Category

محاضرات

2000, محاضرات

الإمام موسى الصدر / النبي شيت، 17 أيلول 2000

حدّد لي أن يأتي كلامي “قراءة” في محاضرة الإمام في كنيسة الكبوشية في بيروت وألقيت في الثامن عشر من شباط السنة الـ 1975 والمحاضرة -الموعظة إنما هي زاوية من زوايا مقاربتنا لعلاقة السيد موسى الصدر بالمسيحيين وعلاقة الجميع بالإنسان وهي لا تستغرق كامل البحث في موقف الإمام من المسيحية والمسيحيين. أظن ان من نحيي ذكراه فكريا عرف المسيحية والمسيحيين في لبنان. قبل ذلك يزين لي ان معرفته بهم استمدها بخاصة من الكتب وما أتى في القرآن والتراث الإسلامي عمَّن يسمَّون النصارى. في بلدنا فَهِم ما تقوله المسيحية عن نفسها. هذا التحول المعرفي كان ثمرة لرؤية الواقع. السيد موسى الصدر كان هاجسه الإنسان واستنهاضه وتحريره من الاستكبار والظلم وأعطي ان يحتك بالعيسويين الذين تجاوزوا المسيحية الطوائفية. وبفضل هذا التلاقي الكياني بين القلوب لم يبق الإمام أسير الكتب واستبق الخيرات في اليقين واستشراف إنسانية تتجدد بالحق.

ويبدو لي ان مجرد القاء هذه المحاضرة في بيعة من البيع ذو مدلول كبير فهذا جديد عند الطرفين. عند الآباء المسؤولين عن الكبوشية هذا اجتراء على كل مألوف وتخطي حدود القانون الكنسي أضف إلى هذا ان الفترة الزمنية كانت فترة الصيام الكبير وان الرهبان الكبوشيين لم يريدوا محاضرة عادية ولكنهم كانوا يسعون إلى عظة يتطهرون بها على طريقتهم في تنظيم محاضرات الصوم الكبير. المفارقة هي ان يقبل الكاثوليكي موعظة دينية في المعبد لا في قاعة الرعية المجاورة تأتيه من مسلم ليجاهد بها نفسه. اما المفارقة من قبل المحاضر فقبوله ان يتكلم في كنيسة فيها رموز عقيدة اخرى من منحوتات وصور اهمها هذا الصليب الذي بدا الإمام ملتصقا به -واذكر الصورة الشمسية تماما كما نشرت في الصحف- وهذا الالتصاق لم يقصده احد ولكن الكاميرا لم تسجل البعد في المدى بين الواعظ والمصلوب.

لماذا أحب المسيحيون هذا الإمام؟ في حسباني انهم رأوه رجلا محبا لا أثر عنده لأية عدائية، اجل كثير التهذيب حتى دماثة نادرة وخطا به الراجح انساني يهدف الى وحدة المواطنين بل الناس جميعا. احسوا انه يذوقهم بعضا من اهل الله. الكاثوليك آنذاك كانوا ورثة لمجمع الفاتيكان الثاني الذي بلغ الحد الأقصى من فكره في تقدير الإسلام نفسه وورثة للفكر الاجتماعي عند باباوات القرن التاسع عشر والقرن العشرين. قد يذهب المسيحي الارثوذكسي أبعد في مسعاه الى الفقراء وعنده ان ليس عند البشر ملك فالأرض ملك الله اي ملك الفقراء. والانسان منتدب الله في ادارة الملك ومؤتمن عليه. كان المسيحيون حساسين للفكر الاجتماعي عند الإمام وتاليا كانوا مباركين لحركة المحرومين. هم كانوا عالمين ان السيد موسى يرعى الشيعة اولا ولكن ما كان الشيعة وحدهم همه اذ كان يطلب الانسان اولا وفي صور ساعد الفقراء المسيحيين. في تأمل بعض منا كانت رعاية المحرومين منطلقا لتحرير كل المحرومين.

استهل الإمام محاضرته بدعاء والأدعية الإسلامية تحرك قلوب المسيحيين كثيرا بسبب من الروحانية التي تشع فيها وبسبب من الشعور الإلهي الصافي الذي لا يتقيد يتقليد مذهبي واحد. النص في استهلاله قيل فيه عن الله انه “يرفع المستضعفين ويضع المستكبرين”. هذا القول شبيه جدا بما ورد في انجيل لوقا: “شتت (الله) المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاء عن الكراسي ورفع المتواضعين”. نحن نعلم ان ثمة أحاديث قدسية قريبة جدا من العهد الجديد.

من اللافت قوله لله: “ووحدت قلوبنا بمحبتك ورحمتك”. من الواضح ان المراد بها محبة الله للبشر. هذه المفردة وردت مرة واحدة وذلك في صورة طه ولو جاء جذر “احب” كثيرا بمعنى حب الإنسان لله. المفردة القرآنية هي بامتياز “رحمة” ويبدو ان الإمام يجعل للكلمتين مدلولاً واحدًا.

وبعد الحمدلة التي وردت اربع مرات يقول: “ها نحن نجتمع بين يديك في بيت من بيوت تنسب اليك، وفي أوقات الصيام من أجلك”. هنا اعتراف بأن الكنيسة بيت من بيوت الله اي مكان يهيمن الله عليه وتقوم فيه الصلاة. وهنا اعتراف بأن الصيام الذي يقوم به المسيحيون انما هو من اجل الله بمعنى ان الإنسان يقوم به وان الله يتقبله.

بعد ذكر الله يعبر الإمام الى اننا “نسير جنبا الى جنب في خدمة خلقك” وكأنه يقول: ان هناك طائفة من الموحدين لهذا الإله تعمل معا لخير الخلق جميعا الى ان يقول: “الى بابك اتجهنا، وفي محرابك صلينا”. هنا لا يتكلم عن باب منظور او محراب مبني. انه يتكلم عن مسجد كوني قائم على العمل المشترك. نجتمع في هذا المسجد الشامل الذي لا يقوم عمارة هندسية وذلك في ما يعتبره وحدة الأديان ويريد بها طبعا ديانات التوحيد. وحدة هذه الأديان عنده قائمة على دعامتين: الدعوة الى الله وخدمة الإنسان وهما وجهان لحقيقة واحدة.

الاختلاف بين الأديان لا يراه قائما على اختلاف في المضمون او في العقيدة. يقول: اختلفت الأديان عندما اتجهت الى خدمة نفسها وعندئذ ازدادت محنة الإنسان وآلامه وكأنه يوحي بأن الحالة الدينية في كل دين تسمو او تهبط. تسمو الى حقيقة واحدة لاهوتية وناسوتية معا أي اذا عرفت ربها والإنسان معًا.

الحالة البدهية يحصرها في غاية واحدة: “حرب على آلهة الأرض والطغاة، ونصرة للمستضعفين والمضطهدين”. الفساد في النفس او في القلب ولا حديث عن تباين في العقائد وتبرز وحدة الأديان من حيث ان المبدأ واحد وهو الله والهدف واحد وهو الإنسان والمصير واحد وهو الكون. هناك لحمة اساسية عنده لا تنفرط بين عبادتنا لله وخدمة الانسان. الكارثة عنده حصلت لما نبذنا الله فأصبحنا فرقا قِدَدا اي كنا جماعات متفرقين. ونتيجة نبذ الله ان وزعنا الكون الواحد وخدمنا المصالح الخاصة وعبدنا آلهة من دون الله. وسحقنا الإنسان. عند الإمام تلازم بين عبادة الله وخدمة الإنسان وتلازم نقيض بين الشرك وقهر الإنسان.

يزين لي ان الإمام يقرر ان التوحيد اسبق من الشرك ومن تعدد الآلهة وفي هذا يختلف عن المؤرخين ودارسي الأعراق البشرية. وفي الواقع عرفت الحضارات القديمة شعورا انسانيا مرهفا. غير ان رؤية الواقع بينت في العصر الحديث ان غياب وجه الله يغيب الانسان ايضا. ترى ذلك في الفن المعاصر. اجل هناك ظاهرة تضحية وبذل كبير عند ناس لا إيمان لهم كما تجد عند بعض المؤمنين قسوة وقمعا واضطهادا. ولكن ما يمكن تأكيده ان الله تاريخيا كان مؤسسا للإنسان. بكلام آخر وبصورة عامة تزامل الله والرفق والحنان والخدمة.

لعل اقوى عبارة اتت في هذه الموعظة: “نلتقي لخدمة الانسان المستضعف المسحوق والممزق لكي نلتقي في كل شيء ونلتقي في الله”. افهم هذا هكذا: ذروة العطاء هي بلسمة الجراح للمعذبين في الأرض فاذا كانت الشهادة الاولى ان “لا إله الا الله” فإنها تبطل الآلهة الكاذبة وتبطل معهم الطغاة والمستغلين ضعف الضعاف فاذا بذلت نفسك للمهمشين يكون الله معطيك هذا ويكون ربك معطى بك للضعاف. ولا يبقى شيء آخر يُعمل.

بعد هذا أقر الإمام شرعية الوجود المسيحي باستناده الى الآية الـ 84 من سورة المائدة: “لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم امة واحدة”.  يقولها للمسيحيين مباشرة في قعر دارهم: اجد نفسي في وسط الطريق الى جانبكم. اجد نفسي واعظا ومتعظا، قائلا ومستمعا”. ارى في هذا منتهى التواضع ومنتهى العلم ايضا. لأنك ان لم تقف بآن معلما ومتعلما فأنت في صفوف المستكبرين ولست في صفوف العلماء. ان تحاور المسيحيين مسلما يفترض انك ترتضي ان تتعلم منهم. ان يرى موسى الصدر نفسه في الكنيسة لا تعني فقط انه ضمن بنائها الحجري ولكنها تعني في قراءتي انه تمنى في ان يكون روحيا داخل الرؤية المسيحية لله والإنسان والكون. هذا أبعد من التعاطي الذهني الذي لا يخلو من سجال. هذه رؤية القلب للقلب.

من أين يأتي ما في القلب؟ يجيب الإمام وكأنه كان يتوقع السؤال: اقتربنا من الينابيع. وهنا يذكر غضبة السيد في الهيكل على المتاجرين بالمقدسات ويذكر الحديث الشريف: “ما آمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانا وجاره جائع” ويرى صدى لهذين الصوتين عند بابا رومية: “ان المسيح والفقير شخص واحد” ويتخذ هذه المواقف صرخة ضد الأنظمة الغاشمة ثم يستشهد بما يبدو حديثا قدسيا: “انا -اي الله- عند المنكسرة قلوبهم. انا كنت عند المريض عندما عدته، وعند الفقير عندما ساعدته الخ… هذه طبعا صياغة اخرى لما جاء لعظة الجبل في الإنجيل: “كنت جائعًا فأطعمتوني”.

ترى الإمام يتهادى بين الإيمان والانسان. يجيء من واحد الى آخر ليبين ان للإيمان بعدا سماويا من حيث انه “يعطي الإنسان اللانهائية في الإحساس واللانهائية في الطموح”. هذا الايمان يقيم في الإنسان وحدته ويشفيه ويقيم بينه وبين الموجودات لحمة ويقيمه في الجلال والجمال.

في هذه التأكيدات يرى السيد موسى الصدر الإيمان في عظمته ومطلقه. ولكن هل صحيح ان الكثير من المؤمنين متشحون بهذا الجلال ومتسربلون هذا الجمال. هذه الرؤية تزكي الإيمان ولا تزكي كل المؤمنين نحن نشهد لإيماننا ونخشى عليه الزوال او الضعف. لم يكن هينا على هذا المؤمن العظيم ان يرى مأساة المؤمن العادي، غير المُحيا بالايمان، غير المركِّز وجوده كله على الله.

غير ان ملاحظتي الأساسية ان الجاحد ليس دائم التعلق بالضرورة وليس بلا تنسيق بينه وبين الوجود وليس بلا فلسفة للوجود. وهناك ملحدون على قدر كبير من الأخلاق وبنوا مؤسسات انسانية تقوم على تضحيات عظيمة. في التحليل نرى ان لهم ايمانا ما غير الإيمان الديني يجعلون منه دينا لأنفسهم وهم يحسون بحاجتهم الى الله. في لبنان نتحرك في بيئة دينية ولكن من عاش في الغرب وقرأ آدابه يمر بأدبيات إلحادية واسعة وذات بنيان فلسفي جدي لا بد من مقابلة حججه.

وبعد ان يعرض الطاقات البشرية المولدة للحضارة يركز على موضوع الحرية. هنا تحسه مجروحا من غياب الحرية ويصور لك ان الإنسان بغيابها هذا يتقزم ثم تتقزم الجماعة. وتبلغ حماسته اوجها عندما يرى الاستبداد في سياسة الأفراد والشعوب، في ضغط اقتصادي او ثقافي او فكري، في سياسة الإهمال لإبعاد الفرص عن الناس، بعض الناس، وعن المناطق، بعض المناطق، في التجهيل.

لقد اختل نظام التوازن بين الاتجاهات المختلفة التي تصنع الحضارة. يقول: “السياسة والإدارة والسوق والعمران، لأنها لم تكن مبنية على القاعدة الايمانية، بدأت تنمو بصورة غير منسقة فتحولت الى الاستعمار والى الحروب وما الى ذلك.

ثم يضرب حب الذات وعبادة الذات والأنانية العائلية والقبلية، “الطائفة التي حولت بأنانيتها السماء الى الأرض”، الوطنية العنصرية. “هذه الأنانيات الموسعة كانت احاسيس بناءة لما كانت باقية ضمن حدودها الصحيحة ولكنها تضخمت وغدت دمارة. هذا الكلام عينه نجده عند الآباء النسكيين في الكنيسة الشرقية وكأن هناك تلاقيا بين اهل الزهد من الديانتين كأن الحياة الروحية مياه جوفيه تجري في القلوب المتطهرة لله.

لن اترك هذا المفصل دون ان اطرح سؤالا تاريخيا عن العنف الديني اعني العنف المنبثق من بيئات مؤمنة برّأت ابادة الشعوب الأخرى او قمعها باسم الله. الاستعمار الغربي في القرن التاسع عشر دعت اليه شعوب مؤمنة وافتُتح باسم الرسالة التمدينية وظهر من يجمع بين التبشير والاستعمار. واذا اردنا بحث موضوع العنف بصورة موضوعية فلِحظ بأسى كبير ان الدماء التي سكبتها الشعوب المؤمنة بالله اثقل بكثير من تلك التي سكبت خارج إطار التوحيد. القلب البشري مزاج من الإيمان والكفر، من المحبة والكراهية، من البذل والأنانية. التاريخ البشري ليس تاريخ اديان ولكنه تاريخ شعوب لها مطامعها وشعوب تتمرد عليها. التاريخ ذبح كله باسم الرب والقيم والرسالات او باسم العرق واللون والتفوق الحضاري او باسم ديكتاتورية الشغيلة او الحرية او تحرير الأرض. النفوس البشرية تقود ازمنة الناس وهذه النفوس فيها كل المشاعر ومنها الديني. حينا هو يطوع النفس واحيانا كثيرة هي التي تطوعه او تسكنه.

بعد رسم السيد موسى هذه اللوحة الحضارية يصل الى لبنان، الى انسان لبنان، الى كل انسانه ويريد كل طاقات هذا الإنسان وكل أبعاده. ويربط كل هذا بممارستنا احساسنا الديني الناتج من المبادئ التي عرض.

ينتقل من هذه الرؤية الشاملة الى ذكر الحرمان ومسؤوليته على الجميع. كان لا بد له ان يواجه مسألة العنف. في هذا يقول: “العنف، كما سمعنا، في سبيل الانسان، وبقدر الحاجة، وشريطة عدم الخروج على انسانية الانسان، مسموح بنص الكلمات”. هل أراد بقوله “مسموح بنص الكلمات” الكلماتِ الإلهية او شيئا آخر؟ وجب جلاء ذلك بالرجوع الى نصوص اخرى منه. السؤال الذي يطرح نفسه من هذه الفقرة الصغيرة هو من يقدّر الحاجة الى العنف او من يتحقق “عدم الخروج على انسانية الإنسان”.

هناك بالتأكيد النصوص القرانية المتعلقة بالجهاد الذي يقوم به المسلمون من حيث انهم مسلمون. ولكن هل من أساس لاهوتي للحرب القومية او الوطنية على عدو الوطن وهل هذه الحرب يقوم بها المواطنون على اختلاف دياناتهم؟ واذ ذاك لا يكون تحرك المسلمين ضمن مقولة الجهاد القرآنية. هذه تساؤلات تطرح نفسها من بعد ان قبل المسلمون باوطان متعددة الأديان.

في المقطع الأخير من المحاضرة-الموعظة ينتقل الخطيب من انسان لبنان الى مناطقه ليقرر انها أمانة في اعناقنا واعناق المسؤولين. “الجنوب والأماكن الأخرى أمانات يجب ان تحفظ بأمر من الله وأمر من الوطن”.

أمام هذه التحديات يستنتج الى انه علينا ان نحفظ وطننا لا لله ولإنسانه فحسب بل للإنسانية جمعاء ولنكون صورة متحدية امام صورة البلد العدد وكأنه يريد ان الصراع بيننا وبين اسرائيل ليس على مساحات اراضٍ، ليس صراعا سياسيا وحسب ولكنه صراع حضاري.

ربما كان من حق الإمام الصدر في مطالع السنة 1975 ان يرى للبنان وجها اجمل من هذا الذي عايناه في الحرب وفي السنوات العشر التي تلتها. واذا عدنا عشر سنوات في الذاكرة قبل تاريخ محاضرته لما أمكننا ان نفهم ان تصويره للإنسان اللبناني ونشدانه الإنسان كله كان قريبا من الواقع. ما كان البلد يخشى الثقافة وتحسس الحوار وكان الإمام من اولئك الذين اخترعوا الحوار المسيحي-الإسلامي.

ربما مكّنه هذا الحوار واتصالات اخرى كثيرة ان يتوجه الى المسيحيين الجالسين امامه في كنيسة الكبوشية في بيروت وان يسميهم مؤمنين ومؤمنات. هذا يتجاوز حدود المجاملة ليبلغ قناعة ليست كثيرة الانتشار وعبر عنها بقوله: “فلنحافظ على انسان لبنان لكي نحفظ هذا البلد أمانة التاريخ وأمانة الله”.

لا يرى الإمام أفقا سياسيا او حدودا سياسية خارج لبنان وكأنه يقول قبل غيره ان لبنان وطن نهائي لجميع ابنائه ويولي البلد اهمية كبيرة اذ يجعله وديعة من التاريخ ووديعة من الرب في ايدينا. هذا يحسب فضلا كبير لرجل لم يولد في لبنان واكتملت نشأته الفكرية خارجه. هذا الشعور لا يأتي الا من انفتاح رسالي عظيم ومن اندماج داخلي بهذا الوطن. يمكن ان يأتي بعض هذا من الفقراء. وقد يكون الرافد الآخر انه عرف محبوبيته لدى ناس من دينه وناس على دين آخر. المسيحييون الذين أخذوه إلى قلوبهم سمعوا منه لهجة لم تكن مألوفة في سماعهم وحركت قلوبهم دماثته النادرة وود لديه عظيم. كان يصغي كثيرا ويقول انه يتعلم من اصدقائه. اظن انه فهم ان لسان حال المسيحيين الذين اقتربوا منه كثيرا هو هذا: نحن نتمنى ان نتعامل مع إسلام هذا الرجل. لذلك يبدو لي ان موسى الصدر كان أعظم بكثير من خطابه وان الخطاب لم يكن ممكنا لو لم يصدر عن هذا القلب الكبير.

Continue reading
1998, محاضرات

التوبة الوطنية في لبنان. أين نحن منها؟ / اللقاء اللبناني – تعنايل / السبت في 13 تشرين الأول 1998

التوبة الوطنية، بدءًا من قبول الآخر واختلافه، هي أن نعود معًا إلى لبنان واحدًا وكما ينبغي أن يصير في احيائه نفسه على طريق علوه بلا انقطاع. التوبة تبدأ بتمنيها ثم تصير جهدًا فإقامة في التطلع إلى الآتيات الممكنة أو المستحيلة لكون المستحيل يصنع الممكن والمنظور اليه يصنع الآن.

رؤية لبنان الواحد تجلت من محنة الحرب. بلورتها آلامنا واعتقادنا ان الآخر قدرنا. ولكن اي قدر؟ أهو الذي تحكي عنه الروحانية المسيحية الشرقية عندما تقول ان اهل النار كان الحكم الإلهي عليهم ان يكون ظهر احدهم إلى ظهر الآخر حتى لا يراه. هل بتنا عكس ذلك وجها إلى وجه في التعارف والتبادل والتحاب؟ لقد اسلم اللبنانيون في وثيقة الوفاق الوطني فالدستور بعد الثوابت الإسلامية لنهائية الوطن، بمعنى اللاذوبان في الكيانات الأخرى. وهذا في جوهره لا يبدو لي الا تعبيرا آخر عن ميثاق 1943. ربما استلهم ذلك من كون الفريق المسلم يتبوأ الحكم بهذه اللبنانية فيزيل امتياز الآخر ليستولي عليه. اظن ان المسيحيين هكذا فسروا الموقف في باطنهم. الموقع الامتيازي يحتله حزب أو يأخذه زوج في المجتمعات الذكورية. احد يسود احدا تلك كانت القاعدة. ولكن الزواج القسري له ان يتحول إلى زواج حب فيما بعد. ويكون المسلمون أشاحوا بسيادة طائفة ليقيموا سيادة اخرى فظلوا اذًا على لمنطق الطائفي. ومل الموارنة الحرب أو يئسوا منها فأعطوا إلى حين ما كان لهم على ان يستردوه عند تبدل الأزمان.

يرفض الموارنة انهم كانوا قبلا يريدون امتيازات. قالوا ضمانات. ولكن من يضمنهم بعد ان يئسوا من الحمايات؟ ثم ماذا يضمن لهم؟ تصوري ان الهاجس الحقيقي يبقى عند اللبنانيين السلطة التنفيذية وتاليا التفوق السياسي. الإشكالية تبدو اشكالية حكم وتنازع عليه. لعل هذا آتٍ من تخيل المسيحيين انهم في قبول الاولية للمسلمين يحسون بأنهم غرقوا في البحر الإسلامي أو العربي الذي لا يدل شيء فيه على ان المجتمعات تصنع الحكم وكل فيه يشير إلى ان الدولة تصنع كل شيء. يضاف إلى هذا ان الصحوة الإسلامية أو الأصولية فيها هذا الصدق الذي يجعلها تقول انها تسعى إلى تطبيق الشريعة وتاليا إلى إقامة الحدود بحق اهل الكتاب كما تقيمها بحق المسلمين. المسيحيون يحسون بخطر الظلامية وتاليا بخطر الهجرة.

البعبع الحقيقي عند المسيحيين في اقتناعهم بأن عددهم قلّ وقد لا يكون هذا صحيحا إلى حد مريع. الطرفان في إشكالية التسابق وفي إشكالية الدولة اكثر بكثير مما هما في البحث عن التلاقي الاجتماعي الائتلافي. قلت هنا وهناك اننا لسنا مجتمعا منصهرا واننا مجتمع مؤتلف. الدولة في المساق الحضاري تأتي ثانية. قلت مجتمعا مؤتلفا في دولة واحدة ممكنة الاهتزاز لكوننا لونين روحيين ولو عشنا في ظل الثقافة العربية المنفتحة في إطلالتها الدائمة على العالم.

ما بقينا متباينيين على صعيد العلم أو التعليم فقد خطا المسلمون فيه خطوات جبارة منذ 40 أو خمسين عاما. أجل نحن مجتمع متعدد أو مجتمعات متعددة. مع هذا لا يشبه تعددُنا أو تنوعنا التنوع السويسري أو البلجيكي. اختلاف الاثنيات أو اللغات يعرقل سير الدولة إلى حد كبير أو صغير ولكن الاختلاف الكبير القائم بين المسيحية والإسلام يجعل كثيرا من رؤانا الانسانية والخلقية والدينية الأصيلة على كثير من الخلاف. اين يقف الخلاف ليصبح مجرد اختلاف؟

المحاولة الايديولوجية قومية كانت أم اشتراكية أو علمانية حاولت ان تحجب التباين لتقيم أرضية اخرى نقف عليها معا. نتجاهل الانتماء الديني ويبقى الاندماج في مكان تبيناه أو اصطنعناه لنقول وحدتنا فيه. في تأملي ان القومية العربية لم تبق فاعلة أو جامعة وليس من إمارة تشير إلى بعثها في المنظور القريب. وهي تعني وعيا قوميا دائما ورقيا مجتمعيا وتكنولوجيا وحرية ونقدا دينيا أو ارتضاء النسبية التاريخية في قراءة النصوص المنزلة وإدراك انسانوية على النسق الاوربي وفصل الدين عن الدولة ما يجعل القومية العربية بعيدة المنال وتستهلك جهودها اسرائيل أو تعرقل نهوضها بحيث انطوت العروبة بمعناها السياسي ولو بقيت أو اردناها ان تبقى ثقافة.

ولا إخالني مضطرا ان انعي سقوط الشيوعية أو انحجابها كلها على اختلاف فصائلها فهذا هو الواقع العالمي. ونحن نذهب إلى الحج بعد عودة الناس منه. كذلك لا احسب باننا ادركنا العلمانية مجتمعا ونفسيا وان كان لا بد من السعي اليها في تركيبة الدولة. الآتي هو العولمة التي نقدناها في غير مطرح وخوفي علينا منها انها آتية لا محال وانها سوف تكون محل تذييلنا للإعلام والمعلوماتية وتفريقنا ان لم نقاوم من شخصيتنا الوطنية. اخشى انها آتية وانها تأتينا بحلول قد تكون هي انتقالنا من مشاكلنا الحالية.

قبل هذا المتوقع نحن مضطرون ان نواجه مسألتنا الانسانية بصورة جدية وليس عندي وصفة لهذه المواجهة. اظن اننا كنا سطحيين في عصر النهضة لما قلنا اننا نقيم ارضا جديدة ليست الإسلام ولا المسيحية في تبنينا شعار “الدين لله والوطن للجميع” غير عارفين ان علاقتك بالله أو صورة علاقتك به وبأهل دينك من الأشياء التي تحدد العلائق في الوطن. العلمانية حل اداري لمشاكل الدولة وليست حلا فلسفيا. تجاهل الموجود الفاعل في النفوس لا يقيم مجتمعا واحدا.

على ضوء هذا لا يغري المسلمين ان يتوبوا إلى المسيحيين كما هم المسيحيون. ليس علي ان اقول اذا كان المسلمون هم كما هم لا ينبغي ان نتوب اليهم. الهزالة الروحية التي عليها المسيحيون، انغلاقيتهم في الطائفية والمجد الباطل القائمة عليه برجوازيتهم وانحدارهم الثقافي الحقيقي لا يجعلهم ساحرين. المسيحي لم يولد بعد في هذه البلاد ما خلا قلة طاهرة فهيمة مُحبة. ما القوى الروحية القائمة في الإسلام اللبناني؟ هل من احياء روحي فيه، هل من ثورة تفسيرية حقيقية لا تجتر الشريعة والفقه. هل من إبداع، هل من تأليه ما خلا المتقين البسطاء. على المسلمين ان يجيبوا اذا امتحنوا قلوبهم وما ينتجون. عند ذاك يلتقي المألوه بالمألوه ايا كان المعتقد. السيرورة الخلاقة هي إلى مسيحية متصوفة وإلى اسلام متصوف. اما النظم الدينية والعمل الفقهي والتفسيري المحض وعلم الكلام التقليدي في الإسلام والكنيسة في انشقاقاتها واكليروسيتها المغالية وزواجها بقبليتها وآحادية التراث في هذا المذهب أو ذاك وانطواؤها التاريخي كل هذا لا يجعلنا في الحرية المبدعة والحق المحرر والقدرة على لقاء المسلمين في اعماق الحب.

افهم ان تقولوا ان المجتمع يسوس الناس كما هم الناس. عند ذاك لا مهرب لنا من انسانوية علمانية وليبرالية واليوم يرى الناس اختناق الانسانوية اللاإلهية وانسداد الطرق امام الليبرالية الجديدة حتى بت اتساءل اذا صح تحليلي لسقوطنا الروحي العام ان كنا ايضا امام ازمة حضارية رهيبة تهدد الكبار قبل الصغار. التأزم الاقتصادي الكبير في العالم وتهافت العقائديات كلها لا يجعلاننا بمنأى عن كل هذه الأخطار. لذلك لست اومن الا بانبعاث روحي عظيم يجمل كل وجه فاذا بلبنان ملتقى الوجوه الحية المتجددة نبضارتها.

هذا يعني ان مشروعنا هو الناس لا الدولة وان صراع الطوائف فيها مرتبط بخشونة الطوائف أو ركاكتها كما هو عليه عنصرها الانساني اليوم.

امام هذا السؤال الباقي هو اننا هنا واننا نتعامل والنسيج اللبناني كما نلمسه. ماذا نعمل ببابل هذه أو بهذه البعثرة الرهيبة؟ هل يهب الروح في هذه العظام وينضم اليها لحمها كما يقول حزقيال النبي. افهم ان الوطن ليس ديرا وان السياسة فن تعاطيك لهذا الفتات. غير اني مدرك ايضا ان السياسة بلا ثقافة تفه كبير وان الثقافة بلا اخلاق فذلكة مترفة وانك تاليا امام مشروع حركة دائمة بين الدولة والمجتمع ذهابا وإيابا وانك في حركة تصاعد إلى الله وإلى رؤيته حتى تنزل منه إلى الانسان الآخر وانك في حركة صدق وتنزه عن الظرف وعن الموروث واستقلال عن جماعتك وحرية من تاريخك ورهبة امام الآتي واستشراف راجٍ له حتى تكون تمتمة الحروف الاولى من التوبة.

مع ذلك لا مفر لنا من ان نحيا معا. العيش المشترك ليس فقط قدرنا ودونه الانتحار ولكنه خيارنا الراجي. البلد يتوحد في اقتحامه الواحد للانسان على ضعفاته وإخفاقاته المتكررة. هذا ليس مجرد براغمية. البراغمية مراس لا بد من الكثير منه في السياسة. ولكنها ليست فلسفة. هي تحل لنا تطبيقا لأن البلد، كل بلد مريض. خطأ اللبنانيين اعتقادهم ان المريض يعالج اولا بالسياسة. لا، السياسة ليست اكسيرا. هي واحد من الأدوية. والعيش الواحد نحياه كثيرًا في الوطن الصغير. الفنون الجميلة والأدب الرفيع والتهذيب الذي ألفته كل مجموعاتنا بما فيه الذوق المشرقي الذي يجعلنا على رهافة كبيرة وهو عميم عائلاتنا الروحية لا ينبغي ان نستهين بها موحّدة. ارجو الا تجتاحنا الفردية الغربية التي قتلت مجتمعاتهم وأعمت بصائرهم عن المشترك وعن القيم الثوابت. ارجو الا تجتاحنا لئلا تفنى العائلة والضيعة والحي والتقاليد الانسانية في الفرح والترح وحرارة التلاقي.

على هذه القاعدة ينبغي ان نبني مشروع المجتمع المؤتلف اذا قبلتم هذا الاصطلاح أو المجتمع القائمة فيها عناصر ائتلاف وعناصر انصهار مثل التي ذكرت في عيشنا المتوحد. نحن في نمطنا الشرقي العربي على توبة مقيمة ولكني ناديت بالتوبة الدائمة التي الله مجريها ومرسيها. اني اومن ان لا إله الا الله واذا عكست الشهادة على ارضنا انا اومن بالإله فيك وبالإله فيّ كائنة ما كانت كتبي وكتبك لأن الرب اذا هيمن أو اردته ان يهيمن يقيمنا في ذلك الإسلام الذي تكلم عنه القرآن أو -اذا شئتم لغة اخرى- يعمدنا جميعا بروحه. كنيستنا الواحدة لبنانيين هي قدسية الانسان المتصاعد ابدا إلى فوق والتواق إلى الانسان الآخر في دعوته وبكارته.

غير ان التوبة الحق ليست مني إلى كتلتك التاريخية الجامدة أو منك أنت إلى كتلتي الجامدة. هي توبتنا جميعا إلى الفقير. مجتمعنا صار بالحرب مجتمع طبقات أكثر مما كان. واتسعت الهوة بين أهل الثراء الكبير والفقر الكبير. ودولتنا غافلة أكثر مما مضى عن المحرومين لظنها انهم ينتعشون آليا اذا اقامت هي بنية تحتية. ليس صحيحا ان الناس يفيدون على التساوي من الطرقات والجسور والمجارير والكهرباء وما اليها. ان السياسة الاقتصادية النيوليبرالية من شأنها ان تثري الغني والطفيليين الذين حوله ولا تحل مشكلة الطعام والمسكن والطبابة والمدرسة.

ان فقر الفقراء في حالة تقاعس الحكم هو الذي يدفعهم إلى اللجوء إلى طوائفهم ملاجئ انسانية رؤوفة ويحجب المجتمع الواحد. انا مؤمن بالأسرة الروحية مطرحا من مطارح الدفء البشري وقد دلت تجربة الضمانات الاجتماعية المختلفة في اوربة انها لا تغني عن الحرارة التي يجدها الانسان في عائلته الجسدية وعائلته الروحية. ولذلك لست ارى ان مؤسسات الدولة هي بالضرورة بديل عن المؤسسات الدينية المنفتحة التي تحب وترعى انطلاقا من إيمانها. انه غير صحيح ان المجموعات الدينية انها تغذي بالضرورة الانغلاق. لقد اثبتت معظم مدارسنا الخاصة انها تعامل طلابها في احترام كبير وانها قلما مارست الاقتناص الديني. المدرسة ذات اللون الروحي افضل من مدرسة لا لون فيها وفي كثرة من الأحيان عطاؤها اجدى من عطاء موظفين رسميين لا رسالية فيهم. الصراع عندنا لا يقوم بين المدرسة الخاصة والمدرسة العامة هذا اذا اعطي التعليم الديني بلا تشنج ولا تأكيد على كفر الآخر واذا كانت المدرسة وطنية. أنا لم اشاهد المدارس تزرع التفرقة والعصبية. الكثير من صداقاتنا قام في هذه المعاهد حتى في أيام الانتداب. ولكن البون الذي كنا نلمسه فيها هو البون بين ابناء العائلات المدعوة العريقة والعائلات الشعبية إلى اي دين أو مذهب انتمت.

مكافحة الفقر هو المشروع الوطني الأكبر. دونكم هذه القصة. كان البطريرك غريغوريوس حداد قائما على إعاشة دمشق في الحرب العالمية الأولى وكان يوزع الحنطة بالإضافة إلى ذلك في البطريركية الأرثوذكسية. مرة جاء اليه واحد من طائفته محتجا على المساواة في المعاملة بين المسلم والمسيحي. قال له البطريرك: أرني رغيفا فأتاه برغيف. سأله البطريرك هل تقرأ على هذا الخبز كلمة مسيحي أو كلمة مسلم. قال: لا. قال البطريق: أعطه اذًا لكل من سألك خبزا.

ان تجندنا في سبيل المحرومين هو طريقنا إلى مستقبل الانسان. الانسان الجائع يسكن فيه المسيح حسب قوله المبارك: “كنت جائعًا فاطعمتوني”.

لست ارى مخرجا من التفتت المجتمعي ومن التساؤل عن هويتنا الطائفية وعظمتنا المزعومة الا بإقرار هوية اخرى لست أقول انها خارجة عن المسيحية والإسلام ولكنها هوية الآخر. مسيحي هو الآخر. في هذا العطاء يرقى المعتقد الديني إلى صبغته الإنسانية. لا يصبح ذريعة للتقاتل. كم من مرة غطيت الحاجة بصراعات طائفية كانت وهمية.

تريدون أرضا واحده نجتمع عليها وننطلق منها. انها ليست الايديولوجية التي نحاول بها لغة أخرى. فاللغة موجودة. هي لغة المحبة التي لا خطابة فيها ولا انشاء. ان سحر لغتنا العربية يلهينا عن التخاطب الحق واللقاء الحق بين المحروم والمحروم حتى يمن الله على الأغنياء بلغة الرحمة.

إذا وجدنا هذه اللغة نكون قد تبنا أحدنا إلى الآخر ونكون قد شرعنا ببناء الوطن الذي ينشئك وينشئ الآخر. الصراع العقائدي الديني كما الصراع الطائفي يحيله الله إلى سر الحب. واذا قال القرآن: “وللآخرة خير لك من الأولى” ففي ادراكي لعمق الآية أقول: ان لك آخرة هنا وهي الآخر في سر فرادته وسر بهائه.

Continue reading
1994, محاضرات

المشاركة في القدسات / كنيسة مار مخايل – نابيه / الثلاثاء 17 أيار 1994

الكنيسة هي إمتداد للمسيح، غير أن الظروف التاريخية القاسية منذ 900 سنة عملت انقسامًا بين الشرق المسيحي والغرب المسيحي. وهذا الإنقسام يؤسف له جدًا. نحاول الآن منذ ثلاثين سنة أن نضمد الجراح وأن نعود كنيسة واحدة منظورة. بأعماق السيد نحن كنيسة واحدة. ولكن على مستوى التنظيم والترتيب صرنا كنائس منفصلة بعضها عن بعض، وكل الإرادات الطيبة وكل اللاهوتيين الكبار مع البطاركة والأساقفة في سعي إلى التوحيد.

ظهرت حركة تقاربية منذ ألف وتسعمائة وعشرين عندما اطلق البطريرك المسكوني بطريرك القسطنطينية إلى العالم كله حتى يتقاربوا. وكانت البشرية طالعة من الحرب العالمية الأولى. وسميت هذه الحركة فيما بعد بالحركة المسكونية التي تضم المسكونة كلها، وهناك مجالس أهمها مجلس الكنائس العالمي الذي يجمع المسيحيين للتوحد.

لقد طلب يسوع بعد العشاء السري من الآب السماوي أن يجعلهم واحدًا كما أنه والآب واحد. هنا في هذه المنطقة عندنا مجلس كنائس الشرق الأوسط، وفي كل كنائسنا لا سيما الأرثوذكسية والإنجيلية المفروض أن تجتمع للتقارب.

ما جرى من عشرين سنة عندما إجتمع وفدا الكنيستين الأرثوذكسية والكاثوليكية في رودس، وأقروا بمباحثات أخوية لرأب الصدع ولإنهاء الخلافات بين الكنيستين. وكان آخر إجتماع لهذه اللجنة في البلمند منذ حوالي سنة. ونجونا من محاولة إغتيال وهذه إشارة من الرب انه يريد أن يحفظنا ليس فقط من الموت ولكن من الخلاف.

تقاربنا بكثير من الأشياء والمواضيع وموضوع الأسرار والمناولة، وتقاربنا من موضوع الأسقف المحلي ومجمع المطارنة التنظيم الكنسي الأساسي. وبعد إجتماع البلمند صار بدنا نتصدى لمشكلة كبيرة هي مكانة أسقف روما، أو بابا روما في الكنيسة الجامعة قبل هذه الجلسات الكنيسة الكاثوليكية عقدت مجمع الفاتيكان الثاني الذي تصدى لموضوع ما كان مثار وهو موضوع المناولة المشتركة.

أحب الكرسي الإنطاكي ان أكون أنا مندوبًا في الوفد الإرثوذكسي العالمي.

الجو الذي جمعنا دائمًا في هذه الأحاديث كان جوًا اخويًا.

في المجمع الفاتيكاني الثاني قضية المناولة بين اعضاء الكنيستين، وقبل أن اصرح عن القرار الذي أصدره مجمع الفاتيكان، أريد أن اوضح أهمية سر القرابين المقدسة أو سر الشركة أو المشاركة أو سر المناولة.

 في الماضي بإستمرار هذا السر كان يعني إتفاقًا على العقيدة. فإذا شرد واحد عن الإيمان وهنا أتكلم عن البدع القديمة كالآريوسية والنسطورية، إذا أُعتبر شاذًا عن الإيمان يُخرج من الجماعة، لا يكون عضوًا في الكنيسة المستقيمة الرأي. في ذلك العهد، في عهد الهرطقات الكبيرة أي منذ القرن الرابع إلى السابع كانت كنيسة الشرق وكنيسة الغرب متحدتين بإستقامة الرأي. كلمة أرثوذكس لا تدل على طائفة معينة ولكن كل واحد إيمانه جيد صالح يكون أرثوذكسيًا.

أريد أن أذكر الغير المطلعين، أنه عندما يتم تنصيب البطريرك الماروني ُيذكر هناك الإيمان الأرثوذكسي أي الإيمان الصحيح.

قلت إن الذي يشد عن الإيمان يكون مكانه ليس مع أهل الكنيسة طالما هو ليس مشتركًا مع العقيدة الواحدة، ومعنى هذا أنه ليس مشتركًا مع القربان أيضًا لأن القربان هو التعبير الأسمى عن وحدة الإيمان.

يقولون عندنا في الدارج أنه عندنا خبز وملح معنى هذا انك لا تعزم واحدًا على سفرتك إذا كان من خلاف بينك وبينه. تسويان الخلاف وبعدها تقعدان مع بعضكما البعض لأن الأمور هي برموزها. يضاف إلى هذا أنها لما كانت كنيستان تختلفان ليس على أساس العقيدة لما إنفصلوا عن بعضهما البعض سنة 1054م، إفترقوا على أمور بإطارها الأنضباطي وأمور الترتيب ثم بعد هذا صار الإختلاف بينهما أعمق. والإختلاف بيننا بدا للمرة الأولى بشكله الصريح في مجمع الفاتيكان الأول المنعقد سنة 1870 م في روما حيث الكنيسة الكاثوليكية العالمية أوضحت رئاسة بابا روما على الكنيسة وعصمته عندما يتكلم عن العقيدة هذا الشيء الذي حدث في المجمع الفاتيكاني الأول برئاسة البابا عالميًا وعصمته أمر لا تقر به الكنيسة الأرثوكسية. لما سنكمل المحادثات سنتصدى له.

قلت بأن الذين شردوا عن الإيمان لا يكون بينهم مشاركة والمشاركة تكون باكأس الواحدة، ولكن ليس الشاردة على الإيمان ولكن الذين إنشقوا عن جسم الكنيسة وأردوا أن ينفصلوا. هؤلاء أيضًا لا يمكنهم أن يقولوا إنهم واحد مع الكنيسة التي لم تنفصل. على سبيل المثال إذا عصى كاهن اوامر مطرانه وحرمه المطران من إقامة القداس أي أخذ أمرًا تدبيري بحقه لا أحد من المسيحيين يحق له أن يحرمه من القداس لأن هذا الكاهن لا يقبل شرعيته إلا إذا كان منضمًا إلى أسقف شرعي. لما نشأ الخلاف بين الشرق والغرب سنة 1054م بطلت هاتان الكنيستان تشترك مع بعضها البعض، أي بطلتا تقدسان مع بعضهما. هذا الذي صار، هذا هو الذي حدث، وهذا هو النظام السائد، الأمر المتعارف عليه عند الكنيستين حتى نحل هذه الخلافات القائمة كل واحد يصلي بكنيسته ونكون إخوة بالمسيح، مثلما أخوان من عائلة واحدة عندهما بيتان كل واحد يقعد ببيته بدون أي زعل ويجتمعان مع بعضهما البعض. فالذي عملته الكنيستان في الوقت الحاضر أن الأمور التي ليس فيها أسرار مثل المآتم، مثل صلوات مسائية يعملها الكل، يأتي المؤمنون ضمن الكنائس المسيحية ولكن الكنيستان عندهما موقف صارم في موضوع المناولة. فالأرثوذكس ليسوا أشد صرامة او شدة من الكاثوليك. انا أتكام عن الصعيد الرسمي. لا أنظر إلى مشاهد العلمانيين. ولكن في موضوع المشاركة بالأسرار المقدسة حدد المجمع الفاتيكاني موقفاَ واحدًا وهو الذي يختص بالكاثوليك وقال بأن الكاثوليكي لا يقدر أن يتناول عند الأرثوذكسي. هذا قول بابا رومية والفا مطران الذين أجتمعوا معه. الكنيسة الأرثوكسية بالوقت الحاضر ريثما تنحل العقد بيننا أيضًا لا يذهب الإنسان الأرثوكسي ليتناول في كنيسة كاثوليكية.

منذ خمسين في لبنان كان موجود في كنيسة مار عبدا المشمر ببكفيا، في كنائس بسكنتا، في كنائس بيروت، لأننا كنا فقراء ولم نكن كلنا قادرين أن نبني كنائس. كان الأرثوذكسي يستعمل الكنيسة المارونية أو الماروني يستعمل الكنيسة الأرثوذكسية ولكن كل واحد يقيم قداسه على حدة. بمار عبدا المشمر ببكفيا كان يوجد مذبح سماه عامة الناس مذبح الماروني، ولما كان ينتهي الكاهن الماروني من أداء الخدمة الألهية كان يأتي الكاهن الأرثوذكسي ويقيم قداسه. وكانوا أخوان تظللهم كنيسة واحدة ولكن لا يجمعهم قداس واحد.

ولماأراد إخواننا الموارنة في بكفيا أن يقيموا ذكرى مرور مئة سنة على ذكرى تأسيس كنيستهم عبرت عن هذه المشاركة ولكن بمشاركة صلاة الغروب لأننا لا نقدر أن نقيم قداسًا وجاءت الرعية المارونية وحضرت القداس وكنا نحس معًا أننا إخوة وأعدت لهم الأيقونة التي كنا أخذناها عندما عمرنا الكنيسة في المحيدثة وجاء الكاهن الأرثوذكسي من المحيدثة ليعمل زياحًا في الضيعة واعادوا هذه الأيقونة إلى أهل بكفيا وفرحنا معًا بصلاة الغروب.

أذًا اهلنا القدامى في لبنان عرفوا بأنهم قائمون الغرب ولو أستعملوا كنيسة واحدة إلى أن كل واحد يحافظ على طقسه ويتناول في كنيسته إعرابًا عن إيمانه بالعقيدة فعندما تقول الكنيسة إن غير الأرثوذكس لا يُسمح لهم بالمناولة عندها، الكنيسة الأرثوذكسية موقفها هو ذاته موقف الكنيسة الكاثوليكية.

أضاف المجمع الفاتيكاني إستثنائيًا وقال إنه إذا تعذر على الإنسان الكاثوليكي ماديًا إذا لم يكن عنده كنيسة بمحل وأراد أن يتناول، فالكاهن الكاثوليكي يستطيع أن يذهب إلى الكنيسة الأرثوذكسية ويتناول فيها من طرف واحد.

لم يتم التشاور بيننا وبين البابوية من أجل هذا الموضوع. هم قرروا بأنفسهم هذا ووجدنا نحن تحت الأمر الواقع بأن يتقدم الكاثوليك من الكأس المقدسة. في السابق كانت توجد تدابير من الجهتين بيننا وبين الغربيين. فإذا كان الإنسان في حالة إحتضار ومات في قرية ليس فيها كاهن من مذهبه يستطيع أن يدفنه الكاهن الموجود. على سبيل المثال إذا واحد أرثوذكسي كان على شفيرالإحتضار يستطيع الكاهن الماروني أن يناوله لأن هذه ليست مشكلة الإنضمام إلى الكنيسة. هذا وضع خاص يتناول. إذا وجد أنسان كاثوليكي أو ماروني أو سريان كاثوليك وجد في كوسبا مثلاً في قرى حيث لا يوجد كنيسة كاثوليكية فالأمر الطبيعي أن يأتي كاهن أرثوكسي ويناوله وهذا موجود إلى يومنا هذا أو في حالات كثيرًا خاصة. مثلاً إذا ناول كاهن السجناء. السجناء هم معذبون كفاية. بكفي أن هذا الإنسان مسيحي. ولكن في الحالات العادية، أي عندما يكون الإنسان في كنيسة بضيعة، بمدينة فالأمر الطبيعي أن يذهب إلى كنيسته ولكن نحن حرصنا على أن الإنسان الكاثوليكي يبقى في كنيسته. حرصنا ناتج من إحترامنا للكنيسة الكاثوليكية. إي أن يكون العمل من شأنه أن يكون الإنسان يتربى في كنيسته وأن يُرمز هذا الإتحاد بالمناولة في الكنيسة الأخرى. هذا الإتحاد لم يتم والمناولة تعبير عن الإتحاد لأنها قمة هذا الإتحاد. الإتحاد يصير بالوحدة بين الإساقفة من الجهتين لما يُوقعوا على إنهاء باقي الخلافات. هكذا جرى بيننا وبين السريان الأرثوذكس والأقباط والأرمن، توصلنا إلى إتفاق كامل في ما يخص بالعقيدة. وقلنا إذا ولد إنسان في أرمينيا أو في مصر لا توجد كنيسة أرثوذكسية يقدر أن يتناول. هذا الإتفاق الذي جرى بين الأرثوذكس وبين الأقباط والأرمن والسريان، لم يجر بعد رسميًا بين الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة الكاثوليكية. ولذلك تريد الكنيسة الكاثوليكية إلى يومنا هذا أن يتناول أبناؤها فيها إلا بحالات خاصة وهي إحترمتنا كفاية وقالت: إن الأرمني الكاثوليكي والسرياني الكاثوليكي لا تقدر أن تذهب إلى اللكنيسة الأرثوذكسية وتتناول إلا إذا السلطة سمحت بذلك. ونحن في لبنان في حالة تشاور حولة هذا الموضوع. الكنائس الكاثوليكية في لبنان الممثلة بمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك إلى الآن موقفهم هذا. لم يسمحوا لإبنائهم أن يتناولوا عند الأرثوذكس ونحن نتعاون مع السلطة الكنسية الرسمية الكاثوليكية. لا نقدر أن نتعامل مع كل أنواع كاثوليكي يشتهي أن يتناول عندنا لأن علاقاتنا جدية ورسمية، نحترم الكنيسة الكاثوليكية، هي لا تريد أولادها أن يتناولوا معنا. إذا ظهر مؤمن واحد لرغبة في نفسه لأنه هكذا يتمنى نقول له: نحن نحترم رغبتك ومطرانك. لا نقدر أن نخالف موقفهم الرسمي تجاهنا. كذلك الكنيسة الأرثوذكسية الإنطاكية في هذه البلاد أخذت موقفًا صريح بقرارين وقالت إن المناولة محصورة بأبناء رعاياها وهذا موقفنا في كل مكان. بباريس بعدة كنائس أرثوذكسية من روس ويونان وبلغار أحيانًا يتقدم إنسان كاثوليكي يقول له الخوري الأرثوذكسي لا تقدر أن تتناول. الشخص يحترم هذا الموقف ويتصرف بكل محبة. من أجل ذلك لا أقدر أنا أن اخالف الكنيسة الكاثوليكية التي لا تسمح رسميًا.

عندما كنا مجتمعين في البلمند في حزيران الأرثوذكس قدسوا وحضر المطارنة والكرادلة الكاثوليك بكل محبة، ولكن لم يتقدموا إلى المناولة. أعطيناهم كنيسة الدير حتى يقيموا القداس اللاتيني ودخلوا إلى الهيكل وأقاموا القداس، ولم يتقدم أحد منا إلى المناولة. نحن لم ننتظر أن نتقدم وهم لم ينتظرونا أن نتقدم.

إذًا في الأوساط اللاهوتية خصوصًا مع المطارنة الموارنة المشاركة في القدسات أمر يتوج الأتحاد العقائدي.

أنا أدعو إلى تبيان ما يجمعنا والإعتقاد أن الإنسان الكاثوليكي بدو ينضبت بكنيسته والإنسان الإرثوذكسي بدو ينضبت بكنيسته ويطيع مطرانه. لما الأكليرروس والمطارنة يلاقون حلاً آخر وقتها نحكي. بالوقت الحاضر هم مقتنعون بكثير من الأشياء وبالفكر. متفقون على شيء واحد أنه ليس من مشاركة بين الرعيتين.

كل إنسان عنده إنتساب. يقدر الشخصان أن يكونا إثنين ولا ينصهران بعضهما ببعض.

حاليًا في العالم المسيحي يوجد هوية مذهبية لما الكنيسة بأعلى مقاماتها تقول: بطلنا المذهبية صارت هويتنا واحدة، صرنا كنيسة مسيحية واحدة. هذه المشكلة تنحل.

أنا اعتز بالإنسان الماروني الذي يصلي حسب طقوسه إذا فهمها. والإنسان الأرثوذكسي يصلي في كنيسته حسب طقسه. وبالتالي الحياة العادية الإجتماعية نحن مختلطون. الناس يتزاوجون من بعضهم البعض. نحن لم نقف أمام المحبة البشرية التي تجمع بين شاب وفتاة. لا أحد يعترض على الوحدة العائلية. التلاقي مع بعض المظاهر الدينية كالإكليل والمأتم وصلوات مسائية هذا شيء نشجعه.

رجائي من الإنسان الكاثوليكي أن ينصاع إلى أوامر كنيسته، والإنسان الأرثوذكسي ينصاع إلى أوامر كنيسته. وإتركوا هذه القصة لترتيبها على أساس لاهوتي. ولهذا أتمنى أن تكون سهرتنا الروحية دعوة جديدة لتعميق العلاقات على أساس المحبة. “أحبوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم”. ونعيش مع بعضنا البعض جسمًا واحدًا، وبنفس الوقت حتى تزدهر الكنيسة بكل فروعها لا يمكن أن تزدهر إلا بناء على العقيدة وبناء على الرباط الكنسي. وهذا يجعل كل واحد منا أقوى. على صعيد آخر يحب اللبناني لبنان والفرنسي فرنسا والإنكليزي إنكلترا يكونون يتلاقون على حب الوطن.

أتمنى من المسيحيين في قت يعينه الله يصيرون واحدًا ويقول كل واحد منا: أنا مسيحي فقط بإنتظار ذلك نبقى منتظمين حسب قول بولس الرسول: لتكن أموركم بلياقة وترتيب.

الكنيسة يسميها بولس الرسول جسد المسيح الذي يؤخذ في كنيسة واحدة. فالشرط الأول أن يتعمد الإنسان وعنده ميرون. بدليل أن الكنيسة القديمة كان عندها نظام أن الذي سوف يستعد للمعمودية (الموعوظ) يبقى سنة أو أكثر ليتعلم الإيمان. وبعد أن يتعلم الإيمان ُيعمد ويأخذ القربان. قبل ذلك ُيخرج من الكنيسة. بوقت من الأوقات لما نقول الأبواب الأبواب بحكمة لنصغي، وأخرجوا غير المعمدين وسكرو الأبواب الخارجية حتى لا يدخل احد من غير المعمدين.

الغير المسيحي لا يقدر أن يتناول لأن هذا فقط للمعمد.

الذي جرى أنه حتى المعمدين يريدون أن إيمانهم يوصلهم للمناولة. هذا الإيمان يجب أن يكون واحدًا أو العقيدة بالإيمان بيسوع وبالآب وبالروح القدس في بعض الأشياء الأخرى المعتقد ليس هو هكذا. عندما أعلنت الكنيسة الكاثوليكية سنة 1873م أن أسقف روما هو رئيس على الكنيسة جمعاء وهو معصوم عن الخطأ إذا تكلم في العقيدة. قالت: من لا يأخذ بهذا الكلام هو خارج عن كنيسته. فالكنيسة الكاثوليكية حاليًا تعتبرني منشقًا عنها وصاحب إيمان شاذ منحرف. هذا الموقف الرسمي.

هو وضع حاجزًا. أنا لم أغير شيئًا في الإيمان القويم. هو أضاف شيئًا أعتبره غلطًا. من أجل ذلك لا نكتفي بكلام السيد فقط. الإجتماع حول جسده ودمه يفترض سابقًا الإجتماع حول الكلمة الواحدة. عندنا مأساة في الثقة وهذه المأساة لا نقدر ان نلغيها إذا كنا نتناول كلنا عند بعضنا البعض. أنا لم ألغها. فإذا العلمانيون قالوا كلهم: نحن ليس بيننا شيء.

بابا رومية قال: بيننا شيء. فنقول ذلك.

جميل أن يتناول الإنسان في كنيسته حتى يشعر بصليب الإنقسام.

– هذا البلاد ما عرفت أختلاطًا في المناولة إلا في الفترة القريبة جدًا من بعد أن صار حكي عن التقارب الكنسي. فالسيد يريد كنيسة واحدة جامعة إنما الكنيسة الجامعة ليست بادية. فالبادي هو تنظيمات مختلفة، كنائس مختلفة بحاجة أن تتوحد بشكل واحد.

بإندفاع المؤمنين اخذوا يذهبون إلى كنائس أخرى.

المجمع الفاتيكاني الثاني لم يفتح هذا الملف. بقي الباب مغلقًا.

أنا مرتبط بشيئين: بإحترام الكنيسة الكاثوليكية وبلاهوتها. ربما إن الشعب لا تهمه كثيرًا الخلافات اللاهوتية. أنا لم اخلقها ولم اخلق هذا النظام القديم في هذه الأبرشية وأخذت من المجمع المقدس وأتمنى أن تسأولوا أي لاهوتي كاثوليكي عن هذا الموضوع. أنا مستعد حتى نجلس معًا حتى نفهم تمامًا. صودف أنه في هذه الأبرشية وفي كل الكنائس إن المطارنة هم واحد. نبين عن وحدة الحال بشتى الطرق. إنسانة مارونية تدفن في الكنيسة المارونية أو العكس هذا تدبير.

Continue reading
1994, محاضرات

الأيقونة / 25 نيسان 1994

هاجس المسيحي الأرثوذكسي ان يعبّر عن إيمانه في كل المجالات وبالدرجة الاولى في العبادة. والعبادة لا تحتوي قط على صلوات متلوة ولكن على ترانيم وركعات وهندسة توافق إداء الصلاة. الفن يصبح بالضرورة طريقة من طرق التعبير عن العقيدة وهذا ليس فقط لأن للانسان جسدا وحواسا ولكن لأن كلمة الله صار بشرا وحلّ فينا. تقول هذا بالكلام ولك ان تقوله بالرسم. فاذا تعذّر تصوير الإله غير المنظور -وهذا كان محرّما في العهد القديم- أفلا ينبغي ان تصوّر الإله الذي غدا منظورا أعني يسوع المسيح؟ الأيقونات انطلقت من هنا.

لم يكن الجمال الفني هو الهاجس ولكن الرؤية اللاهوتية أتت بالفن. فلا بد من قراءة الرؤية من خلال الصورة. اذا كان هذا فنا كنسيا فمن هذه الزاوية تنظر اليه. فن طقوسي بالتالي تذوقه ضمن العبادة. جانب منه تعليمي. هذا يؤكد وضوحه وواقعيته. نحن لسنا مع المجرّد الكامل بالرغم من وجود بعض عناصر تجريد (استبعاد العمق والجسم البارز) ولسنا في المذهب الطبيعي الذي ينفي الخشوع.

اندراج الأيقونة في الكنيسة يجعلها جزءا من المعبد. تنتصب فيه كأنها كائن حي. نبخّرها لأن التبخير عملية إكرام لشخص المرسوم عليها. نقبّل أيقونة السيد لنعانقه هو وأيقونة القديس الذي نرتفع اليه في القلب. وفي آخر السعي إلى كون الأيقونة كنسية نغطي كل جدران معابدنا أصلاً بالفسيفساء أو الجدرانيات لأن القديسين -لا الجدران العارية- هم المحيطون بنا.

غير ان الكنيسة ليست فقط هذه التي نراها على الأرض. انها كنيسة السماء أيضًا. انها الملكوت الذي نذوقه منذ الآن ونرى المسيح قائمًا في هذا المجد ونرى القديسين يساهمون هذا المجد. ننعت هذا الفن الكنسي بأنه ملكوتي. كيف يطل الملكوت علينا؟ بالصلاة التي ترفع القلوب، بجعل الأيقونات تعبيرًا من التعابير التي تحكي الملكوت.

من هنا اننا اخترنا ان نستغني عن المنظور (perspective) لأنه قائم على نقطة الهروب، على تلاقي السطوح في الأفق. هذا هو الشوق، التماس الفردوس المفقود في الجماليات. اما الآتون من الملكوت فالملكوت مطل عليهم من هدوئه، من سلامه. في الأيقونة ينقلب المنظور. القديس ينظر الينا، يسعى الينا، نحن في افق رعايته.

والقديس في ملكوتيته محاط بالذهب لأنه يجيء من الأبدية ورمزها الذهب ولا يجيء من حركة الشهوة وبعامة يجيء من النور. والألوان المسيطرة هي الفاتحة (الأسود يُستعمل للدلالة على العالم الخاطئ او عالم الموت. المسيح على جبل التجلي او في نزوله إلى الجحيم ابيض اللون لأنه كاشف ألوهته).

الملكوتية تأتي بأجسام-أعمدة للدلالة على انتصابها الروحي. العينان مستديرتان بسبب من الذهول في حضرة الله وللتعبير عن النفس التي أدركت الصفاء. الأذنان ملتصقتان بالخدين لأنهما لا تصغيان إلى صوت هذا العالم. الشفتان رقيقتان لأنهما تعبّران عن الصمت الداخلي وبعامة يحكم الاعضاء منحى هندسي لتجريدها عن ترابيتها.

ولكون القديسين نورًا وما حولهما من نور فالأيقونة خالية من الظل والعنصر الإنساني حاكمها. فالشجر والجبال والبيوت والأنهار وما اليها ليست ذات أهمية. يُرمز اليها رمزًا، وليس في ما بينها علاقة نِسَب. فالقديس (أو السيد) اذا كان في مشهد فلا تراعي في رسمه نسبا بينه وبين الجوامد أو النباتات ولا نراعي نسبًا بين شخص وآخر حسب القامة الطبيعية. الأهم مكانه، هو الأبرز. ففي أيقونة السيد والقديس الشهيد ماما (القرن السادس، متحف اللوفر) المسيح أطول من رفيقه الشهيد. ليس في الأمر أمانة لسياق تاريخي فأنت تضع قديسين لم يتزامنوا ولكن نعيّد لهم في يوم واحد أو تضع شفيع الزوج وشفيع الزوجة معا وليس لهما تاريخيا او في التقويم من علاقة). من تريدهم معا في الصلاة تجمعهم.

ولكون التعليم همّك ترسم مشاهد مختلفة من سيرة القديس وهي متعاقبة زمنيا. نرسم حسب مصطلحات من التراث تعبيرية (مثلاً يوحنا المعمدان الكامل القامة يحمل رأسه مقطوعا في يده).

فن كنسي ما في ذلك ريب ويتعاطاه من سعى إلى قداسة حياته وهو لا يرى نفسه فنانا. ولكن هذا التواضع المبتغى لم يحل دون ظهور رسامين كبار(روبلوف، تيوفان الرومي، نعمةالله المصوّر…) والكثيرين ممن لم نعرفهم لأنهم ما كانوا يوقعون اسماءهم. انك ضمن القانون الكنسي تستطيع ان تبدع. وقد تبدع ضمن عبقرية شعبك وآلامه. من هنا ان ثمة مدارس يمكن تمييزها: سيناء، حلب، موسكو، نوفغورود، كريت، القسطنطينية…) كل ذلك في وحدة المنحى الروحي الذي نحاه التراث البيزنطي.

الأيقونة هي سعي إلى فن إلهي بأيدٍ بشرية.

Continue reading
1993, محاضرات

معرفتنا بعضنا لبعض: شرط من شروط الحوار الإسلاميّ المسيحيّ / المجمّع الثقافي – أبو ظبي / 14 كانون الأوّل 1993

أيّها الأكارم،

إنّه لمن دواعي الاعتزاز أن أتحدّث إليكم في هذا الصرح الكبير بعد أن شهدت خلابة هذا البلد الأمين الناطق بفضل صاحب السموّ رئيس الدولة الشيخ أبو زايد بن سلطان آل نهيان -نور على نور- هذا ما يقوله في نفسه كلّ زائر لهذه الإمارة الأخّاذة. إنّها كذلك فرصة لأحيّي معالي الوزير أحمد خليفة السويدي الممثّل الشخصيّ لصاحب السموّ رئيس الدولة وأحيّي المجمّع الثقافي والقائمين على إدارته وأن أحيّيكم جميعًا.

ليس من باب الاتّفاق أن وضعت في مستهلّ هذا الحديث الأخويّ البسيط هذا الكلام القرآني «تعالوا إلى كلمة سواء»، هذا ما استمعتم إليه منذ لحظات ومعنى هذا أنّ القلوب شواهد وأنّنا نعود إلى القرآن كتابًا حواريًّا. هذا ما كان الدكتور حسن صعب، رحمه الله، دائمًا يذكّرنا به. هناك كلمة المؤمن للمؤمن، هناك توحيد أصيل يجمع الناس وهذا يعني أنّ من سعى إلى الحق يسعى إلى المواجهة. والمواجهة هي أن يكون الوجه إلى الوجه، في حين أنّ المجابهة أن تكون الجبهة إلى الجبهة. المواجهة ليس فيها ما يصدع كما الجبين يصدع. وهي تنطلق من الأخوّة إيمانًا، والأخوّة طبعًا تنبع عند المؤمن من اعترافه بالله مهيمنًا على الجميع ولطيفًا بالجميع. هناك حوارات قائمة في العالم منذ حين ليس بيسير. منذ بضع من عشرات السنين في المؤسّسات الروحيّة والثقافيّة القائمة المحاورات جارية، ولعلّ بعض مردّها إلى أنّ الإنسانيّة تعبت من الصراع. تعبت من الحروب الإيديولوجيّة وأحسّت بأن سيل الدم وسيل الحقد لا ينتهي إلاّ إذا انفتحت القلوب بعضها إلى بعض واستقرّ الله فيها.

هناك مؤسّسات ترعى هذا الحوار في دنيا الإسلام وفي العالم المسيحيّ. وإذا قلت العالم المسيحيّ فإنّني مبادر إلى القول إنّنا نعني بذلك الكنيسة. نحن لا نؤمن بأنّ ثمّة عالـمًا مسيحيًّا بمعنى الكتل السياسيّة. هذه أمور تخطّاها إيماننا. نحن قوم، ليس ذلك في العالم العربي ولكن في دنيا المسيحيّة بأسرها، نحن قوم شجبنا الحروب الصليبيّة، وقد نالت من المسيحيّين العرب بقدر ما نالت من المسلمين، «وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضة». نحن ذُبحنا هنا. إنّ الإفرنج ذبحوا المسيحيّين العرب ذبحًا وحاربوا المسلمين حربًا. لهذا رأينا أنفسنا منذ البدء في أنطاكية مثلاً إلى جانب أهل البلد وما رأينا أنفسنا في جانب الوافدين، ولهذا طُرد بطاركتنا وأساقفتنا من كراسيهم خلال مئتي سنة ونيّف.

نحن نشعر بأنّنا من هذه الأرض، من تراب هذا المشرق العظيم. وبالتالي نحسّ أنّنا طبيعيًّا، مباشرةً، تلقائيًّا، نحسّ أنّنا مقيمون في أخوّة مع المسلمين. هذا طبعًا شيء منه آتٍ من عقيدتنا هذه التي تقول بأنّ المحبّة شاملة، بأنّ الله محبّة وبأنّه ليس هناك من قريب ومن بعيد، فالأبعدون بانتسابهم والأقربون هم واحد في رؤية الله. هذه الفوارق التي تقوم بين الناس لا تصل إلى عرش الله.

قلت إنّ هناك حوارات تقوم في مؤسّسات نذرت أنفسها لهذه اللقاءات في أقسام، في دوائر جامعيّة، وتقوم في حلقات أخويّة في مجلس الكنائس العالميّ، في مجلس كنائس الشرق الأوسط الذي يضمّ البيع كلّها من هذا الشرق العربيّ. ويبدو طبيعيًّا أنّ المسيحيّين المشارقة يواجهون على أرض المحبّة إخوتهم المسلمين ويتباحثون بالدرجة الأولى في الأمور الاجتماعيّة والقيم الخلقيّة. تبحث قليلاً الأمور اللاهوتيّة أو ما يأتي في علم الكلام. ليس خوفًا من التصدّي لها ولكن يبدو أنّ الإنسان العصري الذي ملّ الصراعات يحبّ أن يسرع إلى ما هو تطبيقيّ عمليّ، إلى ما يمكّنه من معايشة بقيّة الإخوة إدراكًا منه أنّ في الديانتين وفي اليهوديّة نفسها مناقب مشتركة. هناك قيمة الرحمانيّة والرحمة والعدل والرأفة. كلّ هذه الأشياء التي هبطت علينا من السماء، هذه يريد المسلمون والمسيحيون أن يعيشوها من جديد في صدق. كلمة صدق تعبّر عن هذا الجو الذي ليس بجديد بالنسبة إلينا نحن أبناء العالم العربيّ، ولكنّه قد يكون جديدًا بالنسبة إلى أهل الغرب. إنّ خبرتنا تدلّ على أنّ المؤمنين الغربيّين يقيمون مسافة بينهم وبين دولهم. طبعًا علينا أن نتروّض على هذه الحقيقة أنّ الغرب بمعناه السياسيّ ليس الكنيسة. ليس “أمة الله” إذا شئتم عبارة إسلامية. الأمة بمعناها الروحي عندنا شيء وبالمعنى القومي شيء آخر. والدليل على ذلك على سبيل المثال لا الحصر هو أن كنائس أميركا نفسها هنا وهناك وهنالك في المجتمعات الروحية تدين سياسة البلد الذي تنتمي إليه. مَن تابع الصحافة الكنسية والسياسية يجد أن ثمة فسحة على الأقل بين موقف الكنائس وموقف الدول عندهم. ويزيَّن لي أننا نحن هنا في العالم العربي ركّزنا كثيرًا على الغرب وأقمنا ترادفًا بينه وبين المسيحية. فهناك دول كبيرة في العالم وفي شرق أوربا لا علاقة لها بالغرب ولا هي تنتمي حضاريًا إلى أوربا الغربية. وهناك طبعًا المسيحيون العرب الذين سوف آتي على ذكرهم بعد قليل.

ما يبدو إذًا من هذه العجالة أن ثمة حوارًا أول هو حوار الحياة، وإذا شئتم تمييزًا في الحوار أقول إن ثمة حوارين في العالم، حوار الحياة وحوار الفكر.

حوار الحياة هو الذي نذوقه ونختبره كل يوم. هي الحياة المشتركة الطيبة بين أهل الديانتين ولا سيما الوحدة الروحية بين المسلمين والمسيحيين العرب. طبعًا أنا لست مدافعا لا في انتمائي الديني ولا في انتمائي القومي على ما يجري في الغرب أو في أوروبا بعامة ولكن لا بد لي ابتغاء الإنصاف أن أقول إن هناك تحولا نحو المسلمين ايجابيا. ولو رأينا في الفترة الأخيرة بعض تشنج أو سياسيات تمييزية عرقية إلا أن الصورة الكاملة ليست هذه. نسبيا هذا التوتر جديد فيما عشناه بعد الحرب العالمية الثانية. الكنيسة المسيحية في أوروبا هي التي تدافع عن حرية المسلمين في تلك الديار وعن حقوقهم. على سبيل المثال، ما اعتبر سياسة تفريق في الحكومة الفرنسية الحالية تصدت له الكنيسة الكاثوليكية. الكنائس هناك هي التي تطالب بحرية التشييد للمساجد والمراكز الإسلامية، وتجدون هذا ليس فقط في العواصم ولكن في المدن الصغرى. الكنيسة المسيحية هي التي تريد أن يتعلم المسلمون في أوروبا الإسلام. الدولة البلجيكية أقرّت التعليم الإسلامي في المدارس الرسمية. بالتالي اللوحة الكاملة هي أن هناك تقاربًا وسعيًا حميدًا إلى جانب مظاهرة متوترة نرجو أن تزول. ما ارجوه وما يرجوه المسيحيون المشرقيون من إخوانهم المفكرين في العالم الإسلامي هو ألا يقيم احد منا ترادفا بين المسيحية في معناها الروحي الكنسي والكتلة الغربية بمعناها السياسي والحربي. هذان شيئان مختلفان لا يترادفان، وقد بيّنت لكم ذلك قليلاً. ليس من حاجة إلى أن أذكركم بالوثيقة المتعلقة بالإسلام في مجمع الفاتيكان الثاني. وأنا طبعًا لست بجاهل المقالات السيئة، إذا صح التعبير، التي ظهرت بحق الإسلام أو المسلمين، ولست جاهلا للكتب العديدة التي كانت سلبية بحق النبي العربي. غير أننا لسنا في معرض البكاء على الماضي أو ذم الماضي. نحن في حركة توبة. اعتقد أن المسيحيين العرب أداة تواصل، وهؤلاء المسيحيون العرب يعرفون القرآن ويستلذونه. هناك شخص ممارس الصلاة والالتزام المسيحي في مقاطعتي عاش في لندن أربعة أشهر. انه من مدينتي طرابلس وهي مدينة إسلامية بالدرجة الأولى. قلت له: ماذا افتقدت في لندن، ما أعوزك هناك؟ قال لي: الآذان … الآذان. طبعا المسيحي العربي هو إنسان يعيش في هذا التوقيع الإسلامي للزمن ويستمع إلى خطبة الجمعة. مرة سمعت باب بيتي في الجبل يقرع وكنت استمع إلى تسجيل للقرآن فأوقفت المسجل وفتحت الباب ودخل احد الأصدقاء، قلت له: الآن يمكن ان تستمع ايضا معي، لأني ما كنت عالما بالآتي وكنا في أوقات أزمة. قلت: اطمأننت اليك واخالك لا تستغرب ان يستمع اسقف عربي للقرآن.

هؤلاء المسيحيون العرب، أقولها بتواضع، لهم إسهامهم في الحضارة الإسلامية. لا اتكلم عن وجودهم في هذه الجزيرة العظيمة منذ العصر الجاهلي وعن حضورهم في الشعر، ولكني بسرعة اود ان اذكر بإسهامهم الكبير في الفن المعماري الإسلامي في بناء المساجد. كنت اقول هذا في ندوة في بيروت في حي اسلامي فاعترضت علي سيدة قائلة: انت انسان متعصب. قلت لها: أنا إنسان قارئ للتاريخ. هذه اسماء الذين أسهموا في بناء المساجد منذ عصر الراشدين. طبعا كلكم يعلم مساهمة المسيحيين العرب في نقل الفلسفة اليونانية إلى اللسان العربي. كلكم يعلم حضورهم في الطب في العصر العباسي، وحضورهم في الفكر الديني الواد للإسلام. عندما يكتب الجاثاليق تيموثاوس وهو أسقف كبير في العراق، في عصر الخليفة المهدي، عندما يكتب ان محمدا سلك مسلك الأنبياء كان يقول شيئا جريئا طبعا بالنسبة إلى معتقده وكان محافظا على معتقده. كان هؤلاء القوم يلبون دعوة الخلفاء في البلاط لمناقشة المسلمين. القضية ما كانت سجالا او جدلا. كانوا طبعا يجادلون بالتي هي أحسن ليس فقط حسب الوصية الإسلامية ولكن حسب ما كانوا يعتقدون. هم ايضا يحيون المودة في المواجهة الفكرية. عندنا عدد عديد من الكتاب في بلاد الشام ومصر الذين كتبوا في حرية كاملة عن المعتقد المسيحي وشرحوه بما يمكن استيعابه آنذاك في تلك البيئة وكانوا من المحظيين عند الخلفاء. إذن عشنا حياة مجتمعية واحدة. وقد بدا هذا في النهضة العربية في القرن التاسع عشر، وأريد بها بالدرجة الأولى النهضة الأدبية، وقد ذكر لنا هذا شبلي الشميل وطبعا ذكر أدباء المهجر والوطن. أبقى في حيز التواضع اذا قلت ان المسيحيين العرب صقلوا اللغة العربية وحافظوا عليها ونشروها ودرسوها ومحصوها وكتبوا في اللغة كما كتبوا في الآداب، في الشعر. بعامة هناك اسلوب حديث كان نقلة مما اعتبره النقاد عصر الانحطاط إلى عصر النهضة.

ولكن المستقبل اهم من الماضي فالمسلمون والمسيحيون العرب واحد في تطلعاتهم إلى نهضة هذا العالم العربي. هم معًا في مواجهة ما يهدد المصير العربي الواحد. وإذا تكلمنا عن المصير العربي الواحد فإنني أتّخذ كلمة رمزًا وهي القدس. القدس محجتنا جميعًا هي بالواقع محجة الديانات الثلاث ولكن طبعًا الخطر هو على العرب وهذا الخطر ليس فقط كامنًا وإنما تحقّق. العرب يهجرون القدس ونحن نتمنى كما قلنا في مؤتمر القمة الإسلامي في لاهور: نحن لسنا مع قدس الحجر ولكن مع قدس البشر. هناك حرية إذن لأبناء القدس. هناك شهادة مقدسية للعالم كله.

يبقى حوار الفكر، في هذه المرحلة من تأملي على رجاء نشوء مؤسسات كبرى ترعى هزا الموضوع. وقد علمت منذ ثلاثة أيام وأنا اتمتع برؤية بلدكم الجميل أن صاحب السمو رئيس الدولة أخذ يدعو إلى إنشاء مؤسسة فكرية تبحث في تلاقي الديانتين وأهل الديانتين. نحن في جامعة البلمند في لبنان التي انشأها المسيحيون الأرثوذكس قد أسسنا منذ قليل معهدًا للدراسات الإسلامية والمسيحية. قبل نشوء الجامعة كان عندنا معهد لاهوتي، يدرّس الاسلام لقسس المستقبل. وكان لي شرف تعليم هذه المادة. أود أن تصدقوني إذا قلت لكم ان أي طالب مسلم، إذا ما أتى وحضر هذه الدروس، لا يمكن بأية طريقة أن يجرّح بمعتقده، فهذا يعطى موضوعًا علميًا وكأنني شيخ مسلم. هذه الجبة واحدة يمكن أن تكون بيضاء كما في بلادكم. مرة كنت غائبًا خلال السنة فاسندت المادة إلى عالم مسلم. نحن ليس عندنا هذه الحساسية. وفي الجامعة نفسها أي في الدراسات الثقافية التي يتلقاها كل الطلبة على مختلف دياناتهم، من أصل 160 ساعة في الدروس الحضارية خلال أربع سنوات يخصّص 40 ساعة لدراسة الإسلام. أن تخصّص الكنيسة العربية الأرثوذكسية ربع الوقت من الحضارات الأولى في العصر الحجري إلى يومنا هذا لدراسة الإسلام يعني أنها تحب الكلام في الاسلام.

طلابنا في هذه الجامعة قسم كبير منهم، اكثر من الثلث، مسلمون. أساتذتنا من الديانتين. عندنا مجلس امناء يدير الجامعة ويبحث في مصير هذه الجامعة وتعليمها وبرامجها واتجاهاتها. عندنا في مجلس الامناء مسلمون يقررون سياسة جامعة مسيحية ارثوذكسية. المعرفة ايها السادة والسيدات هي معرفة الديانة الاخرى في مصادرها. ما الاسلام؟ الجأ لمعرفته إلى القرآن، إلى الحديث – لست ادخل هنا في نقاشات المذاهب – إلى الإجماع، إلى القياس، إلى التراث الإسلامي. هناك طريقة واحدة لدرس الإسلام وهي ان تعرفه كما يعرفه المسلمون. انت لا تركّبه حسب مشتهاك وخيالك. وهناك طريقة وحيدة لمعرفة المسيحية الحالية، القائمة، وهي ان تعرفها حسب مصادرها. ماذا تقول هي عن نفسها. لا أستطيع مثلا ان اكلّم رجلا صينيا في حضارة بلاده وأن أدعي أني أنا أفسر له الحضارة الصينية. تعرف الأشياء كما هي. كما جاءت. يمكن ان تقول بعد هذا، هذا غير صحيح، هذا خطأ. انت انحرفت عن المسيرة، هذا لك. ولكن قبل ذلك لا بد ان تعود إلى المصادر، لأننا ان لم نفعل هذا فنحن في سجال وجدل. ونحن قلنا اننا محاورون لا نقوم بأية دعوة. طبعا لك انت ان تقوم بدعوة إلى الإسلام، هذا من حقك، وهذا واجبك إن كنت مؤمنا. ولي أنا ان أقوم بالتبشير. طبعا أنا داعية مسيحي وأستعمل الطرق الخلقية الروحية لبث الدعوة. ولكن إذا اتخذت موقفا حواريا فأنا لست قائما بالدعوة. هذا شيء آخر. هذا عمل يقوم على الصدق، على التفاعل، على التكامل. أريد ان أعرفك وأريدك ان تعرفني، من أجل المعرفة، من أجل نورانية المعرفة. ومن بعد هذا تبنى الأشياء. إذن نحن بحاجة إلى تدريس الاسلام في العالم كله على مستويات وعلى أصعدة مختلفة. يجب ان يعرف كل انسان في العالم الإسلام. وأتصور انه يجب ان يعرف كل انسان في العالم المسيحية، من اجل العلم، وأن نعرف البرهمية، الهندوسية، البوذية، الشنتوية وما إلى ذلك لأن هذا من شأنه ان يبدد الأساطير وان يهدم الجدران القائمة بيننا.

وهذا العلم من شأنه ان يقرب القلوب. فاننا في حاجة اساسية إلى سلام أهلي في العالم كله. هناك سلام بين اهل الديانات. قام تشاحن وبغضاء وحروب وسفك دماء بين اهل الديانات. أنا ليس عندي موقف اعتذاري، وأشجب ما قام به المسيحيون في الماضي وما قد يقومون به في الحاضر ضد حرية الناس. أتمنى ان لا يكون عند احد منا موقف اعتذاري. أتصور ان الروحانيين بيننا يقولون: كانت هناك أخطاء وكانت هناك تجاوزات في هذه الحقبة أو تلك. هذا مطلب علمي طبعا. ولكن يزين لي ان المسيرة التي نحن مدعوون إلى سلوكها هي بالدرجة الأولى مسيرة التصافي والتلاقي الوجداني الصادق في التواضع والمودة واننا اذا أمنّا هذا المناخ من الطمأنينة والسلام نستطيع ان نتبادل الفكر ولا سيما بين الأئمة فالأئمة قوم أصفياء ومن بعد هذا يُنزل الله على قلوبنا نوره ويطهرها، والسلام عليكم.

الأسئلة والأجوبة

  1. مستقبل الأديان الإلهية وكيف تراه من وجهة نظرك؟

أنا طبعًا رجل مؤمن وأعتقد ان الانسانية يمكن ان تحيد عن الله ولعل البشرية المعاصرة حائدة كثيرا. ولكن حتى لا نقع في القتام، في الظلام وفي اليأس، لا بد من رؤية حركات الانبعاث الروحي والاهتداء. إذا كلمتكم عن روسيا فقط، طبعا أعرف المنطقة الارثوذكسية اكثر من سواها، أرى الجحافل من الذين كانوا ملاحدة يعودون إلى الإيمان. وأرى هذا هنا وهناك. فمثلا في اثناء الحرب اللبنانية كنت أزور عائلة مسلمة صديقة في مدينتي، عائلة شابة. بعد العشاء سألت صديقي: أين زوجتك؟ قال: انها تقوم بصلاة العشاء. فسررت جدا لأن هذه العائلة ما كانت تصلي. إذن هناك اهتداء طبعا، ولهذا اعتقادي الراسخ ان الديانات لا يمكن ان تزول ولا سيما ان الله بنفسه هو حاضر في أبنائها.

  • تدعون إلى التقارب بين المسيحية كفكر كنسي وبين المسيحية كسياسة غربية. كيف يمكن ذلك والممارسات الفعلية تشير إلى ما هو مؤلم كما تعلمون؟ ما هو دور أمثالكم في الحد من مثل هذه المآسي كما يحدث في البوسنة والهرسك مثلا؟

ما من شك ان الانسان المسلم أقرب في معتقده وفي تاريخه وفي تراثه إلى رؤية أن الدين والدنيا مجتمعان، او ان الاسلام دين ودنيا او دين وشريعة وما إلى ذلك. من الطبيعي ان تحسوا ان المسيحي يفرق اكثر بين هذين النطاقين. ولذلك لا يحمل الضمير المسيحي بسرعة مسؤولية ارتكابات ومجازر يقوم بها شعب تسيطر عليه ايديولوجية غير مؤمنة، ايديولوجية ملحدة. هناك معلومات لا بد منها ان بطريرك صربيا بولس منذ بضعة اشهر خرج من الصلاة يوم الأحد في ثيابه الكهنوتية حاملا عصاه وصليبه على رأس مظاهرة من عشرة آلاف رجل منددا برئيس الجمهورية هناك بسبب الحرب القائمة في يوغسلافيا السابقة، وكان آنذاك صداما مع كرواتيا من جهة ومع البوسنة من جهة اخرى. طبعا ليس المجال هنا ان احلل الاسباب وحتى ان أدلي بالأسباب السياسية الكبيرة القائمة وراء هذه الحرب، ولا ان أقول بانها ارث من تيتو وجماعته وكل هذه التقسيمات التي قام بها. ليس سرا على أحد وليس هذا طعنا بأحد اذا قلت ان كرواتيا استقلت وهرول الفاتيكان للاعتراف بها ثم هرولت المانيا. لماذا كل هذه السرعة؟ وعندنا اذًا هذا التأكيد ان المجمع المقدس اي مجلس الأساقفة المسؤولين في صربيا ندد بكل الحروب القائمة وعلى وجه التصريح بالحرب القائمة في البوسنة. كتَبتُ في جريدة النهار البيروتية مقالا حادا شرسا ضد الصرب، ويمكن طبعا ان تتصوروا صعوبة موقفي، ولكن تلك كانت قناعتي. اتصل بي القادة الدينيون في الاسلام يهنئوني على ذلك. بيّنوا فرحهم واغتباطهم لهذا الموقف الأخوي تجاه البوسنة.

كذلك حاول البطريرك بولس الصربي أن يجتمع إلى مفتي البوسنة سماحة الشيخ يعقوب سالموفسكي، ولكن طبعا ظروف الحرب لم تمكن المفتي، وهو رئيس مجلس رئاسة العلماء على وجه التدقيق، لم تمكنه ظروف الحرب ان يلتقي البطريرك، ولكن جاء سماحة الشيخ يعقوب إلى بيروت على رأس وفد من البوسنة واستقبلناه نحن في دار الطائفة الارثوذكسية في المطرانية في بيروت وكان لقاء وديا. نحن نتمنى ان تزول هذه السحابة السوداء وان نفرق بين الصراع العرقي والسياسي والدولي وبين شعور الشعب المسيحي الارثوذكسي. المؤمنون الارثوذكس هم ضد هذه المجازر.

  • هل يستطيع المجتمع المسيحي والاسلامي ان يتعايشا في بلد مختلف الطوائف كلبنان؟ إذا كان الجواب نعم، كيف تحقق هذا على الأرض وما هو دور المجتمعَين المطلوب أداؤه في سبيل التعايش؟

طبعًا لبنان وجواره واحد. هذا هو الشرق العربي. لبنان أفضل بلد في العالم في التعايش بين المسلمين والمسيحيين. أنا أوضح هذا. إذا اتخذنا العلاقات العائلية والعلاقات الصداقية والتجارية وما إلى ذلك فاللبنانيون في مودة كبيرة أنا لم أشهدها في الألزاس حيث كان يتقاتل الكاثوليك والبروتستنتيون أو في مونبليه، ولم أشهدها في ايرلندا ولم أشهدها في المانيا. انما اللبنانيون طوائفهم أحزاب هي أيضًا، هي طبعا جماعات دينية، ولكن لها مكانتها الحزبية، مكانتها في بنية الدولة. لها تمثيل نيابي، لها محاكم مذهبية. انت تجد اللبناني إلى اللبناني في جلسة ودية كبيرة وحول مائدة طعام وفي الجامعة وفي البيوت ولكن لا يظهر الخصام الا اذا تكلمنا في المشكلة السياسية. أنا لم أرَ في لبنان خصومة بين بشر من حيث هم بشر. هذه قضية سياسية. اذًا نحلها على هذا الصعيد. وطبعا أنا شاهد. كنت في حرب لبنان عند الاحتلال الاسرائيلي الأخير. هرب المسلمون من رأس بيروت وصعدوا إلى مصيف برمانا إلى الفنادق. رحب بهم المسيحيون ومنهم الموارنة ترحيبًا حارًا لم أجد له مثيلا. هذه القصة خرافة ان اللبنانيين بعضهم ضد بعض.

  • كيف تفسرون موقف قوافل التنصير التي تستقبل أطفال البوسنة وتسعى لتنصيرهم في كل مكان؟

يؤسفني أن أقول ان كل المعلومات التي تصل الينا هي معلومات من الصحافة الغربية، وأنا أتهم مسبقا الصحافة الغربية، الألمانية بالدرجة الأولى والفرنسية بالدرجة الثانية. اتهمها بأنها متحيزة. عندي أدلة كثيرة على التحيز. ولذلك يجب التدقيق بهذه المعلومات. ما يمكن ان أؤكده هنا بدون بحث هو ان الكنيسة الأرثوذكسية الصربية لا تنصّر أحدًا ولا تسعى إلى هذا الشيء. الروم ليس هذا من مسالكهم. أما إذا ذهبوا إلى المانيا وإلى غير المانيا واحتضنوهم واستضافوهم فماذا يفعلون؟ أنا أولًا أشك ان يؤخذ صبي وان يعمّد هكذا بسكب الماء عليه بدون معرفته وبدون قناعته وبدون دراسة. المسيحيون في الكنيسة جديون جدا. هم قد يبشرون. الغربي يبشر. يجب ان يقضي غير المسيحي سنتين او ثلاثة يتعلم. هكذا عند وصوله من البوسنة إلى شتوتغارت أو فرانكفورت يؤخذ قليل من الماء ويُسكب عليه وينصّر؟ لا. هذا ضد المسالك، ضد القناعة، ضد قناعة المسيحيين. المسيحيون لا ينصّرون احدا بالرغم منه. اذن قضية الأطفال مقصية. هذا من حيث المبدأ. هل خالفوا؟ هل هذا القسيس البروتستنتي او الكاثوليكي خالف في هذه المرحلة او تلك ؟ لست أعلم. اعتقد ان كل هذه القضايا يجب ان يدقق بها بحيث نتحرى نحن العرب هذه الامور مباشرة. على سبيل المثال، بدون الدخول في التفاصيل، في الحرب تفيدني معلوماتي ان كل الأفرقاء يرتكبون، وان الارقام التي اعطيت ليست بهذه الضخامة. هذا لا يبرر احدا. اذا اعتُدي على عشرة آلاف مسلمة او اعتدي على مسلمة واحدة فالمعصية واحدة. ما اردت ان اقوله ان الصحافة الألمانية، ومنها يستقي الآخرون، الفرنسيون والانكليز، هي طبعا واقفة موقفا شرسا مع الكروات ضد الصرب. اتصور انه يجب ان نقوم بقراءة سياسية لهذه المشكلة.

  • هل يمكن لسيادة المطران ان يحدثنا عن مواقف كنيسته من المواقف التي تتخذها الاصولية المسيحية يقصد بذلك بعض الفرق التي نشأت عن فروع بروتستنتية معينة وتدعم السياسة الصهيونية بمواجهة الوضع العربي الفلسطيني؟

أنا أوصيكم بعدة كتب منها كتاب صديقي الدكتور محمد السمّاك عن الصهيونية المسيحية. باختصار ان فرقا انجيلية بروتستنتية منذ مطلع القرن التاسع عشر وقبل ذلك نادت بعودة اليهود إلى فلسطين وكانت تزعم ان هذه العودة مؤسسة على الكتاب المقدس. ثم تعاظمت الموجة بعد الحرب العالمية الثانية وظهر لاهوتيون في هولندا بالدرجة الأولى وفي بقية الغرب، يحاولون ان يعظموا الشعب اليهودي والقضية اليهودية ككل وكانوا يعطون اهمية كبرى لليهود دينيا ولاهوتيا، وبرأينا نحن هذا انحراف عن التراث المسيحي. باختصار ما قمنا به نحن المسيحيين العرب في مجلس الكنائس العالمي، وفيه هذه الموجات قوية، اننا اقنعنا كنائس العالم بأن تقول: هناك سوء استعمال للعهد القديم من قبل بعض اللاهوتيين المسيحيين. فشاع نتيجة لذلك ان ليس هناك في الكتاب المقدس ما يبرر عودة اليهود اليوم إلى فلسطين. هذه قضية انتهت وعندما جاء المسيح لم يعد يهتم دينيا بفلسطين. فلسطين عند الانسان المسيحي قضية قومية. للفلسطينيين قضية انسانية. هناك سوء استعمال للعهد القديم. استطعنا ان نجعل قضية فلسطين قضية قانون، دولي وعبارة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني التي ظهرت في هيئة الامم المتحدة هي عبارة وضعناها نحن في المجتمعات الكنسية وانتقلت إلى هناك.

  • في معرض حديثكم عن المسيحيين العرب ذكرتم فقط الكنيسة الأرثوذكسية، ماذا عن العرب غير الأرثوذكس؟

بالحقيقة لم أذكر اسماء في النهضة العربية. الدكتور شبلي الشميّل الذي ذكرته هو من الروم الكاثوليك. جبران خليل جبران ماروني. ميخائيل نعيمة ارثوذكسي. معظم ادباء المهجر في الولايات المتحدة والبرازيل كانوا ارثوذكسيين. لا أبخل على بقية الإخوان بالوطنية. الحقيقة ان الموارنة والروم الكاثوليك والروم الارثوذكس والمسلمين كانوا معا في الحركة القومية العربية قبل 1914. بعد الخيبات والانتكاسات عاد الكثيرون عن القومية العربية. في الطائف عادوا اليها ايضا. وصار الاعتراف بانتماء عربي للبنان. نحن الارثوذكسيين كنا ضد الانتداب صراحة في البدء. عندما جاءت لجنة كنغ كرين من عصبة الامم المتحدة في جنيف لتستفتينا قلنا لها اننا ضد الانتداب ونحن مع فيصل. لم يكن هذا فقط موقف بطريركنا في دمشق ولكنه موقف كل شعبنا في بيروت وطرابلس وكل لبنان.

  • لم يتطرق حديثكم إلى الثوابت المشتركة بين الإسلام والمسيحية. هل لك بإبراز بعض هذه النقاط مثل المحبة والسلام والتسامح والتبشير وغيرها؟

أنا ذكرت بالحقيقة المناقب. ما أحببت ان أذكر، لضيق الوقت، القضايا الإلهية الكبرى مثل وحدانية الله، أو الخلق. هذه عقيدة نعرفها لا توجد في آسيا في الهندوسية. الثواب والعقاب، الآخرة، فكرة النبوة، كل هذا غير موجود في البوذية والهندوسية. فكرة النبوة ان الله اصطفى بشرا ليحمّلهم رسالة هي كلامه، فكرة النبوة فكرة مشتركة بين الاسلام والمسيحية. المسيحيون والمسلمون يؤمنون بفكرة الوحي وهو ان الله تكلم في زمن من الأزمنة وفي أزمنة متعاقبة. الخطوط العريضة فيما يتعلق بالله خالقا ومخلصا للناس ولو استعملنا هنا مصطلحا مسيحيا ولكن المعنى قرآني وهو معنى الرحمة. اذا اعتبرنا الله مهيمنا على الخليقة وعلى البشر في الحياة الأبدية او في الملكوت. نجد هذا في جوهره في المسيحية والاسلام.

  • ما هي الكلمة التي توجهها إلى الأرثوذكس الذين يعيشون في دولة الإمارات؟

أنا لا أوجه كلمة إلى الأرثوذكس العائشين في دولة الامارات لأن الامارات ترعاهم أكثر مما أرعاهم أنا.

Continue reading
1992, محاضرات

القدس، ضمير المسيحيّين العرب / تشرين الأوّل 1992

القدس في تجاوز القدس. بهاؤها ككلّ بهاء يجيء من العمق، من المعنى، ولكنّ المعاني تهبط على الزمان والمدى لتكشف. أنت هنا مع الحجر الذي ارتفع بسبب من البركات التي نزلت على أرض المدينة. الحجر هنا إذًا لغة. نحن لسنا في عالم الجمال الشكليّ كما في كلّ المدن. فالعمارة في باريس وروما وبطرسبرج أجمل، ما في ذلك ريب، ومن المدائن من كان في التاريخ أكثر إيغالاً. نحن هنا على صعيد آخر. نحن مع المدينة المقدّسة في بعد آخر. نحن لسنا في الزمان. نحن في ملء الزمان، في إطلالات الأبد تتفجّر من كنيسة القيامة. نحن معاصرون للضياء لـمّا انبلج في بيت لحم تنشئنا الكلمات التي قالها المعلّم وعاشها في الناصرة وعند بحيرة طبريّه حتّى أدرك الجلجلة وقبر وقام وجلس فوق الشمس وساد أزمنة الناس.

من هذه المدينة وما حولها سطعت حقيقة الله وحقيقة الإنسان. إنّها كانت في رؤيتنا لها أرض لقاء الله والإنسان، أرض خطابهما. لذلك دعتها العبادات الشرقيّة «المدينة المقدّسة» والمقدّس في الفلسفة الساميّة من أو ما كان مخصّصًا لله مقتطَعًا للملكوت وكأنّه لم يبقَ من المكان ليصبح مقرّ الله. هذا لا يعني أنّ القدس زال اتّصالها بأزمنة الناس وأوجاعهم وقد صارت بامتياز مطرحًا لآلام ابن البشر وكأنّ في ما تقبّلت وما ترنو إليه وما تحتضن مصبَّ كلّ آلام البشريّة ورجائها الناهد.

القدس من هذا القبيل صارت عاصمة الروح أي تلك التي إليها تذهب أشواق أهل الآخرة لأنّهم يعرفونها رمزًا للمدينة الأخرويّة التي ننتظرها نازلة من السماء. وإنّها ذلك الرمز الذي نعرفه في المسيحيّة أي سرّ اللقاء بين المنظور وغير المنظور، بين الألوهة والناسوت بلا تمازج ولا انقسام ولا انفصال. في المسيحيّة التراثيّة يغدو الرمز حقيقة راهنة لا مجرّد علامة دالّة على ما لم يكن فيها. الرمز ملتقى، منطرَح، غذاء.

أن تكون القدس عاصمة الروح لا يعني أنّها بطلت أن تكون جسدًا. فمن هذه الزاوية إنّها عاصمة الشعب عاش فيها وتوقه إليها. وهذا ما سنأتي عليه. ولكنّ أهميّتها إطلاقًا أنّها قلب العالم وأنّها انحدارًا من هذا وبهذه الصفة يتعامل سكّانها معها فلا يُؤتَونها كأنّها المدينة الأولى في أرض لهم مستعادة ولكنّهم يؤتَونها هديّة من السماء ونصيب

السماء في أرض البشر. هذا يعطي لمعناها الوطنيّ عمقًا لا يجيء من نضال بشريّ. الجهاد الفلسطينيّ قد يردّ القدس إلى أهلها أو يزفّ أهلها إليها. المعنى الأعمق من كلّ هذا أنّ فلسطين مستعادةً تَرِثُ القدسَ من الله.

ليس في أيّة مدينة أخرى سرّ. ليس في أيّة مدينة أخرى ألوهة. لهذا لن نحيد عن القدس. لا نهملها للناهبين حتّى إذا حججنا إليها نكون حاجّين إلى إلهها الساكن فينا. كلّ مدائن الأرض إلى هذا العالم، إلى حضاراته. إليها نسوح أي نبصر جمالَ أرض نغنّي حجاراتها مع قيثارات الليل. نمضي فيها من ومضة إلى ومضة، من لوحة إلى لوحة. من وهج إلى وهج. هذا شيء بشري. القدس وحدها إيقونة كتلك التي رُسم عليها وجه السيّد وسمّيناها إيقونة غير مصنوعة بيد. صحّ أنّ القدس تكوّنت بدءًا من تراب الأرض. غير أنّ سمتها الأساسيّة أنّها جبلت بنور، بهذا النور الذي تقول فيه الكنيسة الأرثوذكسيّة إنّه غير مخلوق. نحن أمامها في انبهار لأنّ الأعماق الإلهيّة نزلت عليها.

هذه لـمّا فتحها العرب كان اسمها إيلياء. وهو اسم روماني عاديّ. بعد الفتح صارت القدْس أو القدُس. وهي والتقديس واحد والتقديس تنزيه الله تعالى وتبارك، والقدّوس اسم من أسماء الله الحسنى وهو الطهارة الكاملة. وبيت المقدس أي البيت المتطهّر هو المكان الذي يُتطهّر به من الذنوب. هذا هو المصطلح الإسلاميّ ولا يبدو لي أنّ المسلمين باستعمالهم اسم بيت المقدس أشاروا إلى الهيكل فإنّه كان مهدومًا ولم يروه. كما أنّ القرآن لم يعنِ ما صار المسجد الأقصى من حيث هو مبنى. وافتراضي أنّ عبارة المسجد الأقصى القرآنيّة دلّت فيما بعد على مبنى المسجد فإنّ بناءه تمّ في العهد الأموي والعبارة هي في الآية الأولى من صورة الإسراء: «سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى». فما أمكن أن تدلّ على مسجد غير موجود ولكنّها تدلّ على بيت المقدس كلّه كما ورد في تفسير الجلالين. القداسة تاليًا صفة من صفات المدينة كلّها.

اتّخذ المسيحيّون العرب التسمية كما جاءتهم من المسلمين وجاءتهم موافقة لما ورد في نصوصهم الطقوسيّة يسمّونها المدينة المقدّسة. التسمية العربيّة أيّدت ما كان بين أيديهم في العبادات ولـمّا انتقلت العبادة من أورشليم إلى أنطاكية ومن هذه إلى العالم الأرثوذكسي كلّه صار المسيحيّون يسمّون المدينة التي هم قاطنوها المدينة المقدّسة تيمّنًا بأورشليم وكأنّهم كانوا يمدّون هذه إلى العالم كلّه، كأنّهم يذوقون القدس في كلّ مكان.

ماذا يعني هذا سوى أنّ المسيحيّين الشرقيّين في عباداتهم كانوا يعتبرون القدس عاصمتهم الروحيّة كائنة ما كانت مرتبتها بين البطريركيّات. هي تأتي لأسباب تاريخيّة في المرتبة الخامسة بين الكراسي بسبب من انحجابها التاريخيّ المتأتّي عن هجرة المسيحيّين لها عند الحرب اليهوديّة في السنة السبعين للميلاد. ولكنّ القانون الكنسيّ أو التنظيم البنيويّ شيء والوعي الروحيّ شيء آخر. فالقدّيس يوحنّا الدمشقيّ مع كونه كان ينتمي إلى الكرسي الأنطاكي مولدًا ونشأة سمّى أورشليم أمّ الكنائس وانتقلت تسمية هذه إلى كتبنا الطقوسيّة.

هذا التقديس العظيم للمدينة أخذ يتّسع مع نموّ حركة الحجّ في القرن الرابع. فكانت الأعياد تنشأ في المدينة بطواف الحجّاج من بيعة إلى بيعة فكان تدشين المقادس انطلاقة التعييد. ومع أنّ هذا أو ذاك من آباء الكنيسة ما كان يعطي للزيارات المقدّسة معنًى عظيمًا إلاّ أنّ ما طغى على التراث الأهميّة القصوى التي اتّخذتها الأماكن المقدّسة. ومنطق ذلك كما يبدو لي هو تعظيم المسيحيّين لناسوتيّة السيّد. فالمكان الذي ولد فيه والعليّة التي أقام فيها العشاء السرّي والبلاط الذي حكم عليه فيه بالموت وما إلى كلّ ذلك صارت للمسيحيّين مناسك وكأنّها مصاعد لهم إلى السماء. أن نتمسّك بالمكان الذي وطئته قدما المعلّم كان شيئًا من التروّض على التقوى وتجديدًا للروح نتوب به إلى وجه المخلص. فالحجّ ليس إلى البيت بل إلى ربّ البيت كما تقول رابعة العدويّة. أنت تذهب إلى الإله الساكن فيك بعد أن تكون قد خرجت عن أناك المنغلق. السير إلى القدس وما حولها سير في الله، هنا تزول الهوّة بين المحسوس والمعقول وتختبر ذلك في نفسك حضورًا إلهيًّا. الحركة هي هذه أنّك التمست المعلّم أوّلاً في منسك فأحببت أن توغل في الروية فترحل إلى الأرض التي بوركت بسيره عليها فتلمس ما لمس ونفسك في حركة توبة، وهي اللمسة الكبرى، وتتصاعد بذلك على الدرجات العلى من الحبّ الإلهيّ. فإذا حجّ ربّ بيت إلى تلك المقادس فكثيرًا ما يترك كنيته هناك ويسمّي نفسه المقدسي أو يطلق عليه ذووه وأهل بلده هذا اللقب لكونهم أحسّوا أنّه بعد أن أمسى في حضرة القدس لا يليق به اسم آخر. هنا يشبه تغيير الاسم عند الرهبانيّة وكأنّ المقدسيّة سِلْك أو سلوك أو كشف جديد. كلّ شيء يجري هنا في حركة دائمة فالمدينة في انتظار من أتى إليها وهي عالمة أنّه يتخطّاها لأنّها درجة من درجات معراجنا كلّنا. المدينة ليست موقفًا. إنّها معبر، يأخذها الإنسان معه فيما هو يمتدّ إلى الآتيات. ولذلك كان السائح الروسي يقتبس فيها النور الفائض من القبر ويحمله إلى بلاده وهو يحسّ أنّه نقل إلى داره بركات لا تنقطع.

والسرّ في القداسة، في هذا التوق الشرس العنيد الى الكمال. صحّ أنّ بطريركيّة أورشليم ما أعطت أبًا كبيرًا بين الآباء المفسّرين. كانت عبقريّتها العبادة والمحافظة على التراث. ففي الوقت الذي كانت فيه المسيحيّة الشرقيّة تتقسّم منذ منتصف القرن الخامس كان رهبان دير القدّيس سابا يحفظون استقامة الرأي. القول الحلال عندهم من القلب الحلال. ويكثرون ويتقشّفون بما يفوق قدرة البشر المألوفة. يمارسون في هذا المنسك العظيم لغات مختلفة لأنّهم يأتون من كلّ صوب. كلّ يصلّي بلغته ويجتمعون للذبيحة الإلهيّة. دير القدّيس سابا كما جعله مؤسّسه تجتمع فيه الأقوام بلا عنصريّة حسب قول بولس: «ليس يونانيّ ولا بربريّ، لا عبد ولا حرّ، لا رجل وامرأة. كلّكم واحد في المسيح يسوع». ومن بعد الفتح يتولّى رئاسة كنيسة أورشليم أبناؤها وقد عُرِّب لسانهم وكان قد تولّى أسقفيّات فيها أساقفة البدو يتبدّون مع الرعية. لذلك عرفت كنيسة الأردن بكنيسة الخيام وتمثّلت كنائس العرب الأقحاح في المجمع النيقاوي ودخلت أورشليم، إذ ذاك، في حركة الكنيسة الجامعة.

أمّا الذين كان لسانهم آراميًّا فتعرّبوا رويدًا رويدًا وذلك في كلّ بلاد الشام حتّى اضطرّ ثيودورس أبو قرّه، وهو من تلاميذ يوحنّا الدمشقيّ، أن يكتب بعضًا من كتبه بالعربيّة.

ثمّ كانت الحرب الصليبيّة وكانت موجّهة ضدّ مسيحيّي البلاد بمقدار ما كانت ضدّ المسلمين فقُتل الأرثوذكسيّون والأرمن في القدس كما طُردوا من أنطاكية ونُفي البطاركة والأساقفة من القدس كما نُفوا من أنطاكية وأقام في القسطنطنية بطاركة أنطاكية حتى انتهاء الحكم الفرنجي لهذه البلاد. وفي تلك الحقبة عُرِّبت كتب الصلاة إذ تعرّب لسان المسيحيّين ما خلا بقاعًا صغيرة ظلّت على اليونانيّة أو السريانيّة. ولـمّا فتح صلاح الدين القدس وأعاد للمسيحيّين حريّتهم من الإفرنج ازداد حسّ المسيحيّين بأنّهم مع المسلمين واحد، وكان من الطبيعيّ أن يكون بطريرك أورشليم من المواطنين. ولم يكن سوى البطريرك الأرثوذكسي آنذاك على العرب وما كانت قد تجلّت فكرة حراسة الأماكن المقدّسة لأنّ المكان بسكّانه وما كانت الفرق المسيحيّة المختلفة قد توزّعت بينها تلك الأماكن حتّى اشتدّت الوطأة الغربيّة فكان لا بدّ من اتّفاقات دوليّة ترعى علاقاتهم في المقادس.

غير أنّه بالرغم من انقسام الرئاسات الروحيّة الأجنبيّة ظلّ المسيحيّون العرب يحسّون بوحدتهم ويشعرون أنّ القدس لهم جميعًا ولو لم يكن بعضهم يستعملون هذه المزارات. الوحدة الأهليّة هي وحدة القدس فالكفاح واحد والمواطنة الفلسطينيّة العربيّة التطلّعات كانت الجامعة.

ذلك أنّ القدس إلى جانب كونها إلهيّة الأفق والملمس إلاّ أنّها متّحد بشري ولذلك أطلق الياس الرابع بطريرك أنطاكية وسائر المشرق أنّها بشر لا حجر. المقامات الشاغرة ممّن قام فيها على صلاته ليست بشيء.

تحدّثنا مليًّا عن الحجّ لنبيّن المكانة الكبرى للمدينة المقدّسة عند المسيحيّين في العالم ولا سيّما الشرقيّين منهم، ولكنّ القدس من بعد أن تآخى مسيحيّوها ومسلموها منذ أربعة عشر قرنًا ورفض مسيحيّوها الصليبيّة باتت مقرًّا لذويها وليس للحجّاج. الزائر يجيء ويروح ويحمل بركات المدينة في نفسه. أمّا المقيم فالمدينة روح شعبه وقطب شعبه. إنّ المسيحيّين العرب في نصرتهم لفلسطين نقلوا الاهتمام المفرط من الأماكن المقدّسة إلى الإحساس بالشعب الفلسطيني مستقطَبًا بالقدس وبذلك أبطلوا مقولة المصير المنفرد للمدينة. هذه ليست في زمان البشر قائمة في نفسها. إنّها قلب جوار محيط ورأس للجسد الفلسطينيّ. هذا يدين لها بهويّته ويستمدّ منها لونًا من ألوان ثقافته. فلسطين ليست بلدًا ككلّ البلدان إذا اتّسعت رقعته أو ضاقت تنقل عاصمته إن شئت لسبب جيوسياسي. هنا التاريخ ليس تاريخًا علمانيًّا مادّته الزمان ورقعته الأرض. نحن نتعامل وشيئًا آخر. وإذا انتُهك ذلك لا تبقى القدس مدينة السلام وملتقى روافد التوحيد في العالم.

هذا ما قلناه باختصار في كلّ المحافل الكنسيّة العالميّة لـمّا كانوا يريدوننا أن نبحث قضيّة القدس وكانوا يحاولون عزلها عن الجسم الفلسطينيّ. كنّا نشدّد على تاريخيّة المدينة، على حضارتها القائمة، على كونها حضن فلسطين أو رأسها.

ليس شأني أن أتحدّث عن علاقة القدس بكلّ هذا الواقع المرير القهّار القائم حاليًّا في الأراضي المقدّسة. إنّ كلّ ما حلّ بأهل فلسطين من ظلم لن يكون أقصى الظلم لو اعترف لهذا الشعب بأن يتغذّى روحيًّا وحضاريًّا من القدس. هذه هي القوّة المحيية لهذا الشعب العظيم ولذلك يجب أن تنفتح من جديد مجاري الينابيع الحيّة المنفجرة في القدس لنرتوي ونشكر.

Continue reading
1991, محاضرات

الملكوت والفقراء / كلية اللاهوت للشرق الادنى NEST – رأس بيروت / الثلاثاء 26 تشرين الثاني 1991

الملكوت والفقراء موضوع يتطلب الرؤية المسيحية للمُلك. هل من مُلك؟ عندنا نحن أتباع يسوع الناصري. طرحي أن المسيحية لا تقول بالمُلك، أن الملك ليس حقًا من الحقوق يقابله الموجبات. ولكنه تفويض إلهي بحيث يكون الإنسان مؤتمنًا على ما بين يديه. وليس لما بين يديه له. ولكنه مؤتمن لمن إحتاج إليه.

 هذه هي الأطروحة التي سنحاول من خلال التراث والإنجيل أن نتبين الحق. هذا إستغرق وقتًا طويلاً إلا أني محدود هذه الليلة بسبب زميلي الكريم للنقاش.

ننطلق من كوننا شراكة قديسين في الملكوت فإن كل شيئ لكم وأنتم للمسيح والمسيح لله. وفي الملكوت النهائي عندما نصل إلى إكتماله يبطل المُلك. وبمقدار أن الملكوت الأخير يشع هنا، ويتحقق هنا في جسد المسيح في الكنيسة يكون الملك للإستعمال منه إلى كونه جوهرًا متصلاً بالخلق.

هذه الشراكة بين الرب والمؤمنين، وفي ما بين المؤمنين، نرمز إليها بسر الشكر

ففي اليونانية الكلمة هي KinOnIa، مشاركة، COMMUNION، العربية المستخدمة لم تلبي الأصل اليوناني. وترجمنا فقط إفخارستيا لسر الشكر. ولكن يعوزنا أن نقول في هذا السياق سر الشركة. فالشركة هذه الإفخارستيا في جسد المسيح تعطى للمؤمنين، والقرابين الإلهية واحدة مشتركة تحسم ما يهيؤها أي الخبز والخمر. وبالتالي كل ما في الأرض مشترك أيضًا. لأنك لا تستطيع أن تصل إلى ما يجمعك بالآخر على صعيد أعلى فرد مسيحي إلا إذا كنت مجتمعًا بالإنسان الآخر، بما دون هذا السر، بالمادة الطبيعية للخبز والخمر.

فالمُلك في الجماعة الكنسية التي هي دائمًا الجماعة الإفخارستيا. ليس أحد بمفرده. وكان كل شيء بينهم مشتركا. هذا يبقى مثالاً ليس فقط قاعدة لكنيسة أورشليم. هي قاعدة إختيارية لبعض منهم. يبقى مثالاً يحتذى في كل جماعة الإفخارستيا.

هذه الرؤية الكتابية التي سأعود إليها تفصيليًا، رآها في القرن الرابع أولئك الآباء الذين ذاقوا الفقر إختيارًا، بعد أن عاشوا في بيوتهم في النِعم، إلتصقوا بالفقر الإختياري. وأذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر، لأن كل التراث الآبائي شرقًا وغربًا في القرن الرابع ومطلع الخامس، بلا إستثناء، من إنطاكية إلى كبادوكية، إلى أوغطسين، إلى أمبروسيوس في ميلانو، كل هذا التراث ينفي المُلك.

يبدو أن مفسري باسيليوس الكبير الأكادميين يخفضونه عندما يقولون إن المُلك له وظيفة إجتماعية، ُيستخدم في سبيله.

لا يبدو لي أن الفكر الجقيقي لباسيليوس الكبير هو إنكاره. أي نحن امام لاهوت. نحن لسنا امام مواعظ وأمام حضّ الناس على التطهر. المسيحية لا تعرف التطهر. هذه مرحلة أخرى لاحقة من بعد أن ملّ قادة الكنيسة من الأغنياء. تنازلوا ليدعوا الناس إلى الإحسان. المسيحية ليس فيها إحسان. المسيحية تنكر المُلك.

إن الشيئ العجيب أن الاباء لم يقرأوا بعضهم بعضًا. هذا شيء لافت. إنطلقوا كلهم من معين واحد، من الأنجيل وفهموه بطريقة واحدة.

الذهبي الفم يقول : لقد أعطاكم الله سقفًا دون المطر لا لترصعوه ذهبًا، في حين أن الفقير يموت جوعًا. وأعطاكم ملابس لتتستروا لا لتزكشوها بالذهب، في حين أن المسيح يموت بردا. أعطاكم منزلاً لا لتسكنوه وحدكم بل لتستقبلوا فيه الآخرين والأرض لا لتأخذوا مواردها والموارد والراقصات والممثلين وعازفي المزمار والقيثارة، ولكن لتطعموا الجياع والفقراء. من قال: أحسب المسيح من عداد عبيدك. حرره مثله من الجوع والعوز والسجن والعراء ثم يكمل فكره أن الأغنياء والبخلاء هم لصوص على نوع ما. هم أيضاَ يترصدون عند كل الطرقات المطروقة المارة ليطمروهم بمنازلهم أو في مغاور ثروة الغير. ما عندي الغني هو ثروة الغير. أساس التوزيع ليس الحنان أو الشفقة لأن كل شيء مشترك بين الناس.فإذا كانت السماء والأرض والبحر وما فيه امور مشتركة. المائدة المقدسة الواحدة وجسد الرب ودمه وموعد الملكوت وحميم الولادة الجديدة وتطهير الخطايا والبر والتقديس والفداء والخيرات التي تتجاوز كل وصف. فهل نكون عاجزين في أمور الغنى؟ فلنحفظ أمور الحق.

ننطلق من الإفخارستيا، هي تتحكم بأمورنا. جسد المسيح المشترك يفرض علينا أن كل شيء مشترك. وهكذا في هذا الخط باسيليوس يقول “لا تظن أن ما تنعم به إنما كان لمتعتك الخاصة، تصرف بما بين يديك وكانه ملك الآخرين فإنه قد يفتنك إلى حين إلا أنه سيتلاشى”، إلى أن يصل إلى هذا المقطع الرهيب الذي صار كلاسيكيًا. يقول البخيل: إلى من أسيء إذا أنا إحتفظت بما املك. ولكن قل لي ما هي الخيرات التي تملكها حقًا؟ من أين جئت بها؟ أنت أشبه بإنسان جلس في المسرح يريد منع الآخرين من الدخول ويبغي التمتع وحيدًا. كذلك الأغنياء يظنون انفسهم أنهم أسيادًا على الأملاك العامة التي إستولوا عليها لأنهم جاءوا أولاً. لو أن كل منا لا يحتفظ إلا بما هو ضروري بسد حاجاته العادية ويترك ما يفيض عنه للمحتاجين لمحي الفقر والغنى. ألم تخرج عريانًا من أحشاء أمك. ألن تعود إلى الأرض عريانًا؟ فمن أين أتاك مالك الحل؟ إن اجبت من الصدف كنت جاحدًا ملحدًا لأنك لاتعرف قوانين خالقك. إن إعترفت أنها من هبات الله قل لنا ما سبب غناك؟ هل هو من ظلم الله الذي لم يقسم الثروات للإقتسام بين الجميع؟ لما كنت غنيًا وكان ذاك غنيًا؟ إلى أن يقول: إذا كنت بخيلاً ألست إذًا سرّاقًا؟ الخيرات التي دفعت إليك للتعهدها إستوليت عليها. من يجرد رجلاً من ثيابه يدعى نهّابًا ومن لا يكسو عري المسكين وهو يستطيع ذلك أيستحق إسمًا آخر؟

الخبز الذي تخبؤه هو ملك الجميع وملك العريان ذاك المعطف، وملك الحذاء لحافي القدمين، يعود الحذاء الذي يحترق في بيتك، وللمعوز يعود للذي تتدخر.

هذا الفكر الآبائي في القرن الرابع يصل إلى ذروته عند سمعان اللاهوتي الحديث القائل : المال وكل ما هو لك ملكك المشترك لكل الناس.

من بعد هذا يأتي كهنة الأغنياء وأساقفتهم ليقولوا لهم ما يروق.

نحن إنطلاقًا من هذا العيش نقول إن سلطان المال حسب قول المزامير، للرب الأرض وكل الدنيا وكل الساكنين فيها. فإذا أشرفنا على هذا الموضوع من التراث نعود إلى الكتاب الإلهي في العهد الجديد. تذكرون أنه في العهد القديم كيف أن الله يعظم أولئك الفقراء الذين كانوا ملتصقين بالله، وخصوصًا هذه المرحلة السابقة للعهد الجديد، حيث عرفنا جماعة في فلسطين هي الفقراء إلى الله وكانت منهم مريم عندما تقول أخفض عن الكراسي ورفع المتواضعين وأشبع الجياع من خيراته والأغنياء أرسلهم فارغين، منهم سمعان الشيخ، وكل هذه الجماعة الطيبة التي كانت بسيطة بيسوع.

كان عندنا إرتباط بين الفقر المادي والفقر إلى الله. كانت القناعة قائمة على أن المحتاج هو دائمًا يرجع إلى الله.

عندما نجيء إلى العهد الجديد نرى فكرًا يمثله لوقا وهو فكر الفقير، النزعة الفقرية. وفكرًا آخر في متى عندما يقول : طوبى للمساكين بالروح فإن لهم ملكوت السماوات.

نجد في متى الفكر الذي يؤكد على التواضع. المساكين بالروح هم الودعاء والمتواضعون الذي يرتاحون إلى الله.

القولة الصالحة في العهد الجديد في لوقا “روح الرب علي لأنه مسحني لأبشر المساكين”. ثم يتكلم عن شفاء الأمراض وحرية الأسرى. واللافت أن لوقا يقول إن المسيح هو مبشر المساكين. لا يقول إنه يبشر الناس. وكأنه يقول إنه وحده يسمعهم. هم يستمعون إلى أنفسهم وشهوات أنفسهم وينفذونها. ويصل فكر لوقا إلى هذا التصريح الحاد “طوبى لكم أيها المساكين بالروح لأن لكم ملكوت الله”.

السؤال التفسيري الذي يفرض نفسه هو هذا: ما القراءة الأولى. ماذا صدر عن فم المعلم؟ هل تفويضك حسب متى “طوبى للمساكين بالروح” أي نحن في مجال الوداعة والتواضع أم أن القولة التي صدرت عن المعلم هي “أيها المساكين” أي نحن في حركة فقرية؟

يبدو لي من كثير من المفسرين أن متى هو الذي لطف العبارة اليونانية، وأن لوقا هي الأصلية.

مهما يكن من أمر أعتقد أن هذا جدل لا ينتهي. فإن سياق لوقا هو ان الفقراء آنذاك كانوا روحيين، سواء قال لوقا “أيها المساكين” هكذا فقط، أم قال الإضافة في متى. عند لوقا أن الفقراء الذين كانوا على هذه التقوى هم مغبوطون.

مجمل المفسرين يقولون لنا إن السيد ليس عنده إكبار أو تعظيم لأية حالة إجتماعية لا يمكن أن نقول إذا رأينا غنيًا،الله أنعم عليه. من يقول إن الله أنعم عليه؟

من لا يقول إن الشيطان أنعم عليه؟ إذا جاء بالمال من التهريب، أو بتبيض الأموال، هل يعني هذا أن الله أنعم عليه؟

إن الشعب لا يزال علىفكرة العهد القديم بأن الله أعطى إبرهيم، وأيوب أعطاه الله من مال وخيرات. من يقول إن الفقير إن الله إختاره؟ بعد نعمة ليس بعدها من نعمة. الله ينعم بالفقر لا ينعم بالمال، وكثيرًا ما ينعم بالفقر، كما ينعم بالمرض.

الملكوت يقتضي في الملكوت الأخير أن الناس اصحاء. قد تكون الصحة هنا على الأرض رمزًا وإشارة إلى الحرفية الروحية في الملكوت. انا لا اعرف الكثير من الناس اصحاء بحالة التواضع أمام الله أو يشكروه أو خفرين.

أنا اعرف أن الجمال يعادل بثمانين بالمئة مقرونًا بالإدعاء والإفتخار. فإن الوجع بالتواضع والوداعة إذا أردنا ان نفكك هذه الأشياء، ليس من عندنا دليل موضوعي على نعمة الله على صعيد المال والفقر أو الغنى والصحة.

إذًا لا تعظيم لأية حالة إجتماعية. يمكن أن يكون الفقير إنسانًا يائسًا، محييرًا. الفقير يمكن ان يكون كافرًا. ليس عندنا تعظيم للفقر. علينا ان نفرق بين الفقير والغني. عندنا دعوة إلى الفقراء وعندنا حالة فقرية إذا قضيها الإنسان ليرتقي منها إلى العدل، إلى مطلب العدل. وإذا إرتقى بها إلى رؤية النعمة على انها الغنى الوحيد. الفقر طاقة للرؤية. بحد نفسه ليس شيئًا يغبط الإنسان عليه. وليس الغنى بحد نفسه حالة من الكفر. إن ما وجب قوله بإختزال هو ان القناعة بالوجود ليست من الفضائل. القناعة كنز لا يفنى. الإستسلام لجبرية الحاجة هذا ليس من الإيمان. جل ما يمكن قوله أن سكنى الله هي في الفقير الذي يرتضي هذه السكنى الإلهية فيه. ليس الذي يرتضي الفقر ذلك أن إرتضى بؤسه يشارك في ديمومة الظلم. ما يروق الله فقط فقر نختاره تطهرًا وقربًا شهادة على الحاجة الوحيدة للملكوت الآتي.

الرهبانية كانت المستحث التاريخي لإكتشاف لاهوت الفقراء عند الآباء الكبار الذين نكرمهم. الفقر الإختياري ليس فقط في الرهبانية المقوننة، ولكن في أي عهد يعيشه المتزوجون في العالم. أي الحد من الحاجة. الفقر الإختياري شرط ملازم للإمساك الكامل وهو معنى الإمساك. عندنا عفة رهبانية لا يمكن ان تعاش إلا بالفقر الإختياري. هذان ركنان مترابطان. والعفة بمعنى الإمساك الجنسي هي تطلع إلى الملكوت الآتي. هي قفزة فوق هذا العالم من اجل الملكوت والسلم إلى هذا الملكوت. في هذا المنهج السلم إلى الملكوت هي الفقر الإختياري.

هنا عندنا في الإنجيل مسألة الإفتخار. إذ تذكرون هذا المثل، الإنسان الذي زادت غلته وأخذ يهدم الأهرام التي عنده ليبني أهراء أخرى، وقال: يا نفسي تمتعي الآن. وإعتبره الإنجيل جاهلاً.

موضوع الإفتخار في الإنجيل هو موضوع ظرفي ويتماشى مع الحضارات الزراعية. لأنه في فلسطين الفقراء كانوا الأكثرية الساحقة. وبالتالي الإفتخار يكون ضده. إن لم تعطهم فهم يموتون جوعًا. ولكن في حضارة كهذه التي نحن فيها القائمة على النظام المصرفي لا بد من الإفتخار. إذ لانأخذ هذا المثل الإنجيلي أنه سيهدم ويوسع الأهراء. هذا بصورته المادية لا يستقيم معنا الآن. فالذي يستقيم معنا أن الإفتخار ممكن في حضارة إقتصاد السوق. ولكن يبقى المعنى الأساسي من المثل الإنجيلي وإن لم تبق صورته الآن. المعنى الأساسي هو الإستقلال الداخلي عن الخوف، إستبعاد المال عن أن يكون بعدًا في العلاقات الإنسانية. إنه بعد في العلاقات التجارية. الشخص هو صاحب العلاقة، هو في مقابلة ومشاركة مع الشخص الاخر. المال بعد فقط من ابعاد العمل في إقتصاد السوق. وأما العلاقات الشخصية فهي صداقة ام حب. تعاطي الفن، تعاطي الفلسفة، تعاطي الفكر، تعاطي المهنة. هذا شيء شخصي إنساني.

إذا تابعتم الحياة كما كانت هنا في لبنان وفي هذا المشرق فهي لم تكن قائمة على المال. كانت قائمة على أن هناك نجارًا يبقى ستة أشهر لصنع خزانة جميلة جدًا وتدوم.

أنا عائش في مجتمع كان الحذاء فيه شيئًا جميلاً والإسكافي يعمل من أجل ان يكون جميلاً. الناس كانوا يعملون للجمال. لم يكن المال هدفًا حياتيًا.

خلاصة التأمل أن المسيح في الفقراء وليس في الفقر إلا الفقر الإختياري ذو النهج الرهباني. المسيح في الفقراء لأن المسيح في السجبن. المسيح في المريض. المسيح ليس في المرض. هو ساكن كل المحتاجين إلى الرحمة وإلى الحب. المسيح في المشاركة لأن المشاركة هي المحك الحقيقي لستر المحبة.

وببساطة المحبة تيقى كلمة شعرية إن لم تكن مقرونة بالعطاء المالي. فالمحبة التي لا تترجم بالمال ليست مغلوبة.

س – هل يعاش الفقر فرديًا أم يعاش جماعيًا ؟ فلماذا الكنيسة لا تشهد لفقر

يسوع ؟

ج- الكنيسة في التاريخ معترّة.

إن كل ما بين ايدينا علينا أن نتربى على انه للجميع. في التاريخ المسيحي إخترع شيئ جميل جدًا وهو الأوقاف. يقتطون مالاً تكون فوائده للمؤمنين لكل الأجيال ولفقراء الكهنة. إن ما يعوزنا في الكنيسة تبين لنا في بعض الرعايا أنه هو نفسه هو المشاركة المالية. فالكنيسة لا تكتفي بلم الصواني. ومعظم الأرثوذكس عندهم ثلاث مواسم ليذهبوا إلى الكنيسة، وقت يولد وقت يتكلل ووقت يموت. معنى هذا أنهم لا يعطون شيئًا. علينا أن نتربى على العطاء المستمر. هذا إذا حكينا عن عمل العطاء ضمن الكنيسة وهذا يجب ان ينفذ بالدعوة بالنداء وبالإقناع بحيث نحمل بعضنا بعضًا.

يوليانوس الجاحد قال: إن مسيحيي روما بعصره في القرن الرابع ليس فقط يدعمون فقراء المسيحيين ولكن يدعمون كل فقراء مدينة روما.

ففي القرن الثاني الميلادي، هذا النظام الذي إسمه الصوم لم يأت من تقشفهم وأنما المسيحيون يحرمون أنفسهم من الطعام لكي يعطوا للمحتاجين في الرعية. فالكنيسة كان عليها أن تفهم هذا اللاهوت الحقيقي أن الذي لك إنما يؤخذ منك عن طريق التطوع، لأنك انت مؤتمن عليه. فأنا أكون اعتتدي على أمانة إلهية. ولكنك أنت مبعث المشاركة يدفعك للعطاء.

يقول نيقولا بردياف: إن الرغيف الذي أنا سآكله هذا موضوع مادي. الرغيف الذي سأعطيك إياه هو موضوع روحي.

توجد المحبة لله التي هي طاعة له. ولكن توجد المحبة التي بين الإنسان والإنسان. لا أتكلم عن العشق بين الرجل والمرأة ولكن عن المحبة التي حكى عنها يسوع الناصري، وعبر عنها بنوع جلي في إنجيل الدينونة بقوله: كنت جائعًا فاطعمتوني. فهذا الجائع إذا قلت له: الله يعطيك. هذا كلام ليس فيه ألوهية أبدًا.

عليك ان تحكي بكلمة من الله، من المحبة. وإذا كانت المحبة محصورة بالوعظ حتى يكون بين الناس طراوة عاطفية هذا جميل جدًا. ويجب ان يمارس.

ولكن كيف تظهرين محبتك ِ للفقير؟ هذا هو السؤال. أنا الذي أقوله ليس ماديًا. هو قمة الروحانيات. ليس من تعبير عن المحبة حقيقي فعلي يكلف، يوجع إلا هذا العطاء الذي ظاهره محبة وجوهره ذروة.

Continue reading
1991, محاضرات

حول تعميد الأدب والفن / دير مار جرجس – الحميرة / 26- 8- 1991

لا بد أن نحيط بكلمة الشهادة أن نحاول تحديدها. كذلك لا بد من أن نحيط بمفهوم الفن لكي نرى العلاقة الممكنة بينهما. قد أشتم من هذا العنوان كما وضع أن أصحابه يريدون أن يسخر الفن والأدب لتبليغ رسالة يسوع. هذا المسيحي موجود فنيًا وشعريًا لذلك هو مكلف بتأدية الشهادة للسيد في المجال الذي يظهر به. ربما كان هذا كامنًا في عقول الذين صاغوا هذا العنوان. ولهذا لا بد لنا من ان نعرف الشهادة ونعرف الفن لكي نرى إمكان اللقاء بينهما.

لقد بينت في دراسة لم تنشر في هذا البلد أن الشهادة –خصوصًا في الكنيسة الأرثوذكسية- هي نفسها القداسة. ليس هناك قداسة إلى جانب وعلى حدة وكهذا على حدة. من الطبيعي أن نؤكد في الشهادة على أنها كلامية ، على أنها تبليغ الإنجيل، ليس فقط هذا، ولكن هي الإشعاع بنور المسيح. مضمونها وزخمها (القداسة)، السير إلى الله والغلبة على الأهواء وإدراك ومحاولة إدراك الجمال الإنجيلي. هذا نفسه هو الشهادة. يمكن أن تكون صامتة. وكثيرًا ما كان القديسون صامتين أو عاجزين عن الكلام. ليس من المفروض على الإنسان المتقدس أن يعرف الكلام. هذا ليس ضروريًا. يستطيع القديس أن يكون بائع خضار أو حمالاً في الرفأ. ليس من إرتباط بين القداسة والكلام. كثيرًا ما يكون الإنسان صامتًا لا يعرف أن يعبر.

ولكن قد يعبر كلاميًا ويتكلم عند ذاك بما يعلم ويشهد لما رأى وهو يكشف الثالوث المقدس.

إذًا نحن في الشهادة مع مقولة الحياة في المسيح ومع قدرة التبليغ  في الكلام. هذه القدرة آتية من كون المؤمن يرى المسيح كما قال هذا الرسول الثالث عشر الذي إختير بعد خيانة يهوذا، وكان المفروض أن يختار من كان معنا منذ معمودية يوحنا إلى اليوم الذي صعد الرب إلى السماء ليكون شاهدًا لقيامته. فالشاهد المسيحي هو الذي يبلغ في حياته وأحيانًا في كلامه عن زخم القيامة به أي تحويل القيامة بحياته. هذه هي المرحلة المهيأة لشهادة الدم إن طلبت.

نحن إذًا في الشهادة مع حالة وجدانية، مع حالة تقديس. غني عن ألأمر، غني عن القول إن الشهادة نعمة تأتي من فوق ، ولا علاقة لها بأية موهبة طبيعية. أؤكد على هذا أنها هبة إلهية. والمواهب الطبيعية لا تنفع فيها. قد تستخدم وقد لا تستخدم. كيف نأتي من الأله الذي هو الآخر بالكلية؟

أما الفن فهو موهبة طبيعية موجودة عند هذا الإنسان أو ذاك. كما ان الصوت الجميل الرخيم هو مجرد وضع للأوتار الصوتية -وضع بيولوجي بحت- لا علاقة لله بالصوت الجميل. فلا نخلط نحن بين المواهب القائمة في الطبيعة والمواهب التي تأتي من الروح القدس.

ما الفن؟ هي رؤية لهذا الكون غير الرؤية القائمة عند الكثير من الناس. إذا أتينا مثلاً بفلاح من هذه المنطقة إلى هذه القاعة فكل ما يرى فيها أول كلمة يقولها: هذه قاعة تسع لثلاثمائة شخص وعملنا لهم فيها سفرة فيأكلون فيها وأنها مؤلفة من حجارة قوية صامدة وينتهي عند هذا. ليس له علاقة بجمال القاعةز ربما البعض عنده شيئ من التحسس الجمالي، ولكن إذا أتى مهندس معماري يقرأ هذه القاعة قراءة خاصة به. ينتقل من هذا الجمال. ما نسميه جمال هو قراءة. هو لقطة. هو قراءة خاصة لإنسان معين.و بمجموعة بشر. ولكن هذا خروج عن الواقع الإلزامي، عن الواقع الجامد. من هنا تتبينون مثلاً الفرق بين صورة فوتوغرافية وبين صورة فنية. لا يمكن أن تكون لوحة فنية مطابقة % لصورة الآلة الفوتوغرافية. فالآلة الفوتوغرافية إذا إستعملت بطريقة تبرز أن لهذه القاعة أبعادًا مختلفة من النور والطول والعرض قد تقرب الصورة الشمسية من اللوحة. ولكن الفن يبدأ إذا إنتفض إنسان وترجم الواقع إلى شيء آخر. في الفن نحن مع تحول دائمًا وإنتقال. اذًا الفنان يأخذ شكل مادة هذا الكون التي تكون اساسًا بلا شكل ويجعل لها شكلاً آخر. بالعين المجردة أنتم تشاهدون هضبة أو جبل أو غابة وما إلى ذلك التي لها أبعاد هندسية معينة. يأتي هذا الفنان ويحس أبعادًا أخرى ويحس بصلات قائمة بين الغابة والجبل والشمس أو القمر أو ما إلى ذلك. يرى ليس بالعين المجردة ولكن يرى من قلبه. يبدأ الفن حيث تكسرّ الطبيعة وتختلط وتقال –بصورة أخرى- شعريًا. أن تقال شعريًا يعني أن تقال بلغة ليس لها بديل. الإنسان العادي يقول الطبيعة كما هي ليس عنده حس آخر أعلى من عينيه. يصف الشيء في ماديته. عندما يأتي الفنان يجبل الطبيعة بشيء آخر. يجبلها بما عنده داخليًا بما عنده من حس وإتصالات فوق المرئي وفوق المسموع ، وينشء هذا العالم نشأة أخرى. ولهذا إذا كتب الشعر أو ما يعتبر شعرًا فهذا لا يمكن ترجمته نثريًا. فنقاد الشعر العربي دارسو القصيدة للمتنبي وبالحاشية يترجموها نثريًا هذا عمل ليس تحليليًا. فعندما نسأل في القصيدة مع معاني أو مع ألفاظ؟ معنى أو مبنى؟

بالضبط لا يكون شعرًا إذا ردّ كليًا إلى المعنى. فاللفظة شيء أساسي ولا يمكن إطلاقًا فك الجوهر. فعندما نقدر أن نفك الجوهر عن شكله نحن لسنا مع الشعر. نحن مع كتابة علمية. الكتابة العلمية يمكن أن تكون في هذه الصيغة ويمكن أن تكون بصيغة أخرى. مثلاً الكتابة الوصفية للأفكار.

إذًا عندنا نحن حس جمالي،رؤية جديدة. فرؤية العاشق الذي يكتشف في لحظة في طرفة عين أن هذه الفتاة لن تبقى كالفتيات، لن تبقى واحدة من جنس النساء. إنها وحدها في الكون أو إنها الكون. هذه فتاة تشرح كباقي الفتيات ولها طول معين ولها عرض معين. هذه هي النظرة النثرية الواقعية الصحافية. هذه النظرة صحيحة ولكن نظرة العاشق أنها وحدها موجودة بين النساء وأن النساء كلهن أقتلن أي محين محيًا. هذ القراءة الجديدة للعاشق قراءة هي أيضًا صحيحة ولكن لها صحة أخرى، ينشأ العالمَ نشأةً أخرى، كما يقول القرآن.

ولكن في كل هذا نحن في عالم الجمال، ولسنا نحن في عالم الجمال بما معناه الإنجيلي. إذًأ عندنا في الإنسان الواقع المؤمن بيسوع، حياة جهادية أو موقف جهادي وهو موقف مكره لا ينفع لشيء. وعندنا في الفن حس وجمال.

هل يمكن أن يكون هناك شعور بالجمال دون أن يكون شعور بالله؟ تصوري أن كل فن هو نقلة ما غير واضحة للفنان نفسه، من هذا الدهر إلى الدهر الآتي. هناك تجليات الله أو إذا شئتم إلهية ما في كل عمل فني. سنكتفي بهذا التعريف الشائع أن الفن هو عالم الجمال أن الشهادة هي عالم الحقيقة، هي عالم الحق إذا أردتم هذا التعبير من إنجيل يوحنا أن الحقيقة المعاشة في أعماق الإنسان والمبلورة له والتي تجعله في تجليات من النور الإلهي. يجب أن يتم لقاء بين المطلقين، بين عالم الشهادة وبين عالم الفن. يجب أن يتم هذا اللقاء في مكان ما. اللقاء بين الشهادة وبين الجمال، بين الحق الإلهي بين الدفق الإلهي أو القداسة والجمال يتم في شخص الشاعر أو الفنان. عندنا بالتالي إذا أردتم أن نجعل الشهادة فكرًا مبلَّغًا في شخص واحد تتم الرسالة المبلغة والقلب الذي يحس بها.

لماذا يميز تمييزًا واضحًا بين عالم الحق والذي تكلم عنه إنجيل يوحنا، بين عالم الجمال. لأن الرسول إذًا يعلمنا أن النعمة يمكنها إذا نزلت على الطبيعة فالطبيعة تقوي الطبيعة ولكن على صعيدها. النعمة من جهة قد تقدس هذا الشاعر أو الفنان. ولكن النعمة لا تجعله أكثر شاعرية أو أكثر فنًا. هي تقدس شخصيته. تقدس شخصه. النعمة لا تعلمه النحوي.النعمة لا تجعلني خطيبًا. ليس من إختراق بين القداسة وبين المواهب الطبيعية. ولكن أين هو المفصل بين الشعر أو الفن عمومًا وبين الفكر؟ المفصل هو الحرية. الجامع بين الإنسان والفن هو الحرية أي ما يجعلنا خالقين مبدعين هو الحرية الداخلية. القدرة على كسر الموجود اللفظي في الشعر مثلا وإعطائه معاني أخرى فصاحة أخرى. إذا لاحظتم عند الكتاب الكبار بأية لغة تعرفونها تشاهدون ان المفردات لا تعني عند هذا الكاتب تمامًا كما تعني في القاموس. في القاموس في المفردات لها حد معين مصبوبة صبًا هكذا. عندما يأخذها كاتب كبير ويجبلها بسياق كلامه ويضع فيها عاطفته وتتلون وتصير ترقص غير شكل بكتابه عما تكون في كتاب آخر. معنى هذا انه كسرها وجبلها من جديد. إذًا نحن في عالم الجبل في عالم الرؤية كيف يتم هذا؟ يتم هذا بالحرية. وهنا دور الإنجيل  الذي هو خالق الحرية بالنسبة إلى التراث القديم. أنتم تعلمون أن الإغريق لم يقولوا بالحرية وأن الناس طبقات ويوجد أحرار وعبيد ورجال ونساء.

لا يقدر ان يطلع جمال حقيقي كبير إلا إذا كان الإنسان يتوق إلى الحرية الداخلية إلى حرية ما ليس إلى حرية كاملة لأنه إذا وصل إلى حرية داخلية كاملة فهذه هي القداسة. عندئذٍ قد يؤثر الصمت. القداسة لا تفضي بالضرورة إلى الكمال أو إلى المعرفة أو إلى الموسيقى. ولكن هناك إنعتاق ما من الضغوط الداخلية حتى يستطيع الإنسان أن يتكلم أو أن يرسم أو أن يلحن. ومن هنا قولي إن الإنسان يُستعبد كليًا لا ينشأ فكرًا ولا جمالا.

أنا لم أقل إن البر وحده ينشأ الفن. بإعتقادي أن الفن يأتي من أمرين: يأتي عند إنسان في حالة التأجج وفي حالة الصراع وفي تطلع إلى البر إلى النقاوة. هذه إمكانية لأن هذا الإنسان المتوتر داخليًا لا يمكن أن يحس بالجمال.

أو يأتي الجمال من فيض فرح. فيكون الإنسان قد تجاوز هذه التوترات الداخلية فوصل إلى الرؤية وإستقر في الفرح الإلهي. الفرح الإلهي يعطينا قراءة جديدة للفن. ولكن إذا كان الإنسان لفظيًا ليست عنده تجربة داخلية، وحرية داخلية. يفقد الشعر قيمته ولا يكون الفن ذا قيمة. ولإنعدام الحرية أو ضعفها أو لإنعدام التجربة الداخلية، تصوري أن معظم الشعر العربي ذا لطف لأن ليس فيه معاناة. نرى معاناة  عند أبي فراس الحمداني او أبي نواس وما إلى ذلك. ثم نقفز قرونًا عديدة حتى نصل إلى خليل حاوي أو إلى نزار قباني.

لماذا عندنا في العصر الحديث شعر؟ لأنه عندنا تجربة لأنه عندنا تطهر من نقطة الواقع هذا وقراءة جديدة لهذا الواقع. هذا أتى من أذواق التنوعات وهذا أتى من ألم. أما قبل ذلك بقرون القصة قصة نظم. من هنا أيضًا إذا لم يكن من تفلت في الرسم من التصوير الواقعي الجاد البارد لا يكون عندنا. دائمًا يكون عندنا تحرر ما. كثرة من الشعراء التقليديين ساقطون لأنهم بلا خبرة داخلية. وكثيرًا من الشعراء من المعاصرين ساقطين لأنهم بلا فكر. يريدونك أن تدخل في الحس دون العقل. عندنا ضبابية و رفض للكلام. ليس عندنا صورة حقيقية.

لا بد لنا من شيئين حتى ندخل في عالم الفن : لا بد من موهبة تكون ضامنة لنوعية العمل الفني ولا بد من نعمة الشهادة تلتقيان بالموهبة الفنية والشهادة، تلتقيان بالشخص الواحد.

يمكن لكم أن تنظموا شعرًا وتعزفوا موسيقية كلاسيكية فلن تصيروا قديسين. هذان امران مختلفان. يمكن أن يهيأ احدهما الآخر. ولكنه لا يفتعل الآخر. ولذلك لا يمكن أن تؤدي الحياة المسيحية إلى الفن بقدر نفسها إن كان هذا الفن غير موجود. فلا يكفي أن كلف شاعرًا من أوساط الشباب أو غير الشباب دائمًا عميقًا من أن نقول له بأن يعمل نشيدًا. يطلع نشيدًا تافهًا مثل نفس الإناشيد الموجودة. تافه شعريًا أي ليس له قيمة شعرية. هذا مجال للدعاية. ولكن ليس هذا شعرًا. ولا يمكن أن يُكلف شاعر كبير بنشيد مسيحي.

إن المسيحية بيئة تتفتق فيها المواهب. هي حاضن لأن المسيحية بحد نفسها هي الشعر الكبير. أنا لا أعرف قصيدة حب أجمل وأبلغ من تلك القصيدة القائلة: إن الله هكذا احب الناس حتى بذل إبنه الوحيد لكي يخلص كل من يؤمن به. شيئ يذهل بحد ذاته بأن الآب نفسه بصورة إنسان يأتي ويتودد العروس التي هي البشرية جمعاء وأنه يبذل نفسه عنها في الدم المسكوب. غني عن القول بأن الحب في تعبيره الأخير، في الحياة الزوجية هي دم مسكوب. هذه هي الصورة التي أعطاها الإنجيل عن علاقة يسوع العريس الإلهي بالكنيسة العروس.

إذا كنتم تعرفون  قصيدة عشق أيلغ من هذه فدلوني عليها.هي بحد نفسها تفتق طاقات الحب في القلب البشري. ولهذا أنتجت رموزًا،وعبادات لتقول إخلاصها للمخلص. وبهذا إستوعبت أساطير قديمة، صورة قدموس وموته وقيامته وإنبعاثه. وكل إنسان عنده طاقة شعرية أو طاقة فنية يدرك تجارب بينه وبين المسيح. ولهذا -إذا شئتم- ليس للمسيح بالحقيقة أعداء، ما عدا النافذين المناضلين الذين يسجنون البشر. ولكن لا نجد عداوة لشخص يسوع الناصري ولكن وجدنا عداوة كبيرة للكنائس. هذا شيئ آخر. الكنائس فيها مطارنة وأكليروس وفيها ممارسات جيدة وغير جيدة. وإستطاعت المسيحية أن تعبر عن القلب البشري ببيئة مهيأة للتفتق الفني، لأن المسيحية موت وقيامة، أي إنها تتكلم عما يجري في الإنسان. ما الموت والقيامة؟ يعني أن كل إنسان يموت هكذا.كل إنسان عنده موت وقيامة. كل يوم عنده هبوط وسقوط وحزن ويأس ومرض ومواجهة للموت. وعند الموت فرح ورجاء. هذا الذي يحدث في القلب البشري. بتصوري أن المسيحية هي وحدها الديانة الواقعية لأنها ديانة القلب البشري. فلا ندعي بأننا نعرض على الناس ديانة واقعية بما أكثرهم بما يقدرون أن يفعلوا؟ أكثرهم يحبون إمرأة واحدة ولذلك نعطيهم أكثر. واكثرهم يحبون الأكل ولذلك نشرح لهم ما الأكل الذي يحبونه. هذه ديانة إحصائية. نعملها للأكثرية. المسيحية وحدها الديانة الواقعية لأنها ديانة القلب البشري الذي يمر دائمًا بالموت وينتقل إلى القيامة.

إنما ديانة هذا القلب المعلق الذي نعطيه نحن قدرة عيشة إذا نفذت في يسوع الناصري. وإذا نفذت في واحدة يمكن أن ننفذها في الآخرين.

المسيحية إذا ادركناها على أنها إيمان بالحب الإلهي، التوق الجاري بين الآخرين. وإذا أدركناها حبًا متجسدًا فهي تطلق الإنسان إلى الرؤية العظيمة. بمعنى ما كل المسيحية شاعر. لأنه يرى الإنسان فوق نفسه ويراه في دعوته ويراه في توقه. ولهذا الشهادة لا تسخر تسخيرًا لإنتاج كتابة أو فن. ولكن الشاعر شاعر، والمسيحي مسيحي.لذلك لا تقدر أن تصدر الكنيسة لإنسان أن يكتب جيدًا وتكون شاهدًا. هذا شيء مصطنع. ولكن تقول إن الموهبة الشعرية الفنية تنمو على صعيدها.

Continue reading
1991, محاضرات

حوار حول المشاركة في الأسرار / دير العازاريين – ضهر الصوان / 21 آب 1991

سأبدأ مباشرة بممارسة حياة المسيحيين الأولى. فنحن سنطل على هذه المشكلة التي أمامكم من الواقع المسيحي الذي كان يعاش. الواقع المسيحي هو أنه من بعد الإصطدام الهائل الذي صار بين الكنيسة في المجمع المسكوني الأول الذي سن دستور الإيمان. هذا كان أول قنبلة في العالم المسيحي وأهمها. خرج من الكنيسة الذين يقولون بأن المسيح ليس إلهًا. بقي من كان يسمون باللغة اليونانية الأرثوذكسيون -المستقيمو الرأي– الذين يؤمنون بأن المسيح إله. ويقي خارجًا الذين لا يؤمنون بأن المسيح إله.

نتيجة لهذا الإنقسام ظهرت كنائس مختلفة ومتصادمة. وأعتبر المسيحيون المستقيمو الرأي  أنه لا يقدرون أن يشتركون بالمناولة الذين ينكرون ألوهية المسيح.

فيما بعد صارت مجامع مسكونية أخرى. والكنيسة الكبرى أي الكنيسة الأرثوذكسية والكنيسة اللاتينية تقولان بأن له طبيعتان إلهية وإنسانية معًا في شخصية واحدة. وكان الفريق الآخر الذي ذريته اليوم الكنيسة الأرمنية والقبطية الذي لا يقبل بهذا الإعتقاد. يقول بأن المسيح طبيعة إلهية واحدة. نتج عن هذا إنقسام وعدم المشاركة في تناول الأسرار.

عندما وصلنا سنة 1054م إلى خلاف بين كنيسة روما وكنيسة القطسنطينية. فالعالم المسيحي كان منظمًا إداريًا على اساس خمس بطريركيات: روما، القسطنطينية، الإسكندرية، أنطاكية، أورشليم. يقتسمون رقعة العالم متحدين مع بعضهم البعض. عندما نشأ خلاف بين بابا روما وبطريرك القطسنطينية، بابا روما حرم كنيسة القطسنطينية ومع بطريركها. نتج عن هذا أن بطريرك القطسنطينية إنفصل بالصلاة لبابا روما. إعتبر حاله مفصولاً وفاصل. كل مفصول يكون فاصلاً بنفس الوقت. فعندما اترك انا بيت أخي لأني زعلان أكون هو طردني أم أكون قد طردته؟ يكون نحن الإثنان قد طردنا بعضنا البعض. فالذي بقي في االبيت هو الذي يحق له الدخول إلى البيت.

في العالم المسيحي تاريخيًا الذي يقول رأيًا غلطًا يسموه مهرطقًا أو هرطوقيًا مثل الأريوسيين الذين أنكروا ألوهية المسيح. والذي يشق عصا الطاعة ويتمرد على السلطة الروحية يخرج أيضًا إلى خارج. من المسؤول؟ هذا موضوع آخر. هذا موضوع تاريخي. في واقع الحال كنيسة باقية في وحدتها وفي نظامها، وكنيسة ثانية لا تبقى معها في حالة الوحدة بحالة التفاهم، فإذًا تروح إلى غير محل. وينتج عن هذا أن الذين لا يتناولون مع بعضهم. على سبيل المثال إذا المطران أوقف كاهنًا عن الخدمة بسبب انضباطي. هذا باقي ضمن كنيسته. يقول له: أنت لا يحق لك أن تقدس إلى إشعار آخر. المؤمنون لا يحق لهم أن يتناولوا مع  هذا الكاهن المحروم أو الموقوف عن الخدمة. ويخطؤون إذا صلوا وراءه. وبالتالي يوجد واجب البقاء على الوحدة. لا نقدر أن  ننشق عن المطران الشرعي ويوجد واجب البقاء على الإيمان الصحيح السليم. إذا سميناه أرثوذكسي أي الذي آمن بألوهية المسيح. لماذا تنقطع المشاركة في الأسرار لأن ليس من اسرار إلا شرعيتها إلا مرتبطة بالإيمان المستقيم. يأتي كان ويبارك هذه الكأس الملوءة ماءً ويباركها بكلمات التقديس هذا لا يعني أنها تحولت ميكانيكيًا بكلمات يقولها. هذا يجب أن يعمل ضمن القداس والشخص أو الجماعة التي تعمل القداس وإمانها كذا. هذه الجماعة يجب ان تكون عقيدتها سليمة. إذا عقيدتها ليست سليمة نحن لا نعرف ماذا يصير بهذا الخبز والخمر. يتحول أو لايتحول هذا ليس عملنا. من أجل هذا لا نقدر أن نقول أنه رغم وجود جسد المسيح أنا أروح وأتناول. اين هو غير موجود جسد المسيح؟ أنا لا أعرف ولكن أنا أعرف أن كلمة جسد المسيح تعني بنفس الوقت القرابين وتعني الكنيسة. ما في قربان مفصول عن الكنيسة. الكنيسة المستقيمة في عقيدتها المرتبطة بالرسل بإستمرار تاريخي أوبأخلاص إيماني. هذه الكنيسة المستقيمة بعقيدتها هي التي تقيم القداس. ما ممكن أن نفك عملية التحول وتقديس الأسرار وتقديس القرابين عن سلامة العقيدة. لذلك الإنسان لا يتناول في أية كنيسة في العالم بل في الكنيسة المستقيمة. هذه قاعدة يقبلها الأرثوذكس والكاثوليك في العالم على فروعهم ويقبلها عدد كبير من البروتستانت. إبتدات نغمة جديدة في العالم منذ ثلاثين سنة في العالم البروتستنانتي أنه يتناول أين يريد.وأن هذه محاولة حتى نتقارب من بعضنا. إذا تناولنا مع بعض نكون نتقارب. أنا أقول أننا أذا نتناول مع بعض فنحن نختلط مع بعض. نقول: موقف هؤلاء وموقف أولئك مثل بعضهما. لا يهمنا أي موقف في العقيدة. إحكوا مثل ما تريدون وأن هذا لا يؤثر على وحدتنا.

الذي يهمني أن ندركه ونفهمه أنه ليس من ممكن تجزأة القربان على سلامة العقيدة. فإذا كان من كنيستين الكنيسةالأرثوذكسية والكنيسة الكاثولكية. يوجد بينهما فروق في العقيدة. بدنا نذلل هذه الفروق. إما نقنع بعضنا البعض بهذا الشيء. وتبين لنا أن الذين سميناه فرقًا ليس فرقًا. يقدر اخ وأخاه أن يختلفا على الميراث مثلاً. يأتي ثالث مصلح ويقول: لستما أنتما مختلفان في الحقيقة. تقولان نفس الشيء بعبارات ثانية. معنى هذا أننا نقول أنه ليس بينهما إختلاف جوهري. إذًا نكتشف أنهما كنيسة واحدة. وإذًا تتاولان مع بعضهما البعض. أو نقول حسبما نفهم الآن اليوم. هذا كثير أن يفهم الشخص الثاني. حتى اللاهوتيين الكبار بكنيستي أنا لا يفهمون تمامًا موقف البابوية ومجمع الفاتيكان الأول المنعقد سنة 1870م حيث قيل إن بابا روما له رعاية مباشرة على كل العالم. هو رئيس العالم المسيحي كله بتفويض إلهي من المسيح وأنه معصوم عن الخطأ.

حتى يفهم لأرثوذكسي هذا عليه ان يقرأ مجلدًا كاملاً باللغة اللاتينية. ليس من الهين أن يعرف الواحد بدقة بشكل فني الإعتقادات اللاتينية. مضت خسون سنة ولم يعرف أحد عن الكنيسة الشرقية بالغرب كله.

علينا أن نتظر أن تزول الخلافات عندئذ نكتشف أن هذا وحي. عندئذ زالت المشكلة. فنتناول عند بعضنا البعض. في الوقت الحالي نحن مقتنعون بأنه توجد خلافات. لها اهمية وليس لها أهمية؟ لها أهمية. لماذا؟

إلى عشية 1870م كانت الخلافات بين الأرثوذكس واللاتين أنما هذه لم تُجعل عقيدة. يوجد فرق في الكنيسة بين رأي أو تعليم وبين شيء يسمى عقيدة أي موقف إلزامي للمؤمن. كنا نتقاتل في الكتب ونتصارع وأحيانًا ليس في الكتب لسوء الحظ، بالدم بين شرقيين وأرثوذكس. ليس في بلادنا وأنما صار في بلاد الأرثوذكس في أوروبا. ذبحوا بعضهم. ظاهرها سياسي. لماذا في صربيا يقتلون بعضهم بعضًا؟ طبعًا توجد أسباب سياسية. ناس يعني لهم الأميركيون. مواقع الحال كل الكروات كاثوليك وكل الصرب أرثوذكس. وكأنه يوجد إختلاط من الناحية السياسية ومن الناحية المذهبية.

كل هذه الذكريات المؤلمة التي فرقت بين الكنيستين من حروب الصليببين وخلعهم لبطرك الأرثوذكس. ورحلنا. وأتوا بالرهبان اللاتين بالحملات الصليببة وأتوا ببطرك وطارنة إلى هذه البلاد. هم مسلحون ونحن لسنا مسلحين. هكذا الأشياء تصير بين الكنائس.

الآن لننسى هذه الأمور الجارحة. هناك أشياء لا مجال لتجاوزها. هناك دستور الإيمان فهي كلمة أساسية. فالكنيسة القديمة المشتركة كانت تقول: وبالروح القدس المنبثق من الآب فقط.  أتت الكنيسة اللاتينية وقالت إن هذا تحريف لدستور الإيمان وإن المضمون غلط وحتى الموقف غلط. إذأ توجد مشكلة قائمة. لا نقدر أن نقول إذا كنا علمانيين نتعاطى الطب والمحاماة والزراعة والتجارة. قالت: كلمة بالناقص أو بالزائد؟ الناس تفهم. يعرفون الفرق بين الكلمات ويعرفون ما معناها هنا وكيف يتغير معنى الكلمات من الكتاب المقدس.

رأيي الشخصي أنه توجد خلافات أقل أهمية فأنا شخصيًا أن الولد يعتمد بالتغطيس هو مثل الولد نعطيه ماءً بالرش. لأنه أذا ألنص الإلهي هكذا معنى هذا أننا نتقيد بالنص الألهي. وليس للبشر أن يقولوا: هذا سيغمى عليه. نحن اوروبيين ومرتبين آتين بفساتين حلوة. هل الخوري سيغطسه ويطرطشنا؟ ليس من هكذا. يوجد نص مكتوب. عليك ان تبقى في النص. لا تقدر أن تغير. مكتوب في النص: إشربوا منه كلكم هذا هو دمي. لا تقدر أنت  وتغير هذا. لا تقدر أن تغيره.

عندي أهم من ذلك أن نشرب من الكأس. يهمني النص.

بابا رئيس الكنيسة يقول أن رأيه هو رأي الكنيسة أو أن يقال بتوافق الكنائس للتنسيق.

يقول القديس مكسيموس المعترف بأن للمسيح إرادتان إلهية وإنسانية. في حين 3 بطاركة من خمسة قالوا بأن للمسيح له طبيعة. وكان مكسيموس محبوسًا وأتى السجان وقال له بأن هذا إمضاء 450 ضدك. الكنيسة كلها ضدك. قال له: أنا الكنيسة.

الكنيسة هي إستقامة الرأي وليس العدد. أنا لا أقدر أنا أن أتبع إنسانًا يبدو لي رأيه غير رأيي.

فصلنا بعضنا عن بعضنا البعض بالترتيب الكنائسي.

ما علاقتنا نحن أنتم أيها المطارنة؟ إذهبوا  وأوجدوا حلولاً. نحن الشعب ماذ علاقتنا؟

أنا أفهم هذا الجرح وأفهم أن الشعب لم يعمل الإنقسام وليس هو مسؤولاً عنه. إنما في نفس الوقت ليس اللاهوتيين الذين يجعلون الإنقسام مستمرًا. هذا الحكي الشعبي أن المطارنة كل واحد بدو يأمن حاله لأن يبقى مطرانًا. فمن مصلحته الخلاف. لماذا؟ إن مصلحته الإتفاق.

إن مصلحة المطران متعبة وإحتمال غلاظة الناس. هذا حكي سطحي بأن هذا حكي مصالح مطارنة وكلهم يحبون الإنقسامات. نكون نطلب من واحد 10 آلاف كتاب لاهوت ويرمي كل اللاهوت ويقول بأنه علينا أن نستقيم بالجهل. لا نقدر أن نستقيم بالجهل ولكن بالفهم.

الشيء الثاني الذي أريد قوله بأن كل العلمانيين في العالم قابلون واللاهوتيين غير قابلين هذا لا يصير. هذه مثل كل شيء، عندي وجع لست طبيب جراح.

يوجد ناس ملتصقين بهذه الدنيا وعندهم إخلاص وعندهم طهارة والذين يدافعون عن موقف هذه قناعتهم.

أهم شيء بالوحدة أن نحس بثقل الإنقسام وبالإذى الذي يحصل ونحمل صليب الإنقسام ونحس بالجرح.

توجد ادعية متخصصة للأمراض المختلفة. إذ ليس لأنه قررنا أن نتناول معًا معنى هذا أننا إتحدنا.

يأتي لعندنا الموارنة في بيت مري في عيد مار إلياس ليتناولوا. هم على بعد 100 متر من كنيستهم لأنهم معجبون بمار إلياس. أو عندما أمضي 3\4 ساعة مع إمرأة مارونية زوجها أرثوذكسي تريد ان تعمد إبنتها بدير مار شربل لأنها هي نادرة. كيف أفهمها أنا أن العواطف ليس لها قصة بهذه الأمور؟ لا تقدر أن تغير القانون الكنسي وأن البنت الأرثوذكسية تكون في كنيستها الرعوية.

الشعب المؤمن خطا خطوات بعيدة جدًا ليست هي مؤسسة على اللاهوت ولا مؤسسة على القانون ومشت. وبإعتقادي بأن المسؤولين الكبار يجب أن يتخذوا موقفًا لاهوتيًا أكثر ويهديونهم ولكنهم لم يفعلوا شيئًا. منذ 25 سنة مجمع الفاتيكان إنتهى. أطلق مجمع الفاتيكان عند الكاثوليك رغبة الوحدة أي قواها. تكلم كثيرًا عن الكنيسة الرثوذكسية. فإنتقلنا بين ليلة وضحاها عند الشعب الكاثوليكي أن هذه كنيسة مسروقة ومنشقة ولا ندخل إليها ولا نرسم إشارة الصليب قدامها. وأنها هي الكنيسة العظيمة المعشوقة. هذه النقلة جعلت الكاثوليك يطلبون المناولة عند الكاثوليك.

هل تعرفون ما للكاثوليك على الأرثوذكس؟ الكاثوليك الكبار الذين يفهومن لاهوتيًا يقولون بأن الكنيسة الكاثوليكية لم تغلط بشيء.

الآن تقولون بأن هؤلاء حبوبين ويحبون يسوع وعندهم العذراء والقديسين؟ وأن الروم الأرثوكس غير غلطانين.

إذا إعتبروا بابا رومية رئيسًا عليهم نجد لهم تفسيرًا لمرارة هذه القصة ونضع لهم حكاية وينبلع بابا رومية. ولكن الأرثوذكس لم يغلطوا بشيء.

يوجد مسيرة مصالحة عند اللاهوتيين الذين يجتمعون. الان المصالحة معرقلة لأن الكاثوليك الشرقيين الذين غورباتشوف أطلق حريتهم إنطلقوا بحريتهم وأصبح المسلمون يعملون لهم قتلة.

يوجد بيننا العملية متوقفة ولكن نظل نلتقي لأننا نحن أوادم حتى نذلل هذه الخلافات. ولكن بجو مشحون إذا إخواننا بروسيا ويوغوسلافيا عم ياكلوا قتل. مشروع الوحدة بعيد عنا. حتى الله يروق القلوب ونرجع إلى مسيرة المصالحة. في إنتظار ذلك كل واحد يبقى في بيته ليس قلبه في بيته ولكن جسمه في بيته. يكون في كنيسته يتناول في كنيسته. وليس معنى هذا أنه أقل محبوبية.

إذا أنا بقيت مع إمرأتي وأولادي ببيتي وانام في بيتي هل أكون اسب اخي؟ لا. أزوره.

لا أحد يشتم احدًا إذا تناول كل واحد في كنيسته وانقذها بالنهضة الروحية وجددها. لا أقدر أعطي نصائح للكنيسة المارونية فهم لا يسمعون لي. الماروني يعطي نصيحة لكنيسته. وإذًا يجوّهر كنيسته ويقويها ويجملّها. فعندما يبقى الواحد في المسيح محل ما هو موجود. نحن نكون قد إرتقينا بأعمال المسيح. فالوحدة مع المسيح وليس بين بعضنا. هي كل وحدة شخص مع المسيح، وحدة كل كنيسة مع المسيح هي أن تتنقى كل كنيسة بالمسيح لا أن نأتي ونقول: أنا أتناول عندك وأنت تتناول عندي، ونحن أبناء الشعب قررنا أن نبقى بهذه الطريقة ونتحد والذي لا يعجبه يدق رأسه بالحائط. هذا غير موجود. لا أحد يدق رأسه بالحائط. علينا أن نبقى بكنيستنا. الكنيسة الكاثوليكية لم تسمح لأبنائها أن يتناولوا مع الأرثوذكس إلا مع بصورة إستثنائية. من الصور الإستثنائية إذا إنسان أرثوذكسي يموت في بشري طبعًا يأتي الكاهن الماروني ويجنزه. وإذا واحد ببشري يسكن في أميون ويموت في أميون فيأتي الكاهن الأرثوذكسي ويدفنه. هذه لم نختلف عليها. فالخدمات الظرفية من دفن بحياتنا لم نختلف عليها. هي موضوع يتعلق بالمناولة الأولى. بالدرجة الأولى هي تعابير عن الوحدة الكاملة. فالوحدة الكاملة غير موجودة فنحن نسعى إليها.

فالذي صار في لبنان آسف أن اقول لن أريد أن انتقد أحدًا ن فأنا آسف أن اقول أنه طلب من الشعب بعد المجمع 25 سنة أن يعمل ما يشاء. لا أحد لم يعمل له ملاحظة.اخذ هو حريته. لم يُمنع. ربما لم تعد من هيبة او سلطة عند الكهنة حتى ينبهوه. هذا غير موجود أن هذه الشبيبة هي المجاهدة مع المسيح.

أنا متـأكد أنه لن يقل عمق المودة وقلة الإحترام إذا بقي كل واحد يتناول في كنيسته. مع إحتمال الصليب ومع الجرح. ولكن هذا الصليب يزيدنا عزمًا على تزليل العقبات وقوة على الدرس.

وطالما كل واحد يعتقد أنه يأخذ جسد الرب فإذًا توحد مع الآخر حتى إذا لم يقف معه الآن على المائدة المقدسة. ولكن سيقف معه لاحقًا. هذا إذا تمت الوحدة. ستتم أم لن تتم؟ أنا لا أعرف. لكوني أحد الناس الذين يتعاطون هذه القصة من 43 سنة أي لكوني مندوبًا رسميًا بأعلى حوار بين المنطقتين. أقصد أعلى مسؤولية. شعوري أن هذه ستصير بسرعة. تقدرون أن تفهوا أن الناس تعودوا على أمور وتقاليد.

كنت في مقابلة شعبية مع البابا. ياخذون بطاقة ويدخلون عليه. يطل عليهم البابا وأحينًا ينزل إلى عندهم. وقفت انا ليس على الأوديونس. قلت بأنني سأرى هذا المشهد. أخذت قدح بوظة. أطال بإطلالته.  وناس مثقفة. قلت في نفسي ما يأتي: أنا مطران مثل المطارنة. كهنوتيًا مثل بعضهم. أنا يدخل إلي أي إنسان بعد أن يدق الباب. وإذا لم يكن عندي إجتماع يدخل بدون موعد. هذا يهلكني من الصباح حتى المساء. ويقعد ويأخذ فنجان قهوة. هكذا أسلوبنا.

هؤلاء الأوروبيين اسلوبهم مع رئيسهم الروحي غير شكل. فأنا الأرثوذكسي الشرقي لا أقدر أن أعمل هكذا عمل. فهي كل القصة أنه يشرف من البلكون ويقول بضعة كلمات ويباركني.

توجد روحيات مختلفة. هذه الشعوب لن تتساوى بالعقليات. يوجد نظام هرمي في الكنيسة الغربية. يوجد نظام شورى في الكنيسة الشرقية. فبتصوري لا نقدر أن نقول لشخص بطريقة من الطرق والكلمة الأخيرة له ونقول له بأن ترجع لحجمك لمتروبوليتك في أسقفية روما بالشرق ليس لك علاقة وأن الشرقيين عندهم عقل كافٍ وأخلاص كافٍ لينتخبوا بطريركهم ومطرانهم. ليسوا بحاجة لوصي من خارج البلاد. الشرق الأرثوذكسي هكذا مصنوع. ونقول له بأنك قاصر هناك من يعين لك مطرانًا. وأنك لست مخلصًا ونحن افهم منك لأننا أوروبيين وأنت من العالم الثالث.

بإعتقادي أن هذه الوحدة لن تأتي غدًا أو بعد غد. صعبة جدًا جدًا وقد لا تحصل قبل اليوم الأخير في الملكوت. أنا مثلما أراكم هكذا أنما أقله ليس أحد منا عنده روشاته حتى ينفذها. كيف ستصير وما شروطها وما مضمونها؟ لا أحد يعرف.

إذا ذهب كل الروم الأرثوذكس إلى عند الكاثوليك وتناولوا عندهم هذا لن يغير شعرة. هذا يقول هذا موافق لكلام الاباء وهذا غير موافق لكلام الآباء. حسب المعطيات لا نعرف كيف ستتم. الله ينورنا ونحن نطلب أن ينورنا. بهذه الأثناء نحن إثنان وليس واحدًا. نحن واحد في قلب المسيح. نحن واحد في الملكوت. هنا في التنظيم الأرضي كما هو نحن لسنا واحدًا. لا نتظاهر على اننا واحدًا. ونكون نتظاهر كيف أننا واحد إذا تناولنا من الكأس الواحد. هذا يعني أننا اكملنا الوحدة أنجزناها. بينما نحن لم ننجزها. يوجد تناقض بين الإشارةأي العمل الظاهر الذي هو التناول وبين النفس. ففي النفس البشرية نحن لسنا واحدًا. في كل حال هذا الإنضباط الكنسي في الكنيستين. فالأرثوذكس ليسوا أشدًا من القانون الكاثوليكي. فالقانون الكاثوليكي هو نفسه. هذا القانون الأرثوذكسي. ماذا تفعل الأفراد بعد أن مشت في هذه المسيرة بعد 25 سنة؟ لا أعرف. أنا أتمنى أنه إذا كان عندنا قدرة أن نفهم هذا الذي قلته الآن يكون عال. وأرجو أن نروح إلى الشيء بالعمق. يقدر الواحد أن يكون واعيًا مثل الحياة الزوجية. الفرق بينه وبين مسيحي آخر ومحبته أزود من الذي لا يعي الفرق. يقدر الواحد أن يكون متزوجًا وواعيًا تمامًا عيوب إمرأته. فيها 27 عيبًا بقدر أن يضعها على الورقة. وهي واعية أن عنده 54 عيبًا. يحبون بعضهم بعضًا أكثر من الناس الذين عندهم عشق حماّري ويتقاتلون كل يوم. المحبة ليست ضد الوعي. التعاون الخيري الإنساني ليس ضد الوعي. ليس علينا أن نبالغ ونخترع فرقًا بحيث لا توجد فروق. ولكن لا نقول بأن الفروق هي غير موجودة لأنه هكذا عنّ على بالنا وضاق صدرنا وليس لنا صبر على الفروق. يوجد. فلا نبالغ في الشيء ولا ننقصها. بل نعيها. ونأخذ المطلوب على رجاء أن يوحدنا السيد. فأنا مثلما أعرف المطارنة والبطاركة بالعالم كله وأجلس مع العلماء الكاثوليك. هذه وظيفتي. مثلما أعرف الأشياء نحن في مسيرة بطيئة. أرجو أن لا تسوء الحالة في أوروبا الشرقية والوسطى لتأخرنا بضع سنوات. أرجو الله أن يلطف العلاقات بيننا ويعطينا بنفس الوقت الوعي بذاتية الكنيسة وفرادتها وضرورة لحمة الأبناء مع بعضهم. الله يعطينا الوعي والفرادة وبنفس الوقت ضرورة التعاون على مستويات أخويات وإجتماعات ليلية إنجيلية وتعاون على كل صعيد ومحبة وصداقات شخصية  وإرتقاب هذه الوحدة والصلاة من أجلها.

بفرنسا واوروبا عمومًا عندما تتم زيجات مختلطة بين أرثوذكسي وكاثوليكي أو العكس ليس عنده نظام طوائف. يوجد نظام طائفي في الدولة. الدين مفصول عن السياسة. يوجد نوع من المشاركة في موضوع الزواج. إفتراضًا إن البنت أرثوذكسية أتفقوا في فترة لأنه عند اللاتين هذا الزواج قائم بالتراضي. فالتراضي هو اللذي يعمل الزواج والخوري ليس مكملاً لسر الزواج. المكملان للسر هما العريس والعروس.

ما هي بعض المظاهر وبعض التعابير التي ممكن أن تعمل سوية؟

أهم شيء عندي هو تقديرنا للكنيسة الأخرى ولجمالاتها ولما تقول وأن نتعلم عن قديسيها وعن فنها الطقسي . ليست القصة أننا أحببنا بعضنا البعض وعملنا بضع إشارات مشتركة وأقنعنا حالنا بأننا  تقاربنا. ليس لهذا الأسلوب من تقارب. أنا أخشى أن مسيحيي لبنان لا يحبون أن يتكلفوا أن يدرسوا شيئًا ويقروا الآخرين بتاريخهم وبروحانيتهم. ونقول فلان يعمل عزيمة بضيعته بعد أن قوص هو والآخر على بعضهم بعضًا فهذا يرسل له إمرأته إلى العزيمة. كيف يصير هذا؟ عليكم أن تتوبوا بالأول. قبل أن تتوبوا تقرون أن تذهبوا لعند بعضكم البعض؟ قبل أن يعتذر الواحد للثاني ويقول له بأنني أخطأت بحقك وحرب قذرة من الأول ليس لها أسباب إلا حتى نشتغل من أجل الأجانب. بالبساطة عما مضى وختم الجرح على زغل.

عندما كنا لا نصلي مع بعضنا البعض قبل المجمع كانت تربطنا والكهنة الموارنة والكاثوليك صداقات وحقيقية وحارة وفيها فهم كثيرًا بدون هذه التعابير.

Continue reading
1991, محاضرات

الإسلام / محاضرة في كفرعقا – الكورة / الأحد 4 آب 1991

عندكم مئة طريقة لتعرفوا عن الإسلام. في بلادنا عندكم إذاعات وليالي رمضان والتي أوصيكم أن تتابعوها فيما يختص بالوعظ. عندكم هنا المساجد. وفيما يختص بالزيارة صار مباحًا لكل المواطنين أن يزوروا المساجد. وكتب عديدة إذا أردنا معرفة دقيقة صادقة أي متوفر عندنا الآن هو كتاب جديد هو الإسلام بقلم الأب يواكيم مبارك ويباع في البلمند وفي المكتبات. كتاب صغير الحجم يقدر أن يقرأه كل إنسان. إذا أردنا أن نعرف أكثر بصورة حقيقية لا بد من قراءة القرآن. هذا أهم شيئ، أهم مصدر في معرفة الإسلام وأحاديث الرسول الشخصية هي غير القرآن الذي نزل من الله وهو كلام الله. انا أحكي باللغة الإسلامية. هكذا يفهم المسلمون. أنا أحكي مثلما هم يحكون وليس مثل أسقف أرثوكسي يحكي. هم يعتبرون أن القرآن نزل من الله والحديث الشريف هو حديث النبي بإعتباره شخص . إنما لا يمكن معرفة الإسلام بدون معرفة الأقوال التي قالها الرسول. فالذي هو في متناول أيديكم هو القرآن. وهذا ليس سهل المنال. ينبغي معرفة اللغة العربية جيدًا. إنما تقدرون أن تلجأوا لتفسير نسبيًا بسيط أبسط التفاسير هو تفسير الجلالين حيث عندكم النص القرآني وعندكم التفاسير حولها. هذا أول إتصال بينكم وبين الإسلام. هذا الكتاب تفسير الجلالين. لمن يريد أن يتخصص اكثر هناك تفاسير أخرى.

سأوضح الإسلام بالنسبة إلى البيئة التي كانت في الجزيرة العربية في القسم الثالث من القرن السادس الميلادي حيث ولد الرسول في مدينة مكة. وهو محمد بن عبد الله المطلب الهاشمي وابن زينب. وعاش أبوه قليلاً جدًا بعد ولادة هذا الصبي. لذلك جاءت الآية التي تتكلم عن يتمه وعاش في ظل عمه الذي كان أبا علي أبي طالب. وكان يعمل كسائق الجمال عند خديجة. وتزوجته خديجة. هي في أل 45 وهو في أل 25. البيئة التي نحن فيها هي بيئة من المشركين . يعني العرب في مكة حواليه كان عندهم معبد يدعى الكعبة. وهو لا يزال إلى اليوم. أبقى عليه المسلمون. وفيه عبادات مختلطة. كانت فيه صورة والدة الإله والطفل يسوع. فيه عبادات تنصب تختلط مع بعضها. ولكن الشيء الأساسي كان فيه عدة أصنام في الجزيرة العربية. هذه الأصنام ليست واضحة مثل الأصنام اليونانية. ليس عندنا في مكة طائفة مسيحية. لم نجد لها أثر ولذلك هذا الحكي الشعبي بأوساطنا بأنه قرأ المسيحية وإتصل بالكعبة. وليس من كنيسة مبنية. في الحجاز ليس من كنيسة مبنية. في اليمن في صنعاء عندنا كنيسة مسيحية ولكن أيضًا اليمن بعيدة وليس عندي أنه ذهب إلى العراق. ولكن عندي دليل أنه ذهب إلى أبواب دمشق. معنى أن إتصاله بالمسيحيين ضعيف كثيرًا وإتصاله بالراهب بحيرى ضعيف كثيرًا لأننا كل ما نعرفه من سيرة الرسول أنه عندما كان صبيًا يأخذونه إلى ضواحي دمشق. وهذا الراهب النسطوري على طريقة الأشوريين وعلى طريقة السريان الأرثوذكس. لا نقدر أن نعرف. قال: رأيت خاتم النبوة. أوحى له قليلاً أنه قد يكون نبيًا. كان مؤسسًا على طائفة مسيحية منظمة. كان عندنا ورقة بن نوفل ابن عم خديجة وربما كانت خديجة متأثرة بالنصرانية. من أين نحن نعرف هذه المعلومات؟ نعرفها من سيرة محمد، من كتاب حياته الذي كتب بعد موته بكثير بعد مئة وخمسين سنة من وفاته. وهذا يذهب بالتواتر. ولما تزوج من خديجة كان يذهب إلى غار حيراء خارج المدينة ويصلي. لمن يصلي؟ والنبوة لم تأت بعد. علينا أن نعرف أنه يوجد إتجاه بالجزيرة العربية نحو الإله الواحد عند العرب وليس عند اليهود، فاليهود لم يكونوا كثيرًا موجودين في مكة بل في يثرب. فالعرب شيئًا فشيئًا مثل كل الشعوب القديمة كانوا يخرجون بالتدريج من الوثنية إلى التوحيد.

بإعتقادي أن كلمة الله راسبة من تلك الأيام. “الله أكبر من بقية الألهة”. وأفعل التفضيل ليس عندي شك على أننا نحن في إتجاه نحو الإله الواحد. الإله الواحد موجود بكل الجو اليهودي والنصراني حول الجزيرة. النصارى موجودين في العراق على المذهب النسطوري، على مذهب الكنيسة الأشورية القائل بأن المسيح هو في السماء إله وعلى الأرض إنسان وبينهما حنين. وليس مثلنا بحيث نجعل إتحادًا بين الناسوت واللاهوت. هذا مذهب كفرناه في المجمع المسكوني الثالث في القرن الخامس. ولكن كان مذهبًا قويًا جدًا في العراق.

وكان عندنا المذهب اليعقوبي ، مذهب السريان الأرثوذكس في جنوب سوريا بشكل أساسي وقليل من الرحالة المسافرون يأتون منة هنا ومن هناك إلى مكة.

عرف الرسول شيئًا من النصرانية في هذه الإتصالات القليلة. لذلك أرفض كل هذا الحكي الشعبي في أوساطنا المسيحية بأننا المسيحية أتت إلى الجزيرة. المسيحيون كان عددهم قليل لا يذكرز عندهم طبعًا معلومات من اليهود فيما بعد. ولكن الشيء الواضح عندنا أنه كان يذهب إلى المغارة في حيراء خارج مكة ويصلي. وهناك حسب أقوال المسلمين ظهر له رجل فجأة وقال له: إقرأ. قال له: ما أنا بقارئ. ثم قال: إقرأ باسم ربك الذي خلق الإنسان من علق، علم الإنسان ما لا يعلم، علم الإنسان بالقلم. هذا –ما نقوله بالغة الإسلامية- اول نزول أي اول ما أوحي إليه محمد. هذه عقيدتهم.

عندما عاد إلى إمرأته خديجة كان مضطربًا وهمّ بقتل نفسه في الوادي لأنه إضطرب كثيرًا. عاد إلى خديجة فأتت بابن عمها ورقة بن نوفل النصراني الذي قال: قدوس قدوس قدوس. لقد أتاه الناموس أي الشريعة. والله إنه لنبي.

فأول من تلفظ بكلمة نبي أمامه كان هذا الوجيه النصراني.

وإستمرت الآيات تنزل عليه وهو يتلوها. عنده نوع من الإضطراب والهزة. كان يوجد نوع من الهزة العصبية لأنه بسورة المدثر تجدونها.  ويتلو وتسجل على ورقة من جلد غزال أو على نوع من البردي أو على العظام وتحفظ هذه الآيات. وهذا هو القرآن ما سُجل على هذه الصحائف أو ما حفظه الحفظة وجُمع فيما بعد. فعندما رأوا ان المصاحف المختلفة قرروا اأن يعرفوا ما الله الذي قاله. عندئذٍ أمر عثمان بن عفان الخليفة بأن تتلف كل المصاحف ويبقوا على مصحف فصحى إحدى زوجات الرسول ويتبنونها وثبتوا ما هو النص.

هذا هو المصحف العثماني الذي أوضحه عثمان بن عفان.

عندنا شيئ هام أنه عندما مات ورقة بن نوفل هذا النصراني فتر الوحي.  ما معنى هذا؟ لا أعرف.

عذب هذا الرجل. هو من قبيلة قريش في مكة التي في يدها المال والتي تحفظ مكة. هم كانوا الناس الذين كانوا يحفظون هذا المعبد. ولكن هو من بني هاشم وليس من الفصائل العليا وليس من الفروع –الجبّ- الضعيفة. من هنا نشأت الخصومة. ولكنه إعتمد أن يلتف حوله الأكابر ولكنهم لم يلتفوا حوله. بني أمية اقرباؤه من قريش. كانوا ضده لأنه يوجد خطر لأنه إذا مشى هذا التيار تزول الزعامة منهم. في الأخير إنضموا إلى الإسلام ورأوا أنهم لا يقدرون ان يحافظوا على الوجاهة إلا من ضمن الإسلام.

سنة 622م يترك مكة ويذهب إلى يثرب وهذ الهجرة. من هنا إبتدأ تاريخ الهجرة. وصارت مدينة الرسول.

كانت عنده مشكلة كبيرة مع اليهود لأنهم يتظاهرون بأنهم هم معه. وفكر أهل قريش أن يهجموا عليه. وعمل خندقًا حول المدينة وإنتصر عليهم. إعتبر هذا إنتصارًا لله. فمشكلته مع اليهود انه هو الرئيس الأوحد على المدينة وهم لهم حريتهم النسبية التي يعترف بها القرآن.

وعلى العموم نقدر أن نقول أن القرآن عنده موقف عدائي من اليهود. وكان عنده موقف إيجابي من الدين اليهودي. هذا دين سماوي. “إن لم تقيموا التوراة والإنجيل فلستم على شيء”.

أين التواراة والإنجيل؟ كيف تثبتهما؟ ما من شك أنه في القرآن كلام عن التحاريف التي في التوراة. ليس عنده كلام عن تحريف النصارى للإنجيل.

هو أكثر قليلاً إيجابيًا منا نحن. مشكلته الأساسية مع اليهود فعندما نقرأ الطبري المفسر الأكبر للإسلام لماذا لا تقدرون أن تتخذوهم أصدقاء لأنه يعطي حالات صدامات صارت بين الرسول وبين اليهود والنصارى. ولكن من الواضح عند الطبري وباقي المفسرين بأن العداء يتجه خصوصًا إلى اليهود بالدرجة الأولى فأزعجه اليهود وقتل قبيلة أفناها بكاملها وأجلى قبيلة أخرى إلى أن توفاه الله عند عائشة زوجته الثانية سنة 632م وله منة العمر ستون سنة.

عندنا سؤال أساسي، كيف محمد هو واع نفسه، كيف هو فاهم نفسه؟ ما الذي وعاه؟ كيف القرآن وبأي معنى ينكر الإسلام المشركين؟

بإعتقادي كدارس للإسلام ونأخذ النص الذي أمامنا ماذا نجد؟ نجد في كل القرآن أن كل الأنبياء هم مسلمون أي موسى وعيسى ومحمد. هذه لفظة تطلق على كل الأنبياء من قبل محمد. إذًا ليست هي لفظة تدل على مذهب معين. هذه مقطوعة مفصولة في القرآن نفسه الإسلام ليس دينًا معينًا جديدًا إلا في حالات حيث قال “اليوم أكملت لكم دينكم وأكملت عليكم بنعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا” هذا آخر ما نزل على الرسول. فهذه آخر كلمة سمعها هي هذه. هكذا يتكلم المسلمون. أنا أتكلم هنا كالمسلمين ماذا يقولون عن نفسهم.

إذًا ختم هذه النبوة وختم الرسالة. وعند علمائهم بهذه الآية الوحيدة، الإسلام أعتبر دينًا جديدًا أخيرًا. أنا أرى أنه ما زال دين موسى وعيسى وإبرهيم وما إلى ذلك.

إذًا محمد وعيه لنفسه بأن آتٍ بنفس الرسالة وليس برسالة جديدة. وإنما هو آت بأحكام جديدة أي بنظم معينة إنما بإعتقاده أن الدين واحد والدين هو لله ولا يقدر الدين إلا أن يكون واحدًا.

إذًا عندنا الإسلام وعندنا مقابله الشرك الذي هو إدخال آلهة كاذبة على الإله الحقيقي وأختلاط آلهة مع بعضها.

ليس عندنا ابدًا كلمة مسلم أو إسلام تدل على دين معين إلا أنه دين التوحيد الذي له مظاهر مختلفة أو مراحل مختلفة في عصر وموسى وعيسى. وكأنه يقول إن الله يردد كلامه أو يجدد كلامه ولكن الله لا ينزل دينًا جديدًا على الناس. ففي فهم محمد لنفسه ليس الإسلام رسالة جديدة. هو إستمرار للرسالة ذاتها، لها هذا الشكل ولها هذه الذهنية ولها هذا الإغراء.

التصرف العملي لم يكن بعد ولكن إذا كان الإسلام هو الدين ويظهره على الدين كله. معنى هذا أنكم لا تقدرون أن تستعملوا كلمة الدين المحمدي. هذا من الإستعمار الفرنسي الذي أدخله إلى هذا البلد. أنتم تقتلون المسلم عندما تقولون له بأن محمدي. هو ليس محمدي. هو بإيمانه يتبع الله ولا يتبع مخلوقًا. نحن ليس عندنا مانع أذا كنا أعتبرنا حالنا مسيحيين أن المسيح هو الإلهز إذًا نحن ننسب نفسنا إلى الإله. إذا أنتم نسبتوه إلى محمد تكونون تنسبوه إلى مخلوق. وهذا ما لا يرضاه القرآن. هذا إستعمال إداري في لبنان.

بماذا يؤمن المسلمون؟ يؤمنون بأركان الإسلام  أي الأسس الكبرى مثلما عندنا دستور الإيمان. فالذي يقول دستور الإيمان “أؤمن بإله واحد…”. يكون مسيحيًا. توجد صيغة حتى تؤدى حتى يدل المؤمن على إيمانه.

بالإسلام توجد أركان ، الشهادتان ، الصلاة ، الحج، الزكاة، الصوم. الزكاة تعني إعطاء 2.5 % من الرأسمال للفقراء. الحج إلى الأماكن المقدسة لمن إستطاع. صوم رمضان الذي هو الصوم من الفجر إلى المغرب وعدم الأكل وعدم الشرب. الصلاة التي هي الخمس الصلوات في النهار التي تقوم على اوقات محددة. الصلاة الإسلامية يؤديها الإنسان في الشارع بدون أن يضطر إلى الذهاب إلى المسجد ولكنه مضطر أن يذهب إلى المسجد الجامع يوم الجمعة عند الظهر. هذا إلزامي.

ماذا يعني أن أشهد أن إله إلا الله وأن محمد رسول الله؟ قبل الإسلام كان في الجزيرة العربية القمر هو الإله والشمس زوجته والزهرة هي إبنة الإله. إذًا عندنا تثليث كوكبي، في اليمن وفي كل مكان من الحجاز وتدمر. وهما إلهان بدون الله أي أدنى من الإله الكبير. أتى محمد وضرب هذا الشيء. هذا هو التوحيد انه يوجد إله واحد ولا أحد يدخل إليه.

فالذي هو مهم بقدر توحيد الله عندهم هو ضرب الإنسان لشهوات نفسه لتوحيد نفسه. لأنه ما الشرك؟ هل عبادة الأصنام هي الغلط؟ لا. الأصنام عند الوثنيين مثل الأيقونة عندنا. فالغلط في الوثنية أن عبادة الشهوات إله الحرب، إلهة الحب للخصب الجنسي، إله الخمر. نحن لسنا ضد أن تضع الشعوب صورة. هذه رموز ولكن أذا عبدت شهواتها وتجسمها وتقول أن أصلها في السماء. أتى محمد وأبطل كل هذا وأعتبر نفسه رسولاً من قبل الله ليؤدي الرسالة نفسها التي لعيسى وموسى. ويأتي بأحكام معينة فيقول بأن حظ الأنثى كحظ الذكر. يرث الذكر كقدر أختين له. تذهب إمرأتين للتكلما بنفس الوقت أمام المحكمة أي شهادة شاهدتين تقابل شهادة رجل. والحصص الأرثية هي أحكام. وهذه منزلة من عند الله. أنما جوهر العقيدة أن لا إله إلا هو وأن محمد هو رسوله.وتوجد إعتقادات مثلها قريبة مثلها كالإيمان بالله  وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر وشره وخيره. توجد إعتقادات في القرآن مفسرة وإعتقادات واضحة كالجن أي أرواح أحيانًا وأحيانًا غير شريرة. يوجد إعتقاد بالملائكة وبقيامة الأموات في اليوم الأخير. إنما الإعتقاد عندهم بأن الإنسان يبقى كما كان في هذا العالم. ليس من تجلٍ وتغير روحي. وأنما إستمرار لما كان في هذه الحياة على اجمل وأحسن. إنما ما من شك أن روحية الإسلام بأشياء كثيرة هي قريبة من روحانية الرهبان عندنا. وبنفس الوقت يؤكدون على لذات العمر ويأخذ منها قدر ما يقدر. ولكنهم يركزون على أن الأشياء الروحية هي من الله. فالمال والبنون زينة الحياة والدنيا والباقيات الصالحات للأشياء الروحانية. عندهم أنتفاع نحو الحياة الروحية نحو التواضع وإن كان عندهم إستعمال المحاكم. “كتب عليكم القصاص.. الحر بالحر والعبد بالعبد”. ولكن ليس من ثأر. والزواج شائع عندهم معروف كيف هي أحكامه وكيف هي طريقته. الطلاق من طرف واحد وتعدد النساء.

ما موقف المسيحية من كل هذا؟ أنا سأجاوب بشيئين: هناك فرق عندنا بين الإسلام وبين المسلمين. التعليم شيء والأشخاص شيء. فكل إنسان من مكسيموس المعترف يعمل وصية الله وغفرنًا صحيحًا صادقًا ومحبة حقيقية صادقة يكون الثالوث الأقدس موجود. ليس من مسلم أو بوذي أو هندوسي أو يهودي أو ملحد يكون غفورًا ورحيمًا الله فيه.

إذًا تعاملنا مع المسلمين هو على هذا الأساس تعامل المحبة كاملة بدون تحفظ ونفرق بين العقيدة وبين المحبة. مثلما قال الإسلام: لكم دينكم ولي ديني. نحن نقول عندنا عقيدة وهي أن المسيح هو ابن الله الحي الذي أتى إلى العالم ليخلص الخطأة الذين أنا أولهم. نقول هذا وننتهي إذ ليس من مزج بين هذا وشيء آخر. أو إذا شئتم الله عندما كلم الآباء والأنبياء كلمهم بأنواع وطرق مختلفة شتى كلمنا في هذه الأيام الأخيرة بإبنه. إذًا المسيح هو كلمة الله ويقول كلام الله. وينهي نبوة العهد القديم وهو يكشف الله. هو مقر الله وهو الله. هذا إنتهى إذ لا يحتمل أبدًا رسالات أخرى. الكلام السياسي الشائع في هذا البلد والكلام الخطابي أننا كلنا مثل بعضنا البعض في العقيدة غلط. أرفضه. كلنا مثل بعضنا البعض بالمحبةبالعطاء والإصلاح. يوجد مليون واحد أحسن منا. إذًا ليس من فرق بين الأشخاص. ولكن يوجد فرق بين العقائد. نحن ننقح ولا نزيد على رسالة يسوع. هذا لا يمنعي أن أرى جمالات خارج هذه الجمالات.

عندما نقول إن المسيح مخلص فليست هذه حكاية. نحن نمارس هذا ونحقق هذا. إذا قدر أن يخلصك ما الحاج لمن يسندك سندًا ويدعمك دعمًا؟ العطاء الكلي ألكبير أعطيت إياه. لا تقدر أن تأخذ من غير شيء. نجد إنعاكسات وإشعاعات من نور المسيح في هذا المذهب أو ذاك بهذه الطريقة أو تلك ،حسن. فعندما نجد أشياء متناقضة هنا علينا أن نعمل من أجل التقارب.

مثلاً “لم يتخذ الرحمن ولدا”. فالله لم يتخذ رجلاً من الدنيا وعمله إبنه وكأنه يرد علينا. نحن لا نقول هكذا. لم نقل بأنه إتخذ ولدًا. بل قلنا بأنه كان عنده منذ الأزل. هو إبنه وليس متبناه. هو ابنه الأزلي.

إذًا ما يعتبره المفسرون على أنه ضدنا هو ليس ضدنا بالواقع مثلما نعرف نحن أنفسنا. هنا ينقطع الحوار لأنهم لا يعلمون ماذا نقول عن أنفسنا. هذه هي المشكلة الكبرى على الصعيد العلمي. وهذا ما يحدث دائمًا بيننا من صعوبات بالمؤتمرات . كل مؤتمرات الحوار الإسلامي المسيحي نصل فيها إلى مثل هذا. عليك ان تأخذ وقتًا حتى تفهم ما هو الثالوث الأقدس كيف أنا احكي عنه. كيف أنهم ليسوا ثلاثة آلهة وأنه يوجد أولهية واحدة وقدرة واحدة ومحبة واحدة.

الحوار بالواقع منقطع الآن بالرغم أننا نستمر بلقاءات ولكننا لا نتلاقى لأنه ما لم يقل الآخر ونصغي له  حتى نفهم ماذا يحكي عن نفسه ما من لقاء.

أنهي قولي هذه الجلسة بقولي بأننا نستمر نحن كمسيحيين بالحوار. ونستمر بصلابة الإيمان المسيحي وليس معنى هذا أنه أي منا مؤهل للحوار. هذه مهنة قائمة بحد ذاتها. أترجاكم أن تتعاطوها ليس كيفما كان لأنه عليكم أن تعرفوا القرآن جيدًا وتفسيره للتاريخ الإسلامي جيدًا والحديث والفن الإسلامي.

ومع بقائنا على صلابة الإيمان يكون عندنا الإكتفاء الشخصي والإنفتاح الشخصي أي التعامل اللطيف والمحب والمتواضع لجميع الناس. نحن لا ينكشف وجه يسوع إلا بنا. ينكشق بنا عن طريق اللطف وعن طريق التعاون وعن طريق الإخلاص وعن طريق الخدمة. طبعًا نحن نستقبلهم في بيوتنا بحرارة كبيرة ونخدمهم بحرارة كبيرة. عندنا في الكنيسة مال كثير نعطيهم مثلما نعطي غيرهم. نحن الأرثوذكس منفتحون إلى ما لا نهايةز الإنفتاح الكلي هو إلى الأشخاص. تتركون للعلماء بيننا الأخذ والعطاء. فعلى سبيل الأخذ والعطاء مات المسيح أم لم يمت في الكنيسة؟ في القرآن المسيح مات؟ وما صلبوه وما قتلوه. ما معنى هذا؟ حسب إيمان الرازي أنه عندما مات قضي على رسالته . أي ما صلبوا رسالته وما أبادوا رسالته. ولكن عندما يقول “السلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث”. معنى هذا أنه يوجد إقرار بموته. ولكن ليس من إقرار بأن هذا الموت هو معنى الفداء ومعنى الخلاص. ليس من إقرار أن هذا الموت له معنى الفداء بكل الدين. نحن نقوم مع المسلمين بحوار محبة وبتعاطي محبة بإستمرار. ونحن نشهد بما نعلم . نحن نقول للمسلم بأننا نكرم جميع الأنبياء. نحن نكرم جميع الأنبياء موسى وعيسى. إذا كان من صالون محترم نقول بأن يوجد فرق. يجب أن تقولوها ويجب أن تسكتوا عن دستور الإيمان. أنتم تقولون بما تؤمنون. إذ توجد شهادة ليسوع على أنه هو الإله الخالق والفادي. لا تقدرون أن تجادلوا أكثر من هذا ولكن يشهد المؤمن لإيمانه بدون أن يطعن بغيره. يقول ما موقفه. بعد هذا لا يجادل إلا بالحسنى ويختصر الجدل لأننا نحن الأرثوذكس ليس موقفنا موقف جدل. نحن موقفنا موقف محبة للأشخاص. فأنا أفرق بين الأشخاص وبين رسالته.

والسلام.

Continue reading