Monthly Archives

February 2005

2005, مقالات, نشرة رعيتي

الابن الشاطر/ الأحد 27 شباط 2005 / العدد 9

          هذا الفصل الإنجيلي يقرأ لك لتعرف انك انت هو الابن الشاطر. فبعد ان جذبك التواضع، الأحد الماضي، بمثل الفريسي والعشار بات عليك مبدئيا ان تقول: انا لست بشيء لأني لا ازال انسانا دنسا. هذا يفرض ان ترى النجاسة التي فيك وانك بت عشير الخنازير. لماذا تركت بيت الآب كذاك الولد؟ ما الذي أهواك؟ حسب الابن البار الذي لم يغادر المنزل اخوه الشاب بدد ماله للزواني. خطيئة الجسد معتبرة مألوفة في سن الشباب. والحقيقة انها شائعة في كل عمر. غير انها في المثل الإنجيلي صورة عن كل خطيئة اذ يعف كثير من شبابنا. هي ليست مركز النص.

          فللنص مركزان اولهما الترك وثانيهما العودة. الترك بالنسبة إلى كل واحد يبدأ بجاذبية ما هو خارج البيت وما يغري فيه. والعودة هي التوبة اي التحرر من الإغراء والإيمان بأن محبتنا لله هي التي تحفظنا من التجربة وتجعل بيننا وبين الرب موآنسة وفرحا.

          كل منا يمر بتجارب عديدة تهزنا وتجعلنا في البدء مترددين بين الخير والشر حتى ننزلق إلى الشر ونلتذ به ونظن ان لنا فيه سعادتنا. ثم نغرق فيه غرقا عميقا بحيث لا نبقى منجذبين إلى البر. ثم يحن الله علينا حنانا كبيرا لكوننا ابناءه وينزل علينا نعمته ويجدد فينا ذكرى الطهارة التي كنا عليها فتشدنا من جديد اليها فنقوم من عمق المياه إلى سطحها فنرتمي في الطهر مرة واحدة ونسبح في بحر التوبة ونحس ان لنا فيها فرحا مجددا. ولكن المهم ان نلازمها. فتنقطع عنا ذكرى الخطيئة. والمهم، اذا تبنا، ان ننسى الخطيئة وإغراءها ولا نعود إلى سحرها لأننا اذا عدنا إلى تذكر سحرها نتعرض إلى السقوط من جديد.

          ماذا قال الابن الضال لما أحس بمرارة الطيش الذي كان عليه؟ قال: “اقوم وأمضي إلى أبي”. أقوم لأني لم أبق راضيا عن خطيئتي ولا اريد ان أبقى فيها. هذا يتطلب حركة من النفس. وهذه الحركة يحدثها الله فيك. “أقوم” تعني اني نادم ولن ابقَ مترددًا بين رعاية الخنازير وأبي. “امضي إلى أبي” اي أتحرك، اتخذ قرارا بالعودة. فكما ان السقوط كان بقرار، كذلك التوبة بقرار. ثم ماذا قال؟ “وأقول له (اي لأبي) قد اخطأتُ إلى السماء وامامك”. اي اني اعترف بخطيئة الترك لمنزل العائلة. لا مغفرة بلا اعتراف، بلا إقرار ان الإنسان اراد الشر فأخطأ. ولكون الوالد هو الذي انجرح بمغادرة الولد للمنزل اعترف له ابنه بأنه آذاه. والأذى ان الوالد احس نفسه مهجورا. جعله ابنه وحده وتفرقت العائلة. “ولستُ مستحقا بعد ان أُدعى لك ابنا”. فقد سقطَتْ في عيني الابن الشاطر بنوته.

          ولكن ماذا فعل الوالد؟ يجيب الإنجيل: “وفيما هو بعد غير بعيد رآه ابوه فتحنن عليه واسرع وألقى بنفسه على عنقه وقبّله” فكان اللقاء. لماذا رآه ابوه؟ لأنه كان ينتظره في مكان مشرف، مثل “سطيحة”. عند الرؤية تحنن لأن له قلب والد لا يقسو ولا يعرف البغض. وهو بادر بالتحية. هكذا يفعل الله بنا. فكان عناق بين الرجلين.

          اعترف الولد كما كان قرر. لم يوبخه ابوه. فقال للخدام: “هاتوا الحلة الاولى وألبسوه واجعلوا خاتما في يده وحذاء في رجليه”. زيّنه وجمّله.

          هذا الذي سميناه “مَثَلَ الابن الشاطر” هو في الحقيقة مثل الأب الحنون. من يعرف ان الله هو ابونا الحنون لا يخطئ.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

حلم الوطن / السبت 26 شباط 2005

موت الكبار يدفعك الى الحلم بوطن مستحيل. لا يحق لي اليوم بسط كلام راسخ في أبدية الله حسب المألوف في هذه الزاوية. لا أستطيع ان أحيد عن لبنان وقد تهتز بعض من أركانه وقد وضعت الغشاوة على الابصار.

اللعبة الديموقراطية تتضمن اغراء كبيرا، اذ تضع الحق كله في حيز والباطل في حيز. هذا يقوى في العالم الثالث المنفعل ابدا وحيث مساحة الدولة تتقاطع ومنافع الافراد. ومن هنا الهدر والسباب والشتيمة مع ان تراثنا الوطني لا يخلو من تروض على اللباقات.

مع ذلك كله أظن أننا وسط هذه العاصفة الرهيبة اخذنا نبني بلدا اتضح واحدا في اقسام منه كثيرة. أجل هناك لغة خشبية ولغة الحياة الصاعدة من قلوب المجروحين. انت على هذه اللغة او تلك. مع ذلك، التاريخ القاسي لا يضغط على الرؤية ضغطا كليا. غير ان المشكلة الحقيقية ليست في الحوار او انعدام الحوار. انها في الخيارات التي اتخذها الفرقاء وتبدو عند كل فريق ثوابت.

لست ديانا لأتسلل الى وجدان كل من واضعي السياسة عندنا وان كان وضع البلد منذ مئات السنين يدل على ان الكلمة عند بعض الناس متفلتة من ضمائرهم. كل شيء يدل على ان بيننا زبائن غير مقتنعين بما يقولون او يخشون القول. ذلك ان في البلد فاعليات مرهونة للخارج. ما من شك في ان القضية المركزية عندنا قضية الحضور السوري بما هو أمني وعسكري وسياسي. هذه كلها اذا أجمعنا على فحصها في اطار الطائف لها مبدئيا امكان معالجة. لم يبق في تتبعي خلاف تفسيري حول الطائف. الخروج الى البقاع بدءا من خط حمانا – المديرج – عين دارة مسألة نصوص واضحة لا تحتمل التأويل. الحضور العسكري السوري مسألة سياسية بامتياز وليست مسألة استراتيجية عسكرية. والسياسة غير ساكنة، نهر ولكن ليس فيه مواسم جفاف. لقد مشينا من بعد الطائف خمس عشرة سنة وجُرحنا وبكينا وعلقنا أوتارنا ولم نغنّ. وبقي مرجأ النص ومرجأ الروح.

ما يذهلني ان بعض السياسيين في لبنان يرفضون واقعيا تطبيق القرار 1559 في ما يختص بخروج الجيش السوري في حين ان سوريا تصرح انها مع الشرعية الدولية ولو ذكرت بأن هناك قرارات اخرى يجب تنفيذها.

من الممكن ان تبدأ الشقيقة بتطبيق الطائف للدلالة على انها لم تتخل عنه. ان اعادة الانتشار لا يمكن ان تكون صورية. فلنطبق الطائف سريعا فقد تهملنا الامم المتحدة في تطبيق 1559 ومن المعروف حقوقيا ان التشريع الدولي يسود التشريع المحلي. وهذا الامر لا يمكن التلاعب به.

ان الضعف في موقف الموالاة هو في امتداحها سوريا باسهامها الكبير في انهاء الحرب اللبنانية وفي الدفاع عن المسيحيين في بدايات الحرب الاهلية كأن أحدا ينكر ذلك او كأن أحدا لا يحفظ الجميل. انا لم أسمع مسؤولا او مفكرا او صحافيا لا يرحب بعلاقات جيدة، أخوية مع الشقيقة الكبرى. لكن جودة العلاقات تفترض انهاء ملف الحضور السوري العسكري. عند ذاك يمكن تجديد شهر العسل بيننا وبين سوريا حبيبتنا بصدق ألا يستطيع الحكم السوري ان يشتري هذا الحب بسحب جيوش لا نفع لها حقيقيا من ابقائها على أرضنا.

الكل يتكلم على شوائب في العلاقات. وكثير من هذا القول يأتي من طرف الموالين ولكني لم أسمع وصفا لهذه الشوائب من هذا الطرف او تعدادا لها او محاولة لازالتها، ربما كان هذا بدءا لحديث بين الاطراف المتصارعين.

القرار 1559 هدية. لماذا لا نفاوض الامم المتحدة لنقول لها دعينا نطبق الطائف في مرحلة اولى ثم ننظر دوليا في تنفيذ القرار الاممي؟ تسمع أحيانا ان السوريين وحدهم قادرون على نزع السلاح من المخيمات الفلسطينية. لماذا لم يفعلوا ذلك حتى اليوم؟ ولماذا هذا السلاح والفلسطينيون لا يتنازلون عن حق العودة وهو لا يساعدهم على العودة؟

ولماذا استقرت هذه القناعة ان السوريين وحدهم قادرون على نزع السلاح الفلسطيني؟ أين جيشنا؟ نحن لا نقبل بالاعتداء على فلسطيني واحد في المخيمات. ولكن هذه مسألة عربية ولا أخال ان السلطة الفلسطينية مصرة على بقاء هذه المخيمات. ماذا يمنع ان يتمتع الفلسطينيون بكل كرامة وكل حرية وحق العمل في الوطن اللبناني؟ ضد من يحمل الفلسطينيون سلاحهم وقد أكد الرئيس لحود عشرات المرات انه لا يرضى عن عودتهم بديلاً.

هناك جزئيات أساسية لا بد من مواجهتها مثل قضية جنسية مزارع شبعا. فاذا كانت لبنانيتها قائمة في القناعة السورية فلماذا لا توثق ذلك؟ ماذا يمنع ترسيم الحدود حتى يتضح اذا كانت مسؤولية المزارع تقع على عاتق السوريين أو على عاتق المقاومة؟ هل يضر حزب الله ان يدخل في وضوح هذه المسألة؟ لقد مجدنا المقاومة عن حق بعدما غيب الجيش عن حماية الحدود. المقاومون هم كانوا في أوروبا المحتلة في الحرب العالمية الثانية أنصارًا للجيوش الحليفة وما كانوا بدلاء.

فاذا كان حزب الله يؤمن بوحدة البلد ممثلة بوحدة الجيش ألا يكون في دوام تسلحه في حالة الموازاة للجيش؟ اليست الموازاة تأكيدًا ضمنيًا لثنائية الدفاع عن الوطن؟ أسئلة لا أذكر ان أحدًا طرحها بهذا الوضوح. اذا انتهى التحرير فالسلاح سلاح الدولة اذا أدرنا فعلاً ان نؤكد اننا شعب واحد في كل اطيافه.

#  #

#

الى هذا النغمة الدائمة ان سوريا لا تخرج تحت الضغط. هل هذا البلد الصغير قادر على ان يمارس أقل ضغط على الجارة الكبرى؟ ما هي وسائله؟ ما نفوذه؟ما جرأة حكامه؟ بقوة من هم حيث هم؟ من يصدق قول القائلين ان السوريين يخرجون بعد اتفاق بين الدولتين؟ من يتفق مع من؟

ان سوريا في حاجة الى نهضتها والى جيشها للدفاع عن نفسها. واذا هاجم العدو البلدين فمن المؤكد اننا نوحد قوانا العسكرية.

ان الأحداث التي نعيشها تشير الى ان الشعب اللبناني يتوق أكثره الى حرية حقيقية. واذا ترك له حرية التعبير فكله يريد الحرية. أجل، نحن دولتان وهذا مؤكد في الشرعية الدولية. لقد التقى الشعب اللبناني صفًا واحدًا بعد اغتيال الرئيس الحريري، متراصًا. وهذا أقوى من التوازن الذي رغب فيه الطائف بين الأطياف اللبنانية. لقد تجاوزنا الطائف معنويًا ولو لم نتجاوزه حقوقيًا. خمسة عشر عامًا جعلتنا نكتشف بعضنا بعضًا ونؤمن اننا شعب واحد. وهذا يحتاج الى تغيير في بنية الدولة وانماء مواردنا والتصدي موحدين للمشاكل الاقتصادية والسياسية في جسمنا الوطني. ولنا طاقات عقلية كافية لننظم بلدنا خير تنظيم، خصوصًا ان نظامنا هو غير النظام السوري ونحن أدرى بشؤوننا من الجار. وليس لنا مطمع بتوصيات نقدمها له. وأنا واثق من أن القوى الخيرة في سوريا تريد لنا الخير تكملة لها وتعاونًا. والتعاون يفترض فلسفيًا انك موجود وان الآخر موجود. لماذا لا يكون بيننا وبين دمشق اتحاد شبيه بالاتحاد الاوروبي يحافظ فيه كل بلد على سيادته ويتكامل والآخر. ولكنك لا تتعاون الا اذا كنت مرتاحًا الى ان الآخر يريد لك الازدهار والحرية اللذين يريدهما لنفسه.

لا يستطيع لبنان ان يترك لسوريا ان تغادره فقط اذا نزل الالهام عليها. قد لا يهبط الالهام. قد يقوى الطمع. هل نبقى الى الأبد محضونين حتى تحس سوريا ان هذا الاحتضان عبء عليها أم نفيد من الفرص المتاحة من داخلنا ومن الوضع الدولي لنحصل على الاستقلال الفعلي في سياستنا الداخلية وتسيير اعمالنا ونتعاون في السياسة الخارجية كما كنا نفعل باستمرار منذ اعلان استقلالنا؟

هناك مجالات كثيرة يمكن تفحصها معًا بنية سالمة وصدق كامل للتكامل نحن وشقيقتنا الكبرى. لقد حان أوان القطاف اذ حان أوان الصدق.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

الكنيسة والطقس الرديء/ الأحد20 شباط 2005 / العدد 8

هالني في العاصفة الثلجية التي حلّت بالبلد أني كنت عاقدًا اجتماعًا كبيرًا تغيّب عنه كثيرون. عذرت مريضًا وعذرت الذين حالت الثلوج من سلوكهم الطريق. ولكني لم أعذر الذين خافوا من البرد الشديد. فنحن نحبّ الله في البرد والحر ونترجم هذا في حضور مطلوب.

ثم بعد هذا -في خضم العاصفة- أقمت القداس الإلهي في إحدى القرى ولم تكن في أعالي الجبال والطرقات سالكة فيها مع سقوط أمطار خفيفة. وعذرت الشيوخ ولكني لم أعذر الشبان.

أتساءل اليوم: لماذا يكابد الناس مشقات المناخ لزيارة صديق أو حبيب ولا يتحمّلون أي عناء ليزوروا المسيح في كلمته التي يسمعون في كنائسهم، وكيف يحرمون أنفسهم من تناول جسده ودمه الكريمين؟ أليس هو الحبيب الذي يشتاق إلينا والمفروض ان نبادله هذا الشوق؟ ان الذي يغيب كأنه يقول: أنا أُرجئ زيارتي للمسيح لأنه غير منظور أما حبيبي فمنظور.

حدّثني أحد كهنة الأبرشية ان امرأة مسنّة أوصاها طبيبها ألا تذهب يوم الأحد إلى الكنيسة حتى لا تتعرّض إلى سوء مناخ أو إلى مشي متعثر فأجابته: أفضّل أن أموت في طريقي إلى الكنيسة أو في الكنيسة من ان أموت على فراشي.

أنا لا أتمنى ان يصيب أحد نزلة صدرية ولكن هذه الحياة فيها خيارات. إذا ذهب بنا الحرص على صحتنا إلى درجة الوسواس الضخم أو الخوف الشديد يكون فينا خلل. هذا العمر اقتحام. هنا أود ان أحدثكم عن الاب الروحي الذي كان يرشدني في باريس لما كنت اطلب اللاهوت فيها في منتصف القرن العشرين. كان هذا الكاهن المتوحد يحبني كثيرا ويستضيفني كل يوم بعد الظهر لتناول الشاي. دخلت عليه مرة وكان معصَّب الجبين بمنديل ابيض. سألته عن صحته. قال عندي حرارة 39 درجة. جلست في مكاني. وبعد دقائق معدودة رن الهاتف في الممر الذي كان يقود إلى البهو الذي كنت أنا فيه. فتركني وذهب ليتناول المخابرة ورأيته عائدا إليّ ونزع المنديل عن رأسه. وقلت: ما هذا الذي جرى حتى ترمي بالمنديل؟ قال: الطالب فلان مريض بمصحّ المسلولين، وطلب أن اذهب إليه لكي يتناول جسد الرب. فسألته عن المسافة بين المعهد اللاهوتي (الذي كنا فيه) والمصحّ. قال: ستون كيلومترا. قلت له: عليك إذًا ان تجتاز 120 كيلومترا يضاف إليها مسافة المِترو وأنت على هذه الحالة. أليس الأفضل ان ترتاح الليلة عسى تنخفض الحرارة وتذهب في الصباح الآتي إلى رفيقنا؟ قال: قد لا يعيش صديقنا حتى الغد. يجب ان يتناول هذا المساء. ذهب أبي الروحي وعاد غير مكترث لصحته وشُفي من مرضه.

الأعذار دون الذهاب إلى القداس: أنا تعبتُ هذا الأسبوع وليس لي من وقت راحة إلا صباح الأحد، أو أنا ارغب في ان اصعد بعائلتي إلى الجبل، أو اذهب بها إلى البحر، وما إلى ذلك.

حدثني احد الناس ان شابا ماتت أمه ودفنت يوم سبت ولم يتقبل المعزّين في اليوم التالي صباحا لأنه كان لا يستطيع ان يتنفس بلا القداس الإلهي. أتصور ان هذا الفتى حمل أمه في صلاته ولم يغرق في حزنه. أنا أعرف عن بعض الأفارقة انهم يسوقون سيارتهم أربع ساعات ليَصلوا إلى أقرب كنيسة. أجسادهم تتعب ككل الأجساد. الا انهم متيقنون ان هذا هو الخبز النازل من السماء، وانهم دونه تقتات أجسادهم فقط بالخبز والخضار.

نفسي كانت حزينة حتى الموت لما أقمت الذبيحة الإلهية التي كلمتكم عليها وكنت انظر إلى فراغ الكنيسة أي إلى لا شيء والناس خائفون من البرد. غيابهم جعلني في برد أشد وأعظم وجعا من ذاك.

متى نفهم ان حبنّا لله الذي ندّعيه يجب ان يُتَرجم؟

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

رفيق الحريري / السبت 18 شباط 2005

وددت ان اشهد للرجل أولاً من حيث ما لمست وبغض النظر عن اي موقف له او لي سياسي. أول لقاء بيننا تم في الصنائع لما كانت رئاسة الوزارة هناك. كنت اشعر آنذاك ان الانجازات العمرانية الكبرى ما كانت الخيار الاول لشعبنا المفتقر وان هذه الاحجام الكبرى والجميلة في تنظيم العاصمة لا تلبي حاجتنا السريعة الى العيش. كنت أحسب ان الرؤية عنده بعيدة، شاملة ولكن لن يكون لها تداعيات سريعة. أحسست ان واجبي أن أفاتح الرجل بفكري. هو لم يعاتبني على عبارة أو غير عبارة كنت أقسو فيها الحكومة دون ان أسمي أحدًا.

ادخلني مكتبه واغلقه وتصارحنا في تهذيب له شديد بحجج لم ألمس فيها انفعالاً. قلت في نفسي: هذا رجل يستعمل المنطق وانا أحاول المنطق. وافترقنا حتى اخذنا نرمم كنيستنا في عاليه وجعلنا حفلة التجديد للكنيسة في رعايته فانتدب عقيلته السيدة نازك لإلقاء كلمة وتبرعت للبيعة بمبلغ كبير. ثم دعوته ليضع معي الحجر الاساس لبناء كنيسة بحمدون المحطة. ولما بادرت الى وضع الحجر في مكانه لم تمكنني قواي من ذلك فقلت له: يا دولة الرئيس أرجو ان تأخذ عني هذا العبء فوضعه بسهولة كاملة. ثم بعد مضي اشهر ارتأى شركائي في المسؤولية ان ارافقهم لزيارته في الصنائع التماسًا لمساعدة. وظننت ان واحدًا منهم سيأخذ الكلام بسبب من الصداقة التي كانت تجمعهم واياه ولكنهم اضطروني الى التماس احسانه ولم يسبق لي – لخجل في أو مبدأ – ان افعل شيئًا كهذا فاستلهمت الله وقلت له باللغة الفصحى “أيستطيع دولة الرئيس رفيق الحريري ان يهمس في اذني رفيق الحريري المؤمن ان يحسن الى كنيسة الروم”. قال لي: كرمت واسمح ان أسلم اليك هذا الشيك وكان مبلغًا باهظًا.

ما كان لي الحق ان أكشف قبل اليوم صدقة انسان لئلا تهتك المروءة ولكني فعلت ذلك بسبب من واجب الشهادة. ثم استضافني الرئيس الراحل غير مرة الى روحانيين ومدنيين من كل المذاهب وما كان يلفتني انه كان يصغي جيدًا الى ضيوفه الذين كانوا يتمتعون بكرمه وبساطته في آن. ثم اختبرت بنفسي جدية عمله في تشييد قصر المؤتمرات في الطائف الى ما يفوق أربعين فيلا لوفود مؤتمر القمة الاسلامي وكنت اليها مرافقا لبطريرك كنيستي. وأدركت ان اسراعه في البناء كان أمرًا خرافيًا.

#  #

#

كل مرة كنت اراه مرتاحًا الى ضيوفه من الاكليروس المسيحي وربما بسبب اسلامه الصادق والشفاف ورما بسبب ارتقائه درجات الثروة بلا استكبار. كنت احس انه كان يرى نفسه فقيرًا الى الله. ثم بدا للجميع انه لا يحب الاسهاب في الكلام وانه كان يحق له ان يقول لمن يواجهه في أمر: “هذا كلام غير دقيق” لسعيه هو الى الكلمة الدقيقة المزاوجة للواقع الذي كان يعالجه.

والدقة عنت عنده فيما عنت انه كان ينطق عن ملفات. صح انه كان له مستشارون ولكنه كان يعي كل ملف بسرعة ويدرك العمارة الفكرية التي تقوم عليها الدارسة. وهذا نهج لم نألفه كثيرًا في الوسط السياسي. كان لك ان تختلف معه في كل شيء وكان يحتمل ذلك او يتحمله وفي حسباني انه كان يريد الموضوعية في كل بحث. قلت كان لك ان تخالفه الرأي ولكنك ما كنت ان تستطيع ان تنكر عليه سعيه الى اقناعك في كلام له صاف. وكان يطلب اليّ فكرا واضحًا اذا رجوت اليه خدمة مبرورة لانسان اهملته هذه الدائرة او تلك.

وكان يذهلني فيه انه كان مطلعًا على امور كثيرة وهو لم يتدارسها في جامعة. الذكاء المفرط في بلورية رؤية كان أمرًا ساطعًا فيه. وهذا قاده الى انشاء مؤسسة الحريري التي كان همه فيها ان ينكب شباننا على العلوم العالية لايمانه ان النخبة المثقفة هي القادرة وحدها على ان تخدم البلد. وكان يتجلى لك هذا اذا اتصلت بكبار معاونيه الذين دعمتهم هذه المؤسسة. كان راعيًا لشبان أتى الكثيرون منهم من بيئة متواضعة ليبرهن بذلك عن ان المعرفة ليست حكرًا على اولاد الاثرياء.

له طرقه ولغيره طرقه. ولكنه نجح – على ما يبدو لي – في اختيار الاحسنين ليستنفرهم في خدمة البلد. كل هذا الميل الى الموهوبين كان ييسر له مرونة كبيرة في تعاطي الناس والسياسة. والسياسة هي قبل كل شيء حكمة أي عقل راجح في مواجهة الواقع. والسياسة فن صعب في بلد من العالم الثالث. غير انه كان يتوق الى اخراجنا من العالم الثالث في علاقات بين الناس راقية وفي حسن الادارة. غير ان حسن الادارة لم يكن فقط بين يديه ولكنه كان في ايادي اناس آخرين. لم يجد الكثيرين في الدولة لهم ذلك الايمان الذي ينقل الجبال والكبير فينا لا يستطيع ان ينطح صخرا صلدا.

#  #

#

لقد تمنى ان تساعدنا الدول الكبيرة في ترقية لبنان الى الدرجات العلى من الوجود السياسي. وهذا ما يفسر اتصالاته الخارجية بالعرب وغير العرب. كان يعرف ان بلدنا لا يقوم الا بالتعاون مع الذين يحبون عوننا وكان يثق بأن بعض الكبار في الخارج يريدون ذلك. كان يفهم التماسك Interdependance بين الدول وظن ان لبنان مهيأ بثقافته وانفتاحه لتقبل التماسك ويبقى مع ذلك مستقلا لينمو بما فيه من طاقات ومن تطلع الى الخارج نحفظ فيه كرامتنا. وقاده تقديره لامكاناتنا الى ان يجمع الدول في باريس 1 وباريس 2. في حال التلف الذي كنا عليه وفي قلة مواردنا ما كان في الامكان ان ننغلق ونعيش. لذلك كان يصر على الجانب المالي والجانب الاقتصادي في نهضتنا وكأنه كان يعتقد ان اليسر في لبنان ممكن وان لنا ان نغلب الفقر الذي كنا عليه بما نحن شعب واحد.

هذا رجل ولد السنة الـ 1944 اي في زمن كان لبنان انجز فيه استقلاله وتجاوز مواطنونا الشك في كيانيته. لذلك لم يعش الايديولوجيات الحادة التي كانت مهيمنة على البلد لما بلغ الرشد على ميله الطبيعي الى عروبة ما كانت تهدد في مطلع شبابه كيانية البلد. فالنهوض بلبنان في براغماتية لم يعش سواها كان هدفه. والدنيا كانت تعيش هذه البراغماتية. ربما اثارت ثروته هذه الرؤية العملية الى بلد ثري عن طريق العمل والارتقاء من الازدهار الى الحرية. وما من شك في انه اراد ان يتطبع بهذه المرونة ان لم تكن طبعه لينقذ لبنان انطلاقا من الممكن. اليست تلك هي السياسة؟

هذه الميزات التي حسبتها فيه جعلت الكثيرين من أبناء وطننا والاجانب يقولون انه رجل دولة. هذا لا يفترض ألا يكون عنده اصدقاء كانوا موضع ثقته. لعله قدر بعضهم أكثر مما ينبغي التقدير لان العاطفة كانت غالبة فيه. وليس في العاطفة سوء ان لم تخرجك عن المنطق والاخلاص للبلد. غير اني لا أرى ان نفسه كانت امارة بالسوء لأنه كان يحب وتاليًا كان يحاول ان ينصف. ربما كانت جاذبية هذه الحسات التي كانت تزينه تجذب اليه الكثيرين. ما من شك في انه كان له كاريزما نادرة. واذا وضع الكاريزما للخدمة فمتعتنا نحن هي بالخدمة.

الانسان توق والتائقون يحققون قليلاً او كثيرًا. وليس فضل الانسان ان ينجز الكثير الكثير ولكن ان يشتاق الى الخير ويحاوله في اقصى ما وهبه الله من وزنات او قدرات.

ترك لنا الحريري شوقًا الى الجدية وهذا ميراثه. وبعدما ذهب يريدنا ان نستغل هذا الميراث وان نذهب بالبلد الى حرية تؤمن لنا وحدها العدالة والعيش الكريم. والعيش الكريم عندنا هو ما يراد به عيشًا واحدًا لكل طوائفنا بمعناها السياسي. ان اغتياله ترك لنا – على ما أرى – عيشًا واحدًا لا تفرقة فيه بحيث لا تبقى مجموعة تميل الى هنا او هناك ولكنا معًا نخلص للوطن. لقد فهم الجميع انهم يستطيعون ان يحيوا معية لبنانية واحدة. وفي رؤية حب كهذه نتروض على ان نصبح وطنًا يضم الجميع ويعدل وينصرف بقواه الى خدمة نفسه ولا يغازل احدًا ولو تقبل عطاء الذين يحبونه.

يبقى ان نتطلب العدل لرفيق الحريري نفسه بعدما حلت به هذه الميتة العبثية الكافرة. أبسط عدل من قبلنا نحوه ان نحزن لفراق رجل كبير مثل هذا، ولكن الحزن لا يشفي. الميراث يشفي.

#  #

#

ما من شك في ان رفيق الحريري يبقى علمًا من اعلام لبنان الحديث ويبقى مصدرًا لتأملاتنا فيما نسعى الى تعمير البلد وتنقيته. كان يريدنا ان ننظر الى الحق. متى يصير لنا بلد حق؟ الجدية والمرونة والجهد الموصول والصدق والعلم وتماسك كل مجموعاتنا الدينية طريقنا الى الحق. ولما ودعنا الرئيس الراحل يوم الاربعاء الماضي كان القادرون منا على تجاوز الألم ينظرون الى لبنان ذهبي الوجه، حريري الملمس، فولاذي القبضة على كل قدراته ليتمجد الله فيه.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

شهوة السلطة / السبت 12 شباط 2005

السلطة مسؤولية قائمة على المحبة. والاقدر على المحبة والفهم هو الاقدر على المسك بالسلطة التي هي مقام الخدمة. ولكون المسيح جعل نفسه غاسل ارجل أراد ان يذهب بهذا الى الموت ليصير به خادماً للبشر جميعاً. ولقد اعترف السيد بسلطان بيلاطس عليه بقوله انه اعطي لهذا من فوق. السلطان الصالح، العادل، المحب ايقونة الله امامنا. لن اتصدى هنا لموضوع المقاومة للسلطان العاتي وقد واجهه الفكر الغربي (توما الاكويني) والفكر الاسلامي وفي ما قاله العلماء مذاهب. لكن المبدأ الذي وضعه بولس الرسول ان الحاكم يسلم الحكم اليه من اجل الخير لانه لا يحابي الوجوه. واذا استخدم الخير يكون حاكماً باسم الله. وهذا ما رآه يوحنا الحبيب في رؤياه.

غير ان المقام، كل مقام يعرض صاحبه للاغراء فتتحول السلطة الى تسلط اي تؤول من خدمة الناس الى تغذية المنفعة الشخصية عند صاحب المقام باستعماله الناس. ولست اريد بالمنفعة الشخصية، ضرورة، استغلالاً في سبيل المال ولكني اريد التحكم بسبب عبادة الحاكم نفسه وجعله الناس عبيداً له.

الحاكم صالح اذا اعتبر الله حاكماً له او اطاع هو القانون بسبب من توقيره للمرجع الذي وضعه وتالياً هو مرتبط بالوطن من حيث هو قيمة اخلاقية الا اذا الوطن اعتدى. من هنا ان الحاكم العادل لا يطلب شيئاً لنفسه ولا لعائلته او طائفته اي انه زاهد بالكلية في هذه الدنيا ويكتفي براتبه ولا يقبل هدية لان أيّاً منا يرتهن لمهديها. قد يكون للحاكم اصدقاء اذا عرف انهم لا ينتظرون اجراً لصداقتهم او رأى في نفسه صلابة تحميه من اصدقائه. الحاكم العظيم ولاسيما القاضي يعيش في عزلة عاطفية لئلا تشرده العاطفة عن العدل. انت اذا كنت في المسؤولية لا تسترض احداً اذ لا تنتظر الا رضاء من على العرش استوى.

أنا لا أنكر ان السعي الى مركز يمكن ان يكون سعياً الى خدمة واسعة وهذا امر له شروط اخلاقية. ولكني ارى ان الركض وراء المناصب كثيراً ما كان شهوة للنفوذ الذاتي ولو كان هناك زهد في المال اذ القيام على أرائك القوة شهوة بحد نفسها لا تغذيها بالضرورة شهوة المال. «كل سلطان مفسد والسلطان المطلق مفسد مطلقاً». قد يكون في هذا مغالاة اذ يمكن المتواضعين ان يجلسوا على العروش. من هنا، احذر مخاطر المقامات ويكون الاقبال عليها «في خوف ورعدة». انت لا تستطيع ان تحكم الا اذا كنت في حالة الصلاة او كأنك على صلاة بمعنى ان قلبك هو الى حاكمك الالهي والى دينونته.

#  #

#

واذا تكلمت على الحكم فاني لا احصره في أهل السياسة ولكني أتكلم على من اسندت اليه مسؤولية في الكنيسة كبيرة كانت أم صغيرة. فان من افتخر واستبد في كنيسة الله انما لا يعبد الهه ولكنه جعل نفسه الها ولو نطق بكلمات المسكنة. والاستبداد في الكنيسة قد يكون اخطر من الاستبداد في الدولة لان صاحبه يتكلم باسم الله ويظن ان ما نطق به عن غرض او عن شهوة هو ارادة الله.

والشيء نفسه يقال عن صاحب محل او معمل او عن رب عائلة يطوع اولاده لغرض التسلط الذي فيه. ذلك ان هؤلاء المرضى اسادوا البلد ام سادوا شيئاً آخر انما يحبون ذواتهم فقط بالمعنى القاسي للكلمة اي لا يحبون أحداً سواهم بعدما قرروا ان ليس من وجود حقيقي لآخر. هذا وجه من وجوه رذيلة سماها آباؤنا في النسك حب الذات. اجل تقضي الرؤية الروحية ان تحب نفسك قائماً في الله وان تحب الله قائماً فيك. أما اذا انحرف ذلك فيك يصبح حباً انانياً اي حب اناك الساقطة المتشهية عالم المحسوس او عالم الحكم من اجل الحكم.

لا يعبر المتسلط عن نفسه باصدار الاوامر القرقوشية فحسب ولكن في مجالين ايضاً هما المال والجنس. ليس المال شيئاً سيئاً بحد نفسه. يصبح كذلك اذا اردت ان تشتري به ولاء الآخرين. والجنس مجال لتحكم الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل. في آخر تحليل يبدو اغراء السلطة اقوى اغراء فينا فانه التجربة المثلى التي وقع فيها آدم وهو ان يكون مثل الله. وهذا ما جعل المتسلط في فراغ رهيب لأنه في آخر تحليل ليس فقط لا يحب أحداً ولكنه لا يحب نفسه. انه «عاشق نفسه ضد نفسه» كما يقول مكسيموس العظيم. يكره نفسه بمعناها الحقيقي اذ لا يعرف ان الله وحده مآلها. واذا تختلط عنده كل الشهوات يدمر نفسه بنفسه. وقد فاته رجاء ان يكون واحداً مع الآخرين الذي يقول الله عنهم انهم أخوة.

في هذا الالغاء للآخرين لا بد للمستلذ مكانته الاولى في الوجود ان يعيش المجد الباطل او الكبرياء. انه معجب بنفسه ومداح لنفسه. كبرياء لانك لا تستطيع ان تستكبر الا اذا استعليت واحتقرت الآخر حتى تعتبره عدماً. هو انسان الذم الدائم المكتفي بنفسه ويحسب عند احتلاله المقام انه يعرف كل شيء وانه دائما على حق. نجد هذا كثيرا عند الوالد الذي لا يرى فضيلة في ابن من ابنائه وينتقده باستمرار او عند المدرس الذي يمارس الغطرسة ازاء تلميذ او مجموعة تلاميذ او عند مثقف يرى ان كل الناس الذين دونه ثقافة اغبياء. هذه كبرياء بعض العارفين الغافلين عن عيوبهم ومحدودية المعرفة. هؤلاء الناس على مختلف فئاتهم يرفضون النقد او اللوم او أن يؤمروا. لذلك يسقطون دائما بالعدوانية والسخرية احيانا وبرغبة في الاهانة لتثبيت مواقفهم اية كانت.

#  #

#

عودا الى السياسة ولكونها المطرح الكبير لشهوة السلطة ماذا يقول الكتاب؟ عندما انبأ يسوع بموته مرة ثالثة تقدم اليه يعقوب ويوحنا ابنا زبدى يطلبان ان يجلس احدهما عن يمينه والآخر عن شماله في مجده قال المخلص لتلاميذه: «تعلمون ان الذين يُعدون رؤساء الامم يسودونها، وان اكابرها يتسلطون عليها. فليس الامر فيكم كذلك. بل من اراد ان يكون كبيرا فيكم، فليكن لكم خادما. ومن اراد ان يكون الاول فيكم، فليكن لأجمعكم عبدا. لأن ابن الانسان لم يأت ليُخدم (بضم الياء)، بل ليَخدم (بفتح الياء) ويفدي بنفسه جماعة الناس» (مرقس 10: 42-45).

انت، نائبا او وزيرا او موظفا كبيرا، ارسل اليك هذا الكلام فليس الناس رعايا. قدرتك على العطاء تبرر اقامتك في منصب المسؤولية. فما جيء بك للكسب او التباهي. فالوظيفة ليست تبخترا، او زهوا. انها امحاء في سبيل الاخرين. اذ ذاك يرتفع الآخرون.

قد تُعرف (بضم التاء) بسبب من المنصب ولكن هذا لا يستدعي التملق لك خشية الانتفاخ فيك. واعلم حقيقة الآية: «قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء» (سورة آل عمران، 26). اي اعلم اولا الا تتملك الناس اذا ملكت لأن الله ينزع عنك الملك متى شاء ويعزك ان تواضعت في حضرته وامام الناس. ذلل نفسك امامه ولا تذل الناس لئلا يذلك ربك. وقد تحسب انك غدوت في منصبك كبيرا وفي الحقيقة انك صرت ذليلا ويقرأ الناس ذلك ويحتقرونك ولو انتخبوك او استوزروك اذ تصبح لا شيء في عيني الله وقد رأيت نفسك كل شيء.

وان تستعلي هو الظلم عينه فإن القوم كرماء في عيني ربهم وباتوا افضل منك ان انت استصغرتهم. وهذه هي الجهالة. لا تنس ان كرة المطاط اذا نفختها الى اقصى حدودها تنشق.

من يعطيك الهدوء والرجوع الى حجم لك لم يمسه المجد الباطل او الكبرياء المستهترة؟ انت لست ساكنا في المجد فلماذا تطلبه من الناس؟ اذهب ودافع عن المقهورين في الارض ومستضعفيها وواجه كل سلطة في البلد عسى تعرف هشاشتها. تعلم انك تراب.

واعلم في ترابيتك ان الفرق ليس بين هذا الفريق او ذاك من اهل السلطة ولكنه بين خادمين للوطن ومتسلطين عليه. واذا اردت ان تتحزب فللحق. والحق يحررك من كل شهوة. واذا تحررت تصبح قادرا على سياسة طاهرة.

انا لست بغافل عن هذا الخيار او ذاك في الحياة السياسية. وهذا امر ليس فقط مشروعا اذ في السياسة خيارات ولا بد فيها من الافتراق. واختر اختلافك ولا تجعله خلفا لانك بذلك تكون فقدت المحبة التي هي وحدها نفحة خدمتك. فاذا سست من اجل إلهك يصير هذا عزة للوطن الذي هو مطرح للرب. واذا لم يعرف اولو الامر هذا فهم لا يعرفون شيئا.

كن في السياسة بسيطا ببساطة الله وشفافا مثله ومت عن الامة كما مات الفادي. ففي هذا قيامتك وقيامة الذين استعبدت نفسك لهم بالاخلاص. اضرب الكبرياء والتحكم والمجد الباطل ليكون الله وحده هو العزيز.

Continue reading
2005, مقالات, نشرة رعيتي

مثل الوزنات / الأحد 6 شباط 2005 / العدد 6

مثل إنجيل اليوم رهيف لكونه يضع كل إنسان تحت مسؤولية كبيرة وهي ان يستثمر كل مواهبه فلا يدع قوة من قواه مهمَلة ولكن يغذيها وينميها لأن الله سيطلب منه ليس فقط نفسه ولكن سيسأله عما فعل بكل قدرة كانت فيه وعما اذا سعى ان يرتقي درجات الوجود الذي هو عليه.

          كلمة  وزنة  كانت تدل على مقياس للوزن، ثم صارت تعني عملة ثمينة توازي الف دولار. في تلك الأيام الفقيرة يكون العبد الذي استلم خمس وزنات قبض على مبلغ له قوة شرائية كبيرة. اي ان المثل الإنجيلي بقوله ان واحدا استلم خمس وزنات والآخر وزنتين والثالث وزنة يكون قد صور الوضع البشري الذي نحن عليه. نحن متفاوتو المواهب ولا يطلب الرب من النفس اكثر مما تستطيع.

          عندما افكر بهذا المثل يبدو لي انه هو ايضا إنجيل الدينونة كذاك الذي نعتبره إنجيل الدينونة:  كنتُ جائعا فأطعمتموني    او لم تطعموني . لا يمكن فصل هذين الفصلين، وكأن الإنجيل يقول: لا يكفي أن تطعم الجياع وإلى ما ذلك من أعمال عدّدها السيد، ولكن عليك ان تفعّل كل طاقاتك لأنك حامل طاقات من الله يجب ان تثمر ليستفيد منها سائر الناس. ما فيك من قوى ومواهب لم يوضع فيك من اجل متعتك الخاصة ولكن وضعت في خدمة البشر لأنكم عائلة الآب الواحدة التي لا يملك فيها احد شيئا لنفسه.

          عن اية وزنات يتكلم الكتاب؟ هل يجب مثلا انماء الطاقة البدنية؟ ليس لها طبعا قيمة الطاقة العقلية او الطاقة الروحية. مع ذلك عندما نراقب إنسانا مريضا نرى في بعض الأحيان انه لم يقم برياضة بدنية كافية. لا يُزج الإنسان في الجحيم اذا أهمل الرياضة ولكن المحافظة على الصحة واجب اخلاقي ذو اهمية ولو محدودة.

          الملكات العقلية أهم. وهنا يأتي الكسل آفة كبرى. فاذا قدر ذووك ان يرسلوك إلى مدرسة جيدة ثم إلى جامعة وكنت ذكيا، هذا فيه خدمة افضل لك وللبلد. اجل انت مسؤول ان اهملت قراءة الكتب وربما الجريدة اليومية لأن إنماء ثقافتك فيه خدمة للمجتمع، ولكنك لن تُزج في الجحيم بسبب من إهمال الدراسة وتعاطيك مهنة يدوية.

          المراد الأساسي في هذا المثل المواهب الروحية. وهذا ما سماه آباؤنا الحرب الروحية ومكافحة الشهوات. فأنت تنظر إلى القدرة الروحية التي فيك وتزيدها بالجهد الذي تبذله مع استمداد النعمة الإلهية. فإذا اهملت صلاتك لا تنزل عليك النعمة وتصير كأرض قاحلة. واذا لم تشترك في الطقوس الارثوذكسية تكون قد استغنيت عن كنوز عظيمة قادرة ان تؤهلك لفهم كبير وفرح كبير. هذه ثروة بين يديك وليست صعبة المنال. وعند موتك ان كنت لا تعرف هذه الأشياء تذهب إلى السماء فقيرا.

          واذا لم تستثمر المواهب فيدل هذا على انك لا تحب الرب كما يطلب ان تحبه. تكون كالاجير لا كالابن، في حين انه يريد ان تدخل الملكوت جميلا، بهيا، مزينا بثوب مذهب. واذا نظرت إلى الناس حولك ورأيتهم جائعين إلى عطف فأَنْمِ قدرتك على العطف. واذا رأيتهم خائفين من غضب عندك او من قسوة وكنت في اعماقك رقيقا فاجعل رقتك أكثر رهافة وأشمل عملا.

          راقب دائما ذاتك وحاول ان تضرب الشهوة المسيطرة، وان تكتسب الفضيلة المعاكسة، لانك اذا كبرت روحيا يكبر الناس بك. مكافأتك تأتي من قول السيد:  من له يعطى ويزاد . والمعنى ان الرب اذا رأى استعدادك للنمو يعطيك نموا. خف من الله:  العبد البطال ألقوه في الظلمة البرانية . ليس في الحقيقة من ظلمة الا ان الإنسان في الخطيئة يجعل الظلام في نفسه. فاذا شئت ان يأتيك نور فاسعَ إلى النور. يكون الملكوت قد دخل اليك وصار هو فيك ضياء.

Continue reading
2005, جريدة النهار, مقالات

ثنائية المسيحيين في لبنان / السبت 5 شباط 2005

المسيحيون في لبنان اذا كانوا أكثرية كما في احصاء 1932 او باتوا أقلية كما يقال اليوم على غياب كل احصاء يعيشون في هياكلهم من جهة وفي الوطن من جهة ثانية وليس بين ما يأخذونه من كنائسهم وما يمارسونه من سياسة اية صلة. لا يستلهمون الانجيل لينقلوه الى دنياهم فاذا استمدت قلوبهم لنفسها لغة من انجيلهم لا تنحت قلوبهم دنياهم. هم من السماء لا ينزلون منها وهم من العالم لا يصعدون منه الى فوق. هذه هي ثنائيتهم القتالة اذ يقبلون فيهم هويتين لا تتداخلان. فيهم حلاوة الملكوت وفيهم ترابية هذه الارض. فلا ارضهم تستضيء بسمائيتهم، ولا ارضياتهم فيها نكهة الفردوس. انهم لا يعون هذا الانفصام المحطم لوحدتهم الكيانية.

فيهم فاجعية اقلوية تخيفهم غير مصغين الى قول المعلم: «لا تخف ايها القطيع الصغير. انك قد اعطيت الملكوت». يخشون صغر حجمهم ليقينهم ان لهم حجم الارض ولا يعرفون ان رأسهم ينطح عرش الله ولا يفهمون ان الارض موطئ لقدميه اذ الههم قابع فوق ينتظرون لقاءه بعد موتهم او في القيامة كما لا يفهمون ان قلوبهم هم قادرون بها على ان يحركوا الارض. وهم عالمون ان «ليس لنا مدينة ثابتة بل ننتظر الآتية».

«انهم يتقلبون على هذه المقولة» ان المسيحية تمتاز بالقيمة التي يولونها الارض وانا لم اجد في النصوص التأسيسية ما يؤكد ذلك. في الحقيقة الانجيلية ليس عندنا صوفية الارض لاننا قارون في الكلمة وهي خارجة عن كل محدود ولا نختلف في ذا عن المسلمين القائلين او مقرهم هو الكلام الالهي.

اجل ليس عندنا شرع يتحدث عن الطعام والشراب والمعاملات وفقه المعاملات وليس عندنا تفاصيل عن الحياة الزوجية ولا كلمة واحدة عن الحكم ولكن عندنا كلمة تنزل منها سلوكياتنا في الطعام والشراب والزواج والمعاملات. لنا من الكلمات ثمار وهي ليست في فاعلياتها اضعف ممن كان عندهم تفصيلات واضحة في هذه الامور. ولهذا ما كان صحيحا القول ان المسيحية روحانية بحتة كأننا غافلون عن دنيانا. ولكن عندنا اقبال على الدنيا بأسلوب يختلف عن اسلوب المسلمين ولكن لا يختلف عن عمق الالتقاء بين الدين والدنيا كما هي الحال في الاسلام.

نظهر للناس في الشرق على ان لنا وحيا ضبابيا في ما يتعلق بشأن الدنيا اذ ليس عندنا احكام شرعية. ولكن اذا كانت روحياتك عظيمة فلست في حاجة الى جزئيات تسوس دنياك او تقدر انت على ان تستنتج دنياك من روحيتك.

ترى في اوساط المتعاطين الشأن العام بين المسيحيين من كان عظيم التقوى ولكنه لا يأخذ شيئا من تقواه ليعالج امور الدنيا اذ قد يكون عسيرا ان تقبل قول المسيح: «انتم في هذا العالم ولكنكم لستم من هذا العالم» فيهرب ذوونا من معالجة العالم بنفحة روحية ويتخبطون في شؤون العالم كأنهم منه ومن منطقه وقواعد اللعبة فيه. اي ان المسيحيين جعلوا انفسهم جسما سوسيولوجيا وهم جسم روحي تتساقط تقواه على الكيان السوسيولوجي. هذه ثنائية لا تطاق.

ولعلها مشتقة من علمانية خفية عند المسيحيين بمعناها الضيق والتي تؤول الى فهم خاطئ لقول السيد: «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله». وفي السياق الانجيلي هذا لا يفيد ثنائية بين ما هو للدين وما هو للآخرة لان «ملكوت الله في داخلكم» وهو ليس وجودا مرجأ الى ما بعد الموت او القيامة. الملكوتية سيادة الله على القلوب هنا واذا بدأت هنا تكتمل فوق. فاذا لم يسدك الرب هنا لن يسودك هناك. «اعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» تعني ان اعطوا لقيصر ما له بعد ان يكون قد خضع لله. العمل هنا ان تتقبل الله وتضعه في قلب قيصر.

واذا افترضنا – وبلا احصاء لا يجترئ احد عليه – اننا أقلية فماذا يعني هذا؟ لنحكم او لنسود الحكم؟ لماذا يجب ان نحكم بلا اله فينا؟ هذا يعني غلبة طائفتنا على طوائف اخرى. ماذا ينفع هذا ان كنا بلا اله؟

قد يكون بعض من هذا الموقف آتيا من شبلي الشميل وفرح انطون وامين الريحاني وامثالهم في ما سمي خطأ عصر النهضة ولكنه لم يكن عند جبران ولا عند نعيمة اللذين اوحيا الى العرب «انجيلية» ما واستنزلا الله على الارض. وبعض من الشعراء المسيحيين حملوا وثنية ظاهرة في شعرهم ولعل علمانية على الاسلوب الفرنسي كانت تختفي وراء ذلك او لعل بعضهم اغترب عن الكنيسة ولو لم يغترب كليا عن المسيح ولكنه كان مسيحا باهتا لا يجلجل صوته وسط دنيانا.

لم نفهم ان الاكثرية لا تخيف لأن لها تحركا آخر. نحن لسنا في مقابلة مع المسلمين لان لهم منظارهم ولنا منظارنا. نحن لسنا نقابل منطق الديانتين. نأتي من انفسنا او من ذلك الذي كوننا شهودا له في هذا العالم وكان هو فيه مواجها وموبخا للقلوب وما كان في المسيح ثنائية.

#  #

#

ليس هناك اصلا سياسة مسيحيين لهم مصالحهم وحساباتهم. هناك سياسة وطنية فقط يقوم بها الجميع من اجل الجميع. فان تمتع الكل بالحرية يكون وطننا لا وطأة فيه لأحد على احد.

واذا لم يكن ثمة سياسة مسيحيين الا انه لا بد من رعاية المسيحيين لبقائهم في البلد وسعي الكنيسة الى انمائهم الثقافي والاقتصادي وان كان هذا في اتساعه وجديته من عمل الدولة. ان القيادة الكنسية تضطر احيانا الى لعب دور الدولة اذا قصرت هذه بحق الوطن. الدور البديل الذي تقوم به الكنيسة هي مكرهة عليه وهو يأخذ من الطاقة التي تبذلها في المجال الروحي المحض. ليست الكنيسة حكومة ظل ولا ينبغي ان تكون وهي ليست مؤهلة لدراسة الملفات في كل وزارة ويكفيها الدفاع عن المظلومين الى اية جهة انتموا والى الدفاع عن الوطن اذا هُدد. الكنيسة تكون طائفية اذا حرصت فقط على حقوق ابنائها ولن تكون كذلك اذا حرصت فقط على الجميع.

وفي الزمان الذي نعيشه كلنا مقهور ومعظمنا فقير. والمسيح مسيح المقهورين والفقراء جميعا. ليس عندنا في الاصل اذا سياسة مسيحيين ولكن عندنا سياسة مسيحية لخير الناس جميعا. من هنا ان واجب المسيحيين ان يأتوا من الانجيل الى خدمة الناس في الاقتصاد والاجتماع والثقافة والتربية. وعلى قدر نمو البلد في كل اطيافه ينمو المسيحيون ايضا. والجميع مشمولون بمحبة المسيح الواحد وتاليا يستحقون العناية الواحدة من قبلنا. لذلك لا يكون اتباع يسوع على شيء اذا لم يجيئوا منه الى سياستهم البلد. فالسؤال الانجيلي ليس حول الشروط في السياسة الوضعية ليبقى المسيحيون على ازدهار وحرية ولكنه كيف تقاد السياسة ليبقوا هم والمسلمون معا على ازدهار واحد وحرية واحدة. نرجو ان يأتي يوم لا يطرح سؤال التوازن بين مجموعة دينية ومجموعة اخرى ولكن يطرح سؤال الحرية والعيش الكريم لنا جميعا.

عجبي بأولئك المسيحيين الذين يبحثون عن انفسهم فقط ويسعون الى وجود لهم خاص يقوم ازاء الوجودات الاخرى وكأنهم اسلموا الى منطق القائلين ان المسيحية دين ودنيا معا. ربما نشأت جماعة مسيحية تاريخيا على انها كنيسة وامة معا. واذا بقي لهذا اي اثر في النفوس فلا بد من سلخ الكنيسة عن رؤية نفسها امة. فبعدما قبلنا لبنان وطنا نهائيا لنا بتنا امة واحدة. والمسلمون لا يسعهم ان ينظروا الى انفسهم وحدهم امة بالمعنى المدني بعدما قبلوا دستور المدينة الذي وضعه الرسول العربي واعتبر فيه ان كل سكان يثرب امة واحدة. ودستور المدينة وثيقة لا شك في صحتها وتاليا لا شك في استمرارها في تعامل المسلمين واهل الكتاب. نحن على هذا الصعيد وتأسيسا على النصوص لا نرى خلافا بيننا. غير ان النفوس عندنا في حاجة الى تطهر دائم لنلازم روحية المسيحية من جهة وقبول دستور المدينة من جهة اخرى.

ومن الواضح اننا نجيء معا من التشريع الوضعي الذي تضعه الدولة ومندوبو الامة ونقرأه على خلفية الروحية التي تجمعنا على هذا الصعيد. ويرحب المسلمون ترحيبا كبيرا اذا باستمداد المسيحيين سياستهم من المسيحية ولا يرحبون بسياسة منفعية للمسيحيين تقوم على نوستالجيا الاستعادة لسيطرة كانت لهم في الماضي. المسيحي في جوهره وفهمه ليس على احد بمسيطر كما ان نبي الاسلام قال له كتابه انه ليس على احد بمسيطر.

نجيء من الله او نجيء من شهواتنا. وان لم نجعل الله سائسا لحياتنا الوطنية نقول كلمات لنا عابرة او فاسدة ونحكم بتشهينا للارض. نحن نريد -في حدود ضعفنا– ان نجعل الارض سماء. هذا نستطيع ان نقوم به معا.

Continue reading