بكركي متمرّسة سياسيا منذ المثلّث الرحمات البطريرك اسطفان الدويهي، ورئيس طائفة غير اسلامية باللغة المألوفة عند اليونانيين في السلطنة العثمانية يدعى إثنارخوس اي رئيس الأمّة بالمعنى المصطلح عليه في تلك الفترة. كذا رئيس أساقفة قبرص عند الروم وهذا تغير مضمونه في مناخ الحداثة التي نحن فيها او اليها حيث نتجه الى التمييز بين الروحيات والزمنيات. وهذا موضوع واسع في الكثلكة الأوربية حتى ظهور العلمانية في مطلع القرن العشرين في فرنسا.
ولست في معرض إلقاء دروس في اللاهوت الذي أحمله من كنيستي وان أغبط هذا الرجل الدمث والحكيم الذي هو البطريرك صفير والذي حاول مثل أسلافه الكبار ان يمسك بزمام أبنائه من كل جانب في زخم حبه للبلد كله. ولا تنظير لي لهذا التحرّك الشامل حيث أهل الأرض يستنجدون بالسماء كما قال غبطته مؤخرا بعد ان تعب من بذل جهود منهكة في هذا البلد المستحيل والتوّاق بآن الى وجود كريم.
امام هذا اللقاء بين السماويات والأرضيات سألت مرة الصديق الكبير المرحوم الأب يواكيم مبارك كيف يلتقي عندكم شأن السماء وشأن الأرض؟ قال لي ما كنت لا أفطن به في تنشئتي الأرثوذكسية، قال: «الرعاة يهتمون بآلام الرعية» ففهمت، عند ذاك، أن ثمّة لقاء شرعيا بين المستويين. هنا وقف حديثنا اللاهوتي حتى فهمت ان تاريخ الموارنة الحديث تنادي فيه السماء الأرض كما تنادي اللجة اللجة على قول داود النبي. كذلك أدركت أن التلازم التاريخي في هذه الجماعة بين الأمر الإلهي والأمن الزمني هو التلازم بينهم وبين لبنان ولذلك قولهم ان بكركي صرح وطني هو من تراثهم لأن قوة الموارنة مرتبطة بازدهار لبنان جميعا.
هذا لا يعني ان همّ لبنان حتى التضحيات الكبرى ليس من احساس الطوائف الأخرى بسبب تربيتهم على لبنان منذ ١٩٢٠ ولكن يعني هذا وطأة الآلام على الموارنة تجعلهم يشعرون ان لبنانيّتهم تكليف يكاد يكون إلهيا.
لذلك ليس تجاوزا ان يحمل هذا البطريرك هذا العبء وأقولها في نفحة كنسية وليس فقط بسبب من نظام الملل الذي تركته لنا السلطنة ومارسه الانتداب بطريقة او بأخرى. ومع ان معاهدة فرساي قررت تجزئة الامبراطورية المقهورة انما لم تبعثر تراثها والسلطنة عرفت شعوبها وخصائصها ضمن مشاعر هذه الشعوب.
# #
#
بين يوم وضعي هذه السطور وظهورها اليوم أجرؤ ان أقول بتواضع وخفر ايها السيد الجزيل الطوبى والاحترام انحُ منحاك ولا تترك طائفتك منقسمة على مستوى زعامتها الدنيوية. انا موقن ان أبناءك متعبون ويريدون العيش الكريم ولا تهمهم السياسة. لا احد من الفقراء تهمه اصلا الا في سعيه الى إطعام بنيه وتربيتهم وأمنهم. بنوك، سيدي، أهم من زعمائهم ولا يناصرون هذا او ذاك الا من اجل العيش الذي وعدوهم به. وغير اعضاء كنيستك وراءك في السعي الى حرية لبنان وتركيز حياته الوطنية اذ بلا هذا يبقى جبالا وسهولا وبحرا بعد ان يكون خرج من التاريخ. نحن لسنا فقط مدى. نحن زمان وحركة زمان.
اعرف دقّتك في عدم رغبتك ان تناضل نضالا سياسيا وتحافظ فقط على الوطن في اساسياته. حاشا لي أن أوحي اليك بمسلك محدد وأنت أكبر مني وأسنّ ولكن أتمنّى ان تُخرج لنا من المارونية ذلك الدسم القادر ان يقوّينا في الهزالة التي نحن فيها قائمون. هنا إمارات (إشارات) تدل على ان كبار القوم لن يواجهوك بصدّ وكأنهم لا يرفضون لك موقفا فصلا ليقينهم بأنك لست مارونيا سياسيا بل ماروني وطني. المهم ان يقبل الكبار من رعيّتك هذا التوصيف وان يقدّموا لك ما هو أعمق من التحيات والتماس الدعاء.
انا أفهم مخاوف بعض والمجروح ترحمه. ولكني أتمنّى ان يحيط بك الزعماء الزمنيون من طائفتك. وشعوري عندما احاول ان أقرأ بين سطور الأخبار ان المواطنين جميعا وعلى رأسهم المسلمون يقولون في سرهم لك: «يا سيد، تشدد فنحن غرقى والبلد على قاب قاسين او ادنى من الحريق»، واذا فكروا بأولادك المختلفين يقولون هم لك آية من كتابك: «اضطرهم (اي الموارنة) على الدخول» اليك والى عشقك لبنان ولا تدعهم يتفرقون، واذا فتشوا عن رئيس «معقول» فليذكروا ان الحضسن أفضل من الأحسن وان لبنان حاليا لا يستطيع ان يختار الا انسانا جيدا من الموجودين.
# #
#
المتفوقون من الموارنة كثر واذا صلحت النيات وتجلّى الإخلاص لا بد ان يتفقوا على اثنين او ثلاثة ببركة السيد البطريرك وان عف عن تسمية واحد لأنه يأبى ان يخلط السياسة بالدين. مع ذلك اي راغب في الرئاسة ان كان قديرا، صلبا، مثقفا، نشيطا حسب التوصيف البطريركي لا بد ان يجمع عليه زملاؤه ويسترضوا رئيس كنيستهم وهو غير متحيز.
المهم ان يريدوا جميعا بأن ينجو لبنان وان يأتي هذا الرجل عاشقا للبنان، عارفا بتاريخه وحاضره وممتدا الى مستقبل بنّاء وان يكون في القوة نفسها محبا للشعب السوري جارنا العربي الوحيد. ولم اسمع منذ أشهر بشخص لا يدعو الى ازدهار الشعب السوري وصداقته. وفي هذا لا يزايد فريق على فريق. وفي هذا كلنا لا يزال متمسّكا بميثاق ١٩٤٣ والطائف الذي يكمله. من لا يريد الاستقلال لهذا البلد ومن لا يبغي سيادته الكاملة. ووثيقة الوفاق الوطني لم تعطل الأساسي في ميثاقنا الاول ولبه الاستقلال عن الشرق والغرب. هذا يرتب علينا حقوقا ويلزمنا بواجبات. وقبل كل شك يلزمنا بنهضة البلد من كل جانب ولا سيما الجانب الاقتصادي الذي اذا نما يجعل الناس في الرجاء ويدفعهم الى البقاء في البلد حتى لا يقال عن بلدنا فقط انه جميل ولكن يقال انه فاعل وحيّ.
اذا اضعنا فرصة النجاة في الاستحقاق الرئاسي نكون رمينا أنفسنا في المجهول الكامل وصراع مخيف لا يعرف احد عقباه. لا بد بعد هذا من بقاء خلافات نتجاوزها بالحرية والديموقراطية ومحبة بعضنا بعضا وهي اللحمة الاساسية عندنا لأن القوانين والمؤسسات على أهميّتها جافة بلا محبة. وهذا شعب لا تجوز فيه القسوة ولا يسوغ التباعد. وقد أثبتنا في الخلاف القائم أنه لم يبقَ من صدام حقيقي بين الطوائف لأن البلد يريد ان يعيش.
اذا لم يتيسّر لنا الإتيان بالرجل الأمثل فليكن بالأقل صالحا على المستوى الخلقي وفهيما للسياسة وتعقيداتها ومثقفا بثقافة عالية. اذا آمنا ان احدًا لا يريد ان يبيع البلد ويقوى على تماسكه ورؤية مصالحه فمثل هذا موجود في الطائفة المارونية ولا بد ان يراه الناخبون فيما هم يخلصون للدستور.
وبعد انتخابه تسير عجلة السياسة القويمة بانتخاب حكومة وسن قانون عصري لانتخاب مجلس النواب وقيام مؤسساتنا على الطهارة والعلم معا على ان يقرر كل منا ان يصبح مواطنا أصلح مما كان لأن المجتمع المطهّر هو أساس الحكم والحكم دافع لهذا المجتمع الى ما فيه رقيّه في التحرر من كل آثار التخلّف والعصبيّات الطائفيّة والقبليّة.
وفي هذا للاسلام والمسيحية دور عظيم بحيث نرضي الله ليس فقط في العبادات ولكن في المسلك الاجتماعي والسياسي لأن هذا ايضا من الدين وليكن المعلمون الروحيون والمرشدون والوعّاظ دعاة للوحدة الإنسانية المتينة في ما بيننا ولنختلف في شؤون الأرض في هذا التفصيل او ذاك وبدل ان نبني حياتنا الوطنية على الطائفيّة الشخصيّة المتوترة فلتُبنَ على السلام الداخلي الشخصي وعلى السلام بين الجماعات ولنحقق الايمان في الحياة الوطنية الواحدة كما نحققه في داخل النفس وليسُد الوطن نفَس روحي واحد فيه احترام وتقدير للمواهب التي عند الآخر ولنقتبس من الآخر كل جمالاته التي هي انعكاس للجمال الإلهي.
Continue reading