Monthly Archives

April 2005

2005, جريدة النهار, مقالات

في انتظار القيامة / السبت في 30 نيسان 2005

«قم يا الله واحكم في الأرض». هكذا ندعو الله إلى القيام في كنيستي اليوم. قم حرا من الأصنام التي موضعوك فيها. أصنام هي منحوتات شهواتهم وعلى رأسها شهوة البطش بالشعوب. انهم لقد ألّهوا القهر وجعلوه فيك لتدعم القهر الذي يمارسون. قالوا انك «رب القوات» وما أحباؤك الا الضعاف.

كيف تكون حاكما في الأرض؟ الآيات التالية تقول: «إلى متى تقضون بالظلم، احكموا لليتيم والفقير. أنقذوا البائس والفقير وأنصفوا المسكين والبائس». اللهم انت لا تحكم بأقوال تقال وان كان لا بد من الكلام. انت تبدو إذا الكبار أنصفوا اليتيم والعاري الذي عروا والمحروم إذا سحقوه. تبيت عند المستضعفين فتقوم بهم. هذه ايقونتك الأخيرة. ولا نعيد الا مع هؤلاء إذا شبعوا عدلا وقعدوا على آرائك الكرامة.

جعلوك قائد جيوش وهذه تغزو وتسلب فإن غايتها إشاعة الرق. استعملوك سببا للنصر وما أنت بناصر أحد. حبك وحده هو الناصر. لذلك كانت العلاقة بك في القلوب وفيها أنت خفي وفي سكناك فيها تسوس العالم. ولا تسوسها من سماء غير قائمة فوق رؤوسنا فسماؤك فينا بعد ان أخذناك في النفس أو أخذت أنت النفس لتجعلها عرشا لك وعلى هذا تستوي «لم يصعد أحد إلى السماء الا الذي نزل من السماء». والحقيقة اننا بالحب الذي غرسته فينا استرضيناك فرضيت. لا إله يقر خارج الإنسان. لا تضع أبرارك في مقامات فوق. تتربع فيهم هنا. تتنزل الينا وتنبسط في مدانا وتصبح كل المدى. اذ ذاك تفرح بنا وهذا عيدك فينا وعيدنا نحن ان نراك وان نراك في المساكين واذ تنطوي أنت فيهم وننطوي نحن فيك يصيرون وحدهم هم الملوك.

عيدك اليوم هو هذه الثلاثية التي افتتحناها أمس وتنصرم غدا. ينبغي توضيحها كي لا نخطئ عمقها. قلت عيدك أيها الآب لان سر الفصح الذي نحاول اكتناهه هو سر محبتك التي كنت اياها وكانت اياك منذ الأزل لما رأيت الى ابنك حملا ذبيحا قبل انشاء العالم وبعثت بروحك إلى الأنبياء ليقولوا ذلك ورأيته فصحا أي عبورا للإنسانية اليك لما عرفت بمسيحك محبوبيتها وانها مجروحة بجرح العشق لعيسى وانها لن تشفى من هذا العشق إلى الأبد لأنك بدوت لها أبا وان هذه هي طبيعتك. وإذا كان الذي في حضنك هو خبّر فهي أيضا تخبّر انها تذوق دفء هذا الحضن فتهمس أنت في أذنيها ان المتبنى بالانعطاف الإلهي له جمال الابن المولود قبل كل الدهور.

سر الفصح تمتماته في هذا انه «لما حل ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودا من امرأة، مولودا تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني». واذ شاركنا اللحم والدم ولبس الناسوت نحس ان الله لا يطيق ان ينظر اليه على انه بعيد ولنشعر تاليا بقرباه. هو كان دائما قريبا ولكنه وحده كان يعلم ذلك فأراد ان يكشف لنا علمه وان «يضرب خيمته في حينا» أي ان يقول لنا انه من حينا فيما نحن عليه من لحم ودم.

وما كان يكفي ان يكون رفيقا بنا وهذا عرف قديما اذ اراد لنا معرفة له كاملة فأحب ان يكون رفيقا لنا يوآكلنا ويشاربنا ويذوق في جسده كل أحوالنا ما خلا الخطيئة. وهو يعرف ان لا شيء يخيفنا مثل الموت فما كانت مرافقته ايانا كاملة لو لم يذق الموت وهو غير محكوم عليه به لكون السيد هو البار المطلق فتطوع له حبا ليزيل عنا مخافة الموت وفساده ويقوينا باستمرار نعمته فينهضنا من بعد كبوة ويضمنا إلى صدره فنعي اننا بتنا احبة إلى الأبد.

لذلك لا حسرة على أوجاع المسيح ولا بكاء ولا تعظيم للألم ولكن التعظيم لطوعيته. وإذا سجدنا لآلامه كما نقول في كنيستي فمعنى ذلكم قبولنا لمقاصد الآب وللصليب مطرحا لحريتنا. ليس لأوجاع المسيح أية مكانة الا من حيث هي تعبير عن محبته. ولا معنى لما يقوم به بعض من حمل صلبان ثقيلة أو الاطراح عليها لتعذيب أجسادهم. فالله ليس قاهرا لأبدان طهرتها المعمودية ولا تغفر الخطايا بإيلام كياننا الجسدي الطيب ولكن الخطايا تغفر بالإقلاع عنها وصلبها هي. فالخطيئة عضو دخيل تجب إماتته بالتوبة أي باكتساب الإنسان الجديد الذي يكون على مثال يسوع.

المسيحية ديانة الفرح وليس فيها حزن البتة وما فيها مأساة والمأساة ان تنغلق الأبواب عليك وان تختنق بانغلاقها. فقد شرع المسيح كل النوافذ على «سماء جديدة وأرض جديدة» وباتت الأرض سماء وبات القلب عرش الله الوحيد. ولهذا كان القديس سيرافيم ساروف يحيي كل من التقاه بقوله: «يا فرحي، المسيح قام».

اما انه قام فيعني اولا ان يسوع لما مات على الخشبة لم يدع الموت يتسلط عليه. ففي اللحيظة التي أسلم فيها روحه للآب قام من وطأة الموت وغلبه. ولما قال لتلاميذه بعد العشاء السري: «ثقوا اني قد غلبت العالم» اراد انه انتصر على عالم الخطيئة وعلى قهر الموت فبقي حرا منه على الخشبة وتم النصر هناك. ولما قال إنجيل يوحنا: «انه أمال رأسه وأسلم الروح» قصد انه أطلق الروح القدس الذي كان مستقرا فيه الى العالم كله فبدأ، اذ ذاك، خلاص العالم.

سر الفصح سر الصليب من حيث انه مطرح القيامة من الخطيئة. في المعنى الكينوني قيامتنا هي بالصليب. ذلك ان المسيح كانت فيه الحياة كما قال يوحنا في مطلع إنجيله لأن المسيح كان يحمل حياة الله كلها في جسده. فلما انحدر إلى مملكة الموت تلقى الموت الحياة فانفجر. ظن الموت انه يبتلع يسوع الناصري فابتلعه هو وأمات في ذاته الموت لكي لا يبقى له أثر في الذين يحبون يسوع. وفي هذا قال يوحنا الذهبي الفم في عظة له فصحية: «قد أخمد (المسيح) الموت حين قبض الموت عليه. والذي نزل إلى الجحيم (أي نطاق الموت) سبى الجحيم. واذاقها المر حين ذاقت جسده… تناولت جسدا فألفت إلها. تناولت أرضا فألفت سماء… فأين شوكتك يا موت؟ أين انتصارك يا جحيم… قام المسيح فانبثت الحياة. قام المسيح فليس في القبور من ميت».

كل هذا طبعا على الرجاء ولكن الرجاء نابع من واقعة الصلب. وقبل ان حل موت المخلص سماه في غير موضع مجدا. وقد صلب اليهود رب المجد كما يقول الكتاب. في القديم كان الله إله خوف وارتعاد وغضب. اما الآن فقد صار الحلاوة كلها. كان الإله ينتقم من أعدائه ويميتهم. اما وبعد ان اخذ المسيح كل إنسان والإنسان كله على مسؤوليته فقبل ان يسفك دمه ليحمل عنا الخطايا فلا نموت فيها. وفي هذا المعنى قال باسيليوس عنه انه «يحاكم الخطيئة بجسده» أي بجسده الممحى حتى لا يبقى للخطيئة التي اتخذها على الناس وجود.

ولما قام في اليوم الثالث «طرّق لكل جسد القيامة من بين الأموات». والبشرية التي تؤمن به تتحرر. وأجساد البشر في اليوم الأخير كلها تنعتق من فسادها بفعل قيامته. انه لقد قام ليس ليأتي بخلاص تم نهائيا على الصليب ولكن ليكشف ان البلى لا يعتريه وانه باق إلى الأبد بجسده المنور والمنير في أحضان الآب. القيامة ليست الخلاص. هي انكشافه. وظهر لتلاميذه عدة مرات في أورشليم وفي الجليل ليقول لهم انهم قادرون على الشهادة له حتى أقاصي الأرض وانهم سيلدون بالتعليم وسر القرابين شهداء له في كل العالم على مد الأجيال. وقد اراد لما كان يتراءى لهم ان يوحي إليهم ان الخوف قد زال وان من أحياه يسوع لا يقدر عليه أحد فإنه معنا حتى منتهى الدهر.

هذه المعية الدائمة التي تربطنا به تجعلنا لا نخشى الدهر الحاضر ولا الدهور الآتية. فقد قاومنا الوثنية الرومانية وكل الوثنيات التي تثب علينا في كل جيل بإيمان مذهل. وكلما أماتونا كنا نزداد لأن وقفة الشهادة هي التي كانت تجذب الينا كل من راى فينا بهاء ليس مثله بهاء.

المسيحيون يعيدون لا لأنفسهم ولكن لقوة المسيح. يخطئون مثل كل الناس ولكنهم سرعان ما يتذكرون ان القيامة وضعت فيهم منذ الآن يتحررون من سلطان دنياهم ولا سلطان لها عليهم. عاشوا في الملكوت الإلهي على هذه الأرض مميتين كل شهوة مؤذية ومخطوفين إلى وجه المخلص الدامي والحي أبدا.

القيامة مسيرة. ولكنها كذلك لأنها تحققت في يسوع الناصري. وبعد ذلك صارت إرثا إلى الأبد لكل من استطاع ان يستضيء بنورها. ان الذي ذاق تعزيات القيامة وبهجتها لا يستطيع ان يرتاح إلى شيء آخر على رجاء ان يطرح عن نفسه ترابيتها حتى ينتصب قامة من ضياء. وإذا تبادل المسيحيون التحية بعبارة المسيح قام فإنهم يؤكدون ايمانا ثم رجاء على انهم هم أيضا مدعوون إلى الا يرزحوا تحت أي إغراء في هذا العالم أحياء في اعماق نفوسهم ونقاوة قلوبهم من أجل خلاص الكون.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

دخول يسوع اورشليم/ الأحد 24 نيسان 2005/ العدد 17

أمس كان عندنا سبت لعازر الذي أقامه يسوع من بين الأموات صورة مسبقة عن قيامته هو في اليوم الثالث. لعل اهم ما جاء في إنجيل امس هو قول مرتا اخت لعازر للسيد: “لو كنت ههنا لم يمت اخي… فقال لها يسوع سيقوم اخوك”. ظنت انه كان يتكلم على القيامة في اليوم الأخير “قال لها يسوع انا القيامة والحياة”. وكأنه يقول القيامة الأخيرة سوف تحل ما في ذلك ريب. ولكن المهم ان تعيشوا انتم وكأنكم تحققون هذه القيامة كل يوم. وهذه حدث في داخل نفوسكم. انا قيامتكم وحياتكم ان انتم آمنتم بي. فالمهم التصاقكم بي. هنا تبدو المسيحية على انها عشق المؤمنين ليسوع. المسيحية ليست كتابا. هي أنا.

          في اليوم الثاني دخل يسوع الى اورشليم “راكبا على أتان وجحش ابن أتان”. هي دابة الفقراء. يدشن المسيح موته بشكل فاتح متواضع اي انه يدخل قلوب الناس وطراوتهم. يستقبله الأطفال بالدرجة الاولى. يركب بهيمة “ليحل بهيمية الأمم”.

          عشية ذلك اليوم والاثنين والثلاثاء نرتل “ها الخَتَن (وهي كلمة سريانية تعني العريس) في نصف الليل”. يدخل كل نفس في كثافة الظلام لأنه نورها. وكل نفس مؤمنة به تصير عروسا له. صرنا في مرتبة الحب. وتأكيدا لذلك نرتل ايضا: “انني اشاهد خِدْرَكَ مزينا يا مخلّصي”. والخدر هو الغرفة الزوجية اي ان الكنيسة تدعونا الى العرس، اسبوع آلام وليس اسبوع حزن. ذلك ان اوجاع المخلّص تعطينا فرح الخلاص. ومن جديد نستوحي إنجيل مرقس ونقول: “قلتَ لهم (اي لتلاميذك) ألا يماثلوا الأمم بالسيادة على من هم دونهم، فالاول فيكم ليكن خادما للكل والرئيس كالمرؤوس والمتقدم كالأخير”. ايضا هنا التواضع حتى آخر طريقه اي الموت.

          لا نعرف على وجه الضبط كيف قضى المعلم هذه الأيام الاولى في اورشليم، ولكنا نعرف الأقوال التي علّمها في الهيكل واهمها ما يتعلق بالدينونة. انتبهوا وعوا فصليبي يدين العالم، فلا تقعوا تحت الدينونة بمشاركتكم الذين سيقتلوني. أبيدوا شهواتكم المؤذية لئلا أحاكمكم في اليوم الأخير. احبوا موتي الإنقاذي لئلا تموتوا بمعاصيكم.

          بعد هذا، مساء الخميس العظيم، سيقيم العشاء السري مع تلاميذه. “شهوةً اشتهيتُ ان آكل هذا الفصح معكم… ثم تناول كأسا وشكر وقال: خذوا فاقتسموا بينكم فأني اقول لكم اني لا اشرب من عصير الكرمة حتى يأتي ملكوت الله. واخذ خبزا وشكر واعطاهم قائلا هذا هو جسدي الذي يُبذل لأجلكم… وكذلك الكأس من بعد العشاء قائلا هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي…”. ثم خرج ومضى على عادته الى جبل الزيتون وتبعه تلاميذه.

          هذا هو القداس الإلهي عندنا. “هذا هو جسدي” اي هذا هو انا، بمعنى انكم اذا تناولتم القربان في كل ذبيحة تأكلونني اي تجعلون ذاتي في ذواتكم. والدم الذي تشربونه -وصورته الخمر- انما هو الحياة (في فلسفة ذلك العصر الدم هو الحياة). فكلما اجتمعتم تتناولون ذاتي وحياتي. القصة ليست اكل لحم وامتصاص دم بالمعنى البيولوجي. الكل فيكم هو أنا لأني انا القيامة والحياة كما قلت لمرتا قبل ايام معدودات. “من يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيّ وانا فيه”. فبالدم يتحد العريس والعروس. وما انا معطيكموه الآن صورة انما سيتم غدا على الصليب اذا طعن اليهود جسدي وأهرقوا دمي. اذ ذاك تنطلق حياتي من هذا الصليب عليكم وعلى العالم. “ثقوا اني غلبت العالم”. سيقول هذا بعد العشاء الأخير فيما كانوا نازلين الى وادي قدرون ليبلغوا جبل الزيتون حيث يسلم الخائن المعلم الى ايدي الخطأة.

          “انتم فيّ وانا فيكم”. عند ذاك آخذكم اليّ. انتم تحسبون اني صرت اليكم، وهذا ما اكدته قبل ذلك في الحديث عن خبز الحياة كما رواه يوحنا في إنجيله الرابع. ولكن ما لا تعرفونه انكم لحظة تأكلون جسدي وتشربون دمي، انا ايضا آكلكم واشربكم وأتناولكم لكي تكونوا معي على عرشي. فاذا نظرتم اليّ مصلوبا تستوون على العرش وتقومون من موتكم الروحي حتى نهاية هذا الوجود الأرضي، ثم تستوون على عرشي في السموات عن يمين الآب اي تكونون على كرامة الآب. انتم في الحب تتألهون وتصيرون ملوكا بملوكية الآب، وهذا هو فصحكم الأبدي.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

القضاء دائرة / السبت في 23 نيسان 2005

هذا رأيي ولست أعبر عن رأي سواي لأن كنيستي لا تتعاطى الشأن السياسي الا عند مظلومية الإنسانية، وسأحاول ان اقترب من العدالة وليس من نظام إلاّ فسدت فيه رؤية أو فسد فيه مراس. غير ان الديموقراطية لانعدام وحي إلهي يحكم الأرض تقول بسيادة الشعب. ولكن ما سيادة الشعب الا اقتراب من إحساس الفرد انه غير مهمش بتراكم المنافع وتلاقيها وتلاعبها في ديموقراطية اسمية تدعي حقوق الأفراد ولكنها تجيرهم إلى كتل متحكمة، إلى أوليغارخية مستترة تحت ثوب طغيان.

والأمثل في التمثيل اذ لا بد منه ان يحس المرء ان له مندوبا ينطق باسمه أي له به صلة وجدان ووحدة تطلعات ومشاركة ألم. وبهذه المشاركة يصير النائب في حصافة فكره وحماسته للوطن نائب الأمة كلها. هناك آلية انتداب في الأنظمة القائمة على حزبين وأكثر أو إذا كان المواطن منحزبًا، إذا كان الحزب ذا عقيدة أو برنامج معلن فلا يضطر الناخب، اذذاك، إلى ان يعرف مندوبه بعد ان يكون تبنى العقيدة أو البرنامج. ان تجريدية العقيدة والبرنامج خير من الصلة الشخصية. لكن هذا غير حاصل عندنا الآن أو قليله حاصل. فنعوض النقصان بالثقة فنعرف ان نائبنا منا واننا منه. لذلك كان الأمثل ان نصوت لشخص واحد يكون فكره السياسي أقرب إلى فكرنا وأخلاقه على صورة ما نراها في الإنسان السوي.

أما إذا كثر المندوبون ويكثرون في المحافظة نفترض ان مرافقي مندوبنا في المعركة يشبهونه فكرًا ومناقب وهذا يستحيل ان يقوم الدليل عليه. هذا نظام لائحة هي تدعي التجانس ولا شيء يثبته وتقوم على ان هذا يأتي بعدد من الأصوات وذاك بعدد وما تشاور الناخبون وليس من آلية شورى بينهم. انها لعملية استرضاء الموفد للموفد وعملية وعود بين الموفدين إذا ما وصلوا لا يعرف أحد أسبابها ولا يؤكد أحد تحقيقها فمّر القوم الجالسون على الأرائك وانقطع الجسر بينهم وبين ناخبيهم وما من مسائل اذ انت تسائل من تريده أن يجلس تحت قبة البرلمان وما أردت فعلاً زملاءه ان يجالسوه.

لما قال الطائف بتقسيمات جديدة تكثر فيها المحافظات اعتبر ان تضييق الدائرة يقرب المواطن ممن يرسل إلى المجلس، ورأى إلى شيء من التعارف بين الفئتين ولو نسبيًا. اما الآن فلا يتيح ضيق الوقت القيام بهذا والتقسيم يقام به في حال الهدوء لا عند اقتراب الاستحقاق. اما وان الأمر عاجل فلا يسوغ لنا ان نختبئ وراء نص الطائف لأن النص جعل المحافظة وتقسيم المحافظات القائمة آنذاك امرين متلازمين. عند هذا لا يحق للقائلين اليوم بالمحافظة ان يدعوا انهم يستندون إلى النص. ليس هذا هو النص.

أعرف النسبية نظريا. ولكنها لم تمارس. ويفصلنا اسبوعان أو أكثر بقليل عن إصدار قانون لها وتفسير تطبيقه ومعرفة الآلية لتنظيم الحصص الطائفية. لكن كل فلسفة النسبية قائمة على توازن الأحزاب وضرورة التلاقي للتيارات السياسية المختلفة والإفادة من التنوع الفكري. وفي أحسن حال عندنا توازن أشخاص وأهواء وانخفضت احزان الأقلية.

وليس الوقت للمعمعة ولا للتأجيل بسبب الدرس والتدريس اذ ينبغي افتداء الوقت لأن الوقت رديء. وسرعة القيام بهذا الواجب الوطني هي الإنجاز لأننا اليوم في حال تربية لأنفسنا وتقوية لعزائمنا قد تجعلنا في مجال السياسة شيئًا من خلق جديد أو هداية مذهلة.

وعندنا مشروع القضاء تقدمت به الحكومة السابقة ونص عليه قانون قديم. وتبدو مساحاته الجغرافية أدنى إلى المحافظات التي وعد الطائف باستحداثها أي يكون أقرب إلى الطائف نصًا وروحًا. وليس هذا حديثا عندي. فقد ناديت به منذ سنوات المرة تلو المرة في هذه الزاوية.

وبين السنة 1960 والسنة 1972 اعتمد القضاء وأنتج استقرارًا سياسيًا. ثم بعد 1972 تمت أربعة انتخابات على أساس القانون ذاته. وهذا كشف تماسكًا في المجلس نتج منه اتفاق الطائف.

في القضاء، أو المحافظة ممكن تبني مشروع النسبية الذي لا يعرفه بخاصة الا علماء الحقوق الدستورية وفيه حسنات في البلدان الخارجة من ازمات أهلية ولكن ليس لنا فيه مراس. وهو يفرض على العموم ان تصوت للائحة كاملة فلا يحق لك فيها التشطيب واللائحة الثانية المعتبرة خاسرة في نظام الاكثرية ينجح فيها اثنان أو ثلاثة أو أكثر بحسب عدد ناخبيها. ولكن من تختار من اللائحة الثانية أو الثالثة وكيف تعامل المرشح المنفرد؟ يسهل الأمر عندما تكون اللائحة حزبية فلا يكون فيها تفضيل اذ يأتي رئيس الحزب أو من يعينه الحزب. وعندنا نحن تعقيد آخر هو المحاصصة الطائفية. انه ميكانيزم صعب ضبطه الآن وصعب تعليمه لموظفي وزارة الداخلية. أما ما قيل عن ان العراق اعتمد أخيرًا هذا النظام فالعراق كان موزعًا على أحزاب أو حركات دينية وليس فيه نظام طائفي ولو ظهرت ميول طائفية.

أما قول بعض ان القضاء يعني نظامًا طوائفيًا فقول يفترض ان كل قضاء هو من لون طائفي أو مذهبي واحد. فالقاء نظرة سريعة على كتاب كمال فغالي عن انتخابات السنة الـ2000 يبين مثلاً ان في دائرة جبل لبنان الأولى عندنا 88,9 في المئة من المسيحيين و10,3 في المئة من المسلمين. المسيحيون من كل المذاهب والمسلمون شيعة وسنة. وفي دائرة جبل لبنان الثانية عندنا 94,1 في المئة من المسيحيين والبقية مسلمة. والدائرة الثالثة مناصفة تقريبًا وعندنا فيها دروز وسنة. وفي الدائرة الرابعة حول 60 في المئة مسلمون وحول 40 في المئة مسيحيون.

في دائرة الشمال الأولى 56,2 مسلمون والباقي مسيحيون. في دائرة الشمال الثانية مناصفة. في دائرة الجنوب الأولى 85,8 في المئة مسلمون و14 في المئة مسيحيون. في دائرة الجنوب الثانية 74,9 في المئة مسلمون والباقي مسيحيون. لا نجد دائرة واحدة – وقد قرأت كل الاحصاءات – هي من لون واحد وان كثرت جدًا هذه الشريحة أو تلك في أقضية قليلة جدًا.

غير ان القضية الحقيقية أمامنا الآن هي اننا في حاجة ماسة إلى ان نمارس الانتخابات في مواعيدها وليس عندنا وقت أو هدوء فكر لنفتش عن أحسن نظام ممكن في دساتير العالم. هذا يستغرق دراسات من شأنها ان تؤخر الانتخابات مع ما في ذلك من محاذير. العمل الانقاذي في الوضع الحاضر هو استعجال العملية الانتخابية بما لديك من نصوص أثبتت صحتها وقوتها.

ردي الأساسي على من يخشى التشددّ الطائفي من اعتماد القضاء هو ان هذا التشدّد يخف بالضبط إذا أحس الناس بالعدل وان طائفتهم غير ذائبة في قوة الزعماء لطائفة أخرى. ايهما أقرب إلى اللاطائفية ان ترى نفسك مذيلاً إلى طوائف أخرى أو ان تحس نفسك محضون طائفتك؟ هذا إذا اعتبرنا ان ثمة اكتساحًا طائفيًا في هذا القضاء أو ذلك. أين التشدد الطائفي في قضاء كسروان الكثير العلم والرقي إذا أتى بنواب موارنة فقط؟ هل إذا اختلط أهل هذه المنطقة بدروز الشوف وأرثوذكس قضاء عاليه والمتن انتخابيًا يضعف تمسكهم بمارونيتهم أو تقوى وطنيتهم؟

إلى هذا فالبلد طوائفي في كل تركيبته حتى يأتي المجلس الجديد وتتشكل الهيئة المكلفة رسم الطريق إلى اللاطائفية السياسية. فيتحرر اللبنانيون خلال عشرات من السنين من الانتساب الطائفي بمعناه السياسي. أنت لا تنشئ المواطنية في الممارسة بمعنى القفز فوق كائنات تاريخية دينية بسرعة.

نحن قوم لم نبلغ هذه التجريدية الغربية التي تجعلنا نتعامل عبر هيكليات عقلية فيها بعض من جفاف. وربما كانت الدولة لا تسير بلا هذه الهيكليات. نحن حضارة مودات وعلاقات وجدانية وعاطفية. ولم ينشئنا ديكارت ولا الشرع الروماني. ويعيش النواب الحاليون هذه العلاقات الشعورية (حضور مآتم واعراس، الخ…). وليس عندي في هذا تخلف عن بلدان العالم الأول. الحياة تعارف وتبادل والناس عندنا يحبون ان يحمل النائب قضاياهم إلى الدولة وليس هذا كله خدمات بل أمور تتعلق بالمجتمعات اليومية.

أنت ترفع إلى مرتبة عليا من تعرفه وفي الدوائر الكبرى تصوت لحليف من تعرفه وحتى الآن لم نسمع ببرنامج انتخابي صريح ومفصل في كل مرافق حياتنا الاقتصادية أو الثقافية. ما العيب في ان “تشخصن” العلاقة إذا كان نائبك موثوقا به ومقدامًا ووطنيًا؟

خارج هذه الرؤية ليس عندك في الدائرة الكبرى الاّ ناس يستقوي بعضهم ببعض آخر ويتبادلون المنافع لدعم رجوعهم إلى السلطة بحيث تصبح الانتخابات وعدًا بدورات انتخابية أخرى لقيام كتل تصبح أحيانًا رمزًا، في حين ان النائب الظاهر من القضاء ليس له الاّ قوة ناخبيه وتعلقهم بما أنجز ويعود ما أنجز. يجب ان ننتهي من آلة قائمة لتجدد لنفسها وتصير غاية لنفسها وتلتف حول الأغنى بين المرشحين. هذا نظام ينتج طفيليين.

ان المجيء بنواب جدد فهماء وصالحين قد يكون خطوة كبيرة على طريق انشاء الدولة الحديثة وظهور مجتمع راقٍ.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

مريم المصرية/ الأحد 17 نيسان 2005 / العدد 16

فيما نحن ندنو من الأسبوع العظيم ينتصب أمامنا وجه هذه المرأة الرائعة التي انتقلت من قاع خطاياها إلى ذروة مجدها. تعاطت الفحشاء منذ الثانية عشرة حبا بالفحشاء وليس طمعا بالمال فيما كانت تتقاضاه. مولودة مسيحية في الريف المصري ولكنها انتهت إلى الإسكندرية المدينة المترفة الواسعة حيث كان لها ان تنطلق إلى ملذاتها.

          يوما وجدت جمهورا يتراكض إلى البحر وفهمت انه مسافر إلى القدس لإحياء عيد رفع الصليب فخطر لها ان تركب البحر ولا تملك أجرة السفينة. هل كان حجها إلى القدس من باب الفضول ام ان شيئا من مسيحيتها استفاق فيها؟ هنا قررت ان تُسلم نفسها لمن شاء من الركاب لتدفع ثمن الرحلة.

          بلغت اورشليم ولكن قوة خفية حالت دون دخولها كنيسة القيامة. تقول سيرتها التي كتبها القديس صفرونيوس بطريرك اورشليم انها رأت من بعد ايقونة  والدة الإله ووعدتها بأنها لن تدنس جسدها فيما بعد فسمعت صوتا من السماء يقول: “إذا عبرتِ الأردن تجدين راحة مجيدة”. سارت في الصحراء حتى بلغت كنيسة القديس يوحنا المعمدان على نهر الأردن ثم وجدت مركبا صغيرا نقلها إلى الضفة الأخرى فلازمت المنطقة سبعا وأربعين سنة تقتات من عشب البرية وتصلي كل الوقت.

          بقيت عواصف الميول السابقة تضربها 17 سنة حتى أدركت الهدوء. في ذلك الوقت كان في برية الأردن راهب يدعى زوسيما، والأديرة كانت كثيرة هناك. وكان يظن انه الأكمل بين البشر. غير ان الله اراد ان يبين له من كان اعظم منه. وكانت عادة الرهبان ان يغادروا اديارهم في اليوم الاول من الصوم ليوغلوا في الصحراء كل منهم على انفراد، ويجتمعون أحد الشعانين. وفيما كان يمشي في البادية رأى طيفًا من بعيد وتبين له انه امرأة عارية. خاطبها طالبا ان تقف، فقالت لا استطيع ان استدير اليك فأنا امرأة عارية فإليّ بردائك لاستتر واتمكن من التحدث اليك. فنزع رداءه وألقاه اليها وطرح نفسه على الأرض والتمس بركتها كما التمست هي بركته.

          اعترفت بكل ما جرى في حياتها وقالت له ان يعود اليها السنة المقبلة حاملا القرابين المقدسة وعينت له مكان الموعد. فجاء عند الموعد وناولها. وهذا ما نراه في معظم ايقوناتها. وفي السنة اللاحقة جاء ايضا فوجدها ميتة ويداها مصلبتان على صدرها، ووضعها في حفرة ورقدت في سلام الرب في اول نيسان حيث عيدها الأساسي إلى جانب هذه الذكرى.

          باختصار كلي احببت ان امجد بهذه السطور هذه المرأة العظيمة التي جعلتها الكنيسة في الصوم المقدس نموذجا للتوبة يحتذى به ولتقول لنا ان ما من خطيئة لا تُغفر لان رحمة الله اوسع من كل خطيئة وتذيبها ان اعترفنا بذنوبنا صادقين. ان في الانسان صورة الله كامنة وتتحرك اذا منّ الرب علينا بحنانه. تتحرك عندئذ طاقات الخير فينا وتغمر كمياه الطوفان كل اوساخ المعاصي ولا يبقى فينا الا نور الغفران.

          فاذا ما اخذنا نتوب في هذه الأربعينية المقدسة، يزداد نورنا ونمشي مع كل المؤمنين إلى ضياء القيامة، فلا يبقى فينا الا فاعليتها وتصير حياتنا فصحا ابديا.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

مريم المصرية / السبت في 16 نيسان 2005

غدًا لها ذكرى في كنيستي، خاطئة كبيرة تابت توبة كبيرة. ربما يجذبنا اليها توق إلى الرجوع اليه ولما نتب. هذا الحزن على نفسي في اشتياقي إلى وجه الآب جعلني ادنو من هذه المرأة التي بعد فجور كبير حلّ الروح فيها بصورة مذهلة وهو يحل حيث يشاء ويكسر كل جدار أقامه الإنسان في نفسه دون رؤية الله. حدثنا عنها صفرونيوس بطريرك أورشليم ولكني مسقط من السيرة بعضا من تفاصيل ليست أساسية.

ريفية مصرية شبقة منذ بلوغها أو بعيده تمدينت في الاسكندرية المترفة المسترخية المتساهلة، احدى عواصم الفكر الاغريقي، المشبعة بالعلم والمستطيبة الازياء، كما نتبين ذلك من متحف الاسكندرية اليوم وأعظم مكتبة في العالم القديم كانت لا تزال فيها قائمة. مزاج من الشهوة والعقل. ولعل مريم هذه تزودت، فيما كانت تتعاطى الدعارة، شيئا من هذه المعارف ومنها الغنوصية اي العرفان، وكانت الغنوصية تحتقر المادة وتاليا الجسد. فاذا انت احتقرته يجعلك هذا تقع تحت وطأته أو يجعلك تسوده. وهذا ما عرفته كل الحركات التي كانت تقول بالثنائية الجوهرية بين النفس والجسد أو باستقلالهما أو تصادمهما.

تلك كانت بيئة مريمنا على ما يبدو لي من معرفتي للإسكندرية في القرن السادس للميلاد. ربما اراد صفرونيوس ان يجعل هذه الفتاة موغلة في المعصية اذ قال انها ما تقاضت عن فحشها أجرا. فللبغاء احيانا عذر الفقر. غير ان هذه كانت بلا عذر كأن الذنوب كانت جنينية فيها وكأن هدايتها كانت من العسر يشبه المستحيل.
وكانت مرة عند المرفأ ولعلها كانت ربيبته. وجدت جمهورا يتراكض إلى البحر، وفهمت انه ذاهب إلى القدس لإحياء عيد الصليب فخطر لها ان تركب البحر وهي خالية من اجرة السفينة. كيف استفاقت فيها معموديتها ثم أنى لها ان تدفع ثمن السفر؟ قالت: «اني املك جسدا، وسيستعيضون به عن المال للرحلة». كيف هذا الخليط بين السقطات واشتهاء الحج؟ من يساكن من في قلب الفتاة؟ هل يتبل الدنس والرغبة في دخول كنيسة القيامة؟ قبل التوبة العارمة التي تستأصل منا كل قباحة الماضي نبدو اختلاطا مريعا حتى نكسر الطين المتحجر فينا ونرمي التراب إلى التراب ويبقى الجسد والنفس معا قامة واحدة من نور.

بلغت القدس والكنيسة فأبى الله عليها دخول هيكله. وجدت نفسها في الرواق وحيدة فيما الحجاج يدخلون وحاولت عبثا الولوج. وحدها مقصية من رؤية الصليب الذي رُفع عليه يسوع. في هذا الاقصاء الرهيب واقتلاعها عن السجود كشف الله قلبه لها وقال لها ان ثمة فرحا عظيما ما كنت تعرفينه ولكنك ستعرفين. ووقع نظرها من بعيد على ايقونة مريم المصطفاة وسألتها ان تمكنها من رؤية الصليب ووعدت بانها لن تدنّس نفسها في ما بعد وانها ستذهب إلى حيث الله يريد.

فسجدت وقبلت ايقونة العذراء وسمعت صوتا من السماء يقول: «إذا عبرت الأردن تجدين راحة مجيدة». فسارت في الصحراء حتى بلغت كنيسة القديس يوحنا المعمدان التي على ضفاف الاردن. وبعد ادائها الصلاة أكلت قليلا ووجدت مركبا صغيرا نقلها إلى الضفة الاخرى ولازمتها سبعا واربعين سنة تقتات من عشب البرية وتوغل في الصلاة.

تهاجمها اهواؤها الماضية المنثنية في كيانها كله وتشتهي طيبات الطعام والشراب وترغب في الاغاني التي كانت تغنيها على شواطئ الاسكندرية. ولكنها ذكرت العهد الذي قطعته على نفسها أمام أيقونة مريم في كنيسة القيامة وبقيت على العهد واستنارت. وسكتت العاصفة فيها بعد سبعة عشر عاما من الجهاد الضاري حتى تنزلت السماء عليها واعطتها السكينة. ونحن أهل الروحانية المسيحية الشرقية نتحرك في السكون أي ننتقل من مجد إلى مجد، على ما يقول الرسول.

هنا يدخل صفرونيوس قصة اخرى اذ يذكر راهبا يدعى زوسيما كان يظن بسبب نسكه العظيم انه أدرك البر. وصحراء الاردن منذ القرن الرابع كانت تعج بالرهابين. غير ان الرب شاء ان يوضح لزوسيما انه لم يبلغ الكمال. وهذا الظن كثيرا ما يدهم الاصلحين وخطيئتهم، اذذاك، فتاكة اذ لا يقتلنا شيء كالكبرياء.
وكانت عادة الرهبان ان يغادروا ديورتهم في اليوم الأول من الصوم بعد اداء الصلاة ويوغلوا في البرية كل على حدة ولا يجتمعوا الا يوم أحد الشعانين. فخرج زوسيما كالبقية. وبعدما مضى عليه قرابة عشرين يوما اتجه نحو الشرق وصلى صلاة الظهر، فلمح على رابية قامة بشرية. واذ حدق في هذا المنظر رأى هيئة بشرية تنحو نحو الجنوب وكانت عارية (اذ لم يبق شيء من ثياب مريم بعد اربعة عقود من الزمن)، داكنة الجلد، شعرها ابيض كالصوف «فجد في أثرها فلاذت بالفرار فلحق بها». خاطبها طالبا ان تقف فأجابته “اني لا استطيع ان استدير اليك واكشف وجهي فأنا امرأة وعارية فاليّ بردائك لاستتر واتمكن من التحدث اليك”. فنزع رداءه وألقاه اليها. اذ ذاك طرح الراهب نفسه على الارض ملتمسا بركتها (أي نسي بره) والتمست بدورها بركته.

اعترفت بكل ما اقترفته وصلبت وجهها وتكلمت عن توبتها وقالت له: في السنة المقبلة إذا حلت ذكرى العشاء السري أي مساء الخميس العظيم ضع القرابين المقدسة في اناء لائق واتني بها وسألقاك عند ضفة النهر المأهولة.

في السنة التالية لما حل الصوم الكبير بقي زوسيما في الدير، اذ اصابته وعكة. ولما حل الخميس العظيم ولقيها في مكان الوعد فأراد ان يسجد لها منعته فناولها. وفي السنة اللاحقة حمل اليها الكأس المقدسة إلى المكان نفسه ورآها ممددة ميتة ويداها مصلبتان إلى صدرها فوضعها في حفرة ورقدت في سلام الرب في أول نيسان من تلك السنة.

لعل الكنيسة وضعت الذكرى قبيل التوبة الكبرى النازلة علينا في أسبوع الآلام لندخله على الرجاء ونميل النفس إلى الاقتناع بالطهارة والتروض لاقتنائها. وهذا يتطلب اعراضا عما يعميك عن رؤية الفرح الالهي الذي ينزل عليك إذا شئت (اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم). ليست قضيتنا مع الله ان نروض الارادة على فعل الخير. انها ان تفتح القلب ليحب الخير. هذا هو الذي يدعوك إلى مكافحة الاهواء أي شروش الخطايا.

ان تؤمن بأن الصدق لا الكذب ينجيك وان ثأر البغض يمزق وحدة كيانك وسلام الغفران يجعلك بلا نتوء ومعليًا الناس عليك وان اخلاصك لزوجتك يجعلك تعيش الفردوس في العائلة. كل هذا قد يجهله ناس كثيرون، والله ان عدت اليه دفعة واحدة هو وحده يؤتيك العلم بالنقاوة.

وإذا مارست رياضة التقرب من الله ترى في لقاءات الوجد به انك بت انسانا جديدا. وإذا بلغت في هذه المسيرة مبلغا كبيرا تحس ان هذا يكفيك ويغذي ليس فقط روحك ولكن جسدك ايضا. تستقيم فيك «صحة النفس والجسد»، كما نقول للأطفال إذا تغذوا بجسد الرب ودمه. وسوف تعلم إذا اعتنقت مراس البر انك قبله كنت حجرا فتيتا وما كنت مرمرا ساحرا.

لذلك كانت دعوتك قبل ولوجك الاسبوع العظيم ان تستأصل منك أصول السوء لئلا تتعطل الرؤية وتبقى سجين الظلام. وإذا قامت مومس رهيبة في الاسكندرية بهذا التحول العظيم، فأنت مثلها قادر بنعمة ربك على ان تستضيء وتصبح وجه الله عندنا.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

مشوار الصوم/ الأحد 10 نيسان 2005 / العدد 15

ها نحن في الأحد الرابع في المنعطف الثاني من الصوم، الإنجيل فيه ينتهي بكلام المعلم: “ان ابن البشر سيُسلم الى ايدي الناس فيقتلونه وبعد ان يُقتل يقوم في اليوم الثالث”. الآلام والفصح هما اذا غاية هذا المشوار الجميل الذي نقوم به أحرارًا من الشيطان الذي قال عنه هذا الفصل الإنجيلي انه استولى على شاب مريض أعراضه هي أعراض داء الصرع. وفي سياق الحديث قال الرب عن هذا الشيطان انه “لا يخرج بشيء الا بالصلاة والصوم”.

          ان الرياضة الروحية الأربعينية التي نحن فيها تقوم على هذين الركنين: الإمساك والصلاة. إمساك نشهد فيه اننا نرفض السيطرة لشهوة الفم علينا فنمتنع فترة ساعات عن الطعام ونعف عن بعض الأطعمة لنسود رغباتنا ولو شرعية وذلك ترويضا لعقلنا حتى يقتنع ان المعدة ليست كل شيء. نحن من جسد ولكنا لسنا فقط من جسد، لسنا من جسد اذا أتينا من الروح القدس ساكنا فينا.

          ثم الصلاة المكثفة في هذا الموسم شهادة على إيماننا ان من امتلأ من كلمة الله يقرأها في بيته ويسمعها مع الجماعة هو راغب في ان تحل فيه حضرة الله المباركة يتقدس وينمو بها. ان تسكن فيك كلمة الله لتطيعها وتتكيف بها هو ان تقول انك ترفض كلمات فيك تناقض كلمة الله. انت تطرد من نفسك كلمات يوسوس لك بها إبليس لتصير من حزبه. وانت وحدك غير قادر ان تطردها. كلمة الله الطاهرة المحيية تكنس الكلمات النجسة التي علقت بك. اي انك قائل انك ترغب في ان تصبح كائنا إلهي الفكر، إلهي التصرف وبدء هذا الفكر في هذا الزمان ان تغفر للناس زلاتهم ليغفر لك ابوك السماوي زلاتك. وبالغفران تجعل الانسان الآخر اخا لك ولو لم تلده امك اي تصير معه من عائلة الآب، هذه التي تسير معا الى مشهد الصلب فالقيامة.

          القيامة كانت نصر المسيح على الخطيئة والموت. المطلوب ان تجعل القيامة فيك اي ان تقوم انت من الخطيئة حتى لا يسود الموت الروحي عليك. واذا لم تستضف القيامة فيك تكون هذه حدثا حدث وولى. اما اذا جعلتها فيك تحس انها دائمة، انها فاعلة ابدا لتكون عندنا انسانية فصحية. ليست المسيحية أغنية تغنى. انها قائمة في البشر في أرواحهم وافكارهم ونحن الارثوذكسيين نقول انها في اجسادهم ايضا.

          اجل يقول القديسون ان الصوم وسيلة ولكنك تحتاج الى الوسيلة لتبلغ الغاية. والغاية هي الفرح. وما من فرح الا بعد جهاد. ان الرب يؤتيك السرور الحقيقي والابتهاج ان انت عملت له بواسطة ضبط جسدك وفكرك. فاذا رآك ضابطا كل هذا محبةً به يأتي اليك ويقرع باب نفسك فيدخل ويتعشى معك. اما اذا لم تجاهد فتكون قد اغلقت باب نفسك دون المسيح اليه اي تكون قد تعلقت بالأشياء العابرة التي التقطّها من هذه الدنيا العابرة.

          فاذا كنت جديا في هذه الحرب الروحية تخوضها ضد روح الشر تصير مجانسا للمسيح. مجانسا تعني انك تصير من جنس المسيح النور. لذلك تجمع ما استطعت من النور خلال هذا الزمان المبارك حتى اذا حل العيد ينظر اليك السيد المبارك ويرى انك بت على مقدار من النور اي يرى انك صرت مثيلا له بالنورانية. بلا هذه النورانية التي تطلبها بإلحاح تكون قد قرأت تاريخ العيد في الروزنامة.

          هل تريد ان تأتي من قيد في الروزنامة ام من محبة يسوع اياك. أحببه في هذا الموسم يحبك في فصحه ويقيمه في قلبك عسى يلازم قلبك مدى حياتك.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

يوحنا بولس الثاني / السبت في 9 نيسان 2005

لن تكون هذه الاسطر مقال رثاء فقط، فإن غيري كان الافصح وسيكون، ولكن تجاربي مع الحبر الراحل تضطرني إلى ابداء تقديري ولئن مزجت اعجابي وصلاتي بشيء من رؤية قارئ أرثوذكسي لمسيرة هذا الذي يرقد الآن في سلام الرب.

لم يذهلني أحد بتواضعه كما اذهلني يوحنا بولس الثاني. لقائي الاول له كانت السلاسة فيه تأتي من البابا. جعل نفسه تلميذا في مجمع الفاتيكان الثاني فأظهرت تحفظي عن بعض ما جاء في المجمع متعلقا بفهم الكثلكة والأرثوذكسية للكنيسة. كانت تهمه التطلعات والتجاوز إلى ما سيقوله الروح للكنائس.

في السينودس لأجل لبنان وقفت خطيبا وانا على بعد عشرين سنتيمترا منه على المنصة وتحدثت عما يفصلنا عن الكنيسة الرومانية. بقي حانيا عنقه ويستمع بهدوء. ثم جمعتنا في شقته على الغداء مائدة لبنانية. وكان على بساطة مغرية واظهر لي مودة جعلتني اقرأ ان بساطة الحياة فيه كانت اقوى من الدور.

حزنت عند آخر استقبال له في خريف السنة 2003 غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع حيث رغب قداسته ان يتحدث إلى بطريركنا مرتين خلال يومين اقامهما السيد اغناطيوس في رومية مع صحبه اذ كان البابا يقول جملا قليلة. بعد العشاء قادنا يوحنا بولس الثاني لنصلي امام ايقونة سيدة قازان، تلك التي اعادها إلى الكنيسة الروسية أخيرا.

اظن ان اهم ما يلفت في هذا الحبر الكبير انه بقي انسانا وبقي كاهنا ومواجها الدنيا مما تأمله فيها ومما أحس به في مطلع شبابه في بلده. لم يطلق ظلم القهر الذي نتجت منه المعتقلات كما لم يتحمل ظلم الرأسمالية المتوحشة. ما عنى لي بالدرجة الاولى انه في الموقفين كان يأتي من ايمانه. التحليل البسيط لخصامه الرأسمالية والماركسية معا هو اننا امام رجل حر.

قلت كان انسانا وهذا لا يكونه أحد بتصنع. أحب فتاة وهو في الثامنة عشرة وكتب شعرا قرأته في ترجمة فرنسية وكان من عيون الشعر ومارس المسرح قليلا. غير انه بعد اقتباله الكهنوت وفي جديته الرومانية رفض زخرف الكلام ليبقى في حق الانجيل. بشريته في عفويتها جعلته محبا للأطفال. رأيته يلاطفهم بصدق وحنان ولا يرفض ان تقبله افريقية ببساطتها.

غير انه لم يصل إلى الانسان الا بعد ان يكون الله قد خطفه في القداس والفروض الاخرى كل صباح. لهذا قلت انه بقي كاهنا وان رعيته هي العالم. هذا من صميم روح الخدمة عند كل رسول. غير ان هذا مرتبط ايضا بدور الاسقف المسكوني ومدلولها انه راعي العالم.

الشأن البابوي دقيق جدا. يعجبك او لا يعجبك ولكنه هام. العمل في الفاتيكان جماعي مهما كانت شخصية البابا قوية. ذلك انه يحترم العلم والمواهب. واللافت أن السلطة الاكثر مركزية في العالم هي أقرب السلطات إلى الشورى ولو كان للبابا ان يهمل اي نص تقدمه له. وبات من الواضح في السنتين الاخيرتين او الثلاث من حبريته كان اتكال يوحنا بولس على اعوانه كبيرا. لكن التشاور عنده ما كان يزحزح الثوابت الاخلاقية الموروثة من اسلافه: مكافحة الاجهاض، رفض الجنسية المثلية، التركيز على العائلة وقدسيتها وديمومتها… ما علاقة كل هذا بتبجيله العظيم لشخصية مريم ام المخلص؟ كان يبدو لي أحيانا مغاليا في تعابيره المريمية. هل في هذا بعض من خشيته لاهوتيين في كنيسته يؤثرون تعابير «بروتستانتية»؟

ولكن على رغم ايغاله في الهاجس الكنسي البحت كانت تهمه اوروبا في ما احتسبه لا يزال مسيحيا فيها. وإذا صح لي اقتباس تعبير من تراث آخر لقلت انه كان ذا حنين إلى جعل اوروبا صورة عن بولونيا. أعني هذا وجود حضور للمسيحية في بنية الدول الغربية بما ينافي العلمانية او التفسير الفرنسي لها. ربما في قلب هذا المنحى الاوروبي تمنى ان تخرج بلاده من الفلك السوفياتي وكان له هذا بدعمه الكبير لمجموعة النقابات التي اتخذت اسم «سوليدارنوسك» (التضامن).

يقتحم الناس في عقر دارهم. يصافح فيديل كاسترو ويتكلم ضد الماركسية في كوبا. رجل اصابته رصاصتان ماذا يخشى؟ ما كان يهمه، حقيقة، كان اقتحام الشعوب المسيحية بالإنجيل بعدما باتت مسيحيتها باهتة. اما مع الآخرين فحوار. الفكرة ليست منه. ولدت في مجمع الفاتيكان الثاني الذي تتلمذ عليه كما قال لي. ما من شك ان المسيحية الغربية بما فيها الشق الكاثوليكي خصصت لحوار اليهود حصة الاسد. وفي علم تفسير الكتاب وغير التفسير اقوال كثيرة حولت الغرب عن التراث المسيحي القديم الذي كان يندد باليهودية. تهلل الغرب لما دخل البابا منذ بضع سنوات كنيسا يهوديا في روما. نحن المحافظين على المسيحية القديمة انزعجنا من هذا انزعاجا بالغا.

بقي الحوار مع المسلمين – ما عدا اوساطا اكاديمية في الغرب – لقاء مع شعوب اسلامية وقادتها على المستوى العملي اي على مستوى السلام. على هذا الصعيد لم يكن عند الرجل مشكلة في مخاطبة الجماهير الاسلامية في المغرب ونيجيريا وفي دعوتهم إلى جانب ممثلين لكل ديانات الارض إلى اسيزي للصلاة. كان يوحنا بولس الثاني مؤمنا بالصلاة من فم اي مؤمن خرجت. أظن اني لست ظالمه لو قلت انه كان يحمل في آن التصلب الكاثوليكي النظري وانفتاح القلب على القلب. الكثلكة منذ بيوس الثاني عشر كانت قد دخلت في مفهوم ان الكنيسة تقوم ايضا خارج كنيسة رومية بما في ذلك الاديان الاخرى.

صلابة كاثوليكية ساطعة في انه ما سمى مرة البروتستانتيين كنيسة مع انه أقام حوارات مع كل «مجموعة بروتستانتية» كما كان يقول، حوارات مؤسساتية نتج منها وثائق كثيرة ومتقدمة ولاسيما مع اللوثيريين.

تقدم كثيرا حواره مع الذين نسميهم اليوم الأرثوذكسيين الشرقيين ولاسيما منهم الأقباط والسريان كما توبع الحوار مع كنيسة المشرق (الاشورية). مع هؤلاء جميعا اكدت الكثلكة وحدة الايمان. طبعا إذا اردت الدخول في التفاصيل يدهشك هذا. لكن الواقع ان رومية وضعت نصوصا تؤكد فيها هذه الوحدة. غير ان هذه التأكيدات لم تصل إلى نهايتها أعني الوحدة العملية.

مع الأرثوذكس تابع البابا الراحل الحوار الذي شرع فيه اسلافه منذ بولس السادس وكانت ذروته في وثيقة البلمند الشهيرة في السنة الـ1993 حيث قيل ان الكثلكة الشرقية l’uniatisme كانت خطأ تاريخيا وما كانت نموذجا للوحدة. غير ان كارثة حلت في آخر اجتماع للجنة المشتركة في بالتيمور (الولايات المتحدة) حيث انقطع الحوار ولم يستطع يوحنا بولس الثاني ان يحقق أمله في زيارة روسيا. فقد أحست كنيسة موسكو ان الكثلكة تبغي الانتشار على الأرض الروسية بعد تأسيس الفاتيكان أربع أبرشيات على التراب الروسي والكاثوليك العائشون في روسيا وجلهم من أصل غريب قليلو العدد جدا.

هناك مظاهر عديدة في اوكرانيا ورومانيا بدت للأرثوذكسيين ان ما يسمى حوارا يصطدم بوقائع على الارض اعتبرها أرثوذكسيو تلك البقاع محاولات اقتناص. لكن هذا التوتر لم يمنع كنائس أرثوذكسية مختلفة من ان تستقبل البابا وان تقيم علاقات ثنائية معه. ولعل اهم تلاق ثنائي فيه الكثير من الود ذاك الذي قام بين يوحنا بولس الثاني مع الكنيسة الأرثوذكسية الانطاكية وذروته الخطاب اللاهوتي العميق الذي استقبل به البطريرك اغناطيوس الرابع يوحنا بولس في الكاتدرائية المريمية في دمشق.

ذهب البابا في تطلعاته العظيمة وقلبه الكبير إلى الرحمة. قد لا تجيء كل محاسنه مع خليفته ولكنه يبقى وجها كثير البهاء بما فيه من رهبانية حق والم خلاصي وفصحية نيرة. هو لا يزال من بعد احتجابه يدعو ويلح. لقد شد الكاثوليك إلى فوق واراد المصالحة بين المسيحية والحضارة. نشأ الرجل محافظا ومات محافظا ولكنه اقتحم الدنيا اقتحام القديسين لها ولم ينم لحظة. لقد ذهب إلى الرحمة حاملا سجلا حافلا بالمآثر. رجاؤنا ان ترث كنيسته الغنى الذي كان فيه فيزداد جمالها حتى نطرب له.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

السجود للصليب/ الأحد 3 نيسان 2005 / العدد 14

ثلاثة اسابيع من الصوم توصلنا في هذا الأسبوع (الأربعاء) إلى منتصف الصيام الذي ينتهي بسبت لعازر، وبعده ندشن صوم الأسبوع الكبير المقدس الذي هو أشد في نظامه النسكي واعمق في معانيه. وقد لاحظت الكنيسة ان ثلاثة اسابيع من الجهاد ترهق بعض المؤمنين الذين يملون من متابعة النسك والتضييق على انفسهم. فلئلا يتعبوا روحيا كما تعبوا جسديا وضعتهم الكنيسة امام مشهد الصليب واقتبست مقطعا من انجيل مرقس يعبر تعبيرا عظيما عن حقيقة الصليب.

          في هذا يقول السيد: “من اراد ان يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني”. اي اذا شئنا ان نمشي وراء يسوع فهذا له ثمن نبذله. ما هو الذي يجب بذله؟ ان تنحر هذه الشهوة او تلك لا يكفي. ان تنفق بعض المال او كثيره على الفقراء لا يكفي. انت يجب ان تذهب إلى الصميم، إلى أصل الشر وتنفيه عن ذاتك. الذات هي الكلمة المفتاح ويسميها الإنجيل النفس. فأنت تابع للمسيح إلى حيث وصل اي إلى الصليب. فاذا اردت ان تميت الخطيئة التي قتلت المسيح عليك ان تضحي ليس بشيء او بمجموعة اشياء ولكن بالأفكار المغلوطة والعلاقات المشبوهة اي بكل ما هو ساقط فيك وجارح لكيانك الروحي او مبطل للصوت الإلهي فيك. ذلك انك جعلت شخصك مكونا من هذه الأشياء او هذه الكلمات او تلك الوجوه. الأمر يتطلب انسلاخا عن ذاتك، عن اشياء متأصلة فيك لتجعل المسيح وحده مكونا لشخصيتك ومالئا كل فراغ فيك.

          تفريغ ذاتك مما علق بها من هذه الدنيا يسميه يسوع ان تهلك نفسك التي كانت تظن انها مكونة من هذه الأشياء الفانية والمؤذية التي تعبأت منها. ثم يقول: “من اهلك نفسه من اجلي ومن اجل الإنجيل يخلصها”. انت لا تفرغ ذاتك بدون هدف. تفرغها من اجل يسوع وسكناه فيك. تفرغها لكي تملأها من الإنجيل وتصير مسكن الإنجيل. عند ذاك فقط انت انسان جديد.

          ولكي لا يتساءل المؤمن: ماذا اترك من هذه الدنيا وماذا لا أترك قال له السيد: “ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم كله وخسر نفسه”. يمكن ان تربح كل شيء اذا استسلمت لمغريات الدنيا: المال والنفوذ والسلطة وما يطيب لهذا الجسد ان يستهلكه. كل هذا، مجتمعا، يسميه المسيح العالم. فاذا حصلت على كل ما في هذا العالم في رؤية المسيح والمؤمنين به لا تكون قد أخذت شيئا لأن “العالم يمضي وشهوته”. تبقى نفسك في فراغ.

          “أَم ماذا يعطي الإنسان فداء عن نفسه”. نفسك أثمن من هذا العالم وكل ما فيه. لا شيء في هذه الدنيا يفديها ولا شيء يضارعها. “انكم قد اشتُريتم بثمن” وهو دم ابن الله. لماذا تبيعون هذا الدم بأشياء بخسة؟ لماذا تتصرفون وكأن الدم الإلهي الذي انسكب لا يهمكم ولو تحسون بأنكم صرتم عظاما ولا مال لكم ولا نفوذ ولا سلطة؟

          لا يمكن ان تتحرروا إلا بالصليب أي بدق خطاياكم على مساميره، وإذا قبلتم أن تنصلبوا تعرفون أنكم ترثون المجد لأنه “بالصليب قد أتى الفرح لكل العالم”. في وسط هذا الصوم تكونون كمن ورث القيامة قبل حلول العيد. العيد هو ان تقوم نفوسكم من قبورها وانتم احياء بالجسد اي من قبر الخطيئة التي دفنت النفس فيها.

          هكذا يمكنكم ان تكملوا الصيام بفرح وان تأخذوا أقساطًا من الفصح، حتى إذا تحررتم حقا في فترة الصيام تتمكنون من قبول النور الفصحي.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

إلى شباب بلدي / السبت 2 نيسان 2005

بعد أن راقبت حرائق سد البوشرية على الشاشة لم أستطع أن أنام توًا. لماذا كل هذا البغض؟ لا أجد كلمة أخرى لأعبر عن هذه الحادثة وما سبقها. كل هذا لدعم أطروحة متميزة أن جيشنا لا يستطيع أن يضبط الأمن. قد تكون الأطروحة صحيحة لو كان مصمم التخريب لبنانيا. ولكن الخراب مرتبط بالافتراض أننا وحدنا غير قادرين على سلامتنا وانه يجب أن نتكل باستمرار على آخر، الأمر الذي يفرض أن استقلالنا محكوم عليه أن يبقى مبتورًا، مضروبًا. من يعتقد ذلك لماذا يريد لبنان؟

طبعا لا يستقلّ بلد بلا إجماع بنيه على قدرته وهي لا تنفي بطبيعتها التحالف مع من يحبك ويوآزرك ويدعمك وتدعمه بالقدر الذي تستطيع عليه. أن يحالفك هو ان يعتقد انه قادر على إعطائك ما يقدر عليه وانك قادر ان تعطيه من بعض ما عندك وهذا على كل مستويات الوجود ضده الزبائنية. أنا افهم قول بعض ان هذا البلد قام على تسوية. أما اليوم فقد تجاوزها الذين يقولون ان عيشنا توافقي ولو احتاجت هذه الصفة إلى إيضاح وترتيب البيت الداخلي على قواعد المشاركة الشريفة حيث الشريك يؤمن بإخلاص الشريك. والإخلاص اتخذه هنا من صورة الزوجية وهي العهد ألا تخون الآخر وان تراقب نفسك على الدوام لئلا يغريك الشرك بالرفيق.

دائما كنا عرضة للطمع. وحدتنا وحدها ترد الطامعين بالوسائل الممكنة. وهذا يحتاج إلى ديبلوماسية عاقلة وقبل كل شيء إلى تماسك يأتينا من أنفسنا يرد على المشتهي شهوته. ما نشهده الآن ان شبيبة بلدنا أبدت انها تريد ان تعيش واحدة لكونها فهمت بعاطفة وعقل ان الآخر في الدين هو أخ في الوطنية وان فئة من الفئات أو شريحة من الشرائح لا تضع وحدها البلد وان البلد في ارتقاء إنسانيته يحفظ الجميع معا. لقد تعبنا كثيرا ومتنا كثيرين حتى لا نعود إلى جنون الطائفية وإلى إغراء الغريب الذي كان يغذيها وعرفنا ان هذه الطائفية الكثير منها مصنوع وانها ليست من أعماقنا التي تصبو إلى تعاضد الجميع وقيامهم معا ببناء الوطن. ورجاؤنا إلى الله ان يثبت فينا هذا الفهم ويذكي هذه الحماسة.

هناك إمارات) أي علامات) تبشر وسط المحنة إننا قائمون منها آجلا وهذا ليس بفضل أسطول رابض على ما يقال قريبا من مياهنا أو بفضل تصميم سياسي دولي كبير مهيأ لابتلاعنا. فمن الدول ما نصدق ومنها ما لا نصدق. فمنها من يرعى إسرائيل ومشروعا إقليميا نذوب فيه. نحن في رعاية العالم مجتمعا شأننا في ذلك شأن الأمم كلها كبيرها وصغيرها. نحن رفضنا الاستعمار القديم والانتداب وما كان على صورته وتمكنا من ذلك ولو أبطأنا. ومرضنا المزمن البطء. وما ابتغينا في كل أطوار التاريخ استكبارا ولا طلبا للكرامة وحدها وان كانت هذه تحرك كثيرا ولكنا أردنا الحرية لتعزيز إنسانية الإنسان ودفعه إلى تفعيل طاقاته وإخصاب البلد في كل المجالات ولا أحد ينفعنا في خدمته كما نفعل نحن لأن الغريب لا يحبه كما نحن نحبه. يزين لي أن أكثرنا فهم ذلك وعلى هذا نحن قائمون حتى يزول زمن التخريب وننصرف إلى البناء في كل وجوهه.

وكما أعدنا البلد من بعد الحرب التي جرت على أرضنا سنعيد بناء كل ما أنهدم مؤخرا بعد ان أعدنا اللحمة بين مواطنينا وبزغت نضارة هذا الشباب وإرادة تعايشه على اسس السلام والخير والمعرفة.

إلى الشباب أود ان اقول اننا نريد بلدا جديدا لا يتنكر الا إلى للسيئين من الأجيال السابقة فهذا البلد مليء بالصالحين الذين قد يكون لهم تأثير سياسي كبير. اعرفوهم. ولست أنكر أن ثمة خيرين بين المسؤولين. اعرفوهم أيضا واقنعوا الإنسان الجيد ان يحمل مسؤولياته ويدخل في الفاعلية السياسية إن أمكنه ذلك. ولكني اقول لكم اتكلوا على جهادكم وتهيؤا إلى المسؤولية العامة بما أنتم تتآزرون. أنا لست أقول أن كل شاب مواطن طاهر فاذا عف وحب حتى الآن فهو الشاهد على انه يريد وطنا عظيما وانه مهيأ له.

الأمر الثاني في قول علماء الاجتماع ان الدولة هي العنصر التكويني لمجتمعات العالم الثالث. غير ان الدولة عندنا لم يصل اليها هذا الخبر. ولذلك لا بد من دولة جديدة بأناس جدد يؤمنون بالحرية ويؤمنون تاليًا ان ليس امامنا في العالم العربي من نظام نموذجي. نحن نصنع نظاما لنا لا يقلد اي وضع قائم في العالم العربي وتاليا يكون الداعون إلى الأنظمة العربية متخلفين عن ركب الإنسانية الحرة المتطورة.

من الأكيد ان نضالكم يجب ان يكون شرعيا مستمدا من الدستور والقوانين والمؤسسات. انتظموا في أحزابكم أو تشكيلاتكم السياسية ولكن تفحصوا كل توجيه فيها وكل قرار بروح المسؤولية وتحلوا بالروح النقدية. شاكسوا إذا وجبت المشاكسة ولا تنقادوا لما ترفضه ضمائركم. اما غير المنحزبين فليشكلوا مجموعات ضغط ولعل هذه افعل احيانا من الأحزاب لأنها تدعكم أحرارًا من الإيديولوجيات الجامدة. آتوا بأفكار تجدد البلد فالمجموعات الضاغطة الحرة تنتج عملا جديدا لا تقيده مسبقات عقائدية. “افحصوا كل شيء وتمسكوا بالأفضل “. وهكذا تهتز الهيكليات العتيقة التي كبلت البلد أو أسرته. فضلكم على الأجيال السابقة حركيتكم التي لها ان تذهب بناس وتأتي بناس. والسياسة ليست إخلاصًا لوجوه. انها إخلاص للبلد تريدونه قائما على الطهارة والتنكر للمنافع الخاصة التي يدعمها الاستزلام. وليكن عقلكم دائما واقفا امام كل زعيم اية كانت هيبته لأن الهيبة هي فقط للحق ولا تنسوا ان بعض الوجوه يجب الا تعود لئلا يبقى لبنان مقهور العتاقة والإفلاس العقلي.

***

إلى هذا فالشباب ولاسيما الحزبي منه يكون كامل التسيّس أي مستغرقًا في الفكر والعمل السياسيين استغراقا كليا أو شبه كلي بحيث لا يتنشق هواء آخر أو لا تبقى في نفسه متكئات لروح اشمل من الهاجس السياسي. هكذا كانت عندنا الأحزاب الشمولية يرجع فيها العضو إلى مسلمات عقائدية حجارتها غير قابلة للتفتيت. السياسة لا تستغرق كل حيوية البلد. وليس الإنسان مجرد حيوان سياسي (politikon) كما حدده أرسطو. كل منا كائن إلهي أي يحتوي الكون بكل أجزائه. انه كون صغير كما عرفته الفلسفة اليونانية وآباء الكنيسة.

ما نسميه المجتمع هو مجموعة المواهب التي عند كل امرئ أو هو تلاقي المواهب وتفاعلها وبناؤه غاية الدولة. وعندما نبلغ رقينا العظيم تصير الدولة اداة في خدمة المجتمع اي وسيلة لإنماء المواهب.

لذلك قال الفيلسوف قنط ان الإنسان غاية في نفسه. بذلك كان كل قمع ضد الإنسان من حيث هو غاية. ان غناكم الروحي والثقافي هو الذي يرشد الناس اليكم ويجعلكم في خدمة شعبكم. في الفراغ الثقافي وتفه القلب لا يستقيم إنسان ولا يجتمع بلد. فللتعبير الوطني وقت وللتحصيل وقت. ولا تجعلونا نندم على اننا نريدكم الأعلين لكونكم اعرضتم عن تسلق الدرجات العلى من المعرفة التي دونها اللهو والزينة والمجد الباطل.

***

قد لا يكون غريبًا عن هذه التأملات ان فكرت اليوم في سياق حديثنا هذا ان اذكر هذا الأحد الثالث من الصوم في بعض الكنائس. في كنيستي ذكرى للصليب يطاف به ويوضع في وسط الجماعة وبعد ان يقبله المؤمن يدفع إليه الكاهن بشيء من الرياحين أو الزهور ليوحي بذا ان الزهو الذي تحمله الزهرة إنما كان ثمنه الجهد والأتعاب.

ان الثقافة لجهد موصول لا ينتهي الا ساعة الاحتضار. انها امتصاص العالم في شخص، ابتلاع جل الفكر وجل التاريخ. وقد تظهر عند العباقرة في الدنيا كلها. ولكنها تظهر أولا في الوطن.

مع هذا كله ليست الثقافة وحدها كل الإنقاذ. ان الخلاص يأتي من القلب النقي، من البساطة والتواضع ولقاء الحب بالحب على طرق العمل. ان هذه الخصائل إذا لم تتوفر فيكم لا تكونون صرتم شبانا وصبايا جاذبين لعظيم التقدير. اما إذا توافرت فلكم القيادة ليس فقط للبلد ولكن لعقولنا.

على هذا سيروا حتى يفنى جيلنا ونحن على الرجاء. اجعلوا لبنان لكم بعد ان تكونوا صرتم للبنان بالعمق والحرارة والنقاوة إذ تذكرون في اللغة أن لبنان هو البياض.

Continue reading