في انتظار القيامة / السبت في 30 نيسان 2005
«قم يا الله واحكم في الأرض». هكذا ندعو الله إلى القيام في كنيستي اليوم. قم حرا من الأصنام التي موضعوك فيها. أصنام هي منحوتات شهواتهم وعلى رأسها شهوة البطش بالشعوب. انهم لقد ألّهوا القهر وجعلوه فيك لتدعم القهر الذي يمارسون. قالوا انك «رب القوات» وما أحباؤك الا الضعاف.
كيف تكون حاكما في الأرض؟ الآيات التالية تقول: «إلى متى تقضون بالظلم، احكموا لليتيم والفقير. أنقذوا البائس والفقير وأنصفوا المسكين والبائس». اللهم انت لا تحكم بأقوال تقال وان كان لا بد من الكلام. انت تبدو إذا الكبار أنصفوا اليتيم والعاري الذي عروا والمحروم إذا سحقوه. تبيت عند المستضعفين فتقوم بهم. هذه ايقونتك الأخيرة. ولا نعيد الا مع هؤلاء إذا شبعوا عدلا وقعدوا على آرائك الكرامة.
جعلوك قائد جيوش وهذه تغزو وتسلب فإن غايتها إشاعة الرق. استعملوك سببا للنصر وما أنت بناصر أحد. حبك وحده هو الناصر. لذلك كانت العلاقة بك في القلوب وفيها أنت خفي وفي سكناك فيها تسوس العالم. ولا تسوسها من سماء غير قائمة فوق رؤوسنا فسماؤك فينا بعد ان أخذناك في النفس أو أخذت أنت النفس لتجعلها عرشا لك وعلى هذا تستوي «لم يصعد أحد إلى السماء الا الذي نزل من السماء». والحقيقة اننا بالحب الذي غرسته فينا استرضيناك فرضيت. لا إله يقر خارج الإنسان. لا تضع أبرارك في مقامات فوق. تتربع فيهم هنا. تتنزل الينا وتنبسط في مدانا وتصبح كل المدى. اذ ذاك تفرح بنا وهذا عيدك فينا وعيدنا نحن ان نراك وان نراك في المساكين واذ تنطوي أنت فيهم وننطوي نحن فيك يصيرون وحدهم هم الملوك.
عيدك اليوم هو هذه الثلاثية التي افتتحناها أمس وتنصرم غدا. ينبغي توضيحها كي لا نخطئ عمقها. قلت عيدك أيها الآب لان سر الفصح الذي نحاول اكتناهه هو سر محبتك التي كنت اياها وكانت اياك منذ الأزل لما رأيت الى ابنك حملا ذبيحا قبل انشاء العالم وبعثت بروحك إلى الأنبياء ليقولوا ذلك ورأيته فصحا أي عبورا للإنسانية اليك لما عرفت بمسيحك محبوبيتها وانها مجروحة بجرح العشق لعيسى وانها لن تشفى من هذا العشق إلى الأبد لأنك بدوت لها أبا وان هذه هي طبيعتك. وإذا كان الذي في حضنك هو خبّر فهي أيضا تخبّر انها تذوق دفء هذا الحضن فتهمس أنت في أذنيها ان المتبنى بالانعطاف الإلهي له جمال الابن المولود قبل كل الدهور.
سر الفصح تمتماته في هذا انه «لما حل ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني». واذ شاركنا اللحم والدم ولبس الناسوت نحس ان الله لا يطيق ان ينظر اليه على انه بعيد ولنشعر تاليا بقرباه. هو كان دائما قريبا ولكنه وحده كان يعلم ذلك فأراد ان يكشف لنا علمه وان «يضرب خيمته في حينا» أي ان يقول لنا انه من حينا فيما نحن عليه من لحم ودم.
وما كان يكفي ان يكون رفيقا بنا وهذا عرف قديما اذ اراد لنا معرفة له كاملة فأحب ان يكون رفيقا لنا يوآكلنا ويشاربنا ويذوق في جسده كل أحوالنا ما خلا الخطيئة. وهو يعرف ان لا شيء يخيفنا مثل الموت فما كانت مرافقته ايانا كاملة لو لم يذق الموت وهو غير محكوم عليه به لكون السيد هو البار المطلق فتطوع له حبا ليزيل عنا مخافة الموت وفساده ويقوينا باستمرار نعمته فينهضنا من بعد كبوة ويضمنا إلى صدره فنعي اننا بتنا احبة إلى الأبد.
لذلك لا حسرة على أوجاع المسيح ولا بكاء ولا تعظيم للألم ولكن التعظيم لطوعيته. وإذا سجدنا لآلامه كما نقول في كنيستي فمعنى ذلكم قبولنا لمقاصد الآب وللصليب مطرحا لحريتنا. ليس لأوجاع المسيح أية مكانة الا من حيث هي تعبير عن محبته. ولا معنى لما يقوم به بعض من حمل صلبان ثقيلة أو الاطراح عليها لتعذيب أجسادهم. فالله ليس قاهرا لأبدان طهرتها المعمودية ولا تغفر الخطايا بإيلام كياننا الجسدي الطيب ولكن الخطايا تغفر بالإقلاع عنها وصلبها هي. فالخطيئة عضو دخيل تجب إماتته بالتوبة أي باكتساب الإنسان الجديد الذي يكون على مثال يسوع.
المسيحية ديانة الفرح وليس فيها حزن البتة وما فيها مأساة والمأساة ان تنغلق الأبواب عليك وان تختنق بانغلاقها. فقد شرع المسيح كل النوافذ على «سماء جديدة وأرض جديدة» وباتت الأرض سماء وبات القلب عرش الله الوحيد. ولهذا كان القديس سيرافيم ساروف يحيي كل من التقاه بقوله: «يا فرحي، المسيح قام».
اما انه قام فيعني اولا ان يسوع لما مات على الخشبة لم يدع الموت يتسلط عليه. ففي اللحيظة التي أسلم فيها روحه للآب قام من وطأة الموت وغلبه. ولما قال لتلاميذه بعد العشاء السري: «ثقوا اني قد غلبت العالم» اراد انه انتصر على عالم الخطيئة وعلى قهر الموت فبقي حرا منه على الخشبة وتم النصر هناك. ولما قال إنجيل يوحنا: «انه أمال رأسه وأسلم الروح» قصد انه أطلق الروح القدس الذي كان مستقرا فيه الى العالم كله فبدأ، اذ ذاك، خلاص العالم.
سر الفصح سر الصليب من حيث انه مطرح القيامة من الخطيئة. في المعنى الكينوني قيامتنا هي بالصليب. ذلك ان المسيح كانت فيه الحياة كما قال يوحنا في مطلع إنجيله لأن المسيح كان يحمل حياة الله كلها في جسده. فلما انحدر إلى مملكة الموت تلقى الموت الحياة فانفجر. ظن الموت انه يبتلع يسوع الناصري فابتلعه هو وأمات في ذاته الموت لكي لا يبقى له أثر في الذين يحبون يسوع. وفي هذا قال يوحنا الذهبي الفم في عظة له فصحية: «قد أخمد (المسيح) الموت حين قبض الموت عليه. والذي نزل إلى الجحيم (أي نطاق الموت) سبى الجحيم. واذاقها المر حين ذاقت جسده… تناولت جسدا فألفت إلها. تناولت أرضا فألفت سماء… فأين شوكتك يا موت؟ أين انتصارك يا جحيم… قام المسيح فانبثت الحياة. قام المسيح فليس في القبور من ميت».
كل هذا طبعا على الرجاء ولكن الرجاء نابع من واقعة الصلب. وقبل ان حل موت المخلص سماه في غير موضع مجدا. وقد صلب اليهود رب المجد كما يقول الكتاب. في القديم كان الله إله خوف وارتعاد وغضب. اما الآن فقد صار الحلاوة كلها. كان الإله ينتقم من أعدائه ويميتهم. اما وبعد ان اخذ المسيح كل إنسان والإنسان كله على مسؤوليته فقبل ان يسفك دمه ليحمل عنا الخطايا فلا نموت فيها. وفي هذا المعنى قال باسيليوس عنه انه «يحاكم الخطيئة بجسده» أي بجسده الممحى حتى لا يبقى للخطيئة التي اتخذها على الناس وجود.
ولما قام في اليوم الثالث «طرّق لكل جسد القيامة من بين الأموات». والبشرية التي تؤمن به تتحرر. وأجساد البشر في اليوم الأخير كلها تنعتق من فسادها بفعل قيامته. انه لقد قام ليس ليأتي بخلاص تم نهائيا على الصليب ولكن ليكشف ان البلى لا يعتريه وانه باق إلى الأبد بجسده المنور والمنير في أحضان الآب. القيامة ليست الخلاص. هي انكشافه. وظهر لتلاميذه عدة مرات في أورشليم وفي الجليل ليقول لهم انهم قادرون على الشهادة له حتى أقاصي الأرض وانهم سيلدون بالتعليم وسر القرابين شهداء له في كل العالم على مد الأجيال. وقد اراد لما كان يتراءى لهم ان يوحي إليهم ان الخوف قد زال وان من أحياه يسوع لا يقدر عليه أحد فإنه معنا حتى منتهى الدهر.
هذه المعية الدائمة التي تربطنا به تجعلنا لا نخشى الدهر الحاضر ولا الدهور الآتية. فقد قاومنا الوثنية الرومانية وكل الوثنيات التي تثب علينا في كل جيل بإيمان مذهل. وكلما أماتونا كنا نزداد لأن وقفة الشهادة هي التي كانت تجذب الينا كل من راى فينا بهاء ليس مثله بهاء.
المسيحيون يعيدون لا لأنفسهم ولكن لقوة المسيح. يخطئون مثل كل الناس ولكنهم سرعان ما يتذكرون ان القيامة وضعت فيهم منذ الآن يتحررون من سلطان دنياهم ولا سلطان لها عليهم. عاشوا في الملكوت الإلهي على هذه الأرض مميتين كل شهوة مؤذية ومخطوفين إلى وجه المخلص الدامي والحي أبدا.
القيامة مسيرة. ولكنها كذلك لأنها تحققت في يسوع الناصري. وبعد ذلك صارت إرثا إلى الأبد لكل من استطاع ان يستضيء بنورها. ان الذي ذاق تعزيات القيامة وبهجتها لا يستطيع ان يرتاح إلى شيء آخر على رجاء ان يطرح عن نفسه ترابيتها حتى ينتصب قامة من ضياء. وإذا تبادل المسيحيون التحية بعبارة المسيح قام فإنهم يؤكدون ايمانا ثم رجاء على انهم هم أيضا مدعوون إلى الا يرزحوا تحت أي إغراء في هذا العالم أحياء في اعماق نفوسهم ونقاوة قلوبهم من أجل خلاص الكون.
Continue reading