Monthly Archives

December 2009

2009, مقالات, نشرة رعيتي

شهادة استفانُس / الأحد 27 كانون الأول 2009 / العدد 52

اليوم عيده، وهو أحد السبعة الذين اختارهم الرسل وفرّغوهم ليهتمّوا بإعاشة الأرامل حتى ينصرف الرسل الى الصلاة وخدمة الكلمة.

واحد من هؤلاء السبعة كان استفانُس يُجادله اليهود الذين صارت لغتهم اليونانية لأنهم سكنوا المهاجر، وعندما كانوا يحجّون الى اورشليم في العيد كانوا يجتمعون في مجامع للجاليات المختلفة التي لا تتكلم لغة أهل فلسطين.

برز استفانُس يُحاجّ بقوةٍ هؤلاء الذين بقوا على اليهودية، فلم يستطيعوا أن يقاموا الكلمة والروح الذي كان ينطق بها، فافتروا عليه مدّعين أنه يجدّف على موسى.

حصل هياج كانت نتيجته أنهم اختطفوا هذا الرجل وأتوا به الى السنهدريم او محفل الكهنة، فألقى عليهم خطابًا أودى الى موته. أخذ يتكلّم على إبراهيم وخروجه من حاران الى أرض الموعد وبناء سليمان للهيكل. هذا الكلام كان معقولا لديهم لأنه مبنيّ على كـتــابـهـم، حـتى وصـل الـى قـولـه “يـا غـيـر المخـتـونـيـن بالقلوب والآذان. إنكم تُقاوِمون الروح القدس دائما كما كان آباؤكم”.

هذه كلّها كلمات من وحي أنبيائهم، ولكنهم أبَوا أن يُحسّوا بها منطبقة عليهم. “أخذتم الناموس ولم تحفظوه” كلام صعب سماعه.

بعد إلقائه هذا الخطاب “تفرّسَ في السماء فرأى مجدَ الله ويسوعَ قائما عن يمين الله”. لما كشف لهم هذه الرؤية، لم يُطيقوا استماعها اذ لم يكونوا يؤمنون أن المسيح جالس عن يمين الآب. عند ذاك، أخرجوه خارج المدينة ليقتلوه حسب ناموسهم. والقتل في حال التجديف (اي ما ظنّوه تجديفا) يتمّ بالرجم.

“ووضع الشهود ثيابهم لدى شاب اسمه شاول” وهو الذي صار بولس الرسول. هذا طبعا كان راضيا بقلته. وفيما كان استفانُس يتلقّى الحجارة عليه، كان “يدعو ويقول ايها الرب يسوع المسيح اقبلْ روحي”. هذا كلام صدى لقول السيّد على الصليب: “يا أبتاه في يديك أستودع روحي” (لوقا 46:23). هنا يشهد استفانُس أنه يستودع روحه في يدَي المخلّص كما استودعها المخلّص في يدي أبيه.

في نهاية نزاعه، قال أوّل الشهداء، وكذا وصفه في الكنيسة، قال: “يا رب لا تُقم عليهم هذه الخطيئة”. هذا صدى لقول يسوع على الصليب: “يا أبتاه اغفرْ لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لوقا 34:23).

لقد أراد لوقا أن يُبيّن أن حياة يسوع تتصوّر في أحبائه. يغفرون لأنه غفر. يحبّون لأنه أحبّ. القديسون صورة عن المسيح. يقول سِفْر الأعمال عن استفانُس إنه رقد، وما قال إنه مات لأننا أبناء القيامة.

أيقونته تُصوّره لابسًا ثياب الشمّاس وحاملا مبخرة مثله لأن الكثيرين من آبائنا قالوا إن هؤلاء السبعة الذين عيّنهم الرسل خُدّاما للموائد جعلوهم شمامسة.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

2010 / السبت 26 كانون الأول 2009

كل الأزمنة رديئة لأن أهل السياسة يظنون انهم يصنعونها. ليس انهم سيئون. كل فئة من الشعب ملوثة او بعض منها ملوّث. الزمان الذي يسمح له الله ان يكون ينسى بأنه فقط مكان تتجلى فيه الأبدية فيحبها لمصالحه ويتسلى بالعابرة بما يسميه القرآن الزينة والزينة في حقيقتها وهم والأبدية وحدها تسمّرك على الحقيقة التي يعبّر الله بها عن نفسه. لذلك اذا لم يشتهِ أصحاب اللعبة السياسية -وأظن ان كمال جنبلاط كان يرى السياسة كذلك- اذا لم يشتهوا ان يقودوا الناس الى الحق وان يخدموهم ليبلغوا الحق يكونون أهل زينة.

غير ان السياسة تهتم هي بنا ان نحن أهملناها وهكذا تكون الزبائنيّة فيها. والزبون شارٍ ومشترى لأنه فوض الزعيم أمره. والزعيم بالعربية على وزن فعيل بمعنى الفاعلية، اي هو الذي يتزعم القوم. وجاء في لسان العرب ان زعيم القوم رئيسهم وسيدهم ولكن كاتب القاموس اي ابن منظور لم يكن ليعلم اللعب اللبناني حيث لا يسود احد الناس الا اذا هم استسلموا له فكان بينهم أخذ وعطاء في مجال السلطة التي فيها سيد ومسود وهذا معنى السلطة منذ الشرع الروماني. اما اذا كنت انسانا ذا روح خدمة فليس فيك الا سلطان الحب.

وهذا قليل في لبنان. اذ كيف كان الحاكم يحبنا منذ السنة الـ 1943 ويقبل ان يغرق الناس وسياراتهم ومحالهم ومنازلهم بالماء. وكيف يحبهم ان لم يربهم على نظافة الأقنية والمجارير. انا كان بيت اهلي قريبًا من ضفاف نهر أبو علي في طرابلس لما طاف في الخامس من كانون الأول السنة الـ 1955 وصعدت المياه الى الطابق السفلي من البناء وكانت تحمل طاقة غرق عائلات في المبنى. كل ذلك لأن مجرى النهر كان مليئًا بالأشجار والقذارات ففاض مجراه. الفكر يمنع عنك الموت. هل في الدولة فكر؟

أعرف أن لبنان ليس مركز العالم ولكنا نحن فيه. كيف نقاوم جنون الطبيعة قبل ان نقاوم جنون البشر؟ الحكمة ان ترد عنك القدر. ليس الموت هو الذي يخيفني ولكن الجهالة. وهذا البلد فيه ذكاء كبير. لماذا لا يصل الذكاء دائما الى الحكم: لا يقنعني ان الغريب يصنع عندنا السياسة وحده. هل في الإغراء ان حضنا يدعوك ام انك ايضًا ترمي نفسك فيه.

دائما كنت أعرف في مطلع شبابي اي منذ ستين ونيّف أن هذا البلد كان فيه أطهار في كل مناحي الحياة المجتمعية وكان فيه علماء في المجالات التي كنت اعرفها. كيف حلّ بنا السقوط؟ هل كان هذا مكتوبا علينا ام كان الفساد فينا ولم نلجأ اليه دائما اذ كان فينا حياء؟ لعلنا كنا نخشى عقاب الأصدقاء او حزنهم على خطايانا او كنا نؤمن بالله اكثر من اليوم اذا اكتشفنا انك اذا لم تعد اليه في الصميم فكل شيء مباح. لم يستبح احد بلدنا لو لم نكن نستلذ الإباحة. لذلك ما يفرض نفسه علينا ليس فقط مكافحة الفساد في الإدارة ولكن في ضمير الناس. ماذا تعمل الأديان؟

# #

#
ماذا عملنا لمكافحة الفقر؟ قالت لي مديرة مدرسة عندي في الحرب ان بعض الأطفال في الفرصة بعد حصة الدرس كان يغمى عليهم فسألتها عن السبب. أجابت انهم لم يتعشوا ولم يفطروا في الصباح. يقول كتابنا: »الله يحفظ الأطفال«. اين العناية بالمحرومين منهم والمرضى ومن كان ذووهم غير قادرين ان يبعثوا بهم الى مدرسة؟ هل من سياسة لرعاية الأطفال والأحداث؟ سررت الأسبوع الماضي حين كنت اتابع برنامج كلام الناس بان الوزير زياد بارود كان يجيب عن كل الأسئلة بدقة. قلت في نفسي: على الأقل هذا رجل اطّلع على كل الملفات في وزارته ويتكلّم عليها بأرقام. هل في عقل وزير الخارجية خطوط واضحة عن سياستنا تجاه كل دولة عربية نتعاطى حياة ما واياها وعن كل دولة اجنبية لنا معها مصالح ام نحن في هذا القطاع او ذانكتب فروض انشاء؟

ليس مرادي ان أكتب عن الدنيا كلها ولا أعرف عنها الا ما أقرأه في بعض الأدبيات الديبلوماسية بالفرنسية. ومع اننا بلد صغير لنا ان نحدّد سياستنا الخارجية فقد يستصغرنا الكبار ليسهل عليهم ابتلاعنا. كبّر نفسك تكبر. ارفض يحترموك. قد لا نستطيع ان نملي على احد ولكنا قادرون الا نصير زبائن.

عن لبنان حكايا كثيرة مؤلمة كلّ منا يعرفها لا حاجة ان ننستفيض في عرضها جميعا لئلا نيأس. ولكون لبنان قابلا للحياة بفضل الكثيرين من الفاهمين وأهل الله ندخل بعد ايام السنة الجديدة مؤمنين بأن الله من جهة وعزمنا من جهة سينقذان البلد مهما استغرق هذا من وقت وجهد ولعل هذا راجع الى كون الرب يحبنا ولا يهملنا في الخراب. وتبدي بعض معالم حياتنا الجماعية ان الناس ملّوا الخفّة في الأخلاق والكسل في العمل وأدركوا اننا في حاجة الى الجدّ والتفاهم والتوافق. وما يزيدني ايمانا بهذا القناعة البادية اننا بتنا مؤمنين بعضنا ببعض وان التخوين آخذ بالتضاؤل. اضعف الإيمان اننا اجمعنا على ان هذا البلد واحد وان الدين الحقيقي لا يفرّق بيننا واننا اقتنعنا من زمان ان عدونا واحد وهو اسرائيل.

قد لا يعرف كلنا لماذا هذه الدولة تناصبنا العداء. لا يشك أحد في أن لها مطامع في الأرض والمياه وانها بطبيعتها المسجلة على باب الكنيست تسعى ان تبتلعتا وتبتلع سوانا. انا أتمنى على النخب القارئة ان تقرأ الأدبيات الصهيونية التي يتبيّن منها انها ليست اقرب الى طائفة من طوائفنا ولا سيّما اذا اطلعت هذه النخب ان أضعف مجموعة في اسرائيل عددا هي المجموعة المسيحية او صارت كذلك لأنها طائفة ممانعة وتهاجر كثيرا حتى صارت في كل البقعة الفلسطينية لا تزيد عن 2?. المسيحيون ليسوا دوللين في دولة نعتت نفسها بأنها يهودية ما يجعل عرب اسرائيل البالغ عددهم اكثر من مليون مهددين في اي وقت بالجلاءء حسب مفهوم الـ transfert اي نقلهم من اسرائيل الى اية دولة مجاورة.

# #
#
ما يزيدنا أملا هو ان لبنان اكتشف ان له نفطا في البحر وانه قادر تاليا ان يصبح دولة صناعية الى جانب الصناعات القائمة او الممكن استحداثها. الى هذا ما أفرحني ان شبابنا يقوم بالتشجير، الأمر الذي يجمّل طبيعتنا ويعزيني.

كنت مرة أزور ديرا أرثوذكسيا كبيرا في فنلندا فسألت الرئيس مما يعيش بلدكم. أجابني معظم ايرادنا هو من الورق. قلت: كيف؟ أجابني: نحن بلد شجر ونصنع من الخشب ورقا نصدّره. يجب ان نتخلّى نحن اللبنانيين عن الفكرة اننا فقط بلد سياحي وبلد خدمات. هذا مورد لا يكفي لأنه غير ثابت ولو فرحنا مؤخرا بمجيء سواح كثيرين.

أهمية الاقتصاد عندنا ليست فقط اننا نستطيع به ان نقلل من الحرمان اذا وحّدنا الاهتمام بكل المناطق بحيث يتساوى اللبنانيون بالخيرات على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم. فاذا تغذى كل فرد منا ودرّس اولاده وطبّبهم كيف لا تضعف الحزازات الطائفية؟ نحن ليس عندنا سجالات دينية ولا سيّما ان كلامنا يستحب في الدين الآخر قيما كبيرة وكثيرة واننا نفرح بكل الأعياد ونمو كل منطقة ثقافيا. غير مرة أزور مستشفى القديس جاورجيوس للروم الأرثوذكس لعيادة مرضى او لمعالجة لي. أجد في كل الممرات نساء محجّبات حاملات أطفالهن. انهن يطلبن الاتقان العلمي.

الناحية الثقافية واحدة عندنا. نحن نتكلّم لغات كثيرة ولكن نفتخر جميعا بأن ثقافتنا واحدة وهي العربية ملونة عند هذا بالفرنسية وعند ذاك بالإنكليزي. وانا من منتدى ثقافي لبناني روسي يضمّ كثيرا من المسلمين يعرفون الروسية جيدا ورحبوا بنقل بعض كتبي الى اللغة الروسية.

نحن شعب واحد ذو ديانتين وهذا قائم في بلدان كثيرة ولا سيّما في العربية منها. هذا لا يقيم فرقا بين المواطنين في هذا المشرق او ما في ما يدعى الهلال الخصيب. وكلكم يعلم حرص أئمة المسلمين وقادتهم السياسيين على الاحتفاظ بالمسيحيين في لبنان.

ومسك الختام ان الدولة في لبنان منا جميعا وان اخلاق الدولة صورة عن اخلاق المواطنين. ان حاجتنا الأولى في لبنان ان تعلو حياتنا الحضارية التي تقودنا الى مجتمع مدني لا يعزل الإيمان عن فكره وسلوكه حتى نصل الى نظام سياسي لا يمزج بين الطوائف والدولة.

واني لأرجو ان يرحمنا الله حتى نتغلّب على مصاعب السنوات الأخيرة فنحبّ بعضنا بعضا ونتشارك في الفكر والخيرات ليرثنا الله ويرث أرضنا ونصير حقا من اجمل بلدان المعمورة.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الميلاد / الاحد 20 كانون الأول 2009 / العدد 51

كان الله يكلّم البشرية أيّا كان دينها بالطبيعة، بالأشيـاء الجميلـة فيها، بثمارها. مرة كلّمهـا بإنسـان واحـد وهو إبراهيم. ثم كلـّم بالأنبيـاء مرحلة بعد مرحلة. ولما رأى الرب أن هذا لا يكفي، وأن الناس أمام كلمات الأنبياء وامام شريعة موسى اكتشفوا شقاءهم، فنفّدَ خطته الأبدية أن يسكب عليهم كل حنانه وكل عطفه، وكانت خطته أن يرسل ابنه ليحلّ به في البشرية جمعاء.

كل الأزمنة في التاريخ كانت تهيئة لمجيء المخلّص، والله يعرف متى يجعل في الدنيا الزمان الأخير. ولما حلّ هذا “أَرسل اللهُ ابنه مولودا من امرأة… لننال التبنّي”. قال بولس هذا لأنه يعرف أننا كنا أبناء الغضب فأراد الآب أن يجعلنا أبناء له حقيقيين، أن يتبنّانا. “ثم بما انكم أبناء أرسل الله روح ابنه الى قلوبكم صارخًا يا أُبَيّ” اي “بَيّي” باللهجة اللبنانية. وهي لفظة التدلّل التي يتلفّظ بها الطفل اذا خاطب أباه. “اذًا لستَ بعدُ عبدًا بل ابن”.

هذه البنوّة لله اقتضت أن يجيء ابن الله الـذي بتـجـسـّده سُمـّي المسيـح. أعطـى اللـه ابنـه جسـدًا بقـوة الروح القدس وإرادة مريم فصـار ابن الله انسانًا فيها. بمـريم استقبلت الانسانيـة كلها مخلّصهـا. فـلم يبقَ الله يبـثّ كلمات بالأنبـياء. أراد أن يصير ابنه الحبيـب إنسانًـا ليعيش مثـل الإنسان يأكل ويشـرب وينـام ويتألـم، ولكن لم يأخذ شهـوات الإنسان. صار في طاعته لأبيه إنسانًا كاملاً، وفي هذا الخضوع اقتبـل المـوت حُبـّا بنـا وخلّصنا بهذه المحبـة التي أظهـرها بمـوتـه وقيـامتـه.

الله صار في بشـريتـه إنسانًا ليُبيـد الخطيئة والفساد من الإنسان ويؤلّهه ويُصعده إلى السماء ويجعل فيه ملكوته. “ملكوت الله في داخلكم”. كانوا في العهد القديم يعرفون أن الله معهم. صرنا الآن نعرف أنه فينا، في صميم كياننا، وأننا باتحادنا بالمسيح نموت معه ونقـوم معـه بالمعموديـة ونحيا الحياة الإلهية التي هي في المسيح.

تمّ التجسّد بالبشارة، واكتشفـناه في كل سيـرة السيـد، في عجائبه وكلامه وصلبه وقيامته من بين الأموات. ونـذوق تجسّده الآن في عيد الميـلاد حيث ظهـر للرعاة والمجوس، ثم اكتمل ظهوره لما أخذ يبشّر بملكوت الله. وهذا العيد ندخل إليه بتواضع وتوبة إلى وجه يسوع. وإذا أحببناه كليّا نصبح مولودين منه بالنعمة.

وبعد هذا نكون صرنا “خلائق جديدة”. نتعب، نخطئ ولكن نعود إليه صادقين. هذه العودة إليه هي ميلادنا وحياتنا المليئة برضاه والتي نحسّ فيها باحتضانه. ليس الميلاد تسليات من الدنيا. هو فرحنا بالدنيا الجديدة وهي بدء السماء على الأرض.

وحتى نتتلمذ على السماء لا بد لنا ان نذوقها في تواضع يسوع موضوعًا في مذود البهائم. فإذا جئنا من الإنجيل ليس هذا عيد الترف ولذات الطعام وإلهاء العائلة بالسهر. انه عيد الفقراء الذين نجعلهم إخوة لنا اذا أحسنّا إليهم وعيّدنا جميعًا اذا اكتسبنا روح الفقر والابتعاد عن المجد والتسلط على الضعفاء.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

الميلاد الظهور / السبت في 19 كانون الاول 2009

ليس عيد الميلاد تأريخا لحدث فلم يذكر الإنجيل شيئا عن هذا اذ كان همّ الإنجيليين اللاهوت. فبالتأكيد لم يولد المسيح الناصريّ في السنة الصفر ولكن على ما نظنّ في السنة السادسة قبل التاريخ الميلاديّ. وبالتأكيد لم يولد في الخامس والعشرين من كانون الأول. فاللافت عندنا اننا نعيّد لمعنى وهو هنا الظهور الإلهي ونلبسه تاريخا.

فبعد إقامة الفصح بدت فكرة التعييد لظهورات أُخرى للمسيح، فجُمع تذكار ظهور السيد في معموديته في الأردن وتذكار مولده في بيت لحم عيدا واحدا، ثم عزلت الكنيسة تذكارا عن آخر لسبب رعائيّ اذ لاحظت أن ٢٥ كانون الاول هو عند طائفة وثنية تعييد لمولد الشمس وكانت الشبيبة الوثنية تجر الشباب المسيحي الى مباهج قد يكون فيها مجون، فرأت الكنيسة في روما والقسطنطينية أن تقيم عيدا لميلاد شمس أخرى، غير محسوسة أعني المسيح، رسمته شمس العدل واستعادت هكذا شبابها الى كنائسهم.

ولم تبحث الكنيسة تاليا عن اليوم والشهر والسنة التي جاء فيها المسيح الى العالم، وهذا ليس فيه أهمية لأن العيد عندنا هو المعنى او الفكر. اما اذا أقمنا ذكرى لشهيد او قديس يكون ذلك في تاريخ موته إن عرفناه لأن ذلك يكون مولدا له في السماء. في العمق ليس عندنا عيد إلا الفصح أي هذه الثلاثية الممتدة من يوم الجمعة العظيمة الى صباح الأحد لكونها تتحدث عن الخلاص، ولهذا دُعي الفصح في آدابنا القديمة العيد الكبير فسمّينا الميلاد العيد الصغير، غير أن الهيكلية الطقوسية لهذا تحاول التشبّه بهيكلية ذاك، وكذلك يفعل فن الأيقونة فالوليد المقمّط بالبياض موضوع في مغارة سوداء وكذا سيكون في كفنه في القبر.

# #

#

على تقارب العيدين يغلب على الميلاد طابع الانسحاق والفقر والتواضع ممّا يُدنيه في قراءتي الى يوم الجمعة العظيمة. يسوع الناصري يولد في مذود للبهائم اي في أحقر مكان في قرية بيت لحم لأن يوسف ومريم كانا فقيرين ولم يكن لهما محلّ في الفندق. الفقر يستصغر وقبلا استصغاره وشلحهما في ما لم يكن مكانا لبشر. بقي يسوع الناصريّ على هذا الخط. خادم نجّار في طفولته وبعد ذلك مساعد نجار اي انسان غير نافذ في بلدته. ينمو ويكبر في حضرة الله ويستمع الى الوعظ في مجمع الناصرة. بيته الخفاء. في الصمت لأنه كان محكوما بالتواري حسب عُرْف الديانة آنذاك قبل بلوغه الثلاثين حيث يُسمح لليهوديّ بالتعليم فعلّم.
الى هذا المذود الذي جعله القديس إيرونيمس في القرن الرابع مغارة وما كان بمغارة، توافد رعاة كانوا يحرسون أغنامهم في تلك الأرض التي سُمّيت في ما بعد بيت ساحور. قادهم وحي من السماء في فقرهم الى زعيم فقراء التاريخ ليشاهدوا طفلا ملفوفا بخرقات. كان الصمت هو الجامع بينه وبينهم. السماء وحدها كانت قد تكلمت هكذا: «المجد لله في العلى وعلى الأرض السلام في أناسِ المسرّةِ». هؤلاء المرميّون في الأرض أخذوا من الطفل السلام وسوف ينعته بولس بالسلام، هذا الذي سوف يحققه بين أبيه وإخوته عندما يكشف سر الله وسر البشر بموته.
في هذا الوقت او ما بعده بفترة يفد المجوس من المشرق، من العراق الحاليّ كما يظنّ بعض المفسّرين. أتباع المسيح في العراق يستنزفهم القتل الآن ويستبعدهم التهجير ليكونوا كمسيحهم على طرقات الدنيا. لماذا كُتبت المذبوحية على أهل المسيح في كل أصقاع العالم؟ هل مَن يولد من بطن امرأة مسيحيّة يحمل في طياته الدعوة الى المذبوحية. هو قرأ: «ليس العبد أفضل من سيده». اليوم اذًا نذكر قتل هؤلاء ليكون عيدنا كاملا.

# #

#

اليوم لا يريد يسوع أن يولد في بيت لحم اذ لم يبقَ له فيها مكان. هو مطرود حتى اليوم. مصير المدينة أضحى كمصير فلسطين. بات المسيحيون فيها ٢٪ اجل قال بولس: «ليست لنا مدينة ثابتة». الشتات مكتوب علينا. نحمل يسوع في قلوبنا ونموت حيث كُتب لنا أن نموت وبعد هذا نستوطن السماء. بعد هذا نترك في الدنيا كلمات الحياة.

قال المجوس للناس الذين التقوهم: «أين هو المولود ملك اليهود فإننا رأينا نجمه في المشرق وأتينا لنسجد له». ملك اليهود عبارة كتبها بيلاطس البنطي الوالي على الصليب. المسيح اذًا أُعلن ملكا بموته وفي موته، وكأن علماء العراق هؤلاء عرفوا أنه «الذبيح قبْل إنشاء العالم». جاؤوا اذًا ليقولوا ان هذا الطفل حامل الخلاص وان الوثنية انتهت. ثم يأتي بولس بعدهم ليقول ان شريعة موسى قد انتهت هي ايضًا لأن المحبة التي سيبشّر بها هذا الوليد هي شريعة الله في الناس، وأتينا نحن لنسجد له لأن المحبة مطويّة فيه وسوف يموت ليُعلنها على العالمين: «وأتوا الى البيت ورأوا الصبي مع أمه فخرّوا وسجدوا له». بطل علمهم بظهور المحبة التي باتت العلم الوحيد «ثم فتحوا كنوزهم وقدّموا له هدايا ذهبا ولبانا ومرا».

ونحن نقول ان الذهب يُهدى للملوك. بطلت اذًا ملكيّة الملوك عندما قبّل الزائرون العظام قدمي الوليد. فقيرا كان حتى وصوله الى الخشبة، وبعد قيامته قال كبار الدنيا الذين آمنوا به نحن لسنا بشيء وقال صغارها ان لنا مع هذا تماهيا وهو منا بعد أن أحسسنا أنّا له.
أما اللبان فهو البخور الذي يأتي من اليمن، من العرب وهو الرائحة الزكية التي تسطع من محبيه إذا تخلّوا عن كل انتماء أرضيّ والأكثرون من العرب سمعوه يقول لله عن الناس جميعا «وكنتُ عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفّيتني كنت الرقيب عليهم» (المائدة، ١١7).

اما المرّ فموصوف عند متى على أنه الهدية الأخيرة لأن هذا ما سوف يتجرّعه على الخشبة إذ البشريّة معظمها ممرمر وهو الحلاوة كلها.

# #

#

يا ليتنا على بساطة الرعاة ليظهر يسوع لقلوبنا فيحلّ فيها سلامه. يا ليتنا على فهم المجوس له ليصبح فهمنا إلهيا. في الأيام المقبلة علينا بالنعمة اذا أقمنا العيد له يُسقطه هو علينا فنخرج من صحارى قلوبنا والدنيا وننعم بفقرنا اليه ونقيم العيد ببساطة وفهم، ومنه نذهب الى الفصح.

Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

الى اهل كولوسي / الأحد 13 كانون الأول 2009 / العدد 50

كولوسي مدينة في آسيا الصغرى (تركيا الحالية). عندما يقول بولس: “متى ظهر المسيح الذي هو حياتنا فأنتم أيضًا تظهرون حينئذ في المجد”، هو يتحدّث بالضرورة عن وقت في المستقبل. هو حياتنا الآن بعد ان أقامنا معه. نتخطى الآن طبيعة الموت فينا ونلبس الخلود. ينتج عن هذه الحياة الجديدة اننا مدعوون الى إبادة الأهواء المعطلة للحياة الجديدة. يذكر خمس خطايا في لائحة أولى تتعلق كلها بالجسد ولكن ليس بصورة حصرية (الطمع يأتي من النفس، كذلك الشهوة الرديئة التي لا يحدد طبيعتها). النجاسة والطمع معروفان عند الوثنيين ويحذّر المسيحيين منهما. الزنى في المصطلح المسيحي هو علاقة انسان بشخص متزوج.

بولس يستعظم كثيرا الطمع بالمال اذ يعتبره عبادة وثن، وهنا يكمل الرسول مباشرة فكر الإنجيل المتعلّق بعشق المال.

اما عبارة “غضب الله” فتدلّ على الدينونة الأخيرة. ثم يشير بولس ان قرّاءه في وثنيتهم كانوا عائشين في هذه المعاصي.

بعد هذا يسمّي بولس خطايـا أخرى تأتي من النفس: الغضب، السخط، الخبث، التجديف (على الله) والكلام القبيـح الذي هو السبّ او الشتيمة. واخيرا يغضب الرسـول على الكذب. وهذه كلها عنده تصدر عن الطبيعة العتيقة التي كان عليها من يخاطبهم الآن، ثم يدعوهم الى ان يلبسوا الانسان الجديد (انتم الذين بالمسيح اعتمدتم المسيح لبستم).

هذا الانسان الجديد يتجدد بالروح القدس للمعرفة اي لمعرفة المسيح بطاعتنا له في حبنا له. ويصير جديدا على صورة خالقه التي خُلق عليها وتجدد بها الآن في المعمودية.

واذا تجدد الإنسان لا يبقى من فرق بين يوناني (وثني) ويهودي لأن كليهما قد صار مسيحيا وانهار حائط العداوة بينهما ولا يبقى ختان (وهو الطهور باللغة الدارجة) ولا القلف (وهذه علامة في الجسد للوثنيين الذين لا يختتنون). كذلك لا يبقى بربري. هنا يردّ بولس على أرسطو الذي كتـب: “كل من ليس او ما ليس يونـانيا فهو بربري”. الاسكيثي هو من شعب الاسكيث الذي كان عائشا في جنوبي روسيا وما اليها. كذلك “لا عبد ولا حرّ”. التنـاقض عظيـم بينهما في الشرع الروماني الذي لم يكن يعترف بشخصية العبد وهذا لم يكن ينتخب في أثينا.

هذه الفروق زالت بالمسيح الذي ليس عنده غريب. الشعوب اذا انضمت الى المسيح واحدة في ايمانها وعمادها والكأس الواحدة. والعبد والحر يتناولان معا جسد الرب ولهما الكرامة الواحدة في الكنيسة. ذلك ان المسيح صار كل شيء وهو واحد في الجميع لأنه هو هو جامعهم وهم صاروا اليه لأنهم أعضاء في جسده الواحد.

اذا كان نور يسوع يضيئنا جميعا فنحن النور وليس من مكان لانقسام.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

أصول المسيح / السبت 12 كانون الأول 2009

الأحد الواقع غدًا تسميه الكنيسة الأرثوذكسية أحد الأجداد وتعني بهم الذين أسسوا للمسيح منذ اول الخليقة. عندنا في الإنجيل نسبان للمسيح أحدهما منذ مطلع متى، يبدأ بابراهيم. والآخر ينطلق من يسوع الناصري ليصل الى آدم. والواضح في قراءة مستنيرة ان متى لما وضع كتابه حول السنة الثمانين في انطاكية يهودي المولد والمنشأ في فلسطين وبقي عبري اللاهوت لما وضع انجيله الأول في عاصمة سوريا وكان مصمما ان يقول للجالية المسيحية اليهودية الأصل في انطاكية ان هذا الرجل الذي آمنوا به كان من نسل ابراهيم وان صلته الحقيقية ليست بموسى الذي لم يذكر في النسب ولكن بأول مؤمن بالله ابراهيم والذي على أساس ايمانه كان قد أتى بولس ليقول ان البشرية ستصبح بارة على صورة برارة ابراهيم وليس على صورة بر الناموس. ولعل متى أراد ايضا ان يطمئن كهنة الهيكل المهتدين وافتقروا بسبب خسارة راتبهم من الهيكل، ان يطمئنهم انهم كسبوا المسيح في فقرهم لأنه منتهى انبيائهم وتحقيق رؤاهم. فالتوراة تصبح به صورة للآتي، ممثولة للمثال الذي هو يسوع الناصري.

هذا نسب متى. اليه نسب السيّد عند لوقا الطبيب السوري الذي تتلمذ على بولس وكتب انجيله بعد التتلمذ في رومية عاصمة العالم التي كان فيها رجاء المخلص. كان لا بد للوقا ان يقيم صلة ليسوع ليس بابراهيم فقط ولكن بآدم ليجعل اجداد يسوع ليس فقط من العنصر اليهودي ولكن من البشرية جمعاء فيكون مسجلا في كيانه المريمي وفي خطة الله الأزلي انه من ثمرة البشرية القديمة ومنشئها بآن.


مخلص اليهود ومخلص الأمم هذا ما أتاح لبولس ان يكتب « ليس يهودي ولا يوناني» اذ انهار حائط السياج، المتوسط الذي كان بفصل بين اهل الله الواحد وهم بلافلسفة وبين اهل الفلسفة وليس لهم إله واحد. سينهار به هذا الجدار الذي كان يفصل بين العقل والوحي حتى اذا انشدّ العقل الى المحبة يصبح هو مهبط الوحي.

متى يحمل الحركة الروحية البحتة المنطلقة من ابراهيم. لوقا يمدّها الى الآدمية ومنها الى الطاقات الفكرية الإنسانية التطلعات في الفلسفة القديمة. ولعلّ الناس الذين هم على بعض الاستنارة يتموجون بين هذين القطبين ليجمعهما الى واحد في المسيح يسوع.

ينهد اليه حسب متى كل الأبرار المنحدرين من ابراهيم والى جانبهم ثلاث عاهرات ليبيّن الانجيلي ان جسد المسيح ينقذ الأبرار وينقذ الخاطئين والخاطئات معا وليقول ان الطبيعة التي اتخذها الابن في تجسّده هي طبيعة خاضعة للفساد ولكن المسيح عصمها من الفساد. هذه نظرية قائمة عند بعض الآباء وليس عندهم جميعا. نسب متى يقول ضمنا ان المسيح يحمل الخطايا وانه مخلص من سلفه ومن خلفه ليكون هو «الكل في الكل».

حسب لوقا يرث المسيح جميع الأمم اولا اليونانيين ليقول ان كل بهاء الإغريق منذ ما قبل سقراط انما لا يصل الى جلاله الا بالعطاء الكامل الذي أهداه يسوع الناصري بموته الى البشرية.
# #
#
اذا كان المخلّص متصلا بكل نسل ادم هل له علاقة بديانات شرقي آسيا. بعض من لاهوتيي الغرب في شقيه البروتستنتي والكاثوليكي قالوا ذلك اي انهم رأوا في هذه الديانات عناصر قريبة من الإنجيل ليس لأنها اخترقته او أثرت في تكوينه ولكن من حيث ان بينها وبين مضمونه قربى. ومنهم من انتهج الهندوقية طريقة تصوف مع يقلئه على المسيحية عقيدة. ما وددت أن أستخلصه من هذا الموقف ان اتباع يسوع يرونه في بعض الأشياء التي سبقته دون ان يكون هناك تواصل نصوص. يسوع لم يأخذ شيئا عن البوذية ما في ذلك ريب ولا سيما اننا لا نعرف شيئا على وجه التدقيق عن تاريخ ظهوره. النسك في دايانات الهند والتقشف محببان للمسيحيين.

منذ اربعين سنة ونيّف كنت أدرس الهندوقية مع قسس انجيلين في سويسرا على أستاذ هندي الجنس والعقيدة بعد ايام سألني لماذا تفهمني اكثر من رفاقك وما اراد بذلك الذكاء ولكن الحس الروحي. أجبته: هناك قرابة بين الكنيسة الشرقية معكم على طرق النسك والروحانية والقلب.
# #
#
اذا كان ثمة قربى بين المسيح وما قبله فما العلاقة بينه وبين جنباته؟ اليوم ومنذ بضعة عقود دعوات دينية جديدة هي بعث لتيارات الغنوصية او العرفان (ليس بمعناه الإسلامي) وتيارات تلامسها الهندوسية بصورة تهدم تراثنا الروحي وتحاول التعويض عنه بنكران الوحي وبين كل هذه ما يتصل بنيتشه وغيره وبقايا الوجودية الملحدة والمسيحية المتصهينة في اميركا. اي ان هناك وثنيات كثيرة على أشكال مختلفة. وموقفنا منها نقدي او رافض او مغربل كما كان من الوثنية القديمة ومن بعض جوانب من أفلاطون والأفلاطونية الحديثة.

هناك انحراف اساسي طبعا في باطن الحضارة الغربية وفي ظواهرها. هناك ابتعاد عن المسيح واضح، هذا اذا نظرنا الى الفكر وحده ولن ننظر الى الأخلاق المنحدرة المتهورة التي هي بحدّ نفسها تجريح لطهارة المسيح.

نحن كان عندنا في البدء موقف شرس من الخطأ وموقف لين تجاه الفلسفات او الحركات التي تحمل ما يهيء لحقيقة المسيح. بمعنى آخر ليس عندنا تلفيق Syncrétisme  اي نظام يجمع اعتقادات من هنا ومن هناك ويبني تقاربا كاذبا. نحن نرفض النسبوية في النظام الديني ولا نقول اننا بعض من حقائق متناثرة. ولكنا نقول اننا نرحب بالقربى ان وجدناها ونقيم جسورا إن أمكن مدها. لا نخاصم ولا نتجانس مجانا. «افحصوا كل شيء وتمسكوتا بالأفضل». (1 تسالونيكي 21:5).

يبقى اننا نسعى الى رؤية العناصر الصالحة عند الآخرين. ولكوننا نرى الحقيقة كلها في مسيح الأناجيل نرحب بقربي متصلة ببشرة السيد أكان هذا عن طريق التواصل المباشرة ام التوافق العقلي غير المباشر.

خط المسيح ليس فقط النازل من ابراهيم حسب متى او الصاعد من المسيح الي آدم وهو ايضا الخط المشع منه الى من جاء بعده او المتلاقي واياه بلا صلة مباشرة، نحن لا نلتقط فقط آثار المسيح التاريخي ولكنا وراء المسيح الكوني الساطع هنا وهناك بوسائل نعرفها ووسائل لا نعرفها.

امتداد المسيح من جهة وانصباب الفكر فيه هما وجهان لقراءة لنا جديدة لأحد الأجداد الذي سنكون فيه غدًا. نحتاح الى دقة كبيرة اي الى استقامة الرأي لنميّز بين ما هو لربنا يسوع المسيح وما هو لروح العالم المتدهور او المجنون. ان جدران الكنيسة ليست حدودا بيننا وبين الآخرين. الكنيسة مكان تطهر لكي ندعو من كل جلال وطهر وحق. الجدران القائمة فيها أبواب يدخل منها ملك المجد وتدخل معه جحافل الطاهرين في الأرض بما يحملون من وعي ووداعة وبر.

الأحد القادم يزداد تلاصقنا بالمسيح انطلاقا من نسبة تلاصقنا انطلاقا من نسبه الى ابراهيم حتى نترك كل شيء يوم العيد امام انسحاقه الكبير ومجده الكبير.


Continue reading
2009, مقالات, نشرة رعيتي

تبشير المولودين أرثوذكسيين/ الأحد 6 كانون الأول 2009 / العدد 49

هناك أرثوذكسيون وهناك مولودون أرثوذكسيين وهم ليسوا بشيء. الأرثوذكسيّ الذي يجيء الى الكنيسة يوعظ وعظا مؤسّسًا على الإيمان الذي يعترف به وقرأ عنه شيئًا في المدرسة. اما المعمّد بالماء ولم ينل فهمًا مسيحيًا فيجب أن تلده من جديد بالتبشير المنطلِق من فراغ القلب من الإيمان.

هذا المسمّى أرثوذكسيًا يتّصل بالكنيسة عند موت أحد أقربائه أو في جنّاز الأربعين او السنة لواحد منهم كما يقصد مناسبة لمسيحيّ من كنيسة أخرى. هذه أقرب الى الاجتماعيات منها الى الإيمان. فإنك إن سألته عن مصير هذا الميت لا يعرف، وإذا سألته عن القيامة يجيبك غالبًا أن الروح باقية ولم يسمع بقيامة الأجساد. واذا سألته هل المسيح كان موجودًا قبل أن يولد من العذراء، غالبا ما لا يعرف.

تسأله اذا كان أرثوذكسيًا يجيب بنعم. أما إذا قلت له: هل يفرض عليك ذلك الانتماء شيئا كالمناولة مثلا، غالبًا ما لم يسمع بأن الانتماء يعني مسؤولية والتزامًا.

نحن مسؤولون عن كل هؤلاء، ولعلّهم هم الأكثرون بيننا. مرّات يدّعون المعرفة، وعند السؤال تلاحظ أن هذا غير دقيق. أكاهنًا كنت أَم علمانيًا فأنت مبشّر لهذه الشريحة. ربما بدأتَ بتذكير هذا الشخص بالمعمودية وتسأله عمّا فهم منها. ربما كان الأفضل أن تسأله عن زواجه إذا حصل او الذي سيحصل. ماذا يعني لك زواجك؟

أنت لا تقول له انه ليس من الكنيسة. تدعوه الى معرفة المسيح الذي تصفه الأناجيل. بالتأكيد إذا أقنعت هذا الإنسان أنه لا يستطيع الزعم أنه مثقّف ولم يقرأ هذا الكتاب مرة واحدة. ربما كان عليك أن تصطاده من جهة الثقافة. ربما تُقنعه أن يذهب مرة واحدة الى القداس ليشاهد ما يجري ويفهم ثقافة الناس الذين يقول هو انه منهم، ثم تشرح له القداس.

لا تقُلْ له انه وثنيّ، فهو معمّد ولو لم يُكمل معموديته بالإيمان. عليك أن تستدرجه حسب ذهنه وحسب قلبه. لا تصدمه بجدل عن الإلحاد، ولا تُكلّمه البتة عن تقصيره. هذا يصدمه. اصعد معه تدريجيًا من المستوى الذي وصل اليه. هو لا يريد أن يُقرّ أنه مسيحيا لا شيء. ولكن لا تغشّه بقولك له انه مسيحيّ عظيم. أوضح له أنه ابنُ الله، وأن الرب يريده ابنًا إلا اذا رأيته ملحدًا كليا. هذا لا أظنه موجودًا في الشرق. المهم أن يجعل اعترافه بوجود الله عبادة حبٍّ لله. شيء من الفهم او الفهم التدريجيّ أساسيّ حتى يصل هذا الأخ الى الصلاة. بها وبحرارتها يتعمّق فهمه.

هذه الشريحة من الأرثوذكسيين مسؤوليتنا الخاصّة وإن كان كل البشر مسؤوليتنا. لا نستطيع أن ندعهم معمّدين بالماء. بلا إيمان لا يخْلُصون.

Continue reading
2009, جريدة النهار, مقالات

يوحنا الدمشقي / السبت 5 كانون الأول 2009

القديس يوحنا الدمشقي هو منصور بن سرجون في الحياة المدنية، واتخذ اسمه الرهباني في دير القديس سابا القائم حتى اليوم قرب بيت لحم. هو حفيد منصور بن سرجون الذي كان عاملا للروم في دمشق اي محافظًا للمدينة وفي خلافة معاوية عيّنه هذا متولّيا على بيت المال.

هذا أمر عظيم المعاني وعميقها. وامتدت هذه الولاية لابنه وغالبا لحفيده الذي حمل اسمه على عادة التسمية باسم الجد في هذه البلاد. والواضح ان الأمويين ثبّتوا المسيحيين في المناصب التي كانوا يشغلونها في العصر البيزنطي لأن الدواوين كانت تكتب سجلاتها باليونانيّة وعرّبها عبد الملك بن مروان. اليونانية كانت آنذاك لغة الناس في المدن كما كانت الآرامية لغة أهل الريف. في عهد يزيد بن معاوية تولّى المسيحيون الأرثوذكس بيت المال مع أن اليعاقبة الذين هم السريان الأرثوذكس كانوا الأكثرية في بلاد الشام. التفسير الوحيد عندي أن العرب ثبّتوا الذين وجدوهم في الدواوين في العصر البيزنطي وهؤلاء كانوا بالضرورة على مذهب الحكّام الروم.

لم يستطع العرب عند الفتح أن يتولّوا وظيفة إدارية لجهلهم لغة الإدارة التي كانت الرومية. فالمشهد السياسي أن الحكّام العرب تولّوا الخلافة ومعها الحرب اي ان العرب المسلمين وثقوا كليا بالمسيحيين في مراكزهم الإدارية حتى ان معاوية فوّض منصور بن سرجون الجد بناء اول اسطول عربي في طرابلس وكانت غاية معاوية في هذا أن يحتل القسطنطينيّة. بكلام آخر كانت مهمّة منصور بناء أسطول يهاجم عاصمة العالم الأرثوذكسي. لم يكن هذا يحلو لرجل كان يحضر القداس في ميناء طرابلس يوم الأحد ويهيئ العسكر العربي المسلم لمهاجمة القسطنطينيّة. لم يكن هذا أمرا سهلا عليه. ولكنه فهم هو وأبناء كنيسته ان المسلمين فتحوا بلاد الشام ليظلّوا فيها. ولم يكن لأهل البلاد المسيحيين أيّ حلم باسترجاع الروم بلاد الشام.

الى أيّ جنس كانت تنتمي عائلة سرجون؟ ليس من دليل عندي انها كانت من قبيلة عربيّة وكان بين المسيحيين قبل الفتح في سوريا عرب. ظنّي انها كانت على صعيد العنصر سريانيّة تبنّت بسبب ثقافتها اللغة اليونانية. سريانيّة ما كانت تعني سريانية المذهب اذ كانت خلقيدونية والكنائس لم تكن تلازمها لغة من اللغتين السائدتين.

# #
#
كون القديس يوحنا الدمشقي لم يكتب سطرا واحدا بالعربية لا يعني بالضرورة أنه كان يجهلها بالكلية ولا سيما انه هو وذووه كانوا يخالطون الخلفاء الأمويين بسبب من العمل الإداري الذي كانوا عليه. ان السبب في عدم استعمال يوحنا الدمشقي للعربية أن هذه لم تكن بعد قد صارت لغة المسيحيين. ولكن كيف كان منصور بن سرجون الحفيد الذي صار اسمه يوحنا الدمشقي يخاطب الخليفة يزيدا وهو يراه كل يوم للمشاورة في أمور بيت المال ويزيد لا يعرف سوى العربية؟ يُزيّن لي أن منصور بن سرجون كان على الأقل يُحدّث الخليفة بعربية عامية وكل شيء يشير الى انه كانت عامية ما عند المسلمين.

وضع القديس يوحنا الدمشقي »حوارا بين مسيحيّ ومُسلم« قرأه المثقفون المسلمون والمسيحيون منقولا عن اليونانية او لغة غربية نُشر في مصر منذ حوالى ستين سنة. هذا دلّني على أن يوحنا الدمشقي عرف شيئا عن الإسلام عن طريق أصدقائه. مع ذلك لست أظن انه قرأ سورة الإخلاص التي يستشهد بها اذ أخطأ في نقل آية. ولكن ما من شك أنه كان يتحدّث عن الإسلام مع يزيد مع كون هذا لم يكن عظيم التقوى. غير ان القديس يوحنا الدمشقي لم يكتب عن الإسلام شيئا آخر على رغم مما ظنه بعض العلماء.

في الأخير انفصل الرجلان نهائيا لكون يزيد اعتدى على بعض معالم المسيحية ما جعل قديسنا يُغادر دمشق الى فلسطين حيث ترهّب. هناك في دير مار سابا وضع كتاب الينبوع الذي تضمّن المئة مقالة وهي كتابه عن الإيمان الأرثوذكسي استهلّه بمقدمة فلسفية يقول المستشرقون الألمان انه كان مصدرا أساسا للفلسفة الإسلامية التي وضعت خطوطها في العصر الأموي. الإشكالية الفلسفية في تاريخ الفكر الإسلامي قائمة أسسها في كتاب الينبوع.

فضْلُ يوحنا في هذا المصنّف انه اول كاتب وضع أنظومة اللاهوت المسيحي أعني كتابة مألفة synthèse، منسقة لكل الفكر المسيحي. قبله لم تكن سوى فصول متفرّقة في هذا الباب او ذاك، يكتب هذا في موضوع الثالوث، وغيره في التجسد او الفداء. اما يوحنا فيبسط الفكر المسيحي كله فصولا مترابطة.
# #
#
يتّضح عند فاحص هذا الكتاب ان صاحبه يعرف جيدا الآباء القدامى ويقابل بينهم ويختار من يحبه. ويستند فلسفيا على أرسطو.

ناقش الأخصائيون قدرته على الإبداع. لا شك انه كان دون أكابر الآباء ابتكارا. ربما هذا يكون نصيب من ينصب على أنظومة متماسكة، مترابطة في المنطق. غير ان فضله في انه كان أول مسيحي يسكب الإيمان في كتاب واحد. وكان هو منطلقا للمنهج اللاهوتي الانتظامي فاستقى منه الكثير توما الأكويني في الغرب وفي الخلاصة اللاهوتية استشهد به مئات المرات.

لم يكتفِ القديس يوحنا الدمشقي بأن يكون ضليعا من اللاهوت لأنه توخّى النسك ايضا والتأمّل الصوفيّ فوضع قطعا عديدة في العبادات مثل الفصحيات يرتّلها أرثوذكسيو العالم حتى يومنا هذا. الى جانب هذه النصوص وضع في الموسيقى نظام الألحان الثمانية التي تسوس ترتيلنا حتى اليوم بعد أن كان عندنا نظام إنشاد آخر. لم يكن اذًا رجل عقل تجريديّ بحت ولكن امتلأ قلبه من حضرة الرب.

ما يلفت طبعا عند آل منصور في دمشق وعند من عيّدنا له أمس إصرارهم على شيئين، اولاً أن يتمسكوا بإيمانهم تمسكا كاملا وعارفا، وثانيا أن يظلّوا في إيمانهم معاونين صادقين للحكم في دولة غلب عليها الطابع العربي في معظم أطوارها. وأظن أن سلوك يوحنا الدمشقي وأبيه وجدّه بات نموذجا لموقف المسيحيين الأرثوذكسيين من الدولة الإسلامية أقبِلتهم بانعطاف كامل أم لم تقبلهم. هم يتحركون حسب أخلاقهم والدولة حسب أخلاقها.

المهم في هذا المسلك أن إلهام هؤلاء المسيحيين المشارقة لم يكن قائما على قوميّة لم يكن أحد كشفها آنذاك. كان الحب وحده يُحرّكهم وكانت المعرفة العليا تدعم هذا الحب. قبل أن يتعرّب لسان المسيحيين في بلاد الشام واستغرق هذا زمنا طويلا ظهر آل منصور فيه في انسجام كامل مع الدولة وأخذوا تاريخيا المجد الذي يستحقّون.


Continue reading