المسيحيُّ والمصيرُ العربي / الأحد 21 كانون الثاني 1968
أين المسيحيُّ في بلادنا من المصير العربيّ؟ هذا السؤال يطرحه كلُّ إنسانٍ في دنيا العرب. والجواب النهائيّ عنه مرتبط بنوعيَّة الحياة الروحيَّة في دنيا الإسلام، وبنوعيَّة الفكر الدينيّ فيها، لأنَّ المصير يعيِّنُه كلُّ المعنيِّين به. ولا شكَّ في أنَّ العالم يرجو قيام نهضةٍ دينيَّة عقليَّة في الإسلام، يحملُها ناسٌ لهم منَ الإيمان عمقه وصدقه وأبعاده، التي تتجاوز الظرف والمحنة وردَّ الفعل، إلى الشهادة الكبيرة في عالم حديث.
ولكن، حسبُنا اليوم أن نطرحَ السؤال على المسيحيِّين. إنَّ لهم، إذا عقلوا، موقفًا من كلِّ مصير، لأنَّ المسيح سالكٌ على طرقاتِ الشعوب خفيًّا أو ظاهرًا. إنَّه حيث الشعوب تنمو أو تضمحل، تنجز أو تتخلّف. وهو، بخاصّة، طريحُ آلامها. بادئ بدء، لا يسوغ للمسيحيّ أن يحيد عن الحاسم.
ولكن، هل للعرب من مصير؟ لا أقول إنَّهم مخلِّدون في التاريخ، فقد ينطوون يومًا، والخطَّة موضوعةٌ لانزوائهم. المهمُّ أنَّ المسيحيَّ لا يكون خلوقًا إذا وافق، بصمْتِه أو تواريه أو أنانيَّتِه، على أن يغضَّ الطرْفَ عن مشروع القضاء على العرب كائنًا ما كان رأيه في رقيِّهم وصلاحهم. فإنَّهم مدعوُّون إلى الحياة لمجرَّد أنَّ قوى جبَّارة عاتية تسعى إلى غيابِهم. بسبب ذلك، المسيح نزيلهم، ضيفُ تاريخهم. فالسيِّد لا يضاف في كنيسةٍ أو قربان وحسب، لكنَّه ينضاف أوَّلاً في الألم. وما الكنيسة سوى شاهدة على أنَّه في ديمومة جرح. إنَّها هي حيث الدم، أيّ دم مهراق. فإن لم يكن عند العرب اليوم قوةٌ كافية ليصنعوا مصيرهم، وجب أن يكون المسيحيُّون هذه القوةَ لكونهم يرفضون إذلال الشعوب وتذييلها لفراعنة العصور. لقد عيَّنهم اللهُ مسؤولِين عن المصير العربيِّ، وهو مقحمهم فيه إذا افترضنا أنّهم خارجه. أضعف الإيمان ألاَّ نرى اليوم قضيَّةً تتقدَّمُ قضيّة العرب، أن نلتمس المسيح حيث هم مصلوبون.
قد يرى المسيحي العربي نفسه منتميًا إلى هذه القوميَّة أو تلك، أو قد يحسُّ بلادَ العرب جميعًا موطنه. أمر القوميَّة هنا لا يعنينا، وهو غيرُ قضيَّة المصير أصلاً. نحن لا ننطلق من دعوة وحدويَّة، وربّما لا نشاهد مسيرة واحدة للناطقين بالضاد. جلّ ما أقول إنّنا معًا أمام التاريخ في انحطاط أو في نهضة، معًا إلى مجدٍ أو هوان، وإنَّه يجب أن نبقى معًا بسبب التحدِّي للإنسان القائم في كلِّ عربيّ. إنَّ الصراع القائم في هذه المنطقة صراعٌ بين بشرٍ يريدون البقاء في التاريخ، وبشر مصمِّمين على طردهم من التاريخ، بين ناسٍ يسعَون إلى التخلّص من التخلف، وناس يبتغون جعلهم أجراء لأمة دخيل. الذي لا يحسُّ أنَّه ينتمي إلى العرب بصِلة يكون غير خلوق إذا رضي، بصمت مساوم، أن ينصر المستمتعين والمتملّكين على حساب المحرومين. معيَّة العرب، أن نحيا جميعًا في هذه المعيَّة شرطُ وجودنا الأخلاقيّ.
ما يحول دون اندراج المسيحيِّ في المصير العربيّ هو الخوف. آراء الوجل الموروث الذي يعانيه البعض، ربّما لا يرجو الإنسان الواقعيّ الشيء الكثير من شتات فكرٍ قوميٍّ لم تظهر علمانيّته بوضوح، أو قد توارت بعد تجليَّات عابرة. ولكنَّا لا نرى كثرةً ساحقة من النصارى يأخذون بالعلمانيَّة نهجًا للسياسة والتنظيم والتعليم. إنَّنا ننتظر بزوغ العلمانيَّة عند الجميع على حد سواء. وإذا كان ظهورها، في الأوساط الإسلاميّة، شرطَ اشتراك المسيحيّ بالتاريخ العربيّ، يعني ذلك أنّ المسيحيّ قد سلَّمَ مسبقًا أنّ المسلم وحده يصنع تاريخ العرب، وأنّه هو – أي المسيحيّ- يدخل عليه مترفًا بعد أن يكون قد جنى الثمار من أتعاب الآخرين.
لا يخفى أنَّ الإيمان بتعَلْمُنِ العرب لا نستطيع فرضه على أحد، ولا سيّما أنَّه ليس قريب المنال، وأعرف أنّ الالتزام السياسيّ لا يقوم على مغامرات خطرة كهذه. ولكنّ المسلمين بشر، والمحبّة تغريهم، ولا يستطيع أحد مقاومتها. إنّها أفعلُ من كل نصٍّ. ومما ييسِّر المحبّة أن يتعلَّم النصارى تاريخَ الإسلام، لأنّهم، إذا عرفوه، يدركون أنَّ تاريخًا آخرَ لم يتجاوزه في السماحة. ولعلَّ أكثر ما فيه من سلبيّة كان ردَّ فعلٍ على الحروب الصليبيَّة وعلى الاستعمار الغربيّ، أي أنّ سلبيته انطلقت أساسًا من أصالته. وإذا كان لا بدّ من الشهادة على الماضي بالحقيقة المتواضعة التي تحرّر وحدها، للاحظنا أنّ ما قاساه المسيحيّون من المسيحيّين فاق، بصورةٍ رهيبة، الشدَّةَ التي تحمَّلها أهلُ الذمّة في بعض حقبات الحكم الإسلاميّ.
Continue reading