي اليها واستتجار الله هو استعبادك فكريا لله وانت عبده.

         الخروج من استئجارك الله او تسييسه هو باب خلاصك في الايام التي نعيشها، انا لست مؤهلا ان اشير الى العوامل الداخلية والاقليميّة والدوليّة التي تتشابك لإماتتنا. نحن نموت في العمق من عدم عمق النفس او الفكر ومن عدم رؤية الآخر على انه أخونا ونموت من الخوف اي من غياب المحبة.

         كل شيء يبدو وكأننا لن نخرج من المحنة الا بعطف إلهي خاص.

Continue reading